الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حوادث السّنة الْخَامِسَة)
فِيهَا غَزْوَة الْمُريْسِيع وَهِي غَزْوَة بني المصطلق ثَانِي شعْبَان خرج
وَمَعَهُ كثير بشر وَثَلَاثُونَ فرسا فحملوا على الْقَوْم حَملَة وَاحِدَة فَمَا انْفَكَّ مِنْهُم إِنْسَان بل قتل عشرَة وَأسر سَائِرهمْ وَغَابَ ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا وَكَانَ فِيهَا قصَّة الْإِفْك وَالنَّهْي عَن الْعَزْل قَالَ فِي الْمَوَاهِب والمُصْطَلِق بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء المشالة الْمُهْملَة وَكسر اللَّام بعْدهَا قَاف وَهُوَ لقب واسْمه جذيمة بن سعد ابْن عَمْرو بطن من خُزَاعَة وَكَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شعْبَان سنة خمس وَفِي البُخَارِيّ قَالَ ابْن إِسْحَاق سنة سِتّ وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة سنة أَربع انْتهى وسببها أَنه بلغه عليه الصلاة والسلام أَن رئيسهم الْحَارِث بن أبي ضرار سَار فِي قومه وَمن قدر عَلَيْهِ من الْعَرَب فَدَعَاهُمْ إِلَى حَرْب رَسُول الله
فَأَجَابُوهُ وتهيئوا للمسير فَبعث عليه الصلاة والسلام بُرَيْدَة بن الخصيب الْأَسْلَمِيّ يعلم علم ذَلِك فَأَتَاهُم وَلَقي الْحَارِث بن أبي ضرار فكلَمه وَرجع إِلَى رَسُول الله
وَخرج عليه الصلاة والسلام مسرعاً فِي بشر كثير من الْمُنَافِقين لم يخرجُوا فِي غَزْوَة قَط مثلهَا واستخلف على الْمَدِينَة زيد بن حَارِثَة وقادوا الْخَيل وَكَانَت ثَلَاثِينَ فرسا وَخرجت عَائِشَة وَأم سَلمَة وَبلغ الْحَارِث وَمن مَعَه مسيره عليه الصلاة والسلام فسيء بذلك هُوَ وَمن مَعَه وخافوا خوفًا شَدِيدا وتفرق عَنْهُم من كَانَ مَعَهم من الْعَرَب وَبلغ عليه الصلاة والسلام الْمُريْسِيع وصف أَصْحَابه وَدفع راية الْمُهَاجِرين إِلَى أبي بكر وَرَايَة الْأَنْصَار إِلَى سعد بن عبَادَة وتراموا بِالنَّبلِ سَاعَة ثمَّ أَمر عليه الصلاة والسلام فحملوا حَملَة رجل وَاحِد وَقتلُوا عشرَة وأسروا سَائِرهمْ وَسبوا النِّسَاء وَالرِّجَال والذرية وَالنعَم وَالشَّاء وَلم يقتل من
الْمُسلمين إِلَّا رجل وَاحِد كَذَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَالَّذِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر يدل على أَنه أغار عَلَيْهِم على حِين غَفلَة مِنْهُم فأوقع بهم وَلَفظه أغار على بني المصطلق وهم غَارونَ وأنعامهم تسقى على المَاء فَقتل مقاتلهم وسبى ذَرَارِيهمْ وهم على المَاء فيحتملُ أَن يكون حِين الْإِيقَاع بهم سبوا قَلِيلا فَلَمَّا كثر عَلَيْهِم الْقِتَال انْهَزمُوا بِأَن يكون لما دهمهم وهم على المَاء وتصافوا ووفع الْقِتَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ ثمَّ بعد ذَلِك وَقعت الْغَلَبَة عَلَيْهِم قيل وَفِي هَذِه الْغَزْوَة نزلت آيَة التَيَمُمِ قَالَ فِي فتح الْبَارِي قَوْله فِي بعض أَسْفَاره قَالَ ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد يُقَال إِنَّه كَانَ فِي غَزْوَة المصطلق وَجزم بذلك فِي الاستذكار وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن سعد وَابْن حبَان وغزوة المصطلق هِيَ غَزْوَة الْمُريْسِيع وفيهَا كَانَت قصَّة الْإِفْك لعَائِشَة وَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك بِسَبَب وُقُوع عقدهَا أَيْضا فَإِن كَانَ مَا جزموا بِهِ ثَابتا حمل على أَنه سقط مِنْهَا فِي تِلْكَ السفرة مرَّتَيْنِ لاخْتِلَاف الْقصَّتَيْنِ كَمَا هُوَ بَين فِي سياقهما قَالَ واستبعد بعض شُيُوخنَا ذَلِك لِأَن الْمُريْسِيع من نَاحيَة مَكَّة بَين قُديد والساحِل وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت من نَاحيَة خَيْبَر لقولها فِي الحَدِيث حَتَّى إِذا كُنَّا فِي الْبَيْدَاء أَو بِذَات الْجَيْش وهما بَين الْمَدِينَة وخيبر كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ
قَالَ وَمَا جزم بِهِ مُخَالف لما جزم بِهِ ابْن التِّين فَإِنَّهُ قَالَ الْبَيْدَاء هُوَ ذُو الحليفة بِالْقربِ من الْمَدِينَة من طَرِيق مَكَّة وَذَات الْجَيْش وَرَاء ذِي الْخَلِيفَة وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه أدني إِلَى مَكَّة من ذِي الحليفة ثمَّ سَاق حَدِيث عَائِشَة هَذَا ثمَّ قَالَ وَذَات الْجَيْش من الْمَدِينَة على بريد قَالَ وَبَينهَا وَبَين العقيق سَبْعَة أَمْيَال والعقيق من طَرِيق مَكَّة لَا من طَرِيق خَيْبَر فاستقام مَا قَالَه ابْن التِّين وَقد قَالَ قوم بِتَعَدُّد ضيَاع العقد وَمِنْهُم مُحَمَّد بن حبيب الإخباري فَقَالَ سقط عقد عَائِشَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَفِي غَزْوَة بني المصطلق وَاخْتلف أهل الْمَغَازِي فِي أَي هَاتين الغزوتين كَانَت أَولا قَالَ الدَّاودِيّ كَانَت قصَّة التَّيَمُّم فِي غزَاة الْفَتْح ثمَّ تردد فِي ذَلِك وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ لما نزلت آيَة التَّيَمُّم لم أدرِ كَيفَ أصنعُ فَهَذَا يدلُ على تأخرها عَن غَزْوَة بني المصطلق لِأَن إِسْلَام أبي هُرَيْرَة كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف وَكَانَ البُخَارِيّ يرى أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع كَانَت بعد قدوم أبي مُوسَى وقدومه كَانَ وَقت إِسْلَام أبي هُرَيْرَة وَمِمَّا يدلُ على تَأَخّر الْقِصَّة أَيْضا عَن قصَّة الْإِفْك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت لما كَانَ من أَمر عقدي مَا كَانَ وَقَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا خرجت مَعَ رَسُول الله
فِي غَزْوَة أُخْرَى فَسقط عقدي حَتَّى حبس النَّاس على التماسه فَقَالَ لي أَبُو بكر يَا بنية فِي كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على النَّاس فَأنْزل الله الرُّخْصَة فِي التَّيَمُّم فَقَالَ أَبُو بكر إِنَّك لمباركة وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ وَفِيه مقَال وَفِي سِيَاقه من الْفَوَائِد بَيَان عتاب أبي بكر الَّذِي أبهم فِي حَدِيث الصَّحِيح وَالتَّصْرِيح بِأَن ضيَاع العقد كَانَ مرَّتَيْنِ فِي غزوتين انْتهى
