المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(10) باب حفظ اللسان والغيبة والشتم - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٠

[الطيبي]

الفصل: ‌(10) باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

(10) باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

الفصل الأول

4812 -

عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضمن لي ما بين لحيه وما بين رجليه، أضمن له الجنة)).رواه البخاري.

ــ

أيضا نافعا عن الاستماع. والجواب أن نافعا لم يبلغ مبلغ التكليف. وإليه الإشارة بقوله: ((وكنت إذ ذاك صغيرا)) ولو لم يذهب إلى هذه الفائدة، لكان وصفه لنفسه بالصغر ضحكة للساخرين، كما في قولك:((الميت اليهودي لا يبصر)). وذكر هذا الحديث بعد السابق مشعر بأن استماع الغناء والمزمار واليراع من باب واحد.

((مح في الروضة)):غناء الإنسان قد يقع بمجرد صوته وقد يقع بآلة، فالأول مكروه وسماعه مكروه وليسا محرمين. وإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة. والثاني: أن يغني بعض آلات الغناء مما هو شعار شاربي الخمر، وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار، فيحرم استعماله واستماعه.

وفي ((اليراع)) وجهان: صحح البغوي التحريم، والغزالي الجواز وهو أقرب، وليس المراد من اليراع كل قضيب، بل المزمار العراقي. وما يضرب به من الأوتار حرام بلا خلاف. قال الشيخ محيي الدين النووي: الأصح أو الصحيح تحريم اليراع وهو هذه المزمارة، التي يقال لها الشبابة. وقد صنف الإمام أبو القاسم الدولقي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس، وأطنب في دلائل تحريمه.

((حس)):اتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف، وكان الذي سمع ابن عمر صفارة الرعاة. وقد جاء مذكورا في الحديث، وإلا لم يقتصر فيه على سد المسامع دون المبالغة في الردع والزجر. وقد رخص بعضهم في صفارة الراعي الرعاة، والله أعلم.

باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

الفصل الأول

الحديث الأول عن سهل: قوله: ((من يضمن لي)) عن بعضهم معناه: من يضمن لي لسانه أي شر لسانه وبوادره، وحفظه عن التكلم بما لا يعنيه ويضره، مما يوجب الكفر والفسوق، وفرجه بأن يصونه من الحرام، أضمن له دخول الجنة. و ((لحييه)) –بفتح اللام- تثنية لحى، وهما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان علوا وسفلا.

أقول: أصل الكلام من يحفظ ما بين لحييه من اللسان مما لا يعنيه من الكلام والطعام

ص: 3111

4813 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوى بها في جهنم)).رواه البخاري وفي رواية لهما: ((يهوي بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب)).

4814 -

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).متفق عليه.

ــ

يدخل الجنة. فأراد أن يؤكد الوعد تأكيدا بليغا فأبرزه في صورة التمثيل؛ ليشعر بأنه واجب الأداء، فشبه صورة حفظ المؤمن نفسه مما وجب عليه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهيه، وشبه ما يترتب عليه من الفوز بالجنة، وأنه واجب على الله بحسب الوعد أداؤه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الواسطة والشفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حق واجب الأداء على آخر، فيقوم به ضامن يتكفل له بأداء حقه. وأدخل المشبه في صورة المشبه به وجعله فردا من أفراده، ثم ترك المشبه به وحعل القرينة الدالة على ما يستعمل فيه من الضمان نحو قولك للمفتي الذي يتردد في فتواه: أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى. ونحوه في التمثيل قوله تعالى} إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة {.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من رضوان الله)) ((من)) فيه بيانية حال من الكلمة، وكذا قوله ((لا يلقي لها بالا)).وقوله:((يرفع الله بها درجات)) جملة مستأنفة بيان للموجب، كأن قائلا يقول: ماذا يستحق بعد؟ قيل له يرفع الله بها درجات. ((نه)): ((لا يلقي لها بالا)) أي لا يستمع إليه ولا يحعل قلبه نحوه.

قوله: ((أبعد)) الظاهر أنه صفة مصدر محذوف أي هويا بليغا بعيد المبدأ والمنتهى.

الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((سباب المسلم)) ((نه)):السب والشتم يقال: سبه يسبه سبا سبابا. قيل: هذا محمول على من سب أو قاتل مسلما من غير تأويل. وقيل: إنما قال ذلك على جهة التغليظ إلا أن يخرجه إلى الفسق والكفر. ((حس)):إذا استباح دمه من غير تأويل، ولم ير الإسلام عاصما له فهو ردة كفر.

أقول: معنى الحديث راجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)).وقد تقرر أن المسلم هنا الكامل في الإيمان المؤدي لحقوقه بحسب استطاعته. فالنسبة إلى الكفر في هذا الحديث إشارة إلى نقصان إيمانه تغليظا.

ص: 3112

4815 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أيما رجل قال لأخيه كافر، فقد باء بها أحدهما)).متفق عليه.

4816 -

وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) رواه البخاري.

4817 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك، إلا حار عليه)).متفق عليه.

ــ

((حس)):وفيه دليل على المرجئة الذين لا يرون الطاعة من الإيمان، ويقولون: إن الإيمان لا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: ((قتاله كفر)) إلى أن ترك القتال من الإيمان، وأن فعله ينقص الإيمان.

الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((فقد باء بها)) ((نه)):أي الترمها ورجع بها.

أقول: لابد من الرجوع والعود من الشيء، فإذا قال القائل لصاحبه: يا كافر! فإن صدق رجع إليه كلمة الكفر الصادر من مقتضاها، وإن كذب واعتقد بطلان الإسلام، رجعت هذه الكلمة الصادرة إلى القائل.

((مح)):هذا الحديث مما عده ((بعض)) العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد؛ وذلك أن مذهب أهل الحق أن لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا. وقول لأخيه: ((كافر)) من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. وإذا تقرر ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه أحدها: أنه محمول على المستحل لذلك، فعلى هذا معنى ((باء بها)):أي بكلمة الكفر أي رجع عليه الكفر. وثانيها: معناه: رجعت عليه نقيصة لأخيه ومعصية تكفيره. وثالثهما: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين. وهذا ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون: أن الخوارج كسائر أهل البدع لا يكفر. ورابعها: أن ذلك يؤول به إلى الكفر. وخامسها: معناه فقد رجع إليه تكفيره. وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لكونه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام. انتهى كلامه. وفي أكثر الوجوه أحدهما محمول على القائل.

