المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(16) باب الحب في الله ومن الله - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٠

[الطيبي]

الفصل: ‌(16) باب الحب في الله ومن الله

5000 -

وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)). رواه أحمد.

5001 -

وعن أبي هريرة، أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال:((امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين)) رواه أحمد.

5002 -

وعن سراقة بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ألا أدلكم على أفضل الصدقة؟ ابنتك مردودة إليك ليس لها كاسب غيرك)). رواه ابن ماجه. [5002]

(16) باب الحب في الله ومن الله

الفصل الأول

5003 -

عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). رواه البخاري.

ــ

الحديث التاسع إلى الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((امسح رأس اليتيم)) خص اليتيم والمسكين بالذكر؛ تلميحاً لقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسبغة، يتيماً ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة} ومراعاتهما من اقتحام العقبة الشاقة؛ لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. فمن اقتحم تلك العقبة رق قلبه وسمح نفسه في تعاطي كل خير، وفيه أن من ابتلى بداء من الأخلاق الذميمة، يكون تداركه بما يضاده من الدواء. فالمتكبر يداوى بالتواضع، والبخيل بالسماحة، وقاسي القلب بالتعطف والرقة

والله أعلم.

الحديث الثاني عشر عن سراقة: قوله: ((مردودة)) ((نه)) هي التي تطلق وترد إلى بيت أبيها، وأراد ألا أدلك على أفضل أهل الصدقة؟ فحذف المضاف، ومنه حديث الزبير في وصيته بدار وقفها، ((وللمردودة من بناته)) أي تسكنها، لأن المطلقة لا مسكن لها على زوجها.

أقول: ويمكن أن يقدر: صدقة تستحقها ابنتك في حال ردها إليك، وليس لها كاسب غيرك. وهما حالان إما مترادفتان أو متداخلتان.

باب الحب في الله ومن الله

أي في ذات الله وجهته لا يشوبه الرياء والهوى ((ومن الله))، أي من جهة الله أي إذا أحب

ص: 3197

5004 -

ورواه مسلم عن أبي هريرة

ــ

عبداً أحبه لأجل الله وبسببه. و ((من)) ها هنا كما في قوله تعالى: {ترى أعينهم تفيض من الدمع} و ((في) كما في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا} وهذا أبلغ حيث جعل المحبة مظروفاً.

الفصل الأول

الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((جنود مجندة)): أي مجموعة كما يقال: ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة. ومعناه الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد، أي أنها خلقت أول خلقها على قسمين: من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت. ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليها من السعادة والشقاوة والأخلاق في مبدأ الخلق. يقول: إن الأجساد التي فيها الأرواح، تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه، ولهذا ترى الخير يحب الأخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل إليهم.

((حس)): فيه دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وعلى أنها كانت موجودة قبل الأجساد في الخلقة.

أقول: الفاء في قوله: ((فما تعارف)) للتعقيب أتبعت المجمل بالتفصيل، فدل قوله:((ما تعارف)) على تقدم اشتباك واختلاط في الأزل، ثم تفرق بعد ذلك في ما لا يزال أزمنة متطاولة، ثم ائتلاف بعد التعارف، كمن فقد أنيسه وأليفه ثم اتصل به، فلزمه وأنس به. ودل قوله:((وما تناكر)) على أن ذلك الفقيد لحق لمن لم يكن له سبق اختلاط معه، فاشمأز منه وفارقه، إلى من كان معه في السابق.

ودل تشبيه الأرواح بالجنود المجندة على أن ذلك الاجتماع في الأزل كان لأمر عظيم وخطب جسيم من فتح بلاد وقهر أعداء. ودل ذلك على أن أحد الحزبين حزب الله والآخر حزب الشيطان. فمن تألف في الأزل بحزب الله فاز وأفلح. {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} ، ومن تألف بحزب الشيطان خاب وخسر. {أولئك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون} ومن عادة الأجناد المتحزبة أن يسوم كل واحد من أحد الحزبين بعلامة ترفع التناكر من البين، فمتى شاهدوها ائتلفوا.

