المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(18) باب الحذر والتأني في الأمور - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٠

[الطيبي]

الفصل: ‌(18) باب الحذر والتأني في الأمور

أو لم يقبل عذره؛ كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس)) رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان))، وقال: المكاس: العشار. [2502]

(18) باب الحذر والتأني في الأمور

الفصل الأول

5053 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)) متفق عليه.

ــ

هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا

قوله: ((وكاد الحسد أن يغلب القدر)) سبق معناه.

باب الحذر والتأني في الأمور

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يلدغ المؤمن)) هذا يروى على وجهين: أحدهما: على الخبر. وهو أن المؤمن الممدوح هو المتيقظ الحازم الذي لا يؤتي من ناحية الغفلة، فيخدع مرة بعد مرة أخرى ولا يفطن هو به. وقد قيل: إنه الخداع في أمره الآخرة دون أمر الدنيا. وثانيها: على النهي أي لا يخدعن المؤمن، ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه، وهذا يصلح أن يكون في أمر الدنيا والأخرة.

((تو)): وأرى أن الحديث لم يبلغ الخطابي على ما كان عليه، وهو مشهور عند أهل السير. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بعض أهل مكة، وهو أبو عزة الشاعر الجمحي، وشرط عليه أن لا يجلب عليه، فلما بلغ مأمنه عاد إلى ما كان عليه، فأسر تارة أخرى فأمر بضرب عنقه، وكلمه بعض الناس في المن عليه فقال: ((لا يدع المؤمن

)) الحديث.

أقول: وروى الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض هذه القصة. وقال: سبب هذا الحديث معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الشاعر يوم بدر، فمن عليه وعاهده أن لا يحرض عليه ولا يهجوه، فأطقه فلحق بقومه ثم رجع إلى التحريض والهجاء، ثم أسر يوم أحد فسأله المن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن

.)) الحديث. وهذا السبب يضعف الوجه الثاني.

أقول: إذا ذهب إلى النهي خيل أنه صلوات الله عليه لما رأي من نفسه الزكية الميل إلى

ص: 3221

5054 -

وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس:((إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) رواه مسلم.

ــ

الحلم والعفو عنه، جرد منها مؤمنا كاملاً حازماً ذا شهامة، ونهاه عن ذلك تأنيباً، يعني ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله ويذب عن دين الله أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى، فانته عن حديث الحلم، وأمضى لسانك في الانتقام منه والانتصار من عدو الله؛ فإن مقام التجربة والغضب لله يأبى الحلم والعفو. وإلى هذا المقام ينظر قوله صلى الله عليه وسلم:((الحليم ذو عثرة، والحكيم ذو تجربة)) وأنشد النابغة في هذا المعنى:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في أمر إذا لم يكن له حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا

ومن أوصافه صلوات الله عليه وما روت أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق: ((ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)) فظهر من هذا أن الحلم مطلقا غير محمود كما أن الجود كذلك. قال أبو الطيب:

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى

وفهم منه أن هناك مقاماً، التحلم والتساهل فيه محمود بل مندوب إليه. وذلك مع المؤمنين من استعمال العفو والحلم وخفض الجناح؛ قال الله تعالى:{وإذا ما غضبوا هم يغفرون} فيجتمع لهم لين الجانب مع الأولياء والغلظة مع الأعداء، قال الله تعالى:{أشداء على الكفار رحماء بينهم} {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} . قال:

حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب

وإذا ذهب إلى مجرد الإخبار لم يكن هذا التأنيب والتعيير، فلم يفهم منه أن التحلم والتساهل في بعض المواضع مندوب إليه، وأن الانتقام والانتصار من أعداء الدين مأمور به، فظهر من هذا أن القول بالنهي أولى والمقام له أدعى وسلوك ما ذهب إليه الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله أوضح، وأهدى وأحق أن يتبع وأحرى. والله أعلم.

الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((والأناة)) الجوهري: أنى يأني في الأمر أي ترفق، والاسم الأناة مثل قناة، ورجل آن، على فاعل أي كثير الأناة والحلم. ((حس)): روى المنذر الأشج: قال: يا رسول الله! أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: ((بل الله جبلك عليهما)) قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله ورسوله.

ص: 3222

الفصل الثاني

5055 -

عن سهل بن سعد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس الراوي من قبل حفظه. [5055]

5056 -

وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [5056]

5057 -

وعن أنس، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: ((خذ الأمر بالتدبير، فإن رأيت في عاقبته خيراً فأمضه، وإن خفت غياً فأمسك)) رواه في ((شرح السنة)). [5057]

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول والثاني عن أبي سعيد: قوله: ((لا حليم إلا ذو عثرة)) ((نه)): أي لا يحصل له الحلم ويوصف به حتى يركب الأمور وينحرف عليها ويعثر فيها، فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ فيجتنبها. ويدل عليه قوله:((ولا حكيم إلا ذو تجربة)). ((مظ)): أي لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ، فحينئذ يخجل فيجب لذلك أن يستر من رآه على عيبه فيعفو عنه، فإذا أحب ذلك علم أن العفو عن الناس والستر على عيوبهم محبوب للناس ومرضي لله تعالى. وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضرها والمصالح والمفاسد، فإذا علم مصالح الأمور ومفاسدها لا يفعل ما يفعل إلا عن الحكمة.