وَفِي هَذِه الْغَزْوَة قَالَ ابْن أبي لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل فَسَمعهُ زيد بن أَرقم ذُو الْأَذَان الواعية فَحدث رَسُول الله
بذلك فَأرْسل إِلَى ابْن أبي وَأَصْحَابه فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَأنْزل الله تَعَالَى {إِذا جاءكَ المُنَافِقُونَ} المُنَافِقُونَ 1 فَقَالَ لَهُ رَسُول الله
إِن الله صدقك يَا زيد رَوَاهُ البُخَارِيّ وَكَانَت غيبته فِي هَذِه الْغَزْوَة ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ قَالَ حسان بن ثَابت يعْتَذر من الَّذِي كَانَ قَالَ فِي شَأْن عَائِشَة رضي الله عنها // (من الطَّوِيل) //
(حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوافِلِ)
(عَقِيلةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
…
كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ)
(مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ الله خِيمَهَا
…
وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ)
(فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الَّذِي قَدْ زَعَمْتُمُ
…
فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَىِّ أَنّامِلِي)
(وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي
…
لآِلِ رَسُولِ الله زَيْنِ المحافِلِ)
(لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ كُلُّهِمْ
…
تَقَاصَر عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ)
(فَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطٍ
…
وَلَكِنَّهُ قَوْلُ امْرِىءٍ بِيَ مَاحِلِ)
قَالَ ابْن هِشَام بَيته عقيلة حَيّ وَالْبَيْت الَّذِي بعده وبيته لَهُ رتب عَال عَن أبي زيد الْأنْصَارِيّ وحَدثني أَبُو عُبَيْدَة أَن امْرَأَة مدحت بنت أَو بِبَيْت حسان بن ثَابت عِنْد عَائِشَة فَقَالَت // (من الطَّوِيل) //
(حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ الغَوَافِلِ)
فَقَالَت عَائِشَة لَكِن أَبوهَا فَمن روى بِبَيْت حسان يَقُول أَبوهَا أَي أَبَوا هَذِه الصّفة أَن يقولوها
حِينَئِذٍ وَمن روى بنت حسان فَمَعْنَى أَبوهَا أَنه لَيْسَ مثلهَا قَالَ ابْن إِسْحَاق وَقَالَ قَائِل من الْمُسلمين فِي ضرب حسان وَأَصْحَابه فِي فريتهم على عَائِشَة // (من الطَّوِيل) //
(لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَّذِي كَانَ أَهْلَهُ
…
وَحَمْنَةُ إِذْ قَالُوا هَجِيراً وَمِسْطَحُ)
(تَعَاطُوا بِرَجْم الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ
…
وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْكَرِيم فَأُبْرِحُوا)
(وَآذَوْا رَسُولَ الله فِيهاَ فَجُلِّلُوا
…
مَخَازِيَ تَبْقَى عَمَّمُوهَا وَفُصِّحُوا)
(وَصُبَتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأّنَّهَأ
…
شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى المُزْنِ تَسْفَحُ)
وفيهَا غَزْوَة الخَنْدَق وَهِي الْأَحْزَاب فِي ذِي الْقعدَة كَانَ الْمُسلمُونَ ثَلَاثَة آلَاف وَالْمُشْرِكُونَ عشرَة آلَاف مَعَ أبي سُفْيَان فحفر
وَأَصْحَابه الخَنْدَق بِإِشَارَة سلمَان الْفَارِسِي على عَادَة بِلَاده وتداعوا للبراز نَحْو أَرْبَعَة عشر يَوْمًا فَأرْسل الله ريحًا هزمت الْكفَّار فَلَمَّا انْصَرف جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ إِن الْمَلَائِكَة مَا وضعت السِّلَاح بعدُ وَإِن الله يَأْمُرك أَن تسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَمضى فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَة عشر يَوْمًا فنزلوا على حكم سعد بن معَاذ وَكَانَ ضَعِيفا فَحكم بقتل الرِّجَال وَسبي الذَّرَارِي وَالنِّسَاء فَقَالَ
حكمت فيهم بِحكم الله وَفرغ من ذَلِك خَامِس ذِي الْحجَّة وفيهَا فرض الْحَج أَو فِي السَّادِسَة وَرجح أَو فِي الثَّامِنَة أَو التَّاسِعَة أَو الْعَاشِرَة أَو قبل الْهِجْرَة أَو غير ذَلِك أَقْوَال وفيهَا نزلت آيَة الْحجاب قَالَ فِي الْمَوَاهِب هِيَ الْأَحْزَاب جمع حزب أَي طَائِفَة فَأَما تَسْمِيَتهَا بالخندق فلأجل الخَنْدَق الَّذِي حفر حول الْمَدِينَة بأَمْره عليه الصلاة والسلام وَلم يكن اتِّخَاذ الخَنْدَق من شَأْن الْعَرَب وَلكنه من مكايد الْفرس وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ
بذلك سلمَان الْفَارِسِي فَقَالَ يَا رَسُول اللله إِنَّا كُنَّا بِفَارِس إِذا حُصِرْنَا خندقنا علينا فَأمر النَّبِي
بحفره وَعمل فِيهِ بِنَفسِهِ ترغيباً للْمُسلمين فَأَما تَسْمِيَتهَا بالأحزاب فلاجتماع طوائف الْمُشْركين على حَرْب الْمُسلمين وهم قُرَيْش وغَطَفَان وَالْيَهُود وَمن مَعَهم وَقد أنزل الله فِيهِ هَذِه الْقِصَّة صَدرا من سُورَة الْأَحْزَاب وَاخْتلف فِي تاريخها فَقَالَ مُوسَى بن عقبَة كَانَت فِي شَوَّال سنة أَربع وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِي شَوَّال سنة خمس وَبِذَلِك صرح غَيره من أهل الْمَغَازِي وَمَال البُخَارِيّ إِلَى قَول مُوسَى بن عقبَة وَقواهُ بقول ابْن عمر إِن رَسُول الله
عرضه يَوْم أحد وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة فَلم يجزه وَعرضه يَوْم الخَنْدَق وَهُوَ ابْن خمس عشرَة فَأَجَازَهُ فَيكون بَينهمَا سنة وَاحِدَة وأُحدٌ كَانَت سنة ثَلَاث فَيكون الخَنْدَق سنة أَربع وَلَا حجَّة فِيهِ إِذا ثَبت لنا أَنَّهَا كَانَت سنة خمس لاحْتِمَال أَن يكون ابْن عمر فِي أحد كَانَ أول مَا طعن فِي الرَّابِعَة عشرَة وَكَانَ فِي الْأَحْزَاب اسْتكْمل الْخمس عشرَة وَبِهَذَا أجَاب الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ الشَّيْخ ولي الدّين بن الْعِرَاقِيّ والمشهرو أَنَّهَا فِي السّنة الرَّابِعَة وَكَانَ من حَدِيث هَذِه الْغَزْوَة أَن نَفرا من يهود خَرجُوا حَتَّى قدمُوا على قُرَيْش مَكَّة وَقَالُوا إِنَّا سنكون مَعكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نستأصله فَاجْتمعُوا لذَلِك واستعدوا لَهُ