ص: 3198

5005 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم يوضع له البغضاء في الأرض)). رواه مسلم.

ــ

فعلى هذا بنى قوله: ((فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) فهي تفريع على التشبيه بمنزلة ترشيح الاستعارة. وهذا التعارف إلهامات يقذفها الله في قلوب العباد من غير إشعار منهم بالسابقة. ولا يمنع من هذا التعارف فصله بالأباعد والأجانب، ولا تضمه شجنة الأرحام والأواصر؛ قال الشاعر:

كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم

ولم يحظ آل قصي به وحظيت به أم معبد، قال:

فيا لقصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجاري وسؤود

ليهن بني كعب مقام فتاتها ومقعدها للمؤمنين بمرصد

ولا يدفعه بعد الدار ولا يجمعه قربها

مناسبة الأرواح بيني وبينها وإلا فأين الترك من ساكني نجد

قال الحكيم: أقرب القرب مودة القلوب وإن تباعدت الأجسام. وأبعد البعد تنافر التداني، والله أعلم بالصواب.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا أحب عبداً)). ((مح)): محبة الله سبحانه وتعالى العبد هي إرادة الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته. وبغضه إرادة عقابه وشقاوته ونحو ذلك. وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين: أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم. وثانيهما: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين. وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه. وسبب حبهم إياه كونه مطيعاً لله محبوباً له. ومعنى ((يوضع له القبول في الأرض)) الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه. فتميل إليه القلوب وترضى عنه. وقد جاء في رواية ((فتوضع له المحبة)) انتهى كلامه. والكلام في المحبة وبيان اشتقاقها مضى مستوفي في باب أسماء الله الحسنى.

ص: 3199

5006 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه مسلم.

5007 -

وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكا قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية.

قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.

ــ

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بجلالي)) الباء فيه بمعنى ((في)) لقوله بعد: ((المتحابون في جلالي لهم)) خص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة أي المنزهون عن شائبة الهوى والنفس والشيطان في المحبة، فلا يتحابون إلا لأجلي ولوجهي. ((مح)): قال القاضي: الظاهر أنه في ظل الله من الحر ووهج الموقف. وقال عيسى بن دينار: هو كناية عن كونه في كنفه وستره. ومنه قولهم: السلطان ظل الله في الأرض. ويحتمل أن يكون عبارة عن الراحة والتنعيم. يقال: هو في عيش ظليل أي طيب. وقوله: ((يوم لا ظل إلا ظلي)) بدل من ((اليوم)) المتقدم.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأرصد الله له على مدرجته)). ((نه)) أي وكله بحفظ المدرجة. يقال: رصدته إذا قعدت له على طريقه تترقبه. والمدرجة بفتح الميم والراء هي الطريق السمي بذلك؛ لأن الناس يدرجون عليها أي يمضون ويمشون.

قوله: أريد أخا لي)) فإن قلت: كيف طابق هذا سؤاله بقوله: ((أين تريد؟)) قلت: من حيث أن السؤال متضمن لقوله: أين تتوجه ومن تقصد؟ ولما كان قصده الأولى الزيارة ذكره وترك ما لا يهم. ونظيره: قوله تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى} لما كان الغرض من السؤال في استعجاله إنكار تركه القوم وراءه وتقدمه عليهم، قدمه في الجواب وأخر ما وقع السؤال عنه.

وقوله: ((هل لك عليه من نعمة؟)) أي هل أوجبت عليه حقاً من النعم الدنيوية تذهب إليه لتربها، أي تملكها منه وتستوفيها. ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، أي يملكني. تقول: ربه يربه فهو رب هذا إذا حمل الرب على المالكية، وإذا حمل على التربية والإصلاح فمعنى ((تربها)) تقوم بها وتسعى في

ص: 3200

5008 -

وعن ابن مسعود، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال: ((المرء مع من أحب)) متفق عليه.