أقول: ويمكن أن تخصيص الحكيم بذي تجربة يدل على خلافه في الحليم؛ فإن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي فيها له الحلم، بخلاف الحكيم المجرب على ما مر بيانه في أول الفصل الأول.

الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وإن خفت غيا)) الخوف هنا بمعنى الظن كما في قوله تعالى: {إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} ويجوز أن يكون بمعنى العلم

ص: 3223

5058 -

وعن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال الأعمش: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) رواه أبو داود. [5058]

5059 -

وعن عبد الله بن سرجس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزءاً من النبوة)) رواه الترمذي. [5059]

5060 -

وعن ابن عباس، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءاً من النبوة)) رواه أبو داود. [5060]

ــ

واليقين؛ لأن من خاف شيئاً احترز عنه وتحرى حقيقته. وهذا أنسب بالقمام؛ لأنه وقع في مقابلة ((رأيت)) وهو بمعنى العلم وهما نتيجتا التفكير والتدبر. وفي معناه أنشد أبو الطيب:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني

الحديث الرابع عن مصعب رضي الله عنه: قوله: ((التؤدة))، ((قض)): التؤدة التأني والسكون فعلة من الوئيد وهو المشي بثقل. والمعنى أن التأني في كل شيء مستحسن إلا في أمر الآخرة. انتهى كلامه. وذلك أن الأمور الدنيوية لا يعلم عواقبها في ابتداءها، وأنها محمودة العواقب حتى يتعجل فيها، أو مذمومة فيتأخر عنها، بخلاف الأمور الأخروية لقوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} و {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} . قال الشيخ أبو حامد في قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ينبغي للمؤمن أنه إذا تحركت داعية البذل أن لا يتوقف، لأن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه. كان أبو الحسن الفرشخي في الخلاء، فدعا تلميذاً له فقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلا صبرت حتى تخرج؛ قال: خطر لي بذله ولم آمن على نفسي أن تتغير.

الحديث الخامس والسادس عن عبد الله: قوله: ((والسمت الصالح)) ((فا)): السمت أخذ المنهج ولزوم الحجة ((تو)): الاقتصاد على ضربين: أحدهما: ما كان متوسطاً بين محمود ومذموم كالمتوسط بين الجور والعدل والبخل والجود، وهذا الضرب أريد بقوله سبحانه:{ومنهم مقتصد} . والثاني محمود على الإطلاق، وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط

ص: 3224

5061 -

وعن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت؛ فهي أمانة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [5061]

5062 -

وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الهيثم بن التيهان:((هل لك خادم؟)) فقال: لا. قال: ((فإذا أتانا سبي فأتنا)) فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((اختر منهما)). فقال: يا نبي الله! اختر لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

ــ

كالجود، فإنه بين الإسراف والبخل، والشجاعة فإنها بين التهور والجبن. وهذا الذي في الحديث، هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق.

قوله: ((من أربع وعشرين جزءا)) ((قض)): كان الصواب أن يقول: ((أربعة)) على التذكير فلعله أنث على تأويل الخصلة أو القطعة؛ أو لإجراء الجزء مجرى الكل في التذكير والتأنيث. ((خط)): الهدى والسمت حالة الرجل ومذهبه. والاقتصاد: سلوك القصد في الأمور والدخول فهيا برفق؛ وعلى سبيل تمكن الدوام عليها. يريد أن هذه الخصال من شمائل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم. وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها. وليس معناه أن النبوة تتجزئ، ولا أن من جمع هذه الخصال كان نبياً؛ فإن النبوة غير مكتسبة، وإنما هي كرامة يخص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ويحتمل أن يكون معناه أن هذه الخلال جز من خمس وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوة، ودعا إليها الأنبياء. وقيل: معناه أن من جمع هذه الخصال لقيه الناس بالتوقير والتعظيم، وألبسه الله لباس التقوى الذي ألبسه أنبياءه عليهم السلام، فكأنها جزء من النبوة. ((تو)): والطريق إلى معرفة حقيقة ذلك العدد ووجهه بالاختصاص من قبل الرأي والاستنباط مسدود؛ فإنه من علوم النبوة، وقد سبق القول في هذا المعنى في كتاب الرؤيا.

الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ثم التفت)) ((مظ)): يعني إذا حدث أحد عندك حديثاً ثم غاب صار حديثه أمانة عندك ولا يجوز إضاعتها. أقول: الظاهر أن ((التفت)) هنا عبارة عن التفات خاطره إلى ما تكلم فالتفت يميناً وشمالاً احتياطاً. ((فثم)) هنا للتراخي في الرتبة يدل على هذا ترتب الفاء وأن الثاني مسبب عن الأول.