الحديث الخامس والسادس عن أبي ذر: قوله: ((إلا حار عليه)) ((نه)):في باب الحاء المهملة مع الراء حار عليه أي رجع عليه ما نسب إليه، انتهى كلامه. والمستثنى منه محذوف هو جواب الشرط، أي من دعا رجلا بالكفر باطلا، فلا يلحقه من قوله ذلك شيء إلا الرجوع عليه.

ص: 3113

4818 -

وعن أنس، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم)) رواه مسلم.

4819 -

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا)).رواه مسلم.

4820 -

وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) رواه مسلم.

4821 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم)) رواه مسلم،

ــ

ويجوز أن تكون ((من)) الاستفهامية. وفيه معنى الإنكار أي ما يفعل أحد هذه الفعلة في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة.

الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما قالا)) يجوز أن تكون ((ما)) شرطية. وقوله: ((فعلى البادئ)) جزاؤه، أو موصولة و ((فعلى البادئ)) خبره، والجملة سببية. ومعناه: إثم ما قالاه على البادئ إذ لم يعتد المظلوم، فإذا تعدى فيكون عليهما، نعم إلا إذا تجاوز غاية الحد، فيكون إثم القولين عليه. ((حس)):من أربى الربا من سب سبتين بسبة.

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا ينبغي لصديق)) حكم مرتب على الوصف المناسب، وذلك أن هذه الصفة تالية صفة النبوة؛ قال الله تعالى:} فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين {والأنبياء إنما بعثوا رحمة للخلق مقربين البعيد والطريد إلى الله تعالى ورحمته، واللاعن طارد لهم وطالب لبعدهم منها، فاللعنة منافية لحاله.

الحديث التاسع عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((لا يكونون شهداء)) يعني في قوله تعالى:} وكذلك جعلناكم أمة وسطى لتكونوا شهداء على الناس {والمراد بالوسط العدل، واللعنة سالبة للعدالة. ((ولا شفعاء)) أي لا تكون لهم مرتبة الشفاعة؛ لأنهم باللعنة أسقطوا مرتبتهم تلك من الأنبياء.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فهو أهلكهم)) ((نه)):يروى بفتح الكاف وضمها. فمن فتحها كان فعلا ماضيا، ومعناه أن الغالين الذين يؤيسون الناس من رحمة

ص: 3114

4822 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) متفق عليه.

4823 -

وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: ((لا يدخل الجنة قتات)).متفق عليه. وفي رواية مسلم: ((نمام)).

4824 -

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)).

ــ

الله يقولون: هلك الناس، أستوجبوا النار بسوء أعمالهم. فإذا قال الرجل ذلك فهو الذي أوجبه لهم، لا الله تعالى، أو هو الذي لما قال لهم ذلك وآيسهم، حملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصي، فهو الذي أوقعهم في الهلاك.

وأما الضم فمعناه أنه إذا قال لهم ذلك، فهو أهلكهم أي أكثرهم هلاكا. وهو الرجل يولع بعيب الناس ويذهب بنفسه عجبا. ويرى لهم عليه فضلا. وزاد في شرح السنة: روي معنى هذا عن مالك قال: فإذا قال ذلك عجبا بنفسه وتصاغرا للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه، وإذا قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس من أمر دينهم فلا أرى به بأسا.

الحديث الثاني عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((قتات)) ((نه)):هو النمام، قت الحديث إذا زوه وهيأه وسواه. وقيل: النمام هو الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليه، والقتات هو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم. قال الشيخ أبو حامد: قيل: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق، وهي أثافي الذل. فينبغي أن يبغض النمام ولا يوثق به وبصداقته.

حكي أن حكيما زاره رجل وأخبره عن غيره بخبر، فقال: أبطلت زيارتي، ثم أتيتني بثلاث جنايات: بغضت إلى أخي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة.

الحديث الثالث عشر عن عبد الله: قوله: ((صديقا)) هو من أبنية المبالغة، ونظيره: الضحيك، والمراد فرط صدقه وكثرة صدوره منه حتى يصدق قوله بالعمل. وإليه الإشارة بقوله تعالى:

ص: 3115

4825 -

وعن أم كلثوم (رضي الله عنها)،قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا)) متفق عليه.

4826 -

وعن المقداد بن الأسود (رضي الله عنه)،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوهم التراب)).رواه مسلم.

ــ

} والذي جاء بالصدق وصدق به {.والتنكير في ((صديقا)) للتعظيم والتفخيم، أي ببلغ في الصدق إلى غايته ونهاينه، حتى يدخل به إلى زمرة الصديقين ويكتب عند الله منهم.

((مح)):ومعنى ((يكتب)) هنا يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتب اسمه بخط المصنفين في تصانيفهم به أو في الملأ الأعلى، ويلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم حتى يوضع له القبول، أو البغضاء بقدر الله سبحانه وتعالى.

الحديث الرابع عشر عن أم كلثوم: قوله: ((ليس الكذاب)) الكذاب اللام فيه إشارة إلى الكذاب المعهود الذي مر في الحديث السابق ونحوه، يعني الكذاب المذموم عند الله تعالى الممقوت عند المسلمين ليس من يصلح الذات البين، فإنه محمود عند الله تعالى وعندهم. فعلى هذا يجب أن يكون ((الكذاب)) مرفوعا على أنه اسم ((ليس)). وقوله:((الذي يصلح)) خبره خلافا لمن زعم أن ((الكذاب)) خبر ((ليس)) و ((الذي)) اسمه.