5009 -

وعن أنس، أن رجلاً قال: يا رسول الله! متى الساعة، قال:((ويلك وما أعددت لها؟)). قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: ((أنت مع من أحببت)). قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها. متفق عليه.

5010 -

وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع

ــ

تنميتها وإصلاحها. ((مح)): وفيه فضل المحبة في الله، وأنها سبب لحب الله، وفضيلة زيارة الصالحين. وأن الإنسان قد يرى الملائكة.

الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما أعددت لها)) سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن وقت الساعة وإبان إرسائها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها؟ وإنما يهمك أن تهتم بأهبتها، وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. فأجاب بقوله ((ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله)). وقوله:((أنت مع من أحببت)) أي ملحق بهم وداخل في زمرتهم. قال الله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} . ((خط)): ألحقه صلى الله عليه وسلم بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة.

الحديث السابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((إما أن يحذيك)). ((نه)): أي أن يعطيك. يقال: أحذيته أحذيه إحذاء وهي الحذياء والحذية، انتهى كلامه. قيل: فيه إرشاد إلى الرغبة في صحبة الصلحاء والعلماء ومجالستهم؛ فإنها تنفع في الدنيا والآخرة، وإلى الاجتناب عن صحبة الأشرار والفساق؛ فإنه تضر دينا ودنيا. قيل: مصاحبة الأخيار تورث الخير، ومصاحبة الأسرار تورث الشر، كالريح إن هبت على الطيب عقبت طيبا، وإن مرت على النتن

ص: 3201

منه، وإما إن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) متفق عليه.

الفصل الثاني

5011 -

عن معاذ بن جبل، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في)). رواه مالك. وفي رواية الترمذي، قال:((يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)). [5011]

5012 -

وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله)).

ــ

حملت نتنا. وقيل: إذا جالست الحمقى علق بك من حماقتهم ما لا يعلق بك من العقل إذا جلست العقلاء؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس وأسد اقتحاماً في الطبائع.

الفصل الثاني

الحديث الأول والثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((يغبطهم))، ((قض)): كل ما يتحلى به الإنسان ويتعاطاه من علم عمل؛ فإن له عند الله تعالى منزلة لا يشارك فيها صاحبه من لم يتصف بذلك، وإن كان له من نوع آخر ما هو أقدر وأعز ذخراً، فيغبطه بأن يتمنى ويحب أن يكون له مثل ذلك مضموما إلى ماله من المراتب الرفيعة والمنازل الشريفة. وذلك معنى قوله: ويغبطهم النبيون والشهداء؛ فإن الأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من ذلك من دعوة الخلق وإظهار الحق، وإعلاء الدين وإرشاد العامة، وتكميل الخاصة، إلى غير ذلك من كليات، أشغلتهم عن العكوف على مثل هذه الجزئيات والقيام بحقوقها. والشهداء وإن نالوا رتبة الشهادة وفازوا بالفوز الأكبر، فلعلهم لم يعاملوا مع الله معاملة هؤلاء، فإذا رأوهم يوم القيامة في منازلهم وشاهدوا قربهم وكرامتهم عند الله تعالى، ودوا لو كانوا ضامين خصالهم إلى خصالهم، فيكونوا جامعين بين الحسنيين فائزين بالمرتبتين.

هذا، والظاهر أنه لم يقصد في ذلك إثبات الغبطة لهم على حال هؤلاء، بل بيان فضلهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانتهم وتقريرها على أكمل وجه وأبلغه، والمعنى أن حالهم عند الله

ص: 3202

قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) وقرأ هذه الآية {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . رواه أبو داود. [5012]

ــ

تعالى يوم القيامة بمثابة، لو غبط النبيون والشهداء يومئذ، مع جلالة قدرهم ونباهة أمرهم حال غيرهم، لغبطوهم.