ثمَّ خرج أُولَئِكَ الْيَهُود حَتَّى جَاءُوا غَطَفَانَ من قيس عيلان فدعوهم إِلَى حربه عليه الصلاة والسلام وخبروهم أَنهم سيكونون مَعَهم عَلَيْهِم وَأَن قُريْشًا قد بايعوهم على ذَلِك واجتمعوا مَعَهم فَخرجت قُرَيْش وقائدها أَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَخرجت غطفان وقائدها عُيينة بن حصن فِي فَزَارَةَ والْحَارث بن عَوْف المريّ فِي مرّة وَكَانَت عدتُهُم فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق عشرَة آلَاف والمسلمون ثَلَاثَة آلَاف وَقيل غير ذَلِك وَذكر ابْن سعد أَنه كَانَ مَعَ الْمُسلمين سِتّ وَثَلَاثُونَ فرسا وَلما سمع رَسُول الله
بالأحزاب وَبِمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ من الْأَمر ضرب على الْمُسلمين الخَنْدَق فَعمل فِيهِ عليه الصلاة والسلام ترغيباً لِلْأجرِ وَعمل مَعَه الْمُسلمُونَ فدأب ودأبوا وَأَبْطَأ على رَسُول الله
وعَلى الْمُسلمين فِي عَمَلهم ذَلِك ناسٌ من الْمُنَافِقين وَجعلُوا يورون بالضعف عَن الْعَمَل وَفِي البُخَارِيّ عَن سهل بن سعد قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي
فِي الخَنْدَق وهم يحفرون وَنحن ننقل التُّرَاب على أكتادنا فَقَالَ رَسُول الله
(اللهُمَّ لَا عَيْشَ إلَاّ عَيشُ الآخِرَهْ
…
فَاغْفِر للأَنْصَارِ والمهَاجِرَهْ)
والأكتاد بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة جمع كَتِد بِفَتْح أَوله وَكسر الْمُثَنَّاة وَهُوَ مَا بَين الْكَاهِل إِلَى الظّهْر وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ أكبادنا بموحدة وَهُوَ موجه على أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا يَلِي الكبد من الْجنب وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا عَن أنس فَإِذا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار يحفرون فِي غَدَاة بَارِدَة فَلم يكن لَهُم عبيد يعْملُونَ ذَلِك لَهُم فَلَمَّا رأى مَا بهم من النصب والجوع قَالَ
(اللهُمَّ لَا عَيْشَ إلَاّ عَيشُ الآخِرَهْ
…
فَاغْفِرْ للأَنْصَارِ والمهَاجِرَهْ)
فَقَالُوا مجيبين لَهُ // (من الرجز) //
(نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدا
…
عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدا)
قَالَ ابْن بطال وَقَوله اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة هُوَ من قَول ابْن رَوَاحَةَ تمثل بِهِ عليه الصلاة والسلام وَعند الْحَارِث بن أبي أُسَامَة من مُرْسل طَاوس زِيَادَة فِي آخر الرجز // (من الرجز) //
(وَالْعَنْ إِلَهِي عُضَلاً والقَارهْ
…
هُمْ كَلَّفُونَا ثِقَلَ الحجَارَهْ)
وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث الْبَراء قَالَ لما كَانَ يَوْم الْأَحْزَاب وَخَنْدَق
رَأَيْته ينْقل من تُرَاب الخَنْدَق حَتَّى وارى عني الْغُبَار جلدَة بَطْنه وَكَانَ كثير الشَّعْرِ فَسَمعته يرتجز بِشعر ابْن رَواحة وَهُوَ ينْقل التُّرَاب وَيَقُول // (من الرجز) //
(اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
)
(وَلَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا
…
)
(فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
)
(وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
…
)
قَالَ يمد بهَا صَوته فِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا
(إِنَّ الأُلى قَدْ بَغَوا عَلَيْنَا
…
)
(إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
…
)
وَفِي حَدِيث سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَنه
حِين ضرب فِي الخَنْدَق قَالَ
(بِسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا
…
)
(وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
…
)
(حَبَّذَا رَبَّا وَحَبَّذَا دِينَا
…
)
قَالَ فِي النِّهَايَة يُقَال بَدِيت بالشَّيْء بِكَسْر الدَّال أَي ابتدأتُ بِهِ فَلَمَّا
خففت الْهمزَة كُسِرَت الدَّال فَانْقَلَبت الْهمزَة يَاء وَلَيْسَت من بَنَات الْيَاء انْتهى وَقد وَقع فِي حفر الخَنْدَق آيَات من أَعْلَام نبوته عليه الصلاة والسلام مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيح عَن جَابر قَالَ إِنَّا فِي يَوْم الخَنْدَق نحفر فعرضت كدية شَدِيدَة وَهِي بِضَم الْكَاف وَتَقْدِيم الدَّال الْمُهْملَة على التَّحْتَانِيَّة وَهِي الْقطعَة الصلبة فَجَاءُوا إِلَى النَّبِي
فَقَالُوا هَذِه كدية عرضت فِي الخَنْدَق فَقَامَ وبطنُه مشدود بِحجر وَلنَا ثَلَاثَة أَيَّام لَا نذوق ذواقا فَأخذ النَّبِي
الْمعول فَضرب فَعَاد كثيباً أهيل أَو أهيم كَذَا بِالشَّكِّ من الرَّاوِي وفى رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ بِاللَّامِ من غير شكّ وَالْمعْنَى أَنه صَار رملاً يسيل فَلَا يتماسك وأهيم بِمَعْنى أهيل وَقد قيل فِي قَوْله {فَشَاربوُنَ شُرب اَلهِيم} الواقعه 55 المُرَاد الرمال الَّتِي لَا يَرْوِيهَا المَاء وَقد وَقع عِنْد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ فِي هَذِه الْقِصَّة زِيَادَة بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث الْبَراء قَالَ لما أمرنَا رَسُول الله
بِحَفر الخَنْدَق عرضت لنا فِي بعض الخَنْدَق صخرهً لَا تَأْخُذ مِنْهَا المعاول فاشتكينا ذَلِك لرَسُول الله
فجَاء فَأخذ الْمعول فَقَالَ باسم الله فَضرب ضَرْبَة فنثر ثلثهَا وَقَالَ الله أكبر أَعْطَيْت مَفَاتِيح الشَّام وَالله إِنِّي لَأبْصر قُصُورهَا الْحمر السَّاعَة ثمَّ ضرب الثَّانِيَة فَقطع ثلثا آخر فَقَالَ الله أكبر أَعْطَيْت مَفَاتِيح فَارس وَإِنِّي وَالله لَأبْصر قصر الْمَدَائِن الْأَبْيَض الْآن ثمَّ ضرب الثَّالِثَة فَقَالَ باسم الله فَقطع بَقِيَّة الْحجر فَقَالَ الله أكبر أَعْطَيْت مَفَاتِيح الْيمن وَالله إِنِّي لَأبْصر أَبْوَاب صنعاء من مَكَاني السَّاعَة وَمن أَعْلَام نبوته