قوله: ((وينمي خيرا)) ((نه)): يقال نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة. قلت: نميمته بالتشديد، هكذا قال أبو عبيدة وابن قتيبة وغيرهما من العلماء. وقال الحربي: نمى مشددة، وأكثر المحدثين يقولونها مخففة، وهذا لا يجوز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن. ومن خفف لزمه أن يقول ((خير)) بالرفع. وهذا ليس بشيء، فإنه ينتصب بـ ((نمى)) كما انتصب بـ ((قال)).وكلاهما على زعمه لازمان. وإنما ((نمى)) متعد يقال: نميت الحديث أي رفعته وأبلغته.

الحديث الخامس عشر عن المقداد رضي الله عنه: قوله: ((المداحين)) ((خط)):المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود، يكون به ترغيبا له في أمثاله؛ وتحريضا للناس على الاقتداء في أشباهه فليس بمداح.

((حس)):قد استعمل المقداد الحديث على ظاهره في تناول عين التراب وحثه في وجه المادح. وقد يتناول على أن يكون معناه الخيبة والحرمان، أي من تعرض لكم بالثناء والمدح

ص: 3116

4827 -

وعن أبي بكرة، قال: أثنى رجل على رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((ويلك قطعت عنق أخيك)) ثلاثا ((من كان منكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكى على الله أحدا)).متفق عليه.

4828 -

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)).قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما

ــ

فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان لقولهم: ما في يده غير التراب، كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا)) وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروه؛ لأنه قلما يسلم المادح عن كذب يقوله في مدحه، وقلما يسلم الممدوح من عجب يدخله.

((قض)):وقيل: معناه أعطوهم عطاء قليلا، فشبهه لقلته بالتراب، وإعطائه بالحثى على سبيل الترشيح وللمبالغة في تقليل العطاء والاستهانة بهم.

الحديث السادس عشر عن أبي بكرة: قوله: ((قطعت عنق)) ((مح)):هذه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هذا الهلاك في الدين، وقد يكون من جهة الدنيا. ((شف)) ((الله حسيبه)) يعني محاسبه على عمله الذي يحيط بحقيقة حاله ويعلم سره، وهي جملة اعتراضية. وقوله:((وإن كان يرى أنه كذلك)) يتعلق بقوله: ((أحسب فلانا)).قوله: ((ولا يزكي على الله أحدا)) منع له عن الجزم وهو عطف على قوله: ((فليقل)) أي من كان منكم مادحا فليقل: أحسب فلانا كذا إن كان يرى أنه كذلك ولا يجزم بالمدح، ولا يزكي على الله أحدا بالجزم بمدحه.

أقول: أحسب أن قوله: ((والله حسيبه)) من تتمة القول، وقوله:((إن كان يرى)) الجملة الشرطية وقعت حالا من فاعل ((فليقل)) و ((على)) في ((على الله)) فيه معنى الوجوب والقطع. المعنى: فليقل: أحسب أن فلانا كيت وكيت والله يعلم سره فيما فعل، وهو يجازيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ولا يقل: أتيقن أنه محسن، والله شاهد عليه على الجزم والقطع، وأن الله تعالى يجب عليه أن يفعل به كذا وكذا. ويقابله قوله صلى الله عليه وسلم:((إذا دعا أحدكم فليقل: اللهم اغفر لي ما شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة)). ((ولا يزكي)) جاء بإثبات الياء إخبار في معنى النهي، أي لا تكن منكم التزكية على الله.

ص: 3117

أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) ررواه مسلم. وفي رواية: ((إذا قلت لأخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته)).

4829 -

وعن عائشة (رضي الله عنها)،أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: ((ائذنوا له، فبئس أخو العشيرة)) فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه .. فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله! قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((متى عاهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)).وفي رواية: ((اتقاء فحشه)) متفق عليه.

ــ

الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ((مح)):اعلم أن الغيبة من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا بين الناس، حتى لا يسلم منها إلا القليل من الناس. وذكرك فيه بما يكرهه عام، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو غلامه، أو خادمه، أو ثوبه، أو مشيه، وحركته، وبشاشته، وعبوسته، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابتك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك ونحو ذلك.

وضابطه أن كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة بأن تمشي متعارجا أو مطأطئا، أو غير ذلك من الهيئات مريدا حكاية هيئة من تنتقصه بذلك.

الحديث الثامن عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فبئس أخو العشيرة)) كقولك: ((يا أخا العرب)) لرجل منهم ((مح)):العشيرة القبيلة أي بئس هذا الرجل من هذه العشيرة، واسم هذا الرجل عيينة بن حصين. ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله؛ ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف بحاله. وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة؛ لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام. وفيه مدارة من يتقي فحشه وجواز غيبة الفاسق.

((حس)):فيه دليل على أن ذكر الفاسق بما فيه، ليعرف أمره فيتقي، لا يكون من الغيبة. ولعل الرجل كان مجاهرا بسوء أفعاله، ولا غيبة لمجاهر.

قوله: ((إن شر الناس)) استئناف كالتعليل لقوله: ((متى عاهدتني فحاشا)) وهو إنكار على

ص: 3118

4830 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرون، وإن من المجانة أن يعمل الرجل عملا بالليل ثم يصبح قد ستره الله. فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.

وذكر أبي هريرة: ((من كان يؤمن بالله)) في ((باب الضيافة))

الفصل الثاني

4831 -

عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الكذب

ــ

عائشة رضي الله عنها قولها: إنك خالفت بين الغيبة والحضور، فلم لم تذمه في الحضور كما ذممته في الغيبة؟،فقال: متى عاهدتني فحاشا. وإنما تركته اتقاء شره)).

الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((معافي)) ((مح)): ((معافاة)) بالهاء في آخره، هكذا هو معظم النسخ والأصول المعتمدة، انتهى كلامه. وفي نسخ المصابيح ((معافي)) بلا هاء، وعلى هذا ينبغي أن يكتب ألفه بالياء فيكون مطابقا للفظه؛ كما ورد:((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).

قوله: ((إلا المجاهرون)) كتب مرفوعا في نسخ المصابيح، وحقه النصب على الاستثناء. ((شف)):هو مستثنى من قوله: ((معافي)) وهو في معنى النفي، أي كل أمتى لا ذنب عليهم إلا المجاهرون. وأورد الحافظ أبو موسى في مجموعة المغيث:((إلا المجاهرون)) بالنصب على الأصل، وهكذا أورده في النهاية.