أقول: يمكن أن تحمل الغبطة هنا على استحسان الأمر المرضي المحمود فعله؛ لأنه لا يغبط إلا في الأمر المحمود المرضي؛ فإن الأنبياء والشهداء صلوات الله عليهم يحمدون إليهم فعلهم، ويرضون عليهم فيما تحروا من المحبة في الله.

ويعضده ما روينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة: أنه غزا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك.

قال: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر للوضوء، وحملت معه إداوة، ثم أقبلنا حتى نجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم، ثم قال ((أحسنتم)) أو تفسيراً وبياناً لقوله صلى الله عليه وسلم:((أحسنتم)) أو قال: ((قد أصبتم)). وأيضاً لا يبعد أن هذه الحالة في المحشر قبل دخول الناس الجنة أو النار لقوله: ((لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) والعريف للاستغراق، فيحصل لهؤلاء الأمن والفراغ في بعض الأوقات ما لا يحصل لغيرهم لاشتغالهم بحال أنفسهم أو حال أمتهم، فيغبطونهم لذلك.

((قض)): ((الروح))، بضم الراء، قيل: أراد به هنا القرآن لقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} سمي بذلك؛ لأنه يحيي به القلب كما يحيى بالروح البدن. والمعنى أنهم كانوا يتحابون بداعية الإسلام، ومتابعة القرآن فيما حثهم عليه موالاة المسلمين ومصادقتهم.

أقول: ويمكن أن يراد بالروح المحبة وما يتعاطون به من التواد والتحاب، أي تحابوا بما أوقع الله في قلوبهم من المحبة الخالصة لله تعالى. ومنه قوله تعالى:{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} قيل: سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي.

ص: 3203

5013 -

ورواه في ((شرح السنة)) عن أبي مالك بلفظ ((المصابيح)) مع زوائد وكذا في ((شعب الإيمان)). [5013]

5014 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((يا أبا ذر! أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((الموالاة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5014]

5015 -

وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5015]

ــ

قوله: ((إن وجوههم لنور)) أي منورة أو ذوات نور أو هي نفس النور فهم على نور.

وقوله: ((وإنهم لعلى نور)) أي على منابر من نور يشهد له الحديث السابق: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)). ((قض)): هو تمثيل لمنزلتهم ومحلهم، مثلها بما هو أعلى ما يجلس عليه في المجالس والمحافل على أعز الأوضاع وأشرفها، من جنس ما هو أبهى وأحسن ما يشاهد؛ ليدل على أن رتبتهم في الغاية القصوى من العلاء والشرف والبهاء.

الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أي عرى الإيمان أوثق؟)) هي جمع ((عروة)) وهي ما يجعل في الأحمال والرواحل، ويجعل بين كل من العروتين شظاظ فيحمل على البعير. وهو يجوز أن يكون استعارة مصرحة بحقيقة شبه الموالاة والمحبة في الله والبغض في الله بعروة الراحلة في استيثاقها وإحكامها. فحذف المشبه به وأتى بالمشبه مضافاً إلى الإيمان؛ ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وأن تكون مكنية بأن يكون المشبه الإيمان والمشبه به الأعمال، ويتوهم للإيمان على سبيل التخييلية من لوازم المشبه به. وقرينتا الإضافة إليه. ويجوز أن تكون تمثيلية مثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع، كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وطاب ممشاك)) القرائن الثلاث يجوز أن تحمل على الدعاء وعلى الإخبار، وقوله:((طبت)) دعاء لنفسه. و ((طاب ممشاك)) دعاء له.