مَا ثَبت فِي الصَّحِيح فِي حَدِيث جَابر من تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل يَوْم حفر الخَنْدَق كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد وَقع عِنْد مُوسَى بن عقبَة أَنهم أَقَامُوا فِي عمل الخَنْدَق قَرِيبا من عشْرين
لَيْلَة وَعند الْوَاقِدِيّ أَرْبعا وَعشْرين وفى الرَّوْضَة للنووي خَمْسَة عشر يَوْمًا وفى الْهَدْي النَّبَوِيّ لِابْنِ الْقيم أَقَامُوا شهرا وَلما فرغ رَسُول الله
من الخَنْدَق أَقبلت قُرَيْش حَتَّى نزلت بمجمع السُّيُول فِي عشرَة آلَاف من أحابيشهم وَمن تَبِعَهُمْ من بني كنَانَة وتهامة وَنزل عُيَيْنَة بن حصن فِي غَطَفان وَمن تَبِعَهُمْ من أهل نجد إِلَى جَانب أحد وَخرج رَسُول الله
والمسلمون حَتَّى جعلُوا ظُهُورهمْ إِلَى سلع وَكَانُوا ثَلَاثَة آلَاف رجل وَضرب هُنَالك عسكره والخندقُ بَينه وَبَين الْقَوْم وَكَانَ لِوَاء الْمُهَاجِرين بيد زيد بن حَارِثَة ولواء الْأَنْصَار بيد سعد بن عبَادَة وَكَانَ
يبْعَث الحرس إِلَى الْمَدِينَة خوفًا على الذَّرَارِي من بني قُرَيْظَة قَالَ ابْن إِسْحَاق وَخرج عَدو الله حُيي بن أَخطب حَتَّى أَتَى كعبَ بن أَسد الْقرظِيّ صَاحب عقد بني قُرَيْظَة وَعَهْدهمْ وَكَانَ وادع رَسُول الله
على قومه وعاقده فأغلق كَعْب دونه بَاب حصنه وأبى أَن يفتح لَهُ وَقَالَ وَيحك يَا حييّ إِنَّك امْرُؤ مشئوم وإنى قد عَاهَدت مُحَمَّدًا فلستُ بناقض مَا بيني وَبَينه فَإِنِّي لم أر مِنْهُ إِلَّا وَفَاء وصدقاً فَقَالَ وَيلك افْتَحْ فَلم يزل بِهِ حَتَّى فتح لَهُ فَقَالَ يَا كَعْب جئْتُك بعز الدَّهْر جئْتُك بِقُرَيْش حَتَّى أنزلتهم بمجتمع الأسيال وَمن دونهم غطفان وَقد عاهدوني على أَلا يبرحوا حَتَّى يستأصلوا مُحَمَّدًا وَمن مَعَه فَلم يزل بِهِ حَتَّى نقض عَهده وَبرئ مِمَّا كَانَ بَينه وَبَين رَسُول الله
وَعَن عبد الله بن الزبير قَالَ كنتُ يَوْم الْأَحْزَاب أَنا وَعَمْرو بن أبي سَلمَة مَعَ النِّسَاء فِي أَطَم حسان فنظرتُ فَإِذا الزبير على فرسه يخْتَلف إِلَى بني قُرَيْظَة مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَلَمَّا رجعت قلت يَا أَبَت رَأَيْتُك تخْتَلف قَالَ رَأَيْتنِي يَا بني قلت نعم قَالَ كَانَ رَسُول الله
قَالَ من يَأْتِي بني قُرَيْظَة فيأتيني بخبرهم فانطلقتُ فَلَمَّا رجعتُ جمع لي رَسُول الله
أَبَوَيْهِ فَقَالَ فدَاك أبي وَأمي // (أخرجه الشَّيْخَانِ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن) //
وَفِي رِوَايَة أَصْحَاب الْمَغَازِي فَلَمَّا انْتهى الْخَبَر إِلَى رَسُول الله
بعث سعد بن معَاذ وَسعد بن عبادهَ ومعهما ابْن رَوَاحَة وخوات بن جُبَير ليعرفوا الْخَبَر فوجدوهم على أَخبث مَا بَلغهُمْ عَنْهُم نالوا من رَسُول الله
وتبرءُوا من عقده وَعَهده ثمَّ أقبل السعدان وَمن مَعَهُمَا على رَسُول الله
وَقَالُوا عضل والقارة أَي كغدرهما بأصحاب الرجيع فَعظم عِنْد ذَلِك البلاءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْف وأتاهم عدوهم من فَوْقهم وَمن أَسْفَل مِنْهُم حَتَّى ظن الْمُؤْمِنُونَ كل ظن وَنجم النِّفَاق من بعض الْمُنَافِقين وَأنزل الله تَعَالَى {وَإِذ يقُولُ المُنَافِقُونَ وَاَلّذَينَ فِي قُلوُبِهِم مَّرَض مَا وعَدَنَا اَللهُ وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا} الْأَحْزَاب 12 وَقَالَ رجال مِمَّن مَعَه {يَا أهلَ يَثرِبَ لَا مُقامَ لَكم فَاَرجِعُوا} الْأَحْزَاب 13 وَقَالَ أَوْس بن قيظي إِن بُيُوتنَا عَورَة من الْعَدو فَأذَنْ لنا نرْجِع إِلَى دِيَارنَا فَإِنَّهَا خَارج الْمَدِينَة قَالَ ابْن عَائِذ وَأَقْبل نَوْفَل بن عبد الله بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي على فرس لَهُ ليوثبه الخَنْدَق فَوَقع فِي الخَنْدَق فَقتله الله وَكبر ذَلِك على الْمُشْركين فأرسلوا إِلَى رَسُول الله
إِنَّا نعطيكم الدِّيَة على أَن تدفعوه إِلَيْنَا فندفنه فَرد إِلَيْهِم
إِنَّه خَبِيث الدِّيَة فلعنه الله وَلعن دِيَته وَلَا نمنعكم أَن تدفنوه وَلَا أَرَبَ لنا فِي دِيَته وَأقَام عليه الصلاة والسلام والمسلمون وعدوهم يحاصرهم وَلم يكن بَينهم قتال إِلَّا مراماة بِالنَّبلِ لَكِن كَانَ عَمْرو بن عبد ود العامري اقتحم هُوَ وَنَفر مَعَه بخيولهم من نَاحيَة ضيقَة من الخَنْدَق حَتَّى صَارُوا بالسبخة فبارزه عَليّ فَقتله وبرز نَوْفَل بن عبد الله بن الْمُغيرَة فَقتله الزبير وَقيل قَتله عَليّ وَرجعت بَقِيَّة الْخُيُول منهزمةً ورُمى سعد بن معَاذ بِسَهْم فَقطع مِنْهُ الأكحل وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة والمهملة بَينهمَا كَاف سَاكِنة عِرق فِي وسط الذِّرَاع قَالَ الْخَلِيل هُوَ عرق الْحَيَاة يُقَال إِن فِي كل عُضْو مِنْهُ شُعْبَة فَهُوَ فِي الْيَد الأكحل وفى الظّهْر الْأَبْهَر وفى الْفَخْذ النسا إِذا قطع لم يرقأ الدَّم وَكَانَ الَّذِي رَمَى سَعْدا ابنُ العرقة
أحد بني عَامر بن لؤَي قَالَ خُذْهَا وَأَنا ابْن العرقة فَقَالَ لَهُ سعد عرق الله وَجهك فِي النَّار ثمَّ قَالَ سعد اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ فأبقني لَهَا فَإِنِّي لَا قَوْمَ أحب إِلَيّ أَن أجاهد من قوم آذوا رَسُولك وكذبوه وأخرجوه وَأقَام عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابه بضع عشرَة لَيْلَة فَمشى نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَهُوَ مخف إِسْلَامه فثبط قوما عَن قوم وأوقع بَينهم شرا لقَوْله لَهُ عليه الصلاة والسلام الْحَرْب خدعة فاختلفت كلمتهم وروى الْحَاكِم عَن حُذَيْفَة قَالَ لقد رَأَيْتنَا لَيْلَة الْأَحْزَاب وَأَبُو سُفْيَان وَمن مَعَه من قَومنَا وَقُرَيْظَة أَسْفَل منا نخافهم على ذرارينا وَمَا أَتَت علينا لَيْلَة أَشد ظلمَة وَلَا ريحًا مِنْهَا فَجعل المُنَافِقُونَ يستأذنون وَيَقُولُونَ بُيُوتنَا عَورَة فَمر بِي النَّبِي