أقول: والأظهر أن يقال: كل أمتي يتركون الغيبة إلا المجاهرون، كما ورد:((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)).والعفو بمنع الترك. وفيه معنى الترك. وفيه معنى النفي، نحوه قوله تعالى:} ويأبى الله إلا أن يتمم نوره {،والمجاهرون هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها، وكشفوا ما ستر الله عليهم فيتحدثون به، يقال: جهر وجاهر وأجهر.

((مح)):ومن الذين يجوز بهم الغيبة المجاهر بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز لغيره. قوله:((وإن من المجانة)) الجوهري: المجون والمجانة أن لا يبالي الإنسان بما صنع، يقال مجن بالفتح يمجن بالضم مجونا ومجانة فهو ماجن.

ص: 3119

وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسط الجنة، ومن حسن خلقه بنى له في أعلاها)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. وكذا في ((شرح السنة)).وفي ((المصابيح)) قال: غريب. [4831]

4832 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما أكثر ما يدخل

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في ربض الجنة)) ((نه)):وهو بفتح الباء ما حولها خارجا عنها؛ تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع. قوله: ((من ترك الكذب)) قيل: أي من ترك الكذب في قوله طوعا وإرادة واتباع للصدق، ورأي أن الصدق أحق أن يتبع، والكذب باطل لا يجوز اتباعه. والتفوه به كالتأكيد والمبالغة في وجوب ترك الكذب، وهو جملة اعتراضية وقعت بين الجزاء والشرط كالبيان، أي الكذب باطل في الواقع لا يكون حقا. والباطل اسم جامع لما لا يحل. فقيل: معناه من ترك الكذب- والحال أنه باطل- لا يكون له ولا لغيره مصلحة فيه، كما ذكر في مرخصات الكذب من الحرب، وإصلاح ذات البين، والمعاريض، وغيرها فتكون جملة حالية.

قوله: ((ومن ترك المراء)) أي الجدال والمماراة والمجادلة. وقوله: ((وهو محق)) أي في ذلك الجدال فتركه كسرا لنفسه كيلا يرتفع على خصمه، وأن لا يظهر فضله عليه، فتواضع في ذلك مع كونه محقا فيه، بنى لهبيت في وسط الجنة.

أقول: لا شك أن قوله: ((وهو محق)) حال من فاعل ((ترك)) وقع تتميما للمعنى ومبالغة. وقوله: ((من ترك الكذب وهو باطل)) قرينة له فينبغي مراعاة هذه الدقيقة. فالمعنى: من ترك الكذب، والحال أنه عالم ببطلانه في أمور الدين، لكن سنح له فيه منفعة دنيوية، فيتركها كسرا لهواه وإيثارا لرضى الله على رضاه، بنى له بيت في ربض الجنة. ولما كانت مكارم الأخلاق متضمنة لترك رذائلها وللإتيان بمحاسنها، عقبهما بقوله:((ومن حسن خلقه)) تحلية بعد التحلية.

قال الشيخ أبو حامد: المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما لفظا أو معنى أو في قصد التكلم، وترك المراء بترك الإنكار والإعراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تقوى القلوب)) إشارة إلى حسن المعاملة

ص: 3120

الناس الجنة؟ تقوى الله، وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ الأجوفان: الفم والفرج)).رواه الترمذي وابن ماجه. [4832]

4833 -

وعن بلال بن الحارث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه)) رواه في ((شرح السنة)).وروى مالك، والترمذي، وابن ماجه ونحوه. [4833]

4834 -

وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

مع الخالق، بأن يأتي جميع ما أمر به وينتهي عما نهى عنه. وحسن الخلق إشارة إلى حسن المعاملة مع الخلق. وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة ونقيضهما لدخول النار، فأوقع الفم والفرج مقابلا لهما.

أما الفم فمشتمل على اللسان، وحفظه ملاك أمر الدين كله، وأكل الحلال رأس التقوى كله. وأما الفرج فصونه من أعظم مراتب الدين، قال تعالى:} والذين هم لفروجهم حافظون {؛ لأن هذه الشهوة أغلب الشهوات على الإنسان، وأعصاها عند الهيجان على العقل، ومن ترك الزنا خوفا من الله تعالى، مع القدرة، وارتفاع الموانع، وتيسير الأسباب- لاسيما عند صدق الشهوة- وصل إلى درجة الصديقين، قال تعالى:} وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى {.وقصة الرشيد في تعليق طلاق زبيدة مشهورة.

ومعنى الأكثرية في القرينتين أن أكثر أسباب السعادة الأبدية الجمع بين هاتين الخلتين، وأن أكثر أسباب الشقاوة الجمع بين هاتين الخلتين.

الحديث الثالث عن بلال رضي الله عنه: قوله: ((يكتب الله بها رضوانه)) فإن قلت: ما معنى قوله: ((يكتب الله له بها رضواته))،وما فائدة التوقيت إلى يوم يلقاه؟

قلت: معنى ((كتب رضوانه)):توفيقه لما يرضى الله تعالى من الطاعات والمسارعات إلى الخيرات، فيعيش في الدنيا حميدا، وفي البرزخ يصان من عذاب القبر، ويفسح له قبره ويقال له:((نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه)) ويحشر يوم القيامة سعيدا، ويظله الله

ص: 3121

((ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له)).رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والدرامي. [4834]

4835 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك به الناس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل على لسانه أشد مما يزل عن قدمه)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4835]

4836 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صمت نجا)).رواه أحمد، والترمذي، والدرامي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4836]

ــ

تعالى في ظله، قم يلقي بعد ذلك من الكرامة والنعيم المقيم في الجنة، ثم يفوز بلقاء الله ما دون ذلك دونه. وفي عكسه قوله:((يكتب الله بها عليه سخطه)) ونظيره قوله تعالى لإبليس:} إن عليك لعنتي إلى يوم الدين {.

الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة: قوله: ((إلا ليضحك بها)) استثناء، من أعم عام الغرض، أي يكون غرضه منحصرا فيه ولا يتجاوز عنه. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم، يمزح ولا يقول إلا حقا، ولا يؤذي قلبا ولا يفرط فيه. فإن كنت أيها السامع تقتصر عليه أحيانا وعلى الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان من المزاح حرفة، يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل رسول الله صلى اله عليه وسلم، وهو كمن يدور مع الزنوج أبدا لينظر رقصهم، ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة رضي الله عنها في النظر إليهم وهم يلعبون. انتهى كلامه.

وقوله: ((إنه ليزل عن لسانه)) تمثيل بعد تمثيل، مثل أولا مضرته منها في جاهه وسقوطه من منزلته عند الله تعالى، بمن سقط من أعلى مكان إلى أدناه، قم مثل ثانيا مضرته بها في نفسه، وما يلحقه من المشقة والتعب بمن يتردد في وحل عظيم فيدحض قدماه في تلك المزالق فلا يتخلص منها.

الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((من صمت نجا)):الصمت

ص: 3122

4837 -

وعن عقبة بن عامر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما النجاة، فقال:((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) رواه أحمد، والترمذي. [4837]

ــ

أبلغ من السكوت؛ لأنه قد يستعمل فيما لا قوة له للنطق وفيما له قوة النطق؛ ولهذا قيل لما لا نطق له ((الصامت والمصمت)) والسكوت يقال لما له نطق فيترك استعماله.

قال الشيخ أبو حامد: ((اعلم أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم من فصل الخطاب وجوامع الكلم وجواهر الحكم. ولا يعرف أحد ما تحت كلماته من بحار المعاني، إلا خواص العلماء؛ وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من الخطأ، والكذب، والنميمة، والغيبة، والرياء، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، وغير ذلك. ومع ذلك النفس مائلة إليها؛ لأنها سباقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان. فالخائض فيها قلما يقدر على أن يزم اللسان، فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة، مع ما فيه من جمع الهم، ودوام الوقار، والفراغة للفكر، والعبادة، والذكر، والسلامة من تبعا القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخرة. وقد قال تعالى:} ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد {.

ويدلك على لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول والاشتغال به تضييع للزمان، وهو عين الخسران ظاهرا، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وفيه خطر؛ إذ قد يمتزج به ما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفي مدركه فيكون به الإنسان مخاطرا.

الحديث السابع عن عقبة: قوله: ((أملك عليك لسانك)) ((نه)):أي لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك، وعن بعضهم: أي اجعل لسانك مملوكا لك فيما عليك وباله وتبعته، وأمسكه عما يضرك، وأطلقه عما ينفعك، انتهى كلامه. وهذا الجواب من باب الأسلوب الحكيم، سأل عن حقيقة النجاة، فأجاب عن سببه؛ لأنه أهم بحاله وأولى، وكان من الظاهر أن يقول: حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر الذي يقتضي الوجوب مزيدا للتقرير والاهتمام.

وقوله: ((وليسعك بيتك)) الأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطب،

ص: 3123

4838 -

وعن أبي سعيد، رفعه، قال:((إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنا نحن بك، فإن استقمت اسقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) رواه الترمذي. [4838]

4839 -

وعن علي بن الحسين (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).روام مالك، وأحمد. [4839]

ــ

أي تعرض لما هو سبب اللزوم البيت من الاشتغال بالله والمؤانسة بطاعته والخلوة عن الأغيار. وضمن ((بكى)) معنى الندامة، وعداه بـ ((علي)) أي اندم على خطيئتك باكيا.

الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((تكفر)) ((نه)):أي تذل وتخضع، والتكفير هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه، قال عمرو بن كلثوم.

نكفر باليدين إذا التقينا ونلقى من مخافتنا عصاكا

انتهى كلامه. وقوله: ((فإنا نحن بك)) أي نحن نستقيم ونعوج بك يدل على التفصيل.

فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد لمضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).قلت: اللسان ترجمان القلب وخليفته في ظاهر البدن، فإذا أسند إليه الأمر يكون على سبيل المجاز في الحكم كما في قولك: شفي الطبيب المريض. قال الميداني في قوله: ((المرأ بأصغريه)) يعني بهما القلب واللسان أي تقوم معانيه بيهما ويكمل بهما. وأنشد الزهير:

وكأين ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصانه في التكلم

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

الحديث التاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ما لا يعنيه)) ((نه)):أي لا يهمه ويقال: عنيت بحاجته أعني بها، وأنا بها معنى، وعنيت به فأنا عان، والأول أكثر أي اهتممت بها واشتغلت، وعن بعضهم ((من)) في قوله:((من حسن إسلام المرء)) تبعيضية، ويجوز أن تكون بيانية.

أقول: على أن تكون تبعيضية إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) بعد ذكر الإيمان والإسلام، وأنت تعلم أن التحلية مسبوقة بالتخلية،

ص: 3124

4840 -

ورواه ابن ماجه، عن أبي هريرةز [4840]

4841 -

والترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عنهما. [4841]

4842 -

وعن أنس، قال: توفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه)).رواه الترمذي. [4842]

ــ

فالترك بعض من الإحسان، فيكون إشارة إلى الانسلاخ عما يشغله عن الله تعالى. فإذا أخذ السالك في السلوك تجرد بحسب أحواله ومقاماته شيئا فشيئا، مما لا يعنيه إلى أن يتجرد عن جميع أوصافه ويتوجه بذاته إلى الله تعالى، وإليه يلمح قوله تعالى:} بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن {وقول إبراهيم عليه السلام: ((أسلمت لرب العالمين)) إذ قال له ربه أسلم.