ص: 3204

5016 -

وعن المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)). رواه أبو داود، والترمذي. [5016]

5017 -

وعن أنس، قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده ناس. فقال رجل ممن عنده: إني لأحب هذا لله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعلمته؟)). قال لا. قال ((قم إليه فأعلمه؟. فقام إليه فأعلمه فقال: أحبك الذي أحببتني له. قال: ثم رجع. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت، ولك ما احتسبت)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). وفي رواية الترمذي: ((المرء مع من أحب وله ما اكتسب)). [5017]

5018 -

وعن أبي سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)). رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [5018]

ــ

وأن كل خطوة خطاها يحط بها سيئة، ويكتب له بها حسنة، هذا في الدنيا، وفي الآخرة تبوأت من الجنة منزلا. والتنكير في ((منزلا)) للتفخيم أي منزلا أي منزل.

الحديث الخامس عن المقدام رضي الله عنه: قوله: ((فليخبره أنه يحبه))، ((خط)) معناه: الحث على التودد والتألف. وذلك أنه إذا أخبر أنه يحبه استمال قلبه بذلك واجتلب به وده وفيه أنه إذا علم أنه محب له واد، قبل نصحه، ولم يرد عليه قوله في عيب إن أخبره به.

الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أحبك الذي أحببتني له)) دعاء له أخرجه مخرج الماضي تحقيقاً له وحرصاً على وقوعه قوله: ((ولك ما احتسبت)) وفي رواية: ((وله ما اكتسب)((تو))، كلا اللفظين قريب من الآخر في المعنى المراد منه.

أقول: وذلك لأن معنى ((اكتسب)): كسب كسبا يعتد به، ولا يرد عليه بسبب الرياء والسمعة. وهذا هو معنى الاحتساب؛ لأن الافتعال للاعتمال. ((نه)): الاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد. وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احستبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به. و ((الحسبة)) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد.

الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا يأكل طعامك إلا تقي))

ص: 3205

5019 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال النووي: إسناده صحيح.

5020 -

وعن يزيد بن نعامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه، وممن هو؟ فإنه أوصل للمودة)). رواه الترمذي. [5020]

ــ

((خط)): هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة. وذلك أن الله تعالى قال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا} ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين، وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، انتهى كلامه.

فإن قلت: ما معنى القرينتين؟ قلت: المؤمن، يجوز أن يراد به العام، وأن يراد به الخاص الذي يقابله الفاسق، كقوله تعالى:{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً} فيكون المعنى: لا تصاحب إلا صالحاً. وقوله: ((ولا يأكل)) نهي لغير التقي أن يأكل طعامه، فالمراد نهيه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقي طعامه من كسب الحرام، وتعاطي ما ينفر عنه التقي. والمعنى لا تصاحب إلا مطيعاً ولا تخالل إلا تقياً.

الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خليله))، ((نه)): الخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل. وقد يكون بمعنى مفعول، والخلة- بالضم- الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله، أي في باطنه. قال الشيخ أبو حامد؛ مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخالطته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل والطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري.

قوله: ((إسناده صحيح)) ذكره في كتاب رياض الصالحين، وغرض المؤلف من إيراده والإطناب فيه دفع الطعن في هذا الحديث، ودفع توهم من توهم أنه موضع.

ص: 3206

الفصل الثالث

5021 -

عن أبي ذر، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟)) قال قائل؛ الصلاة والزكاة. وقال قائل؛ الجهاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الحب في الله والبغض في الله)). رواه أحمد، وروى أبو داود الفصل الأخير. [5021]

5022 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب عبد عبداً لله إلا أكرم ربه عز وجل). [5022]

5023 -

وعن أسماء بنت يزيد، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((ألا أنبئكم بخياركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله)). رواه ابن ماجه. [5023]

5024 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن عبدين تحابا في الله عز وجل، واحد في المشرق وآخر في المغرب؛ لجمع الله بينهما يوم القيامة. يقول: هذا الذي كنت تحبه في)). [5024]

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى)) فإن قلت: كيف يكون الحب في الله أحب إلى الله تعالى من الصلاة والزكاة والجهاد؟ قلت: من أحب في الله يحب أنبياءه وأولياءه، ومن شرط محبته إياهم: أن يقفوا أثرهم ويطيع أمرهم. قال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في المقياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

ص: 3207