وَأَنا جاثٍ على ركبتي وَلم يبْق مَعَه إِلَّا ثَلَاثمِائَة فَقَالَ اذْهَبْ فَأتِني بِخَبَر الْقَوْم قَالَ فَدَعَا لي فأذهبَ الله عَنى القر والفزع فَدخلت عَسْكَرهمْ فَإِذا الرّيح فِيهِ تجَاوز شبْرًا فَلَمَّا رجعت رَأَيْت فوارسَ فِي طريقى فَقَالُوا أخبر صَاحبك أَن الله كَفاهُ الْقَوْم وفى رِوَايَة أَن حُذَيْفَة لما أرْسلهُ عليه الصلاة والسلام ليَأْتِيه بالْخبر سمع أَبَا سُفْيَان يَقُول يَا معشر قُرَيْش إِنَّكُم وَالله مَا أَصْبَحْتُم بدار مقَام وَلَقَد هلك الْخُف والكُراع واختلفنا وَبَنُو قُرَيْظَة ولقينا من هَذِه الرّيح مَا ترَوْنَ فارتحلوا فَإِنِّي مرتحل ووثب على جمله فَمَا حل عقال يَده إِلَّا وَهُوَ قَائِم
وَوَقع فِي البُخَارِيّ أَنه عليه الصلاة والسلام قَالَ يَوْم الْأَحْزَاب من يأتينا بِخَبَر الْقَوْم فَقَالَ الزبير أَنا ثمَّ قَالَ من يأتينا بِخَبَر الْقَوْم فَقَالَ الزبير أَنا قَالَهَا ثَلَاثًا وَقد أشكل ذكر الزبير فِي هَذِه فَقَالَ ابْن الملقن وَقع هُنَا أَن الزبير هُوَ الَّذِي ذهب وَالْمَشْهُور أَنه حُذَيْفَة بن الْيَمَان قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر هَذَا الْحصْر مَرْدُود فَإِن الْقِصَّة الَّتِي ذهب الزبير لكشفها غير الْقِصَّة الَّتِي ذهب حُذَيْفَة لكشفها فقصة الزبير كَانَت لكشف بني قُرَيْظَة هَل نقضوا الْعَهْد بَينهم وَبَين الْمُسلمين ووافقوا قُريْشًا على محاربة الْمُسلمين وقصة حُذَيْفَة كَانَت لما اشْتَدَّ الْحصار على الْمُسلمين بالخندق وتمالأت عَلَيْهِ الطوائف ثمَّ وَقع بَين الْأَحْزَاب الِاخْتِلَاف وحذرت كل طَائِفَة من الْأُخْرَى وَأرْسل الله عَلَيْهِم الرّيح وَاشْتَدَّ الْبرد تِلْكَ اللَّيْلَة فَانْتدبَ عليه الصلاة والسلام من يَأْتِيهِ بِخَبَر قُرَيْش فَانْتدبَ لَهُ حُذَيْفَة بعد تكراره طلبَ ذَلِك وقصته فِي ذَلِك مَشْهُورَة لما دخل بَين قُرَيْش فِي اللَّيْل وَعرف قصتهم وفى البُخَارِيّ من حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى قَالَ دَعَا رسولُ الله
على الْأَحْزَاب فَقَالَ اللَّهُمَّ منزل الْكتاب سريعَ الْحساب اهزم الْأَحْزَاب اللَّهُمَّ اهزمهم وزلزلهم وروى أَحْمد عَن أبي سعيد قَالَ قُلْنَا يَوْم الخَنْدَق يَا رَسُول الله هَل من شَيْء تَقوله فقد بلغت القلوبُ منا الْحَنَاجِر قَالَ نعم اللَّهُمَّ اسْتُرْ عوراتنا وآمن
روعاتنا قَالَ وَضرب الله وجوهَ أَعْدَائِنَا بِالرِّيحِ وَفِي ينبوع الْحَيَاة لِابْنِ ظفر قيل إِنَّه
دَعَا فَقَالَ يَا صريخَ المكروبين يَا مجيبَ الْمُضْطَرين اكشف هَمي وغمي وكربي فَإنَّك ترى مَا نزل بِي وبأصحابي فَأَتَاهُ جِبْرِيل فبشره بِأَن الله يُرْسل عَلَيْهِم ريحًا وجنوداً فَأعْلم أَصْحَابه وَرفع يَدَيْهِ قَائِلا شكرا شكرا وهبت ريح الصِّبَا لَيْلًا فَقلعت الْأَوْتَاد وَأَلْقَتْ عَلَيْهِم الْأَبْنِيَة وكفأت الْقُدُور وَسَفتْ عَلَيْهِم التُّرَاب ورمتهم بالحصباء وسمعوا فى أرجاء عَسْكَرهمْ التَّكْبِير وقعقة السِّلَاح فارتحلوا هرباً فِي ليلتهم وَتركُوا مَا استثقلوه من مَتَاعهمْ قَالَ فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَأَرسَلنا عَليهِم رِيحاً وَجُنوداً لم تَرَوْهَا} الْأَحْزَاب 9 وفى البُخَارِيّ عَن عَليّ أَن رَسُول الله
قَالَ يَوْم الخَنْدَق مَلأ الله بُيُوتهم وقبورهم نَارا كَمَا شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس وَمُقْتَضى هَذَا أَنه اسْتمرّ اشْتِغَاله بِقِتَال الْمُشْركين حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس ويعارضه مَا فِي // (صَحِيح مُسلم) // عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ حبس الْمُشْركُونَ
رَسُول الله
عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْس أَو اصْفَرَّتْ فَقَالَ رَسُول الله
شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى الحَدِيث وَمُقْتَضى هَذَا أَنه لم يخرج الْوَقْت بِالْكُلِّيَّةِ قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد مُشِيرا إِلَى الْجمع بَين مَا فِي البُخَارِيّ وَمَا فِي مُسلم فَلَا تعَارض الْحَبْس انْتهى ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْحمرَة وَلم تقع الصَّلَاة إِلَّا بعد الْمغرب انْتهى وفى البُخَارِيّ عَن عمر بن الْخطاب أَنه جَاءَ يَوْم الخَنْدَق بَعْدَمَا غربت الشَّمْس فَجعل يسب كفار قُرَيْش وَقَالَ مَا كدتُ أصلى الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب فَقَالَ رَسُول الله
وَالله مَا صليتها فنزلنا مَعَ النَّبِي
بطحان فَتَوَضَّأ للصَّلَاة وتوضئنا لَهَا فصلى الْعَصْر بعد مَا غربت الشَّمْس ثمَّ صلى بعْدهَا الْمغرب وَقد يكون ذَلِك للاشتغال بِأَسْبَاب الصَّلَاة وَغَيرهَا وَمُقْتَضى هَذِه الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة أَنه لم يفت غير الْعَصْر وَفِي الْمُوَطَّأ الظّهْر وَالْعصر وَفِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَن الْمُشْركين شغلوا رَسُول الله
عَن أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق وَقَالَ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْس إِلَّا أَن أَبَا عُبَيْدَة لم يسمع من عبد الله فَمَال ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى التَّرْجِيح وَقَالَ الصَّحِيح أَن الَّتِي اشْتغل عَنْهَا
