الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التسعون في قدوم نافع بن زيد الحميري عليه زاده الله تعالى فضلاً وشرفاً لديه
.
ذكر ابن شاهين نافع بن زيد الحميري في الصحابة، وأخرج من طريق زكريا بن يحيى ابن سعيد الحميري عن إياس بن عمرو الحميري أن نافع بن زيد الحميري قدم وافدا على النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من حمير، فقالوا: أتيناك لنتفقّه في الدين ونسأل عن أول هذا الأمر، قال:
الباب الحادي والتسعون في وفود علماء نجران إليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم له بأنه النبي الذي كانوا ينتظرونه وامتناع من امتنع عن ملاعنته
.
روى البيهقي عن يونس بن بكير [عن سلمة بن يسوع] عن أبيه عن جدّه- قال يونس وكان نصرانيا فأسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه: طس [النمل 1] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل 30] ، يعني النمل، «بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عباده العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» .
فلما أتي الأسقف الكتاب وقرأه قطع به وذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان. ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة إلا الأيهم وهو السيّد والعاقب. فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل وقرأه، فقال الأسقف:
يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النّبوّة رأي، ولو كان أمرا من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي وجهدت لك. فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس ناحية. فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله ما الرأي؟ فقال نحوا من قول شرحبيل بن وداعة. فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس، فتنحّى فجلس ناحية. ثم بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يدعى
جبّار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل بن وداعة، وعبد الله بن شرحبيل، فأمره الأسقف فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران السرج في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا نهارا فإن فزعوا بالليل ضربوا بالناقوس ورفعوا النيران في الصوامع. فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت السّرج أهل الوادي أملاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه. فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبّار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم العاقب وهو عبد المسيح والسّيّد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وبنيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسّيّد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السّفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرّونها من حبرة وتختّموا بالذهب. وفي لفظ:
دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده [في المدينة] حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حازت صلاتهم. فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّون نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعوهم» . ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم السلام، وتصدّوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلّمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذّهب.
فانطلقوا يتّبعون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكانوا
يعرفونهما، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما: يا عثمان ويا عبد الرحمن، أن نبيّكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا، وتصدّينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلّمنا فما الرأي منكما؟ أنعود إليه أم نرجع إلى بلادنا؟.
فقالا لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو في القوم: ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن؟ فقال لهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه. ففعل وفد نجران ذلك ووضعوا حللهم ونزعوا خواتيمهم ولبسوا ثياب سفرهم ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم سلامهم ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وأن إبليس لمعهم» .
ذكر دعائه صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى الإسلام وما دار بينه وبينهم:
روى الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وابن سعد، وعبد بن حميد عن الأزرق بن قيس رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وفد نجران إلى الإسلام فقال العاقب السيد، عبد المسيح، وأبو حارثة بن علقمة: قد أسلمنا يا محمد، فقال:«إنكما لم تسلما» .
قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير وزعمكما أن لله ولدا» . ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرّنا إن كنت نبيا أن نعلم قولك فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى» . وروى ابن جرير عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثبت بيني وبين أهل نجران حجاب فلا أراهم ولا يروني» ،
من شدّة ما كانوا يمارون رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وابن جرير عن السّدّي، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي جريج: أن نصارى نجران قالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال:«من صاحبكم» ؟ قالوا: عيسى ابن مريم تزعم أنه عبد. قال: «أجل إنه عبد الله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه» . فغضبوا وقالوا: لا ولكنه هو الله نزل من ملكه
فدخل في جوف مريم ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟.
فأنزل الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة 17]
وأنزل الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 59] أي في كونه خلق من غير أب كمثل آدم خلقه من تراب يابس فجعله بشرا:
لحما ودما ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مثل عيسى عند الله كمثل آدم أي شأنه الغريب كشأن آدم عليهما السلام. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للتمثيل لما له من الشّبه وهو أنه تعالى خلق آدم من تراب بلا أب ولا أمّ فشبّه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد الشبهة، والمعنى خلق قالبه من تراب ثم قال له: كُنْ أي أنشأه بشرا سويا بقوله: كُنْ كقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون 14] . ويجوز أن تكون «ثمّ» لتراخي الخبر لا المخبر فيكون حكاية حال ماضية.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [آل عمران 60] خبر محذوف أي الحقّ من الله عز وجل، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة الثّبات أو لكل سامع. فلما أصبحوا عادوا فقرأ عليهم الآيات فأبوا أن يقرأوا. وفي ذكر طلبه صلى الله عليه وسلم مباهلة أهل نجران بأمر الله تعالى وامتناعهم من ذلك قال الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران 61] أي جادلك من النصارى في عيسى من بعد ما جاءك من البيّنات الموجبة للعلم. فَقُلْ تَعالَوْا [آل عمران 61] هلمّوا بالرّأي والعزم نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران 61] أي يدع كلّ منا ومنكم نفسه وعزّة أهله وألصقهم بقلبه أي المباهلة، وإنما قدّم على النّفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم، ثم نتباهل أي يلعن الكاذب منّا، والبهلة بالضّمّ [والفتح] اللّعنة وأصله التّرك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 61] عطف فيه بيان.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران 62] أي ما ذكره من شأن عيسى حقّ دون ما ذكروه وما بعده خبر، واللام لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر وأصلها أن تدخل على المبتدأ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 62] صرّح فيه «بمن» المزيدة للاستقراء تأكيدا للرّدّ على النصارى في تثنيتهم. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا أحد يساويه في القدرة الثابتة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران 63] وعيد لهم وضع لهم موضع التميز ليدل على أن التّولّي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدّين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد العلم.
وروى الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر، وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والبيهقيّ عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جدّه والشيخ،
والترمذي، والنسائي عن حذيفة، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن ابن عباس في الدلائل عن قتادة، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن الشعبي رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات دعا وفد نجران إلى المباهلة فقال: «إن الله تعالى أمرني أن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم» . فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا. وفي حديث ابن عباس عن أبي نعيم في الدلائل: فقالوا: أخّرنا ثلاثة أيام، فخلا بعضهم إلى بعض وتصادقوا. فقال السيد العاقب:
والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبيّ مرسل ولئن لاعنتموه ليخسفنّ بأحد الفريقين إنه للاستئصال لكم، وما لا عن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم. وفي رواية: فقال شرحبيل: لئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلا عنّاه لا يبقى على وجه الأرض منّا شعر ولا ظفر إلا هلك. وفي رواية: لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، وفي رواية: لئن لاعنتموه ليخسفنّ بأحد الفريقين. قالوا: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.
فقال السّيّد: فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم. فلما انقضت المدة أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة. فقال صلى الله عليه وسلم:«أن أنا دعوت فأمّنوا أنتم» . وروى مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم في السنن عن سعد بن أبي وقّاص عن علي بن أحمر قالا: لما نزلت آية المباهلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال:«اللهم هؤلاء أهل بيتي [ (1) ] » . انتهى.
فتلقّى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال: «وما هو؟» فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز. وأبوا أن يلاعنوه.
وروى عبد الرزاق، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: لو باهل أهل نجران رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
وروي عن الشعبي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أراني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشّجر ولو تمّوا على الملاعنة» .
وروي عن قتادة مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان العذاب لقد نزل على أهل نجران، أن لو فعلوا لاستؤصلوا من الأرض» .
[ (1) ] أخرجه الحاكم 4/ 1871 (32- 2404) .