((مح)):هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. قال أبو داود: وهي أربعة: الأول: حديث نعمان بن بشير: ((الحلال بين والحرام بين)).والثاني ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).والثالث: ((لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) والرابع: ((إنما الأعمال بالنيات)).وقيل بدل الثالث: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)).وأنشد الإمام الشافعي رضي الله عنه في معناه:

عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية

قال الشيخ أبو حامد: وحد ما لا يعنيك في الكلام أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال ولا مال؛ فإنك به مضيع زمانك ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنك لو صرفت زمان الكلام في الفكر والذكر، ربما ينفتح لك من نفحات رحمة الله تعالى ما يعظم جدواه. ولو سبحت الله تعالى بنى لك بها قصرا في الجنة. ومن قدر على أن يأخذ كنزا من الكنوز فأخذ بدله مدرة لا ينتفع بها، كان خاسرا خسرانا مبينا.

الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أولا تدري)) الواو فيه عطف على محذوف،

ص: 3125

4843 -

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: ((هذا)).رواه الترمذي، وصححه. [4843]

4844 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به)) رواه الترمذي. [4844]

4845 -

وعن سفيان بن أسيد الحضرمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب)).رواه أبو داود. [4845]

ــ

أي تكلم بهذا ولا تدري! فلعله قال في الإحياء: معناه: أنه إنما يهنأ بالجنة من لا يحاسب، ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه. فإن كان كلاما مباحا، فربما لا تتهيأ له الجنة مع المناقشة في الحساب، فإنه نوع من العذاب. وقوله:((يبخل بما لا ينقصه)) يعم جميع ما ينقص بالبذل والإبتاء من المال والمسائل العلمية.

الحديث الحادي عشر عن سفيان: قوله: ((ما أخوف)) هو نحو أشهر وألوم وأشغل، بني للمفعول. و ((ما)) في ((ما تخاف)) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، أو تكون مصدرية على طريقة: جد جده وجن جنونه، وخشيت خشيته. وإنما أسند صلى الله عليه وسلم شدة خوفه على أمته في سائر الأخبار إلى اللسان؛ لأنه أعظم الأعضاء عملا؛ إذ ما من طاعة ولا معصيى إلا وله فيها مجال. فالإيمان والكفر يتبين بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والطغيان، فمن أطلق عذبة اللسان وأصله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم، ولا ينجي من شره إلا أن يقيد بلجام الشرع. وعلم ما يحمد إطلاق اللسان فيه أو يذم، غامض عزيز، والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، كذا قاله في الإحياء.

الحديث الثاني عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تباعد عنه الملك)) وإذا كان الملك يتأذى ويتباعد من نتن نحو البصل والثوم، فلأن يتأذى ويتباعد من الكذب أولى.

الحديث الثالث عشر عن سفيان: قوله: ((أن تحدث أخاك)) هو فاعل ((كبرت)) وأنت الفعل باعتبار المعنى؛ لأنه نفس الخيانة. وفيه معنى التعجب كما في قوله تعالى:} كبر مقتا عند

ص: 3126

4846 -

وعن عمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان ذا وجهين في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار)).رواه الدرامي. [4846]

4847 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)).وفي أخرى له:((ولا الفاحش البذيء)).وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [4847]

4848 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكون المؤمن لعانا)).وفي رواية: ((لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا)).رواه الترمذي. [4848]

4849 -

وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضب الله، ولا بجهنم)).وفي رواية ((ولا بالنار)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4849]

الله {الكشاف: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه، قصد في كبر التعجب من غير لفظه، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، انتهى كلامه.

والمعنى: خيانة عظيمة منك إذا حدثت أخاك المسلم بحديث كذب، وهو يعتمد عليك، ويثق بقولك، وظن بك أنك مسلم لا تكذب، فيصدقك، والحال أنك كاذب.

الحديث الرابع عشر إلى السابع عشر عن سمرة: قوله: ((لا تلاعنوا)) أي لا تدعو الناس بما يبعدهم من الله تعالى ومن رحمته، إما صريحا كما تقولون: لعنة الله عليه. أو كناية كما تقولون: عليه غضب الله، أو أدخله الله النار. فقوله:((لا تلاعنوا)) من باب عموم المجاز؛ لأنه في بعض أفراده حقيقة وفي بعضه مجاز. وهذا مختص بمعين؛ لأنه يجوز اللعن بالوصف الأعم

ص: 3127

4850 -

وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها)) رواه أبو داود. [4850]

4851 -

وعن ابن عباس، أن رجلا نازعته الريح رداءه فلعنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4851]

4852 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر)).رواه أبو داود. [4852]

4853 -

وعن عائشة، قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا- تعني قصيرة- فقال ((لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته)).رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4853]

ــ

كقوله: لعنة الله على الكافرين، أو بالأخص كقوله: لعنة الله على اليهود، أو على كافر معين مات على الكفر، كفرعون وأبي جهل.

الحديث الثامن عشر إلى العشرين عن ابن مسعود: قوله: ((شيئا)) عام في الأفعال والأقوال مما يكرهه ويورث الغش في صدره- صلى الله عليه وسلم من أحد أصحابه؛ لقوله: ((أن أخرج إليكم سليم الصدر)).

الحديث الحادي والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لو مزج بها البحر)) ((تو)):قد حرفت ألفاظ هذا الحديث في المصابيح، والصواب ((لو مزجت بالبحر لمزجته)).أقول: قد ورد هذا الحديث كما في المصابيح والمتن في نسخة مصححة من سنن أبي دواد. ولعل التخطئة

ص: 3128

4854 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه)) رواه الترمذي. [4854]

4855 -

وعن خالد بن معدان عن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله)) –يعني من ذنب قد تاب عنه- رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل، لأن خالدا لم يدرك معاذ بن جبل. [4855]

4856 -

وعن واثلة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4856]

ــ

لأجل الدراية لا الرواية؛ إذ لا يقال: مزج بها البحر، بل مزجت بالبحر. ويمكن أن يقال: إن المزج والخلط يستدعيان الامتزاج والاختلاط، وكل من الممتزجين يمتزج بالآخر؛ قال الله تعالى:} فاختلط به نبات الأرض {،الكشاف: وكان حق اللفظ: فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته: أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه على أن هذا التركيب أبلغ؛ لأنه حينئذ من باب ((عرضت الناقة على الحوض)).

((قض)):المزج الخلط والتغيير بضم غيره إليه والمعنى أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر، لغيرته من حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال نزر خلطت بها؟

الحديث الثاني والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في شيء)) فيه مبالغة، أي لو قدر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لزانه أو شانه، فكيف الإنسان؟

الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن واثلة: قوله: ((لا تظهر الشماتة)) الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك. يقال: شمت به فهو شامت وأشمت الله به العدو. وقوله: ((فيرحمه الله)) أي يرحمه رغما لأنفك ويبتليك؛ حيث زكيت نفسك ورفعت منزلتك عليه، نحوه قوله صلى الله عليه وسلم في قول من قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك أبدا: ((فقال الله تعالى للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي)) الحديث. وقوله: ((فيرحمه الله)) نصب جوابا للنهي. وقوله: ((ويبتليك)) عطف عليه.

ص: 3129

4857 -

وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أني حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا)) رواه الترمذي وصححه. [4857]

4858 -

وعن جندب، قال: جاء أعرابي، فأناخ راحلته، ثم علقها، ثم دخل المسجد فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟)) قالوا: بلى. رواه أبو داود. [4858]

وذكر حديث أبي هريرة: ((كفي بالمرء كذبا)) في ((باب الاعتصام)) في الفصل الأول.

الفصل الثالث

4859 -

عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مدح الفاسق غضب الرب تعالى، واهتز له العرش)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4859]

ــ

الحديث الخامس والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حكيت أحدا)) ((نه)):أي فعلت مثل فعله. يقال حكاه وحاكاه، وأكثر ما يستعمل في القبيح المحاكاة. ((مح)):ومن الغيبة المحرمة المحاكاة. بأن يمشي متعارجا أو مطأطئا رأسه، أو غير ذلك من الهيئات كما مر. قوله:((وأن لي كذا وكذا)) جملة حالية واردة على التتميم والمبالغة، أي ما أحب أن أحاكي أحدا ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا.

الحديث السادس والعشرون عن جندب رضي الله عنه: قوله: ((أتقولون)) أي تظنون؟ ((نه)):في الحديث: ((فقال البر تقولون بهن)) أي تظنون وترون أنهن أردن البر؟ انتهى كلامه. يعني أيدور هذا التردد في ظنكم؟ ولا يقول ما قال إلا جاهل بالله وبسعة رحمته حيث يحجر الواسع والله أعلم.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اهتز له العرش)) اهتزاز العرش عبارة عن وقوع أمر عظيم وداهية دهياء؛ لأن فيه رضى بما فيه سخط الله وغضبه، بل يقرب أن يكون كفرا؛ لأنه يكاد أن يفضي إلى استحلال ما حرمه الله تعالى، وهذا هو الداء العضال لأكثر

ص: 3130

4860 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) رواه أحمد. [4860]

4861 -

والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن سعد بن أبي وقاص. [4861]

ــ

العلماء والشعراء، والقراء والمرائين في زماننا هذا. وإذا كان هذا حكم من مدح الفاسق، فكيف بمن مدح الظالم وركن إليه ركونا؟ وقد قال تعالى:} ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار {الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهتمهم، والرضى بأعمالهم، ووالتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم.

ولما خالط الزهري السلاطين، كتب إليه أخ له في الدين:

((عافانا الله وإياكم أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال تعالى:} لتبيننه للناس ولا تكتمونه {.

واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك لمن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، واتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك. فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم:} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشبهات فسوف يلقون غيا {،فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك، فقد دخله سقم، وهيئ زادك، فقد حضر السفر البعيد، وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام.

الحديث الثاني عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((يطبع عليها)) ((نه)):أي يخلق عليها.

ص: 3131

4862 -

وعن صفوان بن سليم، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: ((نعم)) فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: ((نعم)).فقيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: ((لا)).رواه مالك والبيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [4862]

4863 -

وعن ابن مسعود، قال:((إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون؛ فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث)) رواه مسلم.

4864 -

وعن عمران بن حطان، قال: أتيت أبا ذر فوجدته في المسجد محتبيا بكساء أسود وحده. فقلت: يا أبا ذر! ما هذه الوحدة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر)). [4864]

ــ

والطباع ما ركب في الإنسان من جميع الأخلاق التي لا يكاد يزاولها من الخير والشر، انتهى كلامه. وإنما كانت الخيانة والكذب منافيين لحاله؛ فإن الإيمان إفعال من الأمن وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة؛ ولأنه حامل أمانة الله تعالى، فينبغي أن يكون أمينا لا خائنا.

((غب)):أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر. ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان نحو} وتخونوا أماناتكم {.

الحديث الثالث والرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الشيطان ليتمثل)) فيه تنبيه على التحري فيما يسمع من الكلام وأن يتعرف من القائل؟ أهو صادق يجوز النقل عنه، أو كاذب يجب الاجتناب عن نقل كلامه؟ على ما ورد:((كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)).

ص: 3132

4865 -

وعن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((مقام الرجل بالصمت أفضل من عبادة ستين سنة)) [4865]

4866 -

وعن أبي ذر، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! أوصني قال: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه أزين لأمرك كله)) قلت: زدني. قال: ((عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض)).قلت: زدني. قال: ((عليك بطول الصمت، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك)).قلت: زدني. قال: ((إياك وكثرة

ــ

الحديث الخامس عن عمران: قوله: ((مقام الرجل)) أي منزلته عند الله تعالى؛ لأن في العبادة آفات يسلم عنها بالصمت كما ورد: ((من صمت نجا)).

الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((فذكر الحديث بطوله)) أي ذكر راوي أبي ذر الحديث بطوله. ولعله أراد مثل ما روى عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى أبا ذر فقال: يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين، هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: عليك بحسن الخلق وطول الصمت، والذي نفس محمد بيده ما عمل الخلائق بمثلهما. وقال: الخصلة الواحدة الصالحة تكون في الرجل فيصلح الله له بها عمله كله. وطهور الرجل وصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة.