وَاحِدَة هِيَ الْعَصْر وَقَالَ النَّوَوِيّ طَرِيق الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات أَن وقْعَة الخَنْدَق بقيت أَيَّامًا فَكَانَ هَذَا فِي بعض الْأَيَّام وَهَذَا فِي بَعْضهَا قَالَ وَأما تَأْخِيره عليه الصلاة والسلام صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس فَكَانَ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف قَالَ الْعلمَاء يحْتَمل أَنه آخرهَا نِسْيَانا لَا عمدا وَكَانَ السَّبَب فِي النسْيَان الِاشْتِغَال بِأَمْر الْعَدو وَيحْتَمل أَنه آخرهَا عمدا للاشتغال بالعدو فَكَانَ هَذَا عذرا فِي تَأْخِير الصَّلَاة قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف وَأما الْيَوْم فَلَا يجوز تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا بِسَبَب الْعَدو والقتال بل يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف على حسب الْحَال وَقد اخْتلف فِي المُرَاد بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَجمع الْحَافِظ الدمياطي فِي ذَلِك مؤلفاً مُفردا سَمَّاهُ كشف المغطى عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى فَبلغ تِسْعَة عشر قولا وهى الصُّبْح وَالظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب أَو جَمِيع الصَّلَوَات وَهُوَ يتَنَاوَل الْفَرَائِض والنوافل وَاخْتَارَهُ ابْن عبد الْبر وَالْجُمُعَة وَصَححهُ القَاضِي حُسَيْن فِي صَلَاة الْخَوْف من تعليقته وَالظّهْر فِي الْأَيَّام وَالْجُمُعَة يَوْم الْجُمُعَة وَالْعشَاء لِأَنَّهَا بَين صَلَاتَيْنِ لَا تقصران وَالصُّبْح وَالْعشَاء أَو الصُّبْح وَالْعصر لقُوَّة الْأَدِلَّة فَظَاهر الْقُرْآن الصُبْح وَنَصّ السّنة الْعَصْر وَصَلَاة الْجَمَاعَة أَو الْوتر وَصَلَاة الْخَوْف أَو صَلَاة عيد الْأَضْحَى أَو الْفطر أَو صَلَاة الضُّحَى أَو وَاحِدَة من الْخمس غير مُعينَة أَو الصُّبْح أَو الْعَصْر على الترديد وَهُوَ غير القَوْل السَّابِق أَو التَّوْفِيق انْتهى
وَانْصَرف
من غَزْوَة الخَنْدَق يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَكَانَ قد أَقَامَ بالخندق خَمْسَة عشر يَوْمًا وَقيل أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاه وَالسَّلَام لن تغزوكم بعد عامكم هَذَا وفى ذَلِك علم من أَعْلَام النُّبُوَّة فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام اعْتَمر فِي السّنة السَّادِسَة فصدته قُرَيْش عَن الْبَيْت وَوَقعت الْهُدْنَة بَينهم إِلَى أَن نقضوها وَكَانَ ذَلِك سَبَب فتح مَكَّة فَوَقع الْأَمر كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام وسيأتى ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد أخرج الْبَزَّار من حَدِيث جَابر بِإِسْنَاد حسن شَاهدا لهَذَا وَلَفظه أَن النَّبِي
قَالَ يَوْم الْأَحْزَاب وَقد جمعُوا لَهُ جموعاً كَثِيرَة لَا يغزونكم بعْدهَا أبدا وَلَكِن أَنْتُم تغزونهم وَلما دخل
الْمَدِينَة يَوْم الْأَرْبَعَاء هُوَ وَأَصْحَابه وَوَضَعُوا السِّلَاح جَاءَهُ جِبْرِيل عليه السلام معتجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عَلَيْهَا قيطفة ديباج وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة أَنه لما رَجَعَ
وَوضع السِّلَاح اغْتسل وَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ قد وضعت السِّلَاح وَالله مَا وضعناه اخْرُج إِلَيْهِم وَأَشَارَ إِلَى بني قُرَيْظَة وَعند ابْن إِسْحَاق إِن الله يَأْمُرك يَا مُحَمَّد بِالْمَسِيرِ إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَامِد إِلَيْهِم فمزلزلَ بهم فَأمر رَسُول الله
مُؤذنًا فأذّن فِي النَّاس من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يصلين الْعَصْر إِلَّا ببني قُرَيْظَة وَعند ابْن عَائِذ قُم فَشد عَلَيْك سِلَاحك فوَاللَّه لأذقنهم دق الْبيض على الصَّفَا وَبعث يَوْمئِذٍ منادياً يُنَادي يَا خيل الله ارْكَبِي
وَعند الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَبعث عليا على الْمُقدمَة وَخرج
فِي أَثَره وَعند ابْن سعد ثمَّ سَار إِلَيْهِم فِي الْمُسلمين وهم ثَلَاثَة آلَاف وَالْخَيْل سِتَّة وَثَلَاثُونَ فرسا قَالَ وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَاسْتعْمل على الْمَدِينَة ابْن أم مَكْتُوم على مَا قَالَه ابْن هِشَام وَنزل عليه الصلاة والسلام على بِئْر من آبار بني قُرَيْظَة وتلاحق بِهِ النَّاس فَأتى رجال بعد الْعشَاء الْآخِرَة وَلم يصلوا الْعَصْر لقَوْله
لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة فصلوا الْعَصْر بهَا بعد الْعشَاء الْآخِرَة فَمَا عابهم الله تَعَالَى بذلك وَلَا عنفهم بِهِ رَسُول الله
وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر أدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق فَقَالَ بَعضهم لَا نصلي حَتَّى نأتيها وَقَالَ بَعضهم بل نصلي لم يرد منا ذَلِك فَذكر ذَلِك للنَّبِي
فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم كَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ من البُخَارِيّ أَنَّهَا الْعَصْر واتفقَ جَمِيع أهل الْمَغَازِي وَوَقع فِي مُسلم أنهَا الظهرُ مَعَ اتفَاقِ البُخَارِيّ وَمُسلم على رِوَايَته عَن شيخِ وَاحِد بِإِسْنَاد وَاحِد وَوَافَقَ مُسلما أَبُو يعلى وَآخَرُونَ وَجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِاحْتِمَال أَن يكون بَعضهم قبل الْأَمر كَانَ صلى الظّهْر
وَبَعْضهمْ لم يصلها فَقيل لمن لم يصلها لَا يصلين أحد الظّهْر وَلمن صلاهَا لَا يصلين أحد الْعَصْر وَجمع بَعضهم بِاحْتِمَال أَن تكون طَائِفَة مِنْهُم راحت بعد طَائِفَة فَقيل للطائفة الأولى الظّهْر وللطائفة الَّتِي بعْدهَا الْعَصْر وَالله أعلم قَالَ ابْن إِسْحَاق وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمْسا وَعشْرين لَيْلَة حَتَّى أجهدهم الْحصار وَعند ابْن سعد خمس عشرَة وَعند ابْن عقبَة بضع عشرهَ لَيْلَة وَقذف الله فِي قُلُوبهم الرعب فَعرض عَلَيْهِم رئيسهم كَعْب بن أَسد أَن يُؤمنُوا فَقَالَ لَهُم يَا معشر يهود قد نزل بكم من الْأَمر مَا ترَوْنَ وَإِنِّي أعرض إِلَيْكُم خلالاً ثَلَاثًا فَخُذُوا أَيهَا شِئْتُم قَالُوا وَمَا هِيَ قَالَ نُبَايِع هَذَا الرجل ونصدقه فوَاللَّه لقد تبين أَنه نَبِي مُرْسل وَأَنه الَّذِي تجدونه فِي كتابكُمْ فتأمنون بِهِ على دمائكم وَأَمْوَالكُمْ وأبنائكم ونسائكم فَأَبَوا قَالَ فَإِذا أَبَيْتُم عَليّ هَذِه فَهَلُم نقْتل أبناءنا وَنِسَاءَنَا ثمَّ نخرج إِلَى مُحَمَّد وَأَصْحَابه رجَالًا مصلتين بِالسُّيُوفِ لم نَتْرُك وَرَاءَنَا ثقلاً حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَبَين مُحَمَّد فَإِن يهْلك نهلك وَلم نَتْرُك وَرَاءَنَا مَا نخشى عَلَيْهِ فَقَالُوا أَي عَيْش لنا بعد أَبْنَائِنَا ونسائنا قَالَ فَإِن أَبَيْتُم عَليّ هَذِه فَإِن اللَّيْلَة لَيْلَة السبت وَعَسَى أَن يكون مُحَمَّد وَأَصْحَابه قد أمنُوا فِيهَا فانزلوا لَعَلَّنَا نصيب من مُحَمَّد وَأَصْحَابه غرَّة قَالُوا نفسد سبتنا ونحدث فِيهِ مَا لم يحدث فِيهِ من كَانَ قبلنَا إِلَّا من علمت فَأَصَابَهُ مَا لم يخف عَلَيْك من المسخ وَأَرْسلُوا إِلَى رَسُول الله