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المستشار مؤتمن)) معناه أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته قوله:((واستوص به))

ص: 3225

((إن المستشار مؤتمن. خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً)) رواه الترمذي. [5062]

5063 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) رواه أبو داود [5063]

وذكر حديث أبي سعيد: ((إن أعظم الأمانة)) في ((باب المباشرة)) في ((الفصل الأول)). [5063]

الفصل الثالث

5064 -

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله العقل قال له: قم، فقام، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: اقعد، فقعد،

ــ

أي اقبل وصيتي في حقه وأحسن ملكيته بالمعروف، وفي حديث الظهار:((استوصى ابن عمك خيراً)) أي اقبلي وصيتي فيه، وانتصاب ((خيراً)) على المصدرية أي استيصاء خير.

الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إلا ثلاثة مجالس)) ((مظ)): كما إذا سمع من قال في مجلس: أريد قتل فلان أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان فإنه لا يجوز ستر ذلك حتى يكونوا على حذر منه. قوله:((في الفصل الأول)) تنبيه على أن هذا الحديث جاء مكرراً في المصابيح، وعلى أن إيراده في الصحاح أولى منه في الحسان.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: قال له: ((قم))

. إلخ كناية عن أن العقل هو محل التكليف، وإليه تنتهي الأوامر والنواهي، وبه يتم غرض خلق المكلفين من العبادة التي ما خلقت السموات والأرض إلا لأجلها؛ ولذلك قال: ((ما خلقت خلقا هو خير منك

)) الخ. قال بعض العارفين: العقل خواض تيار الجود في لجج بحار الوجود لأجل جواهر السجود. ووجه ذكر هذا الحديث في باب الحذر والتأني في الأمور لأنهما من نتائج العقل؛ ولأجل ذلك سمي العقل عقلا.

ص: 3226

ثم قال: ما خلقت خلقا هو خير منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف، وبك أعاتب، وبك الثواب، وعليك العقاب)) وقد تكلم فيه بعض العلماء. [5064]

5065 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والصوم والزكاة والحج والعمرة)) حتى ذكر سهام الخير كلها: ((وما يجزي يوم القيامة إلا بقدر عقله)). [5065]

ــ

((غب)): أصل العقل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال، وعقل الدواء البطن، عقل المرأة شعرها، ومنه قيل للحصن معقل، والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم. ويقال للعمل الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة: عقل؛ ولهذا قيل:

العقل عقلان مطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع كما لا ينفع الشمس وضوء العين ممنوع.

وإلى الأول أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل)). وإلى الثاني أشار بقوله: ((ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى)) وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون} .

قوله: ((وقد تكلم فيه العلماء)) قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: الحديث الذي ذكروه كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني وابن الجوزي وغيرهم.

الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلا بقدر عقله)) إشارة إلى أن العقل المسموع لا ينفع كل النفع إلا بالعقل المطبوع؛ لأنه هو المميز الذي يضع كل شيء في موضعه، وبه تتفاوت صلاة عن صلاة وصدقة عن صدقة وصوم عن صوم؛ لأنه ربما يركع ركعة في مقام تفضل ألف ركعة في غيره، وكذلك الصدقة وغير ذلك من أعمال البر، وربما يعمل ويظن به خيرا، فيرجع وبالاً عليه.

ص: 3227

5066 -

وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر؛ لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)). [5066]

5067 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم)) روى البيهقي الأحاديث الأربعة في ((شعب الإيمان)). [5067]

ــ

الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((لا عقل كالتدبير)) أراد بالتدبير العقل المطبوع. كما سبق أن العقل المسموع لا يعتد به ولا يحتسب لصاحبه إلا بالعقل المطبوع. قوله: ((ولا ورع)) ((نه)): الورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منه، يقال: ورع الرجل يرع- بالكسر فيهما- ورعا ورعة فهو ورع، وتورع من كذا. ثم استعير للكف عن المباح والحلال.

فإن قلت: فعلى هذا: الورع هو الكف، فكيف قيل:((ولا ورع كالكف))؟.

قلت: الكف إذا أطلق، فهم منه الكف عن الأذى أو كف اللسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:((كف عليك هذا)) وأخذ بلسانه كأنه قيل: ولا ورع كالصمت أو كالكف عن أذى المسلمين. ((ولا حسب كحسن الخلق)). أي لا مكارم مكتسبة كحسن الخلق مع الخلق، فالأول عام والثاني خاص.

الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((نصف المعيشة)) وذلك أن كلا طرفي التبذير والتقتير ينغص كل العيش والتوسط فيه هو العيش، والعيش نوعان: عيش الدنيا، وعيش الآخرة، كما أن العقل صنفان: مطبوع ومسموع، والمسموع نوعان: معاملة مع الله ومعاملة مع الخلق. وقوله: ((وحسن السؤال نصف العلم)) فإن السائل الفطن يسأل عما يهمه وما هو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسئول ومسئول. فإذا ظهر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله:((لا أدري نصفا العلم)). والله أعلم.

ص: 3228