قوله: ((فإنه أزين)) نسب الزينة إلى التقوى كما نسب الله تعالى اللباس إليه في قوله:} ولباس التقوى ذلك خير {بعد قوله:} خذوا زينتكم عند كل مسجد {كما أن السماء مزينة بزينة الكواكب، كذلك قلوب العارفين مزينا بالمعارف والتقوى، قال تعالى:} فإنها من تقوى القلوب {.والضمير في ((إنه ذكر)) وفي ((فإنه يميت)) واقع موقع اسم اشارة، أي كثرة الضحك تورث قساوة القلب. وهي مفضية إلى الغفلة، وليس موت القلب إلا الغفلة. والمراد بنور الوجه بهاؤه في قوله تعالى:} سيماهم في وجوهم من أثر السجود {.

وقوله: ((قل الحق وإن كان مرا)) شبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيمن يأباهما بالصبر؛ فإنه مر المذاق ولكن عاقبته محمودة. ثم زاد في التأكيد بتوصية قوله: ((لا تخف في

ص: 3133

الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه)) قلت: زدني. قال: ((قل الحق ولو كان مرا)) قلت زدني. قال: ((لا تخف في الله لومة لائم)).قلت زدني. قال: ((ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك)). [4866]

4867 -

وعن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان؟)) قال: قلت: بلى. قال: ((طول الصمت، وحسن الخلق، والذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)). [4867]

4868 -

وعن عائشة، قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه فقال:((لعانين وصديقين؟ كلا ورب الكعبة)) فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أعود. روى البيهقي الأحاديث الخمسة في ((شعب الإيمان)). [4868]

4869 -

وعن أسلم، قال: إن عمر دخل يوما على أبي بكر الصديق ((رضي الله

ــ

الله لومة لائم)) أي كن صلبا في دينك إذا شرعت في إنكار منكر أو أمر بمعروف، امض فيه كالمسامير المحماة، لا يرعك قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم يشق عليه جدك. وقوله:((ليحجزك)) أي ليمنعك عيب نفسك عن عيوب الناس.

الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بمثلهما)) الباء في ((بمثلهما)) يحتمل أن تكون زائدة، أي ما عمل الخلائق عملين مثلهما. وأن يكون ((عمل)) بمعنى أتى، أي أتى بمثلهما. وقوله:((أخف على الظهر)) تشبيه المعقول في تأتيه بالسهولة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان)).

الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لعانين وصديقين)) أي هل رأيت صديقا يكون لعانا؟ كلا والله لا تتراءى ناراهما، فالواو للجمع أي لا يجتمعان أبدا، وفي الكلام معنى التعجب.

الحديث التاسع عن أسلم: قوله: ((يجبذ)) ((نه)):الجبذ لغة في الجذب. وقيل هو مقلوب منه.

ص: 3134

عنهم)) وهو يجبذ لسانه. فقال عمر: مه. غفر الله لك فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد. رواه مالك.

4870 -

وعن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)). [4870]

4871 -

4872 - وعن عبد الرحمن بن غنم، وأسماء بنت زيد (رضي الله عنهم)،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله. وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، والمفرقون بين الأحبة، الباغون البراء العنت)). رواهما أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4871]، [4872]

4873 -

وعن ابن عباس، أن رجلين صليا صلاة الظهر أو العصر، وكانا صائمين، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: ((أعيدا وضوء كما وصلاتكما، وامضيا

ــ

الحديث العاشر والحادي عشر عن عبد الرحمن: قوله: ((إذا رؤوا ذكر الله)) يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم في الاختصاص بالله بحيث إذا رؤوا خطر ببال من رآهم مولاهم؛ لما فيهم من سيماء العبادة. وثانيهما: أن من رآهم يذكر الله تعالى، كما روى ابن الأثير في النهاية عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: ((النظر إلى وجه على عبادة)) قيل: معناه أن عليا رضي الله عنه كان إذا برز قال الناس: لا إله إلا الله ما أشرف هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أكرم هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى. فكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد.

و ((العنت)) المشقة، والفساد، والهلاك، والإثم، والغلط، والخطأ، والزنا، كل ذلك قد جاء وأطلق العنت عليه، والحديث يحتمل كلها. والبراء جمع بريء. وهو، والعنت منصوبان مفعولان للباغين يقال: بغيت فلانا خيرا وبغيتك الشيء طلبته لك، وبغيت الشيء طلبته.

الحديث الثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((امضيا)) أي لا تقاطعا ولا تفطرا

ص: 3135

في صومكما، واقضياه يوما آخر)).قالا: لم يا رسول الله؟ قال: ((اغتبتم فلانا)). [4873]

4874 -

4875 - وعن أبي سعيد، وجابر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغيبة أشد من الزنا)) قالوا: يا رسول الله! وكيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: ((إن الرجل ليزني فيتوب، فيتوب الله عليه)) –وفي رواية: ((فيتوب فيغفر الله له، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه)). [4874]، [4875]

4876 -

وفي رواية أنس (رضي الله عنه)،قال:((صاحب الزنا يتوب، وصاحب الغيبة ليس له توبة)).روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [4876]

4877 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول: اللهم اغفر لنا وله)).رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)) وقال: في هذا الإسناد ضعف. [4877]

ــ

من ((مضى في أمره)) إذا نفذ فيه ولم يتوقف، وهذا في الصوم ظاهر لقوله تعالى:} أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا {وأما في الصلاة فإنه أكل لحم أخيه وشرب دمه فحمل النجاسة، هذا وارد على سبيل التشديد والتغليظ، والله أعلم.

الحديث الثالث عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((كيف الغيبة أشد من الزنا؟)) ((الغيبة أشد من الزنا)) مبتدأ على سبيل حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ((كيف)) خبره، أي كيف قولك هذا؟

الحديث الرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن من كفارة الغيبة أن تستغفر)) ((مح)):رأيت في فتاوى الطحاوي: أنه يكفي الندم والاستغفار في الغيبة، وإن بلغته فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه. فإن تعذر لموته أو لغيبته البعيدة، استغفر الله تعالى. ولا اعتبار بتحليل الورثة.

ص: 3136