أَن ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لبَابَة وَهُوَ رِفَاعَة بن عبد الْمُنْذر نستشره فِي أمرنَا فَأرْسلهُ إِلَيْهِم فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَال وجهش إِلَيْهِ النِّسَاء وَالصبيان يَبْكُونَ فِي وَجهه فرق لَهُم وَقَالُوا يَا أَبَا لبَابَة أَتَرَى أَن ننزل على حكم مُحَمَّد قَالَ نعم وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنه الذّبْح
قَالَ أَبُو لبَابَة فوَاللَّه مَا زَالَت قَدَمَايَ من مكانهما حَتَّى عرفت أَنِّي خُنْت الله وَرَسُوله ثمَّ انْطلق أَبُو لبَابَة على وَجهه فَلم يَأْتِ رَسُول الله
حَتَّى ارْتبط فِي الْمَسْجِد إِلَى عَمُود من عمده وَقَالَ لَا أَبْرَح من مَكَاني هَذَا حَتَّى يَتُوب الله عَليّ مِمَّا صنعت وَعَاهد الله أَلا يطَأ بني قُرَيْظَة أبدا وَلَا أرى فِي بلد خنتُ الله وَرَسُوله فِيهِ أبدا فَلَمَّا بلغ رَسُول الله
خبرُه وَكَانَ قد اسْتَبْطَأَهُ قَالَ أما لَو جَاءَنِي لاستغفرتُ لَهُ وَأما إِذْ فعل مَا فعل فَمَا أَنا بِالَّذِي أطلقهُ من مَكَانَهُ حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِ قَالَ وَأقَام أَبُو لبَابَة وَقَالَ أَبُو عمر وروى وهب عَن مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر أَن أَبَا لبَابَة ارْتبط بسلسلة ثَقيلَة بضع عشرَة لَيْلَة حَتَّى ذهب سَمعه فكاد لَا يسمع وَكَاد يذهب بَصَره وَكَانَت ابْنَته تحله إِذا حضرت الصَّلَاة أَو أَرَادَ أَن يذهب لحاله فَإِذا فرغ أعادته وَعَن عبد الله بن قسط أَن تَوْبَة أبي لبَابَة نزلت على رَسُول الله
وَهُوَ فِي بَيت أم سَلمَة قَالَت أم سَلمَة فَسمِعت رَسُول الله
من السحر وَهُوَ يضْحك قَالَت فَقلت ممَّ تضحك أضْحك الله سنك قَالَ تيب على أبي لبَابَة قَالَت أَفلا أُبَشِّرهُ يَا رَسُول الله قَالَ بلَى إِن شِئْت قَالَ فَقَامَتْ على بَاب حُجْرَتهَا وَذَلِكَ قبل أَن يضْرب الْحجاب فَقَالَت يَا أَبَا لبَابَة أبشر فقد تَابَ الله عَلَيْك قَالَت فثار النَّاس إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ فَقَالَ لَا وَالله حَتَّى يكون رَسُول الله
هُوَ الَّذِي يُطلقنِي بِيَدِهِ فَلَمَّا مر عَلَيْهِ خَارِجا إِلَى صَلَاة الصُّبْح أطلقهُ وروى الْبَيْهَقِيّ فِي دلائله بِسَنَدِهِ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى (اعْتَرَفُوا
بِذُنوبِهِم} التَّوْبَة 102 قَالَ هُوَ أَبُو لبَابَة إِذْ قَالَ لقريظة مَا قَالَ وَأَشَارَ إِلَى حلقه بِأَن مُحَمَّدًا يذبح إِن نزلتم على حكمه وَقد روينَا عَن ابْن عَبَّاس مَا دلّ على أَن ارتباطه بِسَارِيَة الْمَسْجِد كَانَ بتخلفه عَن غَزْوَة تَبُوك كَمَا قَالَ ابْن الْمسيب قَالَ وَفِي ذَلِك نزلت هَذِه الْآيَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار ببني قُرَيْظَة أذعنوا أَن ينزلُوا على حكم رَسُول الله
فحكَم فيهم سعد بن معَاذ وَكَانَ قد جعله فِي خيمةٍ فِي الْمَسْجِد الشريف لامْرَأَة من أسلم يُقَال لَهَا رفيدة وَكَانَت تداوي الْجَرْحى فَلَمَّا حكَمه أَتَاهُ قومُه فَحَمَلُوهُ على حمارة وَقد وطئوا لَهُ بوسادة من أَدَم وَكَانَ رجلا جسيماً ثمَّ أَقبلُوا مَعَه إِلَى رَسُول الله
فَلَمَّا انْتهى سعد إِلَى رَسُول الله
وَالْمُسْلِمين قَالَ عليه الصلاة والسلام قومُوا إِلَى سيدكم فَأَما الْمُهَاجِرُونَ من قُرَيْش فَيَقُولُونَ إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله
الْأَنْصَار وَأما الْأَنْصَار فَيَقُولُونَ عَم بهَا رَسُول الله
المسلمن فَقَالُوا إِن رَسُول الله
قد ولاك أَمر مواليك لتَحكم فيهم فَقَالَ سعد فَإِنِّي أحكم فيهم أَن يقتل الرِّجَال وتقسم الْأَمْوَال وتسبى الذَّرَارِي وَالنِّسَاء فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لقد حكمت فيهم بِحكم الله من فَوق سَبْعَة أَرقعَة والرقيع السَّمَاء سميت بذلك لِأَنَّهَا رُقعت بالنجوم وَوَقع فِي البُخَارِيّ قَالَ قضيتَ فيهم بِحكم الله وَرُبمَا قَالَ بِحكم الملِكِ بِكَسْر اللَّام وفى رِوَايَة مُحَمَّد بن صَالح لقد حكمت الْيَوْم فيهم بِحكم الله الَّذِي حكم بِهِ من فَوق سبع سموات وفى حَدِيث جَابر عَن ابْن عَائِذ فَقَالَ احكم فيهم يَا سعد فَقَالَ الله
وَرَسُوله أَحَق بالحكم قَالَ قد أَمرك الله أَن تحكم فيهم وفى هَذِه الْقِصَّة جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي زَمَنه
وَهِي مَسْأَلَة اخْتلف فِيهَا أهل أصُول الْفِقْه وَالْمُخْتَار الْجَوَاز سَوَاء كَانَ فِي حَضرته أم لَا وَإِنَّمَا استبعد الْمَانِع وُقُوع الِاعْتِمَاد على الظَّن مَعَ إِمْكَان الْقطع وَلَا يضر ذَلِك لِأَنَّهُ بالتقرير يصير قَطْعِيا وَقد ثَبت وُقُوع ذَلِك بِحَضْرَتِهِ
كَمَا فِي هَذِه الْقِصَّة وَغَيرهَا وَانْصَرف
يَوْم الْخَمِيس لسبع لَيَال كَمَا قَالَه الدمياطي أَو لخمس كَمَا قَالَه مغلطاي خلون من ذِي الْحجَّة وَأمر عليه الصلاة والسلام ببني قُرَيْظَة فأدخلوا الْمَدِينَة وحفر لَهُم أخدُود فِي السُّوق وَجلسَ
