الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الرقاق
الفصل الأول
5155 -
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). رواه البخاري.
ــ
كتاب الرقاق
((غب)): الرقة كالدقة لكن الدقة تقال اعتبارا لمراعاة جوانبه، والرقة اعتبارا بعمقه، يقال فلان رقيق القلب وقاسي القلب. ((مظ)): الرقاق جمع رقيق، وهو الذي فيه رقه. سميت هذه الأحاديث رقاقاً؛ لأن في كل حديث من الوعظ والتنبيه ما يجعل القلب رقيقاً، ويحدث في القلب رقة.
الفصل الأول
الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((نعمتان)). ((غب)): النعمة الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة. قال الإمام فخر الدين الرازي: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. ((غب)): الغبن أن تبخص صاحبك في معاملة بينك وبينه من الإخفاء. فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان، وإن كان في رأي يقال: غبن. الجوهري: الغبن بالتسكين في البيع والتحريك في الرأي. يقال: غبنته في الربيع بالفتح أي خدعته، وقد غبن فهو مغبون، وغبن رأيه بالكسر إذا نقضته، فهو غبين الرأي أي ضعيف الرأي.
أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثلا للمكلف بالتاجر الذي له رأس مال، وهو يبيع ويشتري ويطلب من تجارته سلامة رأس المال والربح، فالواجب عليه أن يتحرى فيها من يعامله، ويكون صدوقاً غير مخادع لئلا يغبنه في معاملته. فنعمتا الفراغ والصحة رأس مال المكلف، فينبغي له أن يعامل الله تعالى بالإيمان بالله ورسوله، والمجاهدة مع النفس وأعداء الدين؛ لئلا يغبن ويربح في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى:{هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} ويجتنب معاملة الشيطان لشلا يغبن فيضيع رأس ماله مع الربح.
5156 -
وعن المستورد بن شداد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع؟)). رواه مسلم.
5157 -
وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت. قال:((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء. قال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)). رواه مسلم.
5158 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)). رواه مسلم.
ــ
فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} والشكر كما علمت في إزاء النعمة. وشكر العباد لله تعالى عبارة عن آداب الجوارح في طاعته وتحرى مراضيه بقلبه. والنداء على التحميد بلسانه وبناء المبالغة في الشكور ينبئ عن هذه الأقسام. والله أعلم.
الحديث الثاني عن المستورد رضي الله عنه: قوله: ((ما الدنيا في الآخرة)) أي مثل الدنيا في جنب الآخرة. قوله (فلينظر بم يرجع)) وضع موضع قوله: فلا يرجع بشيء، كأنه صلى الله عليه وسلم يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع ثم يأمره بالتأمل والتفكر هل يرجع بشيء أم لا؟ هذا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فأين المناسبة بين المتناهي وغير المتناهي؟
الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الأسك)) الأسك الصغير الأذن، ويقال للذي لا أذن له. قوله:((أيكم يحب؟)) في هذا الاستفهام إرشاد منه صلى الله عليه وسلم وتنبيه، ينبههم صلى الله عليه وسلم على إلقاء السمع للخطاب الخطير، وشهود القلب لما يعني به من الخطب الجليل؛ وهو هوان الدنيا ليوطن ذلك في قلوبهم مزيد توطين، ويقرره تقريراً بعد تقرير وهو على منوال قوله تعالى:{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدنيا سجن المؤمن)). ((فا)): أراد أن الدنيا للمؤمن كالسجن في جنب ما أعد له من المثوبة، وللكافر كالجنة في جنب ما أعدله من العقوبة. وقيل: إن المؤمن غرب نفسه عن الملاذ وأخذها بالشدائد، فكأنه في السجن، والكافر [روحها] في الشهوات فهي له كالجنة، انتهى كلامه. ولما مات داود الطائي، سمع هاتفا يهتف: أطلق داود من السجن.
5159 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها الله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها)). رواه مسلم.
5160 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)). متفق عليه. إلا أن عند مسلم: ((حفت)). بدل: ((حجبت)).
ــ
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي: إن السجن والخروج منه يتعاقبان على قب العبد المؤمن على توالي الساعات ومرور الأوقات؛ لأن النفس كلما ظهرت بصفاتها أظلم الوقت على القلب حتى ضاق وانكمد، وهل السجن إلا تضييق وحجر من الخروج والولوج. فكلما هم القلب بالتبرز عن مشائم الأهواء الدنيوية والتخلص عن قيود الشهوات العاجلة؛ تسببا إلى الآجلة، وتنزها في قضاء الملكوت ومشاهدة للجمالة الأزلي، حجزه الشيطان المردود عن هذا الباب المطرود بالاحتجاب، فتدلى بحبل النفس الأمارة إليه فكدر صفو العيش عليه، وحال بينه وبين محبوب طبعه. وهذا من أعظم السجون وأضيقها؛ فإن من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه؛ ولهذا المعنى أخبر الله تعالى عن جماعة من الصحابة، حيث تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، فقال تعالى:{وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بم رحبت} الآية.
الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يظلم مؤمنا حسنة)) ((حس)): لا يظلم ولا ينقص، وهو متعدي إلى مفعولين: أحدهما ((مؤمنا)) والآخر ((حسنة)). ومعناه: أن المؤمن إذا اكتسب حسنة، يكافئه الله تعالى بأن يوسع عله رزقه ويرغد عيشه في الدنيا، وبأن يجزى ويثيب في الآخرة. والكافر إذا اكتسب حسنة في الدنيا، بأن يفك أسير أو ينقذ غريقا، يكافئه الله تعالى في الدنيا ولا يجزيه في الآخرة.
أقول: الباء في قوله: ((يعطي بها)) إن حملت على السببية فتحتاج إلى مقدر، أي يعطى بسببها حسنة، وإن حملت على البدل فلا. وأما الباء في ((يجزى بها)) فهي للسببية.
واعلم أن ((أما)) التفصيلية تقتضي التعدد لفظاً أو تقديراً. وقرينتها هاهنا الكلام السابق، والقرينتان واردتان على التقابل، فيقدر في كل من القرينتين ما يقابل الأخرى، ذكر في القرينة الثانية أن الكافر إذا صدرت منه حسنة يستوفي أجرها بكمالها في الدنيا، حتى لا يكون له نصيب في الآخرة قط. والمؤمن بخلافه إنما يجزى الجزاء الأوفي في الآخرة؛ ولذلك قيل:
5161 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، أن أعطي رضى، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن
ــ
((يجزى بها في الآخرة)) مصرحا، وما يناله في الدنيا من رغد العيش المشار إليه بقوله تعالى:{فلنحينه حياة طيبة} فهو فضل وحسان من الله تعالى؛ ولذلك قيل: ((يعطى بها)) ولم يقل: ((يجزى بها)). وتحرير المعنى أن الله تعالى لا يظلم أحدا عمل حسنة، فأما المؤمن فيجزيه في الآخرة الجزاء الأوفي، ويفضل عليه في الدنيا. وأما الكافر فيجزيه في الدنيا الجزاء الأوفي وماله في الآخرة من نصيب. وإليه ينظر قوله تعالى:{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب} .
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حجبت النار)) ((مح)): معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار إلا بارتكاب الشهوات؛ ولذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات. وأم المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك. وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والغيبة ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذا.
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تعس)) ((نه)) تعس يتعس إذا عثر وانكب بوجهه، وقد تفتح العين وهو دعاء عليه بالهلاك ((وانتكس)) أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة، لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر. وإذا شيك أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش. و ((الخميصة)) ثوب خز أو ثوب صوف معلم.
وقيل: لا يسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديماً، وجمعها الخمائص، انتهى كلامه. قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا خلاص له عن أسره. ولم يقل: مالك الدينار أو جامع الدينار؛ لأن المذموم من الدنيا الزيادة على قدر الحاجة لا قدر الحاجة.
وقوله: ((إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط)) يؤذن بشدة حرصه في جمع الدنيا، وطمعه فيما في أيدي الناس. وفي قوله:((تعس وانتكس)) صيغة الترديد مع الترقي. أعاد ((تعس)) الذي هو الانكباب على الوجه، ليضم معه الانتكاس الذي هو الانقلاب على الرأس؛ ليترقى في الدعاء عليه من الأهون إلى الأغلط. ثم ترقى منه إلى قوله:((وإذا شيك فلا انتقش)) على معنى
كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)). رواه البخاري.
5162 -
وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفت عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)). فقال رجل: يا رسول الله!
ــ
أنه إذا وقع في البلاء فلا يترحم عليه، فإن من وقع في البلاء إذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ويتسلى بض التسلي، وهؤلاء بخلافه بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء وشماتتهم. وإنما خص انتقاش الشوك بالذكر؛ لأن الانتقاش أسهل ما يتصور من المعاونة لمن أصابه مكروه، فإذا نفي ذلك الأهون. فيكون ما فوق ذلك منفياً بالطريق الأولى. وقوله:((أشعث)) و ((مغبرة)) حالان من الضمير في ((آخذ)) لاعتماده على الموصوف، ويجوز أن يكون حالين من ((العبد)) لأنه موصوف.
قوله: ((إن كان في الحراسة)) ((تو)): أراد بالحراسة حراسة من العدو أن يهجم عليهم. وذلك يكون في مقدمة الجيش. و ((الساقة)) مؤخرة الجيش. والمعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكبر آفة، الأول عند دخولهم دار الحرب والآخر عند خروجهم منها. قيل: قوله: ((إن استأذن لم يؤذن له)) إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأنهابها بحيث يعني بكليته في نفسه لا يبتغي مالا ولا جاها عن الناس، بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته وعند الله يكون شفيعا مشفعا.
أقول: قد تقرر في علم المعاني: أن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على فخامة الجزاء وكماله، والشريطتان مؤكدتان للمعنى السابق؛ فإن قوله:((آخذ بعنان فرسه)) يدل على اهتمامه بشأن ما هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وليس له هم سواه لا الدرهم والدينار بله نفسه، فتراه أشعث رأسه مغبرة قدماه. فإذا كان في الحراسة يبذل جهده فيها لا يفتر عنها بالنوم والغفلة ونحوهما؛ لأنه ترك نصيبه من الراحة والدعة. وإن كان في ساقة الجيش لا يخاف الانقطاع ولا يهتم إلى السبق، بل يلازم ما هو لأجله.
فعلى هذا هذه القرينة إلى آخرها جاءت مقابلة للقرينة الأولى، فدلت الأولى على اهتمام صاحبها بعيش العاجلة، والثانية على اهتمام صاحبها بعيش الآجلة؛ ولذلك صح في الحديث السابق في كتاب الجهاد:((من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على (متنه))) الحديث.
الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من زهرة الدنيا))، ((فا)): أي حسنها وبهجتها وكثرة خيرها و ((الرحضاء)) هي عرق الحمى، كأنها ترحض الجسد أي تغسله. ((نه)): الحبط بالتحريك الهلاك، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا،
أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت، حتى ظننا أنه ينزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء وقال: ((أين السائل؟)). وكأنه حمده فقال: ((إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر أكلت حتى امتدت خاصرتاها، استقبلت
ــ
فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية. و ((يلم)) أي تقرب وتدنو من الهلاك. و ((الخضر)) بكسر الضاد نوع من القبول، ليس من أحرارها وجيدها، وإنما يرعاها المواشي إذا لم تجد سواها، فلا تكثر من أكلها ولا تستمرئ بها. و ((الثلط)) الرجيع الرقيق. وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة.
((قض)): و ((آكلة)) نصب على أنه مفعول ((يقتل)) والاستثناء مفرغ، والأصل أن مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكل الخضر على هذا الوجه. وإنما صح الاستثناء المفرغ من المثبت لقصد التعميم فيه، ونظيره قرأت إلا يوم كذا.
أقول: وعليه ظاهر كلام المظهر، والأظهر أن الاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت وهو غير جائز عند صاحب الكشاف إلا بالتأويل؛ ولأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع لدلالة ((من)) التبعيضية عليه، والتقسيم في قوله:((إلا آكلة الخضر)) لأن الخضر غير ما يقتل حبطاً، يشهد له ما في شرح السنة.
قال الأزهري: فيه مثلان: ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها، وأما قوله:((إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا)) فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق. وذلك أن الربيع مما ينبت أحرار الشعب فتستكثر منه الماشية حتى تنتفخ بطونها، لما قد جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه، يهلك في الآخرة بدخول النار. وأما مثل المقتصد فقوله صلى الله عليه وسلم:((إلا آكلة الخضر)) وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع فتستكثر منها الماشية، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول شيئاً فشيئاً من غير استكثار. فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها.
((شف)): في قوله: ((حتى امتدت خاصرتها، استقبلت عين شمس)) أن المقتصد المحمود العاقبة، وإن جاوز حد الاقتصاد في بعض الأحيان، وقرب من السرف المذموم لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان. وهو المعني بقوله:((أكلت حتى امتدت خاصرتاها)) لكنه يرجع عن قريب عن ذلك الحد المذموم، ولا يثبت عليه بل يلتجئ إلى الدلائل النيرة والبراهين الواضحة الدافعة للحرص المهلك القامعة له، وهو المدلول عليه بقوله: ((استقبلت عين شمس وثلطت
عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة)). متفق عليه.
ــ
وبالت)) فحذف ما حذف في المرة الثانية لدلالة ما قبلها عليه. وفيه إرشاد إلى أن المحمود العاقبة وإن تكرر منه الخروج عن حد الاقتصاد والقرب من حد الإسراف مرة بعد أولى وثانية بعد أخرى لغلبة الشهوة عليه وقوتها فيه، لكنه يمكن أن يبعد بمشيئة الله تعالى عن الحد المذموم الذي هو الإسراف، ويقرب من الاقتصاد الذي هو الحد المحمود.
أقول: فعلى هذا الاستثناء متصل، لكن يجب التأويل في المستثنى، المعنى أن من جملة ما ينبت الربيع شيئاً يقتل آكله إلا الخضر منه، إذا اقتصد فيه آكله ودفع ما يؤديه إلى الهلاك.
قوله: ((إن هذا المال خضرة حلوة))، ((تو)): كذلك ترويه من كتاب البخاري على التأنيث، وقد روى أيضاً ((خضر حلو)) والوجه فيه أن يقال: إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به، أي إن هذا المال شيء كالخضرة. وقيل: معناه كالبقلة الخضرة، أو يكون على معنى فائدة المال، أي إن الحياة به أو العيشة خضرة.
أقول: ويمكن أن يعبر عن لمال بالدنيا، لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا. لقوله تعالى:{المال والبنون زينة الحياة الدنيا} فيوافق حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم)) على ما مر في الباب السابق.
ثم الحديث يستدعي فضل تقرير وتحرير، فالاستفهام في قولهم ((أو يأتي الخير بالشر)) استرشاد منهم؛ ومن ثم حمد صلى الله عليه وسلم السائل. والباء في ((بالشر)) صلة ((يأتي)) يعني هل يستجلب الخير الشر؟. وجوابه صلى الله عليه وسلم:((لا يأتي الخير بالشر)) معناه: لا يأتي الخير بالشرـ لكن قد يكون سبباً له ومؤدياً إليه؛ فإن الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ فهي كلها خير في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل الآكل، فمن آكل مستلذ مفرط منهمك فيها. بحيث تنتفخ فيه أضلاعه وتمتلئ خاصرتاه ولا تقلع عنه فيهلكه سريعا. ومن آكل كذا فيشرفه إلى الهلاك، ومن آكل مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه، لكنه يتوخى إزالة ذلك ويتحيل في دفع مضرتها حتى ينهضم ما أكل، ومن آكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسد جوعته، ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه.
الأول مثل الكافر؛ ومن ثمة أكد القتل بالحبط أي يقتل قتلا حبطا، والكافر هو الذي يحبط
5163 -
وعن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) متفق عليه.
ــ
أعماله. والثاني مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي. والثالث مثال المقتصد.
والرابع مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، كما قال:((من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا)) وهذا الوجه يفهم من الحديث وإن لم يصرح به، وفي كلام الشيخ محيي الدين إشعار بهذا التقسيم.
قوله: ((فمن أخذه بحقه)) أي باحتياجه وحله ووضعه في حقه بأن أخرج منه حقه الواجب فيه شرعا كالزكاة، فنعم المعين هو لصاحبه، يبلغ به الخير وينجو به من الشر. قال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم يافع، فإن أصابها المغرم الذي يعرف وجه الاحتراز عن شرها وطريق استخراج ترياقها النافع، كانت نعمة. وإن أصابها السوادي الغبي فهي عليه بلاء مهلك، انتهى كلامه.
وقوله: ((كالذي يأكل ولا يشبع)) ذكر في مقابلة قوله: ((فنعم المعونة)) ومعناه: أن أخذ المال بغير حقه بأن جمعه من الحرام ومن غير احتياج إليه، ولم يخرج منه حقه الواجب فيه، فيكون ذلك وبالا عليه لا معونة له، فيصير كالداء العضال الذي يهلك صاحبه وهو الحرص الباعث على من به جوع كالكلب، فإن مصيره إلى الهلاك. وقوله:((ويكون شهيداً عليه)) أي حجة عليه يوم القيامة يشهد على حرصه وإسرافه، وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى ولم يؤد حقوقه.
الحديث التاسع عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((ولكن أخشى عليكم)). فإن قلت: ما الفائدة في تقديم المفعول في القرينة الأولى دون الثانية؟ قلت: فائدته الاهتمام بشأن الفقر؛ لأن الأب المشفق إذا احتضر إنما يكون اهتمامه بشأن الولد ضياعه، وإعدامه المال، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: حالي معكم خلاف حال الولد؛ فإني لا أخشى الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن خوفي من الغنى الذي هو مطلوب الوالد للولد.
ثم التعريف في الفقر إما أن يكون للعهد، فهو الفقر الذي كانت الصحابة عليه من الإعدام والقلة، والبسط هو ما يبسط الله تعالى عليهم من فتح البلاد. وإما للجنس وهو الفقر الذي يعرفه كل أحد ما هو، والبسط الذي يعرفه كل أحد، ونظيره ما فسر به قوله تعالى:{فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا} .
5164 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)). وفي رواية: ((كفافاً)). متفق عليه.
5165 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)). رواه مسلم.
ــ
((نه)): التنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه. ونافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه، ونفس بالضم نفاسه أي صار مرغوباً فيه، ونفست به الكسر أي بخلت به. انتهى كلامه.
وحذف إحدى التائين من قوله: ((فتنافسوها)) تخفيفاً والضمير في ((تنافسوها)) منصوب بنزع الخافض، وأصله تنافسوا فيها، ومعناه: ترغبون فيها فتشتغلون بجمعها أو تحرصون على إمساكها فتطغون فيها فتهلكون؛ قال الله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} ويحتمل أن يكون هلاكهم من أجل أن المال مرغوب فيه فيطمع الناس فيه، ويتوقعون منه فمنعه منهم، فتقع العداوة بينهم ويفضي ذلك إلى المقاتلة.
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كفافاً))، ((نه)): الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه.
أقول: هذه الرواية مفسرة للرواية الأولى؛ لأن القوت ما يسد به الرمق. قيل: سمي قوتا لحصول القوة منه، سلك صلى الله عليه وسلم طريق الاقتصاد المحمود، فإن كثرة المال تلهي وقلته تنسي، فما قل منه وكفي خير مما كثر وألهى.
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إرشاد لأمته كل الإرشاد إلى أن الزيادة على الكفاف، لا ينبغي أن يتعب الرجل في طلبه؛ لأنه لا خير فيه. وحكم الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمنهم من يعتاد قلة الأكل، حتى إنه يأكل في كل أسبوع مرة، فكفافه وقوته تلك المرة في كل أسبوع. ومنهم من يعتاد الأكل في كل يوم مرة أو مرتين فكفافة ذلك أيضاً؛ لأنه إن ترك أضره ذلك ولم يقو على الطاعة. ومنهم من يكون كثير العيال فكفافه ما يسد رمق عياله. ومنهم من يقل عياله فلا يحتاج إلى طلب الزيادة وكثرة الاشتغال. فإذن قدر الكفاف غير مقدار ومقداره غير معين، إلا أن المحمود ما به القوة على الطاعة والاشتغال به على قدر الحاجة.
الحديث الحادي عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((قنعه الله)) قيل: أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزيادة لمعرفته، بأن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له.
5166 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول العبد: مالي مالي. وإن ما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)). رواه مسلم.
5167 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتبع الميت ثلاثة: فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)). متفق عليه.
ــ
أقول: الفلاح هو الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما. والمراد بالرزق الحلال منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح. وذكر أمرين وقيد الثاني بـ ((قنع)) ي رزق كفافا وقنعه الله بالكفاف فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول: ليشتمل جميع ما هو الإسلام متناول له، كما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام:{أسلم قال أسلمت لرب العالمين} .
((غب)): والإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما: دون الإيمان وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم حصل معه الاعتقاد أو يحصل. والثاني: فوق الإيمان وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل، واستسلام لله تعالى في جميع ما قضى وقدر كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:{إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} انتهى كلامه. والحديث كما ترى جامع للحسنيين حاو لنعمة الدارين، فحقيق بأنه قال: إنه من الجوامع.
الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإن ما له من ماله)) ما)) الأولى موصولة و ((له)) صلته و ((من ماله)) متعلق بالصلة، و ((ثلاث)) خبر، وإنما أنثه على تأويل المنافع. و ((اقتنى)) أي أعطى الله تعالى وتصدق به فيكون ذخيرة له ليوم القيامة؛ قال تعالى:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} .
الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يتبعه أهله وماله)) ((مظ)): أراد بعض ماله وهو مماليكه. أقول: متابعة الأهل على الحقيقة. وأما متابعة المال والعمل فعلى الاتساع؛ فإن المال حينئذ له نوع تعلق بالميت، من التجهيز والتكفين ومؤنة الغسل والحمل والدفن، فإذا دفن انقطاع تعلقه بالكلية.
5168 -
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)) قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: ((فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)). رواه البخاري.
5169 -
وعن مطرف، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهكم التكاثر} قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي)). قال: ((وهل لك يا ابن آدم! إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)). رواه مسلم.
5170 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)). متفق عليه.
الفصل الثاني
5171 -
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ عني هؤلاء
ــ
الحديث الرابع والخامس عشر عن مطرف رضي الله عنه: قوله: ((فأمضيت)) قيل: فأمضيته من الإفناء والإبلاء، وبقيته لنفسك تجده يوم القيامة، قال تعالى:{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا} .
الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن كثرة العرض)) ((نه)): العرض- بالتحريك- متاع الدنيا وحطامها. انتهى كلامه. و ((عن)) هذه مثلها في قوله تعالى: ((فأزلهما الشيطان عنها)) الكشاف: أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، وتحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنه. ((شف)): المراد بغنى النفس القناعة، ويمكن أن يراد به ما يسد الحاجة؛ قال الشاعر:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
أقول: ويمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وأنشد أبو الطيب في معناه:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
يعني ينبغي أن ينفق ساعاته وأوقاته في الغنى الحقيق، وهو طلب الكمالات ليزيد غنى بعد غنى، لا في المال لأنه فقر بعد فقر.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو يعلم)) ((أو)) بمعنى الواو، كما في قوله تعالى:{عذراً أو نذرا} .
الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟)) قلت: أنا يا رسول الله! فأخذ بيدي فعد خمساً، فقال:((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5171]
5172 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك)) رواه أحمد، وابن ماجه. [5172]
5173 -
وعن جابر، قال: ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد، وذكر آخر برعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تعدل بالرعة)) يعني الورع. رواه الترمذي.
ــ
أقول: ((وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا)) من قوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن جاره بوائقه)) وقوله: ((أحب الناس)) من قوله: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تفرغ لعبادتي)) أي تفرغ من مهامك لعبادتي حتى أقضي مهامك، ومن كان الله تعالى قاضياً لمهامه يستغنى به عن خلقه؛ لأنه الغني على الإطلاق، وهو المعنى بقوله:((أملأ صدرك غنى، وإن لم تتفرغ، واشتغلت بغيري لم أسد فقرك؛ لأن الخلق فقراء على الإطلاق، فيزيد فقرك على فقرك وهو المراد بقوله: ((ملأت يدك شغلاً)) فاليد عبارة عن سائر جوارحه؛ لأن معظم الكسب إنما يتأتى من اليد.
الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا تعدل)). ((مظ)): ((لا تعدل)) يجوز أن يكون نهي المخاطب المذكر مجزوم اللام، يعني لا تقابل شيئاً بالرعة، وهي- بكسر الراء وتخفيف العين- ((الورع)) التقى؛ فإن الورع أفضل من كل خصلة. ويجوز أن يكون خبراً منفياً بضم التاء وفتح الدال، أي لا تقابل خصلة بالورع فإنها أفضل الخصال.
((غب)): الورع في عرف الشرع عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا، وذلك ثلاثة أضرب: واجب: وهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة. وندب: وهو الوقوف على
5174 -
وعن عمرو بن ميمون الأودي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمساً: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) رواه الترمذي مرسلا. [5174]
5175 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما ينتظر أحدكم إلا غني مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)) رواه الترمذي، والنسائي. [5175]
ــ
الشبهات، وذلك للأوساط. وفضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. انتهى كلامه.
وقد ألحق في بعض نسخ المصابيح بعد قوله: ((لا تعدل بالرعة)) قوله: ((شيئاً)) وليس في جامع الترمذي وأكثر نسخ المصابيح عنه أثر.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما ينتظر أحدكم)) استبطاء لمن تفرغ لأمر وهو لا يغتنم الفرصة فيه. قيل: معنى الحديث: الرجل في الدنيا ينتظر إحدى الحالات لمذكورة فالسعيد من انتهز الفرصة واغتنم المكنة واستغل بأداء مفترضه ومسنونه قبل حلول مرضه. ((نه)): الفند في الأصل الكذب، وأفند: تكلم بالفند. ((فا)): قالوا للشيخ إذا هرم: قد أفند؛ لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة. فشبه بالكاذب في تحريفه. والهرم المفند من أخوات قولهم: نهاره صائم، جعل الفند للهرم وهو للهرم. ويقال أيضاً: أفنده الهرم وأفنده الشيخ. وفي كتاب العين: شيخ مفند يعني منسوب إلى الفند. ولا يقال: امرأة مفندة؛ لأنها لا تكون في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها.
((تو)): ((مفند)) الرواية فيه بالتخفيف، ومن شدده فليس بمصيب. أقول: إن كان بطريق الرواية فلا نزاع، وإن كان بطريق الدراية ففيه نزاع؛ إذ لا يبعد حمله على الإسناد المجازي، كأن الهرم يحمل من رأي صاحبه وأن ينسبه إلى الفند، نحو قولهم: ناقة ضبوث. قال في أساس البلاغة: ضبث الشيء وضبث عليه إذا قبض عليه وحبسه، ومن المجاز ناقة ضبوث، شك في سمنها فضبثت. وإنما جعلت ضابثة لما بها من الداعي إلى الضبث ومنه قول الشاعر:
إذا ردعا في القدر من يستعيرها
5176 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم)). [5176] رواه الترمذي، وابن ماجه.
ــ
((نه)): ((المجهز)) هو السريع يقال: أجهز على الجريح يجهز إذا أسرع قتله. ((قض)): الموت المجهز المسرع يريد به الفجاءة ونحوها مما لم يكن بسبب مرض أو كبر سن، كقتل وغرق وهدم. ((والساعة أدهى)) أي أشد الدواهي وأفظعها من قولهم: دهته الداهية وهو الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه، وأمر من جميع ما يكابده الإنسان في الدنيا من الشدائد لمن غفل عن أمرها، ولم يعد ها قبل حلولها. قوله:((فالدجال)) الفاء تفسيريه؛ لأنه فسر ما أبهم فيما سبق. والواو في ((والساعة)) نائبة مناب الفاء لملابسة العطف.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وما والاه)) ((مظ)): أي يحبه الله في الدنيا. والموالاة المحبة بين اثنين. وقد تكون من واحد وهو المراد هاهنا، يعني ملعون ما في الدنيا إلا ذكر الله وما أحبه الله مما يجري في الدنيا، وما سواه ملعون. ((شف)): هو من الموالاة وهي المتابعة. ويجوز أن يراد بما يوالي ذكر الله تعالى، طاعته وإتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن ذكر الله يقتضي ذلك. وقوله:((وعالم أو متعلم)) في أكثر النسخ مرفوع واللهجة العربية تقتضي أن يكون عطفاً على ((ذكر الله)) فإنه منصوب مستثنى من الموجب.
أقول: هو في جامع الترمذي هكذا: ((وما والاه وعالم أو متعلم)) بالرفع. وكذا في جامع الأصول إلا أن بدل ((أو)) فيه ((الواو)). وفي سنن ابن ماجه: ((أو عالما أو متعلما)) بالنصب مع ((أو)) مكررا. والنصب في القرائن الثلاث هو الظاهر، والرفع فيها على التأويل. كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد مما فيها إلا ذكر الله تعالى وعالم أو متعلم. ونظيره قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم} الكشاف: ضمن ((حافظون)) معنى النفي كما ضمن في فعلت، يعني ما طلبت منك إلا فعلت.
قال في مختصر الإحياء: الدنيا أدنى المنزلتين؛ ولذلك سميت دنيا، وهي معبرة إلى الآخرة. والمهد هو الميل الأول واللحد هو الميل الثاني، وبينهما مسافة هي القنطرة. وهي عبارة عن أعيان موجودة، للإنسان فيها حظ، وله في إصلاحها شغل. ويعني بـ ((الأعيان)) الأرض وما عليها من النبات والحيوان والمعادن. ويعني بالحظ حبها فيندرج فيه جميع المهلكات الباطنة كالرياء والحقد وغيرهما، ونعني بقولنا: له في إصلاحها شغل، أنه يصلحها
5177 -
وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5177]
5178 -
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5178]
ــ
لحظ له أو لغيره دنيوي أو أخروي، فتندرج فيه الحرف والصناعات. وإذا عرفت حقيقة الدنيا فدنياك ومالك، فيه لذة في العاجل. وهي مذمومة فليست وسائل العبادات من الدنيا كأكل الخبز مثلا للتقوى عليها. وإليها الإشارة بكون الدنيا مزرعة الآخرة، وبقوله صلى الله عليه وسلم:((الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ما كان لله منها)).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكفار يتمتع.
أقول: كان من حق الظاهر أن يكتفي بقوله: ((وما والاه)) لاحتوائه على جميع الخيرات والفاضلات ومستحسنات الشرع [ثم بينه] في المرتبة الثانية بقوله: ((والعلم)) تخصيصاً بعد التعميم دلالة على فضله، فعدل إلى قوله:((وعالم أو متعلم)) تفخيماً لشأنهما صريحاً، بخلاف ذلك التركيب؛ فإن دلالته عليه بالالتزام، وليؤذن أن جميع الناس سوى العالم والمتعلم همج، ولينبه على أن المعنى بالعالم والمتعلم العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل فيخرج منه الجهلاء والعالم الذي لا يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين.
وفي الحديث أن ذكر الله تعالى رأس كل عبادة ورأس كل سعادة، بل هو كالحياة للأبدان والروح للإنسان. وهل للإنسان عن الحياة غنى؟ وهل له عن الروح معدل؟ وإن شئت قلت: به بقاء الدنيا وقيام السموات والأرض؛ روينا عن مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله)) فالحديث إذن من كنوز الحكم وجوامع الكلم التي خص بها هذا النبي المكرم صلوات الله على قائلها، لأنه دل بالمنطوق على جميع الخصال الحميدة وبالمفهوم على جميع رذائلها.
الحديث السادس عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((جناح بعوضة)) مثل للقلة والحقارة، أي لو كان لها أدنى قدر ما متع الكافر منها أدنى تمتع.
الحديث السابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لا تتخذوا الضيعة))، ((نه)):((الضيعة))
5179 -
وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5179]
5180 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لعن عبد الدينار، ولعن عبد الدرهم)) رواه الترمذي. [5180]
5181 -
وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان
ــ
في الأصل المرة من الضياع. وضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك. انتهى كلامه. والمعنى لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فتتلوها به عن ذكر الله، قال تعالى:{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} .
الحديث الثامن عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((أضر بآخرته)) الباء فيه للتعدية، وكذا في القرينة الأخرى، أي هما ككفتي ميزان، فإذا رجحت إحدى الكفتين خفت الأخرى وبالعكس؛ وذلك أن محبة الدنيا سبب لاشتغاله بها والانهماك فيها، وذلك سبب الاشتغال عن الآخرة فيخلو عن الذكر والفكر والطاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها وثوابها وهو عين المضرة سوى ما يقاسيه من الخوف والحزن والغم والهم والتعب، في دفع الفساد وتجشم المصاعب في حفظ الأموال وكسبها.
الحديث التاسع والعاشر عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((ما ذئبان جائعان)) ((ما)) بمعنى ليس، و ((ذئبان)) اسمها ((وجائعان)) صفة له، و ((أرسلا في غنم)) الجملة في محل الرفع على أنها صفة بعد صفة، وقوله:((بأفسد)) خبر لـ ((ما)) والباء زائدة، وهو أفعل التفصيل أي بأشد إفساد، والضمير في ((لها)) لـ ((الغنم))، واعتبر فيه الجنسية؛ فلهذا أنث، وقوله:((من حرص المرء)) هو المفضل عليه لاسم التفضيل، وقوله:((على المال)) يتعلق بـ ((الحرص))، و ((الشرف)) عطف على ((المال)) والمراد به الجاه.
وقوله: ((لدينه)) اللام فيه بيان كما في قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} كأنه قيل: يرضعن لمن؟ قيل: لمن أراد أن يتم الرضاعة. وكذلك هنا، كأنه قيل: بأفسد لأي شيء؟ قيل: لدينه. ومعناه: ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفساداً لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه؛ فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين
أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الترمذي، والدارمي. [5181]
ــ
5182 -
وعن خباب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما أنفق مؤمن من نفقة إلا أجر فيها، إلا نفقته في هذا التراب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5182]
5183 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5183]
ــ
الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها. وفي ((أرسلا)) تتميم في غاية من الدقة واللطف، فإن الإرسال مسبوق بالمنع والممنوع أشد حرصاً مما لم يمنع، ونظيره في المعنى قول الشاعر:
كأني وضوء الصبح يستعجل الدجى تطير غراباً ذا قوادم حول
راعى معنى الاستعجال في قوله: ((تطير غرابا)) لأن الطائر إذا أزعج كان أسرع منه في الطيران، إذا كان عن اختيار منه.
وأما المال فإفساده فيه: أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوات ويجر إلى التنعيم في الشبهات مع أنها ملهية عن ذكر الله تعالى، وهذه لا ينفك عنها أحد. وأما الجاه: فكفي به إفساداً؛ أن المال يبذل للجاه ولا يبذل الجاه للمال، وهو الشرك الخفي فيخوض في المراءاة والمداهنة والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة فهو أفسد وأفسد.
الحديث الحادي عشر عن خباب رضي الله عنه: قوله: ((إلا نفقته في هذا التراب)) نفقته منصوبة على الاستثناء من الكلام الموجب إذ المستثنى منه مستثنى من كلام منفي، فيكون موجباً، وهذا للتحقير.
الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فلا خير فيه)) حال مؤكدة من الجملة.
5184 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً ونحن معه، فرأي قبة مشرفة، فقال:((ما هذه؟)) قال أصحابه: هذه لفلا، رجل من الأنصال، فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها، فسلم عليه الناس، فأعرض عنه، صنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض، فشكا ذلك إلى أصحابه وقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خرج فرأي قبتك فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلم يرها، قال:((ما فعلت القبة؟)) قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك، فأخبرناه، فهدمها. فقال:((أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا مالا)) يعني مالا بد منه. رواه أبو داود. [5184]
5185 -
وعن أبي هاشم بن عتبة. قال: عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما
ــ
الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما هذه؟))، أي ما هذه العمارة المنكرة ومن بانيها؟ ولذلك أجابوا بقولهم: هذه لفلان. وقوله: ((فأعرض عنه)) يجوز أن يكون جواباً لـ ((ما)) مع الفاء، وهو قليل. ويجوز أن يقدر جواب لـ ((ما)) أي كرهه فأعرض عنه. وقوله:((حتى عرف الرجل الغضب فيه)) أي عرف أن الغضب كان لأجله.
قوله: ((وحملها في نفسه)) أي أضمر تلك الفعلة في نفسه غضباً عليه؛ قال في أساس البلاغة: حملت الحقد عليه إذا أضمرته. قال الشاعر:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وقلت له كلمة فاحتمل منها، أي استقر وغضب.
قوله: ((إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أرى منه ما لم أعهده منه من الغضب والكراهية؛ قال في أساس البلاغة: يقال خرج متنكراً وتنكر لي فلان: لقيني لقاء بشعا. قيل: معنى الحديث أن كل بناء بناه صاحبه فهو وبال، أي عذاب في الآخرة، والوبال في الأصل الثقل والمكروه، أراد ما بناه للتفاخر والتنعم فوق الحاجة، لا أبنية الخير من المساجد والمدارس والرباطات؛ فإنها من الآخرة وكذا ما لابد منه، للرجل من القوت والملبس والمسكن.
الحديث الرابع عشر عن أبي هاشم: قوله: ((عهد إلي) أي أوصاني. وقوله: ((قال إنما يكفيك)) بدل منه، بدل الفعل من الفعل كما في قوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلا وناراً تأججا
يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وفي بعض نسخ ((المصابيح)) عن أبي هاشم بن عتبد، بالدال بدل التاء، وهو تصحيف. [5185]
5186 -
وعن عثمان بن عفان [رضي الله عنه]. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري به عورته، وجلف الخبز والماء)) رواه الترمذي [5186]
5187 -
وعن سهل بن سعد، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [5187]
ــ
أبدل ((تلمم بنا)) من قوله: ((تأتنا))
الحديث الخامس عشر عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((في سوى هذه الخصال)) ((سوى)) موصوفة محذوف أي شيء سوى هذه. ((قض)): أراد بـ ((الحق)) ما يستحقه الإنسان لافتقاره إليه وتوقفه تعيشه عليه، وما هو المقصود الحقيقي من المال. وقيل: أراد به ما لم يكن له تبعة حساب، إذا كان مكتسبا من وجه حلال. والمراد بالخصال هنا ما يحصل للرجل ويسعى في تحصيله من الأموال، شبهه بما يخاطر عليه في السبق والرمي ونحوهما.
أقول: بيان وجه التشبيه أن الخطر في الأصل الرهن، ولا يخاطر إلا في شيء له قدر، ومنه الحديث:((إلا رجل يخاطر بنفسه وماله)) أي يلقيهما في الهلكة بالجهاد، ومن شرع في سعي الدنيا والاستمتاع بها وبمستلذاتها ومباحاتها أوقع نفسه ودينه في خطر عظيم، فيجب عليه أن يحترز منها كل الاحتراز إلا ما لابد له منه، وهي هذه الخصال الثلاث.
((نه)) ((الجلف)): الخبز وحده لا أدم معه، وقيل: هو الخبز الغليظ اليابس. قال: ويروى بفتح اللام جمع جلفة وهي الكسرة من الخبز. وفي الغريبين عن ابن الأعرابي: الجلف الظرف مثل الخرج والجوالق. ((قض)): ذكر الظرف وأراد به المظروف، أي كسرة خبز وشربة ماء.
الحديث السادس عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((ازهد في الدنيا)). قيل: الزهد عبارة
5188 -
وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله! لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5188]
5189 -
وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أغبط أوليائي عني لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان
ــ
عن عزوف النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة، ولا يتصور الزهد ممن ليس له مال ولا جاه، وقيل لابن المبارك: يا زاهد! قال: الزاهد عمر بن عبد العزيز إذا جاءته الدنيا راغمة فتركها، أما أنا ففي ماذا زهدت. وفي قوله:((ازهد في الدنيا يحبك الله)) دليل على أن الزهد أعلى المقامات وأفضلها؛ لأنه جعله سبباً لمحبة الله تعالى، وأن محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى.
الحديث السابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ونعمل)) متعلقة محذوف فيقدر من جنس الكلام السابق، وهو وجوه التنعم والتلذذ بالأغراض الدنيوية أعم من أن يكون بساطا؛ ومن ثم طابقه قوله:((مالي وللدنيا؟)) وقوله: ((وما أنا والدنيا)) أي ليس حالي مع الدنيا إلا كحال راكب مستظل، وهو من التشبيه التمثيلي، ووجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث؛ ومن ثم خص الراكب. واللام في ((للدنيا)) مقحمة للتأكيد، إن كان الواو بمعنى ((مع)). وإن كان للعطف فتقديره: مالي والدنيا وما للدنيا معي؟
الحديث الثامن عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((أوليائي)) أفعل هنا بني للمفعول، أي أحق أحبائي وأنصاري بأن يغبط به ويتمنى مثل حاله مؤمن بهذه الصفة. واللام في ((لمؤمن)) داخل في خبر المبتدأ، قال الزجاج في قوله تعالى:{إن هذان لساحران} : اسم ((إن)) ضمير الشأن، والخبر جملة اسمية اقترن بخبرها لام الابتداء. نحو قول الشاعر:
أم الحليس لعجوز شهربه
وقد سبق بحثه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((أنتم آل عبد الله لأغنياء)) في باب
غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك)) ثم نقد بيده فقال:((عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5189]
ــ
الطب والرقي. ومن أراد الكلام المشبع فليطلب في شرح الكشاف في قوله: {إن هذان لساحران} .
قوله: ((خفيف الحاذ)) أي قليل المال. ((نه)) الحاذ والحال واحد من حاذ يحوذ، وأصل الحاذ: طريقة المتن، وهو ما يقع عليه اللبد من ظهر الفرس، أي خفيف الظهر من العيال.
قوله: ((ذو حظ من الصلاة)) أي ذو راحة من مناجاة الله تعالى فيها واستغراقه في المشاهدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لبلال: ((أرحنا بها يا بلال!)) أي أذن بالصلاة نسترح بأدائها من شغل القلب بها. وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له؛ فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال:((وقرة عيني في الصلاة)) وما أقرب الراحة من قرة العين. وقوله: ((أحسن عبادة ربه)) تعميم بعد التخصيص، والمراد به إجادة العبادة على سبيل الإخلاص، فعلى هذا قوله:((وأطاعه في السر)) عطف تفسيري على ((أحسن)). و ((كان غامضا)) أي مغمورا غير مشهور. وقوله: ((لا يشار إليه بالأصابع)) بيان وتقرير لمعنى الغموض. وقوله: ((على ذلك)) أي على المذكور دلالة على أن ملاك الكل الصبر، وبه يتقوى على الطاعات، نحو قوله تعالى:{أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} .
قوله: ((ثم نقد)) ((نه)): هو من نقدت الشيء بإصبعي أنقده واحداً واحدا نقد الدراهم، ونقد الطائر الحب ينقده، إذا كان يلقطه واحدا واحدا، وهو مثل النقر ويروى بالراء. ((تو)): أريد به هنا ضرب الأنملة على الأنملة، أو ضربها على الأرض كالمتقلل للشيء، أي لم يلبث إلا قليلا حتى قبضه الله تعالى يقلل مدة عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه. وقيل: الضرب على هذه الهيئة فعل المتعجب من الشيء، أو من رأي ما يعجبه حسنه، وربما يفعل ذلك من يظهر قلة المبالاة بشيء أو يفعل طرباً وفرحاً بالشيء.
أقول: ويمكن أن يقال: إنه كالقرع بالعصا والتنبيه على أن ما يرد بعده مما يهتم بشأنه، ويجب تلقيه بالقبول، ومن ثمة عقبه بقوله:((فقال))؛ قال ثعلب: حروف التهجي في الفواتح بمنزلة ألا، كمن أراد الإخبار بمهم، حرك الحاضر بيده أو صاح به صرخة ليقبل بكله إليه.
5190 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا، يا رب! ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)). رواه أحمد، والترمذي. [5190]
5191 -
وعن عبيد الله بن محصن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافي في جسده. عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5191]
5192 -
وعن مقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة
ــ
وقيل: قوله: ((وعجلت منيته)) يعني يسلم روحه بالتعجيل لقلة تعلقه بالدنيا، وغلبة شوقه إلى الآخرة. ((شف)): ويمكن أنه أراد أنه قليل مؤون الممات، كما كان قليل مؤون الحياة.
الحديث التاسع عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((بطحاء مكة)) تنازع فيه ((عرض)) و ((ليجعل)) أي عرض على بطحاء مكة ليجعلها لي ذهبا. قوله: ((فإذا جعت)) إلخ جمع في القرينتين بين الصبر والشكر وهما صفتا المؤمن الكامل؛ قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} . الكشاف: صبار على بلائه شكور لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص فجعلهما كناية عنه.
الحديث العشرون عن عبيد الله: قوله: ((في سربه)). ((نه)): هو بالكسر أي في نفسه، وفلان واسع السرب أي رخى البال، ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال: خل سربه أي طريقه. ((تو)): ((أبي بعضهم إلا السرب)) - بفتح السين والراء- أي في بيته. ولم يذكر فيه رواية ولو سلم له قوله- أن يطلق السرب على كل بيت- كان قوله هذا حرياً بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. والحيازة: الضم والجمع.
الحديث الحادي والعشرون عن المقدام: قوله: ((فثلث)) أي ثلث منه للطعام، واللام مقدرة بقرينة قوله:((ثلث لنفسه)) أي الحق الواجب أن لا يجاوز ما يقام به صلبه؛ ليتقوى به على طاعة الله تعالى، فإن أراد البتة التجاوز، فلا يتعدى عن القسم المذكور. جعل البطن أولا وعاء
فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5192]
ــ
كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهينا لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرا منها.
قال الشيخ أبو حامد: في الجوع عشر فوائد:
الأولى: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة؛ فإن الشبع يورث البلادة ويعمى القلب، ويكثر البخار في الدماغ كشبه السكر، حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسببه عن الجريان.
وثانيتها: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر.
وثالثتها: الانكسار والذل وزوال البطر والأشر والفرح الذي هو مبدأ الطغيان، ولا تنكسر النفس بشيء ولا تذل كما تذل بالجوع، فعنده تستكين لربها وتقف على عجزها.
ورابعتها: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه وأهل البلاء؛ فإن الشبعان ينسى الجائعين والجوع.
وخامستها: وهي من كبار الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، وتقليلها يضعف كل شهوة وقوة، والسعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه.
وسادستها: دفع النوم ودوام السهر؛ فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوات التهجد، وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره تنقيص من العمر.
وسابعتها: تيسير المواظبة على العبادة؛ فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام أو طبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال ثم يكثر تردده إلى بيت الماء. ولو صرف هذه الأوقات في الذكر والمناجاة وسائر العبادات، لكثر ربحه. قال السرى: رأيت مع علي الجرجاني سويقا يستف منه، فقلت: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة.
وثامنتها: من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق، ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب، ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤون، وفي الجوع ما يدفع عنه كل ذلك.
5193 -
وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يتجشأ، فقال:((أقصر من جشائك، فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أطولهم شبعاً في الدنيا)) رواه في ((شرح السنة)) وروى الترمذي نحوه. [5193]
5194 -
وعن كعب بن عياض، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي. [5194]
5195 -
وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج، فيوقف بين يدي الله، فيقول له أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك، فما صنعت؟ فيقول: يا رب! جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان، فارجعني آتك به كله.
ــ
وتاسعتها: خفة المؤونة؛ فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير.
وعاشرتها: أن يتمكن من الإيثر والتصدق بما فضل من الأطعمة على المساكين، فيكون في يوم القيامة في ظل صدقته، فما يأكله فخزانتها الكنيف، وما يتصدق به فخزانتها فضل الله تعالى.
الحديث الثاني والعشرون عن ابن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((رجلا يتجشأ))، ((تو)): الرجل هو وهب أو جحيفة السوائي، روى عنه: أنه قال: أكلت ثريدة بر بلحم، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ .. وذكر الحديث. الاسم من التجشؤ الجشاءة على مثال الهمزة. قال الأصمعي: الجشاء على فعال كأنه من باب العطاس والدوار. وقوله: ((أقصر عنا)) بقطع الألف، أي اكفف عنا. والنهي عن الجشأ هو النهي عن الشبع؛ فإنه هو السبب الجالب له.
الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كأنه بذج)) ((نه)): هو ولد الضأن، وجمعه بذجان. ((فا)): هي كلمة فارسية تكلمت بها العرب وهي أضعف ما يكون من الحملان. ((حس)): شبه ابن آدم بالبذج لصغاره وصغره أي يكون حقيراً ذليلا.
((نه)): ((خولتك)) أي ملكتك. ((قض)): ((رب! جمعته وثمرته)) أي أنميته وكثرته؛ يقال: ثمر الله ماله إذا كثره. قوله: ((فإذا عبد)) الفاء فيه فصيحة تدل على مقدر، و ((إذا)) للمفاجأة، و ((عبد)) خبر مبتدأ محذوف، أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فظهر مما حكيت عن هذا الرجل أنه كان كعبد أعطاه سيده رأس مال ليتجر به ويربح، فلم يمتثل أمر سيده فأتلف رأس ماله بأن وضعه في غير موضعه، واتجر فيما لم يؤمر بالتجارة فيه، فإذا هو عبد خائب خاسر؛ قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت
فيقول له: أرني ما قدمت. فيقول: رب! جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان، فارجعني آتك به كله. فإذا عبد لم يقدم خيراً فيمضي به إلى النار)). رواه الترمذي وضعفه. [5195]
5196 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح جسمك؟ ونروك من الماء البارد؟)). رواه الترمذي. [5196]
5197 -
وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تزول قدماً ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا علم فيما علم؟)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5197]
ــ
تجارتهم وما كانوا مهتدين} فما أحسن موقع العبد، وذكره في هذا المقام.
قال الشيخ أبو حامد: اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر يسمى نعمة، ولكن النعمة الحقيقية هي السعادة الأخروية، وتسمية ما عداها سعادة، غلط أو مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا يعبر عنها إلى الآخرة نعمة؛ فإن ذلك غلط محض. وكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بواسطة واحدة أو بوسائط فإن تسميته نعمة صحيح وصدق؛ لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية.
الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قوله: ((ما يسأل)) ((ما)) فيه مصدرية و ((أن يقال)) خبر ((إن)) أي أول سؤال العبد هو أن يقال له
…
الخ. قوله: ((ألم نصح)) كذا في المصابيح شرح السنة. وقد غيروا في بعض نسخ المصابيح نظرا إلى أنه غير صحيح؛ لأنه لازم، وقد جاء في أساس البلاغة: أصحة الله وصححه وأصح الله بدنك وصحح جسمك.
الحديث السادس والعشرون عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((عن خمس)) إنما أنثه بتأويل الخصال. والمراد بالخصال هاهنا ما يحصل للرجل كما سبق في الحديث الخامس عشر
الفصل الثالث
5198 -
عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:((إنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى)). رواه أحمد. [5198]
5199 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصره عيب الدنيا وداءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5199]
5200 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أخلص الله قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليماً، ولسانه صادقاً، ونفسه مطمئنة، وخليفته مستقيمة،
ــ
من هذا الفصل. قوله: ((وعن شبابه فيما أبلاه)) فإن قلت: هذا داخل في الخصلة الأولى فما وجهه؟ قلت: المراد سؤاله عن قوته وزمانه الذي يتمكن منه على أقوى العبادة. وإنما غير السؤال في الخصلة الخامسة حيث لم يقل: عن علمه ماذا عمل به؛ لأنها أهم شيء وأولاه. وفيه إيذان بأن العلم مقدمة العمل وهو لا يعتد به لولا العمل.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((من أحمر)) المراد به العجم وبالأسود العرب، والضمير في ((أن تفضله)) عائد إلى كل واحد منهما أو إليهما معا على تأويل الإنسان، والاستثناء مفرغ. والتقدير لست بأفضل منهما بشيء من الأشياء إلا بالتقوى. وقوله:((أن تفضله)) تكرير تأكيد: قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وبصره عيب الدنيا)) من البصيرة وهو إشارة إلى الدرجة الثانية يعني لما زهد في الدنيا، لما حصل له من علم اليقين بعيوب الدنيا أورثه الله تعالى به بصيرة حتى حصل له به حق اليقين.
الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((سليما)) أي عن الحسد والبغض والحقد وسائر الأخلاق الذميمة، قال تعالى:{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} . والخليقة الطبيعة. قال في أساس البلاغة: له خلق حسن وخليقة وهي ما خلق عليه من طبيعته، يعني: جبله الله تعالى في أصل خلقته مستقيمة غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط.
وجعل أذنه مستمعة، وعينه ناظرة، فأما الأذن فقمع، وأما العين فمقرة لما يوعى القلب، وقد أفلح من جعل قلبه واعياً)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5200]
5201 -
وعن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا رأيت الله عز وجل يعطي البعد من الدنيا، على معاصيه، ما يحب؛ فإنما هو استدراج)). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} . رواه أحمد. [5201]
ــ
قوله: ((فقمع)) هو الإناء الذي يترك في رءوس الظروف؛ لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان. شبه أسماع الذين يستمعون القول ويعونه بقلوبهم بالأقماع. وقوله: ((فمقرة)) وراد على سبيل الاستعارة؛ لأنها تثبت في القلب وتقر فيه ما أدركته بحاستها، فكأن القلب لها وعاء وهي تقر فيه ما رأته.
قال في أساس البلاغة: ومن المجاز قر الكلام في أذنه إذا وضع فاه على أذنه فأسمعه وهو من قر الماء في الإناء إذا صبه فيه. و ((القلب)) يحتمل النصب أي يقر في القلب ما يجعل القلب وعاء له. والرفع على أنه فاعل يوعى أي لما يوعيه القلب أي يحفظه. وإنما خص السمع والبصر؛ لأن الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، إما سمعية فالأذن هي التي تجعل القلب وعاء لها، أو نظرية فالعين هي التي تقرها في القلب وتجعله وعاء لها، ومن ثمة جعل قوله:((وقد أفلح من جعل قلبه واعياً)) كالفذلكة للقرينتين.
الحديث الرابع عن عقبة رضي الله عنه: قوله: ((استدراج)) هو الأخذ في الشيء والذهاب فيه درجة فدرجة كالمراقي والمنازل في ارتقائه ونزوله، ومعنى استدراج الله: استدراجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به. وذلك أن تواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغي، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية، فيستدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن تواتر النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد. وقوله:{فإذا هم مبلسون} واجمون متحسرون آيسون.
5202 -
وعن أبي أمامة، أن رجلا من أهل الصفة توفي وترك ديناراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كية)) قال: ثم توفي آخر فترك دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كيتان)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5202]
5203 -
وعن معاوية: أنه دخل على خاله أبي هاشم بن عتبة يعوده فبكى أبو هاشم، فقال ما يبكيك يا خال؟ أوجع يشئزك أم حرص على الدنيا؟ قال: كلا؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً لم آخذ به. قال: وما ذلك؟ قال سمعته يقول: ((إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله)). وإني أراني قد جمعت. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [5203]
5204 -
وعن أم الدرداء، قالت: قلت: لأبي الدرداء: مالك لا تطلب كما يطب فلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون)). فأحب أن أتخفف لتلك العقبة. [5204]
ــ
الحديث الخامس عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((من أهل الصفة)). ((نه)): أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه وكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. انتهى كلامه. وفي وصف الرجل بهذا النعت إشعار بأن الحكم الذي يليه معلل به، يعني انتماؤه إلى الفقراء الذين زهدوا في الدنيا مع وجود الدينار أو الدينارين دعوى كاذبة يستحق به العقاب. وإلا فقد كان كثير من الصحابة، كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد رضي الله عنهم، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد من أعرض عن الفتنة؛ لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ولكل شيء له حد.
الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: قوله: ((يشئزك)) ((نه)): أي يقلقك يقال: شئز فهو مشئوز وأشأزه غيره، وأصله الشأز وهو الموضع الغليظ الكثير الحجارة: قوله: ((قد جمعت)) حذفت متعلقة ليدل على الكثرة من أنواع المال.
الحديث السابع عن أم الدرداء رضي الله عنها: قوله: قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)
5205 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه؟)). قالوا: لا، يا رسول الله! قال:((كذلك صاحب الدنيا لا يسلم من الذنوب)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5202]
5206 -
وعن جبير بن نفير [رضي الله عنه] مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أوحى إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين})). رواه في ((شرح السنة)) وأبو نعيم في ((الحلية)) عن أبي مسلم. [5206]
ــ
يحتمل أن تكون ((إني)) مفتوحة الهمزة على حذف اللام الجارة أي لا أطلب لأني سمعت وأن تكون مكسورتها استئنافاً: قوله: ((عقبة كؤودا)) أي شاقة والمراد بها الموت والقبر والحشر وأهوالها وشدائدها، شبهها بصعود العقبة، ومكابدة ما يلحق الرجل من قطعها.
الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا ابتلت قدماه)) استثناء من أعم عام الأحوال، تقديره: هل يمشي في حال من الأحوال إلا في حال ابتلال قدميه، وحاصل معناه: هل يتحقق المشي على الماء مع عدم الابتلال؟؛ ولذا صح الجواب بـ ((لا)).
قوله: ((لا يسلم من الذنوب)) فيه تخويف شديد للمتقين، وحث على التزهد في الدنيا وإيثار الآخرة على الأولى. وكفي بها تبعة أن يدخل الفقراء في الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، عافانا الله تعالى منها بفضله وكرمه.
الحديث التاسع عن جبير رضي الله عنه: قوله: ((ولكن أوحي إلي)) يعين أمرني ربي أن أستغرق أوقاتي في المواظبة على التسبيح والتحميد وكثرة السجود والعبادة لربي حتى يأتي أمر الله وألقى الله تعالى، فكيف أتلهى بالتجارة والبيع والشراء وأمور الدنيا وأنى يتراءى ناراهما. ومعنى قوله:((وأكون من التاجرين)) أي من المتوغلين في صنعة التجارة ومن له مساهمة فيها، وكذا قوله:{من الساجدين} أي أكون من المتوغلين في إقامة الصلاة وكثرة السجود ومن له القدح المعلى فيها، وفيه رائحة معنى قوله:((لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)) وفي إباحاً سعي ما، كما ينبئ عنه الحديث التالي.
5207 -
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب حلالا استعفافا عن المسألة، وسعيا على أهله، وتعطفا على جاره؛ لقي الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر. ومن طلب الدنيا حلالا، مكاثرا، مفاخرا مرائيا؛ لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وأبو نعيم في ((الحلية)). [5207]
5208 -
وعن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن هذا الخير خزائن، لتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير، مغلاقا للشر؛ وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر، مغلاقا للخير)). رواه ابن ماجه. [5208]
ــ
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ووجهه مثل القمر)) وفي الحديث معنى قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وهما عبارتان عن رضا الله تعالى وسخطه، قوله:((ووجهه مثل القمر)) مبالغة في حصول الرضى بدلالة قوله في مقابلته: ((وهو عليه غضبان)).
الحديث الحادي عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((إن هذا الخير)) ((غب)): الخير ما يرغب فيه الكل كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع، والشر ضده. والخير والشر قد يقيدان وهو أن يكون خيرا لواحد وشرا لآخر، كالمال الذي يكون ربما كان خيرا لزيد وشرا لعمر؛ ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع:{إن ترك خيرا} وقال في موضع آخر: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} وقوله: ((إن ترك خيرا)) أي مالا. وقال بعض العلماء: لا يقال للمال: خير حتى يكون كثيرا.
أقول: المعنى الذي يحتوي على خيرية المال وعلى كونه شرا هو المشبه بالخزائن، فمن توسل بفتح ذلك المعنى، وأخرج المال منها أنفقه في سبيل الله ولا ينفقه في سبيل الله الشيطان، فهو مفتاح الخير مغلاق الشر، ومن توسل بإغلاق ذلك الباب بإنفاقه في سبيل الله وفتحه في سبيل الشيطان، فهوه مغلاق الخير مفتاح الشر. وفي قوله صلى الله عليه وسلم:((إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة)) إلى قوله: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} إشارة إلى هذا المعنى.
5209 -
وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم يبارك للعبد في ماله جعله في الماء والطين)). [5209]
5210 -
وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((اتقوا الحرام في البنيان؛ فإنه أساس الخراب)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5210]
5211 -
وعن عائشة [رضي الله عنها]، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5211]
ــ
الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((اتقوا الحرام)) لا بد من تقدير مضاف، أي احترزوا إنفاق مال الحرام في البنيان؛ فإنه أساس لخراب الدين، أو يكون المعنى: اتقوا ارتكاب الحرام في البنيان؛ فإنه أساس الخراب، فلو لم يبن لم يخرب كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((لدوا للموت وابنوا للخراب)) وفي مثلها قي قولهم: في البيضة عشرون رطلا حديدا والبيضة نفسها هذا المقدار. والوجه الأول دل عى أنه قد يجوز البناء من الحلال بخلاف الثاني، وهذا أنسب بالباب.
الحديث الرابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((دار من لا دار له)) لما كان القصد الأول من الدار الإقامة مع عيش هنئ ولذ صفي، ودار خاوية عنها لا يستحق لذلك أن تسمى دارا.، فمن داره الدنيا فلا دار له، {وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
والمقصود من المال الإنفاق في المبرات والصرف في وجوه الخيرات، فمن أتلفه في الشهوات واستيفاء اللذات فحقيق بأن يقال: لا مال له، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور؛ ولذلك قدم الظرف على عامله في قوله:((ولها يجمع)) دلالة على أن الجمع للدار الآخرة للتزود وهو المحمود؛ قال الله تعالى: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ويحتمل أن تكون ((لها)) مفعولا به لـ ((يجمع)) كقولك لزيد: ضربت؛ فإن المفعول بغير واسطة إذا قدم على الفعل جاز اقتران اللام به لضعف العمل إذ ذاك.
((غب)): كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما: دلالة على المسمى وفصلا بينه
5212 -
وعن حذيفة [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: ((الخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، وحب الدنيا رأس كل حطيئة)). قال: وسمعته يقول: ((أخروا النساء حيث أخرهن الله)). رواه رزين. [5212]
5213 -
وروى البيهقي منه في ((شعب الإيمان)) عن الحسن، مرسلا:((حب الدنيا رأس كل خطيئة)). [5213]
5214 -
وعن جابر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أتخوف على أمتي الهوى وطول الأمل؛ فأما الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة، ولكل واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن لا تكونوا من بني الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار العمل ولا حساب، وأنتم غدا في دار الآخرة ولا عمل)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5214]
ــ
وبين غيره. والثاني لوجود المعنى المختص به وذلك هو الذي يمدح به، وكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له م يستحق اسمه مطلقا، بل قد ينفي عنه كقولهم: فلان ليس بإنسان أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله.
الحديث الخامس عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((جماع الإثم)) أي مجمعه ومظنته.
و ((حبائل الشيطان)) أي مصائده، واحدها حبالة بكسر الحاء وهي ما يصاد بها من أي شيء كان. دعى رجل إلى قتل النفس فأبى، ثم إلى الزنا فأبر وإلى شرب الخمر فأتي، فلما شرب الخمر قتل وزنى. وقيل: ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتى من قبل النساء وحب الدنيا ملاكهما وملاك كل خطيئة. والكلمات الثلاث كلها من الجوامع؛ لأن كل واحدة منها على الانفراد أصل في المأثم والمغرم. وقوله: ((حيث أخرهن الله)) للتعليل أي أخرهن الله تعالى في الذكر وفي الحكم وفي المرتبة. فلا تقدموهن ذكرا وحكما ومرتبة.
الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وهذه الدنيا)) أشار بـ ((هذه)) إلى
5215 -
وعن علي [رضي الله عنه] قال: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل. رواه البخاري في ترجمة باب.
5216 -
وعن عمرو [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال في خطبته: ((ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، ويقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)) رواه الشافعي.
ــ
تحقير شأن الدنيا ووشك زوالها. وفي قوله: ((وهذه الآخرة)) إشارة إلى تعظيم أمر الآخرة وقرب نزولها. قوله: ((فإن استطعتم)) يعني بينت لكم حال الدنيا من غرورها وفنائها وحال الآخرة من نعيمها وبقائها، وجعلت زمام الاختيار في أيديكم فاختاروا أيا ما شئتم. وكان من حق الظاهر أن يقال: فإنكم اليوم في دار الدنيا ولا حساب، فوضع دار العمل موضعها ليؤذي بأن الدنيا ما خلقت إلا للعمل والتزود منها للدار الآخرة، ولم يعكس ليشعر بأن الدار هي الدار الآخرة. وهذا الحديث رواه جابر مرفوعا، وفي رواية البخاري عن علي رضي الله عنه كما سيأتي موقوف. وهذا الحديث أيضا يدل على أن حديث علي رضي الله عنه أيضا مرفوع.
الحديث السابع عشر، والثامن عشر عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((عرض)) ((غب)): العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلمون قولهم: العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والطعم. وقيل: ((الدنيا عرض حاضر)) تنبيها على أن لا ثبات لها. قوله: ((ألا وإن الآخرة)) حرف التنبيه هنا مقحم، وما بعده معطوف على قوله:((إن الدنيا)) قوبلت القرينة السابقة بقوله: ((ألا وإن الآخرة)) إلى قوله: ((ملك قادر)). والأجل الوقت المضروب الموعود وصفه بالصدق دلالة على تحققه وثباته وبقائه، ثم أتبعه بقوله:((يقضي فيها ملك قادر)) يميز بين البر والفاجر فيثيب البر ويعاقب الفاجر، وإليه أشار في الحديث الآتي بقوله:((يحق فيها الحق ويبطل الباطل)).
((غب)): يستعمل التصديق في كل ما فيه تحقيق؛ يقال: صدقني فعله وكتابه. وفي المثل: ((صدقني سن بكره)) وصدق في القتال إذا وفي حقه، وفعل على ما يجب وكما يجب. قوله:
5217 -
وعن شداد [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا أيها الناس! إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق، ويبطل الباطل، كونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها)).
5218 -
وعن أبي الدرداء [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما طلعت الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعان الخلائق غير الثقلين: يأيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفي خير مما كثر وألهى)) رواهما أبو نعيم في ((الحلية)). [5218]
ــ
((بحذافيره)) أي بأسره، ((نه)): الحذافير الجوانب، وقيل: الأعالي واحدها حذفور. وقوله: ((إنكم معروضون على أعمالكم)) أي الأعمال معروضة عليكم من باب القلب كقولهم: عرضت الناقة على الحوض.
الحديث التاسع عشر عن شداد رضي الله عنه: قوله: ((وعد صادق)) هو من الإسناد المجازي وصف الوعد بما هو من سببه أي الله صادق في وعده، ثم المراد بالوعد الموعود هو الأجل المسمى. قوله:((يحق فيها الحق ويبطل الباطل))، بيان لقوله:((يحكم فيها ملك عادل قادر)) فإن تحقيق الحق وإبطال الباطل يقتضيان العدل والقدرة.
الحديث العشرون عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((إلا وبجنبتيها)) استثناء مفرغ، والواو للحال والمستثنى منه أعم عام الأحوال. وقوله:((ملكان)) يجوز أن يكون فاعل الجار والمجرور على رأي، أو هو مبتدأ والجار والمجرور خبره. والإسماع يجوز أن يكون على الحقيقة، وأن يكون على التشبيه العقلي مجازا فمعنى يسمعان الخلائق غير الثقلين)) إنها يقصدان بالإسماع الثقلين فيسمعان غيرهما، ثم خص من الثقلين الإنسان بقوله:((يأيها الناس)) تنبها على تماديهم في الغفلة وانهماكهم في الحرص وجمع حطام الدنيا، حتى ألهاهم ذلك عن الإقبال إلى الله تعالى وعبادته. وقيل لهم: إلى كم هذه الغفلة والإعراض عن ذكر الله؟ هلموا إلى طاعة ربكم، ما قل من الدنيا ويكفيكم ولا يلهيكم خير مما كثر وألهى، سمع هذا النداء من ألقى السمع وهو شهيد، أولئك الذين أشار الله بذكرهم ورفع من منزلتهم في قوله تعالى:{لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. ولعل السر في عدم إسماع الثقلين: لئلا يرتفع التكليف. نحوه قوله صلى الله عليه وسلم: (0لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب
5219 -
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] يبلغ [به]، قال:((إذا مات الميت قالت الملائكة: ما قدم؟ وقال بنو آدم: ما خلف؟)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5219]
5220 -
وعن مالك [رضي الله عنه]: أن لقمان قال لابنه: ((يا بني! إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة، سراعا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج منها)). رواه رزين.
5221 -
وعن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال:((هو النقي، التقي، لا إثم عليه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5221]
ــ
القبر)). ومعنى إسماع غير المكلفين كونها مسبحة لله تعالى منقادة لما يراد منها، {وإن مِّن شَيْءٍ إلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} .
الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مات الميت)) من باب المجاز باعتبار ما يؤول؛ فإن الميت لا يموت بل الحي هو الذي يموت. الكشاف: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أراد أحدكم الحج فليعجل؛ فإنه يمرض المرض وتضل الضالة، فسمى المشارف للمرض والضلال مريضا وضالة، وعلى هذا سمي المشارف للموت ميتا، وفائدته: اهتمام شأن الملائكة بالأعمال، أي ما قدم من عمل حتى يثاب به أو يعاقب عليه واهتمام الوارث بما ترك ليرثوه.
الحديث الثاني والعشرون عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((قد تطاول عليهم)) أي طال عليهم مدة ما وعدوا به. وقوله: ((منذ كنت)) أي منذ ولدت ووجدت.
الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((هو النقي التقي)) الجواب ينظر إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} من قولهم: امتحن الذهب وفتنه إذا أذابه فخلص إبريزه ونقاه من خبثه، وعن عمر رضي الله عنه: أذب الشهوات عنها.
5222 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك [من] الدنيا: حفظ إمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5222]
5223 -
وعن مالك [رضي الله عنه] قال بلغني أنه قيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ يعني الفضل قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. رواه في ((الموطأ)). [5223]
5224 -
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجيء الأعمال، فتجيء الصلاة فققول: يا رب! أنا الصلاة فيقول: إنك على خير. فتجيء
ــ
الحديث الرابع والعشرون عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((ما فاتك الدنيا))، ((ما)) يحتمل أن تكون مصدرية والوقت مقدر أي لا بأس عليك وقت فوت الدنيا إن حصلت لك هذه الخلال، وأن تكون نافية أي لا بأس عليك لأنه لم تفتك الدنيا إن حصلت لك هذه الخلال. والعفة في طعمة يراد بها أن يجتنب الحرام ولا يزيد على الكفاية ولا يكثر الأكل. وأطلق الأمانة ليشبع في جنسها، فيراعي أمانة الله تعالى من التكاليف وأمانة الخلق في الحفظ والأداء.
الحديث الخامس والعشرون عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((ما بلغ بك ما نرى)) أي: أي شيء بلغك إلى هذه المرتبة التي نراها فيك.
الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تجيء الأعمال)) أي تجيء الأعمال لتحتج لصاحبها وتشفع فيه، فقول الصلاة: أنا الصلاة، أي أن لي مرتبة الشفاعة لأني عماد الدين. وقوله تعالى:((إنك على خير)) رد لها على ألطف وجه، أي أنت باقية مستقرة على خير كقوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} ولكن لست بمستقلة فيها ولا كافية في الاحتجاج، وعلى هذا سائر الأعمال بخلاف الإسلام فإنه جامع للخصال كلها؛ ولذلك قال الله تعالى في حقه:((بك آخذ وبك أعطى)) وفيه نكتة شريفة؛ لأن كل واحدة من الأعمال ذكرت نفسها بالتعظيم ورآها مستحقة بأن تمنح مطلوبها بخلاف الإسلام؛ فإنه عظم الله سبحانه وتعالى أولا ليتذرع به إلى قبول الشفاعة هضما لنفسه؛ فلذلك قبلت له الشفاعة.
الصدقة، فتقول: يا رب! أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير. ثم يجيء الصيام، فيقول: يا رب! أنا الصيام فيقول: إنك على خير. ثم تجيء الأعمال على ذلك. يقول الله تعالى: إنك على خير. ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب! أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ، وبك أعطي. قال الله تعالى في كتابه:{ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} . [5224]
5225 -
وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا عائشة! حوليه؛ فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا)). [5225]
5226 -
وعن أبي أيوب الأنصاري [رضي الله عنه] قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز. فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعذر منه غدا، وأجمع الإياس مما في أيدي الناس)). [5226]
ــ
فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((أنا الصلاة)) وقوله: ((أنا الإسلام؟)) قلت: لا شك أن فائدة الخبر هنا غير مرادة لعلمه تعالى بها بل المراد أمر آخر، فقول الصلاة:((أنا الصلاة)) على تعريف الخبر في هذا المقام. معنان: أنا المعروف المشهور بالانقياد والخضوع لبارئه والاستشهاد بالآية لمجرد مدح الإسلام لا للاستدلال.
الحديث السابع والعشرون والثامن والعشرون عن أبي أيوب رضي الله عنه: قوله: ((صلاة مودع)) أي إذا شرعت في الصلاة فأقبل إلى الله تعالى بشراشرك وودع غيرك لمناجاة ربك.
وقوله: ((بكلام تعذر منه غدا)) كناية عن حفظ اللسان، وأن لا يتكلم بما يحتاج أن يعتذر له. ((وأجمع الإياس)) أي أجمع رأيك على اليأس من الناس وصمم عليه، وهو من قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} {ثُمَّ كِيدُونِ} والظاهر أن الإياس وقع موقع اليأس سهوا من
5227 -
وعن معاذ بن جبل [رضي الله عنه] قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؛ خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال:((يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري)) فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة. فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) روى الأحاديث الأربعة أحمد. [5227]
5228 -
وعن ابن مسعود [رضي الله عنه] قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن النور إذا دخل الصدر انفسح)). فقيل: يا رسول الله! هل لتلك من علم يعرف به؟ قال: ((نعم، التجافي من دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)). [5228]
ــ
الكاتب؛ لأن الإياس مصدر آسه إذا أعطاه، وليس مصدر أيس مقلوب يئس؛ لأن مصدر المقلوب يوافق الفعل الأصلي لا المقلوب. ويمكن أن يقال: إنه من أيس نفسه مما في أيدي الناس إياسا، فخففت الهمزة.
الحديث التاسع والعشرون عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((ولعلك أن تمر)) استعمال ((لعل)) على الحقيقة لكونه صلى الله عليه وسلم راغبا في لقاء الله تعالى، وأدخل ((أن)) في الخبر تشبيها للعل بـ ((عسى)) تلويحا إلى قوله تعالى:{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا} والواو في ((وقبري)) بمعنى ((مع)).
قوله: ((جشعا)) ((نه)): الجشع الجزع لفراق الإلف. قوله: ((ثم التفت)) لعل الالتفات كان تسليا لمعاذ بعد ما نعى نفسه إليه يعني إذا رجعت إلى المدينة بعدي فاقتد بأولي الناس بي وهم المتقون، وكنى به عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ونحوه حديث جبير بن مطعم: ((أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته في شيء فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت ولم أجدك، وكأنها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر، وفيه دليل على أنه رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده وقائم مقامه.
الحديث الثلاثون والحادي والثلاثون عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ((يشرح صدره