وَمَعَهُ أَصْحَابه وأُخرجوا إِلَيْهِ فَضربت أَعْنَاقهم فَكَانُوا مَا بَين سِتّمائَة إِلَى سَبْعمِائة وَقَالَ السُّهيْلي المكثر يَقُول إِنَّهُم مَا بَين الثَّمَانمِائَة إِلَى التسْعمائَة وفى حَدِيث جَابر عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان بِإِسْنَاد صَحِيح إِنَّهُم كَانُوا أَرْبَعمِائَة مقَاتل فَيحْتَمل فِي طَرِيق الْجمع أَن يُقَال إِن البَاقِينَ كَانُوا أتباعا وَاصْطفى
لنَفسِهِ الْكَرِيمَة رَيْحَانَة فَتَزَوجهَا وَقيل كَانَ يَطَؤُهَا بِملك الْيَمين وَأمر بالغنائم فَجمعت فَأخْرج الْخمس من الْمَتَاع والسبي ثمَّ أَمر بِالْبَاقِي فَبيع مِمَّن يُريدهُ وقسمه بَين الْمُسلمين فَكَانَت على ثَلَاثَة آلَاف واثنين وَسبعين سَهْما للْفرس سَهْمَان ولصاحبه سهم وَصَارَ الْخمس إِلَى محمية بن جُزْء الزبيدِيّ فَكَانَ النَّبِي
يعْتق مِنْهُ ويهب ويُخدم مِنْهُ من أَرَادَ وَكَذَلِكَ بِمَا صَار إِلَيْهِ من الرثة وَهُوَ السقط من الْمَتَاع وانفجر جرج سعد بن معَاذ فَمَاتَ شَهِيدا وفى البُخَارِيّ أَنه دَعَا اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه لَيْسَ أحد أحب إِلَيّ أَن أجاهدهم فِيك من قوم كذبُوا رَسُولك اللَّهُمَّ إِني
أَظن أَنَّك قد وضعتَ الْحَرْب فافجرها وَاجعَل موتِي فِيهَا فانفجرت من ليلته فَلم يرعهم إِلَّا الدَّم يسيل إِلَيْهِم فَقَالُوا يَا أهل الْخَيْمَة مَا هَذَا الَّذِي يأتينا من قبلكُمْ فَإِذا جرح سعد يغذو أَي يسيل يُقَال غذا الْجرْح إِذا سَالَ مَا فِيهِ دَمًا فَمَاتَ مِنْهَا وَقد كَانَ ظن سعد مصيباً ودعاؤه فِي هَذِه الْقِصَّة مجاباً وَذَلِكَ أَنه لم يَقع بَين الْمُسلمين وَبَين قُرَيْش من بعد وقْعَة الخَنْدَق حربٌ يكون ابْتِدَاء الْقَصْد فِيهَا من الْمُشْركين فَإِنَّهُ
تجهز إِلَى الْعمرَة فصدوه عَن دُخُول مَكَّة وَكَاد الْحَرْب أَن يَقع بَينهم فَلم يَقع كَمَا قَالَ تَعَالَى {وهُوَ اَلذي كَفَّ أيديَهُم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عنهُم بِبَطنِ مَكَةَ من بَعدِ أَن أَظْفَرَكم عَلَيْهِم} ثمَّ وَقعت الْهُدْنَة وَاعْتمر عليه الصلاة والسلام من قَابل وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن نقضوا الْعَهْد فَتوجه إِلَيْهِم غازياً ففتحت مَكَّة فعلى هَذَا فَالْمُرَاد بقوله أَظن أَنَّك قد وضعت الْحَرْب أَي لن يقصدونا محاربين وَهُوَ كَقَوْلِه عليه الصلاة والسلام تغزونهم وَلَا يغزونكم كَمَا تقدم وَقد بَين سَبَب انفجار جرح سعد فِي مُرْسل حميد بن هِلَال عِنْد ابْن سعد وَلَفظه أَنه مرت بِهِ عنز وَهُوَ مُضْطَجع فَأصَاب ظلفُها موضعَ النَّحْر فانفجرت حَتَّى مَاتَ وَحضر جنَازَته سَبْعُونَ ألف ملك واهتز لمَوْته عرش الرَّحْمَن // (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ) // قَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيله فَقَالَت طَائِفَة هُوَ على ظَاهره واهتزاز الْعَرْش تحركه فَرحا بقدوم روح سعد وَجعل الله تَعَالَى فِي الْعَرْش تمييزاً حصل بِهِ هَذَا وَلَا مَانع مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإن مِنهَا لَمَا يهبِطُ من خَشْيَة الله} وَهَذَا القَوْل هُوَ ظَاهر الحَدِيث وَهُوَ الْمُخْتَار قَالَ الْمَازرِيّ قَالَ بَعضهم وَهُوَ على حَقِيقَته وَإِن الْعَرْش تحرّك لمَوْته قَالَ
وَهَذَا لَا يُنكر من جِهَة الْعقل لِأَن الْعَرْش جسم من الْأَجْسَام يقبل الْحَرَكَة والسكون قَالَ لَكِن لَا تحصل فَضِيلَة سعد بذلك إِلَّا أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى جعل حركته عَلامَة للْمَلَائكَة على مَوته وَقَالَ آخَرُونَ المُرَاد بالاهتزاز الاستبشار وَالْقَبُول ومِنْهُ قَول الْعَرَب فلَان يَهْتَز للمكارم لَا يُرِيدُونَ اضطرابَ جِسْمه وحركته وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ ارتياحه إِلَيْهَا وإقباله عَلَيْهِ قَالَ الْحَرْبِيّ وَهُوَ كِنَايَة عَن تَعْظِيم شأنِ وَفَاته وَالْعرب تنسبُ الشَّيْء الْمُعظم إِلَى أعظم الْأَشْيَاء فَيَقُولُونَ أظلمت لمَوْت فلَان الأَرْض وَقَامَت لَهُ الْقِيَامَة وَقَالَ جمَاعَة المُرَاد اهتزاز سَرِير الْجِنَازَة وَهُوَ النعش وَهَذَا القَوْل بَاطِل يردهُ صَرِيح الرِّوَايَات الَّتِي ذكرهَا مُسلم وَالله أعلم انْتهى وَقيل المُرَاد باهتزاز الْعَرْش اهتزاز حَمَلة الْعَرْش وَصحح الترمذيُ من حَدِيث أنس قَالَ لما حملت جَنَازَة سعد بن معَاذ قَالَ المُنَافِقُونَ مَا أخف جنَازَته فَقَالَ النَّبِي
إِن الملائكةَ كَانَت تحمله وَعَن الْبَراء قَالَ أهديت لرَسُول الله
حلَّة حَرِير فَجعل أَصْحَابه يمسونها ويعجبون من لينها فَقَالَ
أتعجبون من لين هَذِه لمَنَاديلُ سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة خير مِنْهَا وألين هَذَا لفظ رِوَايَة أبي نعيم فِي مستخرجه على مُسلم والمناديل جمع منديل بِكَسْر الْمِيم فِي الْمُفْرد وَهُوَ مَعْرُوف قَالَ الْعلمَاء هَذِه إِشَارَة إِلَى عظم منزلَة سعد فِي الْجنَّة وَأَن أدنى ثِيَابه فِيهَا خير من هَذِه لِأَن المناديل أدنى الثِّيَاب لِأَنَّهُ معد للوسخ والامتهان فَغَيره أفضل مِنْهُ انْتهى وَأخرج ابْن سعد وَأَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة قَالَ قبض إِنْسَان يَوْمئِذٍ من تُرَاب قَبره قَبْضَة فَذهب بهَا ثمَّ
نظر إِلَيْهَا بعد ذَلِك فَإِذا هِيَ مسك قَالَ فَقَالَ رَسُول الله
سُبْحَانَ الله سُبْحَانَ الله حَتَّى عُرِفَ ذَلِك فِي وَجهه فَقَالَ الْحَمد لله لَو كَانَ أحد ناجياً من ضمة الْقَبْر لنجا مِنْهَا ضُم ضَمّة ثمَّ فرج الله عَنهُ وَأخرج ابْن سعد عَن أبي سعيد قَالَ كنت فِيمَن حفر لسعد قَبره فَكَانَ يفوح علينا الْمسك كلما حفرنا قَالَ الْحَافِظ مغلطاي وَغَيره فِي هَذِه السّنة فُرِضَ الْحَج وَقيل سنة سِتّ وَصَححهُ غير وَاحِد وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَقيل سنة سبع وَقيل سنة ثَمَان وَرجحه جمَاعَة من الْعلمَاء وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى