الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدخلني من ذلك، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ((وما أنكرت من ذلك؟! ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام، لتسبيحه وتكبيره وتهليله)) [5293]
5294 -
وعن محمد بن أبي عميرة – وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: إن عبدا لو خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرما في طاعة الله لحقره في ذلك اليوم، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب. رواهما أحمد. [5294]
(4) باب التوكل والصبر
الفصل الأول
5295 -
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي
ــ
الحديث الخامس عن محمد: قوله: ((لحقره)) أي يعده قليلا نذرا لما يرى من ثواب العمل فيه.
باب التوكل والصبر
((نه)): يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل هو القيم الكفيل بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يشتغل بأمر الموكول إليه.
((غب)): الصبر الإمساك في ضيق، يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه. فالصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف موقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير ويضاده الجزع، وإن كان في الحرب يسمى شجاعة ويضاده الجبن، وإن أن في نائية مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر. وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا وضده الإفشاء.
الفصل الأول
الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا يسترقون ولا يتطيرون)) من الثنائي
سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). متفق عليه.
5296 -
وعنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((عرضت على الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن يكون أمتي. فقيل: هذا موسى في قومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق. فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء
ــ
التي يراد بها الاستيعاب، كقولهم: لا ينفع زيد ولا عمرو على معنى: لا ينفع إنسان ما. ((نه)): هذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم. وأما العوام فرخص لهم في التداوي والمعالجات. ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله تعالى بالدعاء، كان من جملة الخواص والأولياء، ومن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء، ألا ترى! أن الصديق رضي الله عنه لما تصدق بجميع ماله، لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم علما منه بيقينه وصبره. ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب، وقال: لا أملك غيره، فضربه بحيث لو أصابه عقره، وقال فيه ما قال.
((مح)) قال المازرى: احتج بعضهم به على أن التداوي مكروه، ومعظم العلماء على خلاف ذلك، واحتجوا بالأحاديث الواردة في منافع الأدوية، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى، وبأخبار عائشة رضي الله عنها عن كثرة تداويه بما علم من الاستشفاء برقاه. فإذا ثبت هذا حمل على ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها، ولا يفوضون الأمر إلى الله تعالى.
الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يمر النبي)) التعريف فيه للجنس، وهو ما يعرفه كل أحد أنه ما هو، فهو بمنزلة النكرات. قوله: ومع هؤلاء سبعون ألفا قدامهم)) حال أي مقدمين عليهم. ((مح)): يحتمل هذا أن يكون معناه سبعون ألفا من أمتك غير هؤلاء وليسوا مع هؤلاء. وأن يكون معناه في جملتهم سبعون ألفا. ويؤيد هذا رواية البخاري: ((هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا)).
قوله: ((سبقك بها)) أي بتلك الدعوة. ((مح)): قال القاضي عياض: قيل: إن الرجل الثاني لم يكن ممن يستحق تلك المنزلة، ولا كان بصفة أهلها بخلاف عكاشة، وقيل: بل كان منافقا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام محتمل، ولم ير صلى الله عليه وسلم التصريح له بأنك لست منهم: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن العشرة.
سبعون ألفا قدامهم يدخلون الجنة بغير حساب، هو الذي لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) فقال عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((اللهم اجعله منهم)). ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((سبقك بها عكاشة)). متفق عليه.
5297 -
وعن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) رواه مسلم.
5298 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك،
ــ
وقيل: قد يكون سبق عكاشة بوحي ولم يحصل ذلك للآخر، قال الشيخ: وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه قال في كتابه في الأسماء المبهمة: أنه يقال: إن هذا الرجل هو سعد بن عبادة، فإن صح هذا بطل قول من زعم أنا منافق، والأظهر المختار هو القول الأخير.
الحديث الثالث عن صهيب رضي الله عنه: قوله: ((إلا للمؤمن)) مظهر وقع موقع المضمر ليشعر بالعلية.
قوله: ((إن أصابته سراء)) وأنشد في معناه:
إذا كان شكر نعمة الله نعمة على له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر
إذا مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبه الأجر
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المؤمن القوي)) قيل: أراد بـ ((المؤمن القوي)) الذي قوي في إيمانه، وصلب في إيقانه، بحيث لا يرى الأسبابن ووثق بمسبب الأسباب. والمؤمن الضغيف بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان.
أقول: ويمكن أن يذهب إلى اللف والنشر، فيكون قوله:((احرص إلى ما ينفعك)) ولا تترك الجهد بيانا للقوى، وقوله:((ولا تعجز)) بيانا للضغيف. ((مح)): والقوة هنا يراد بها عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على الغزو والجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على
واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) رواه مسلم.
الفصل الثاني
5299 -
عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم
ــ
الأذى في كل ذلك. وقوله: ((وفي كل خير)) معناه: في كل من القوى والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات.
قوله: ((فإن لو تفتح)) ((قض)): أي لو كان الأمر لي وكنت مستبدا بالفعل والترك كان كذا وكذا، وفيه تأسف على الفائت ومنازعة للقدر وإيهام بأن ما يفعله باستبداده ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن لو تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى؛ ولذلك استكرهه وجعله مما يفتح عمل الشيطان. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث فسخ الحج إلى العمرة:((ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت)) ليس من هذا القبيل، وإنما هو كلام قصد به تطييب قلوبهم وتحريضهم على التحلل بأعمال العمرة.
((مح)) قال القاضي عياض: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه:((لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا)) فهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مستقبل. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه)) وشبه ذلك لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع، وعما هو في قدرته، وأما معنى قوله:((فإن لو تفتح عمل الشيطان)) أنه يلقى في القلب معارضة القدر، ويوسوس به الشيطان.
قال الشيخ: وقد جاء استعمال ((لو)) في الماضي كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى)). فالظاهر أن النهي إنما ورد فيما لا فائدة فيه، فيكون نهى تنزيه لا تحريم. وأما من قاله: متأسفا على ما فات من طاعة الله تعالى أو هو معتذر من ذلك فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر استعمال ((لو)) الموجودة في الأحاديث.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((حق توكله)) بأن يعلم يقينا بأن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر، وغير ذلك مما يطلق عليه اسم الموجود – من الله تعالى، ثم يسعى في الطلب على الوجه الجميل، يشهد لذلك تشبيهه بالطير؛ فإنها تغدو خماصا، ثم تسرح في طلب القوت فتروح بطانا.
تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)). رواه الترمذي، وابن ماجة. [5299]
5300 -
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس! ليس منكم شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين – وفي رواية: وإن روح القدس – نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته)). رواه في ((شرح السنة)) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) إلا أنه لم يذكر: ((وإن روح القدس)). [5300]
ــ
قال الشيخ أبو حامد: قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض، كالخرقة الملقاة أو كلحم على وضم، وهذا ظن الجهال؛ فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟ بل نكشف عن الحق فيه، فنقول: إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه أي بعمله إلى مقاصده.
((مح)): قال الإمام أبو القاسم القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وإنما الحركة بالظاهر. فلا ينافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق للعبد أن الثقة من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر فبتيسيره. ((حس)): الخماص جمع الخميص للبطن. وهو الضامر والمخمصة الجوع؛ لأن البطن يضمر به.
الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن روح القدس)) أي الروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق، فهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، ففي الصفة القدس منسوب إليها، وفي الإضافة بالعكس نحو مال زيد. ((نه)) نفث في روعي أي أوحي إلي وألقى من النفث بالفم وهو شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل؛ لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق. والروع الجلد والنفس.
5301 -
وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديل أوثق بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وعمرو بن واقد الراوي منكر الحديث. [5301]
5302 -
وعن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا
ــ
قوله: فأجملوا في الطلب)) أي اكتسبوا المال بوجه جميل، وهو أن لا تطلبه إلا بالوجه الشرعي، والاستبطاء بمعنى الإبطاء، والسين فيه للمبالغة كما استعف بمعنى عف، في قوله تعالى:{ومَن كَانَ غَنِيًا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وفيه أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد، لكن العبد إذا سعى وطلب على وجه مشروع وصف بأنه حلال، وإذا طلب بوجه غير مشروع فهو حرام. فقوله:((ما عند الله)) إشارة إلى أن الرزق كله من عند الله الحلال والحرام.
وقوله: ((أن تطلبوه بمعاصي الله)) إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بمعصية الله ذم وسمي حراما. وقوله: ((إلا بطاعته)) إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بطاعته مدح وسمي حلالا. وفي هذا دليل بين لأهل السنة على أن الحلال والحرام يسمى رزقا، وكله من عند الله خلافا للمعتزلة.
الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((أوثق)) أي أوثق منك. قوله: ((لو أنها أبقيت لك)) حال من فاعل ((أرغب)). وجواب ((لو)) محذوف و ((إذا)) ظرف، والمعنى أن تكون في حصول المصيبة وقت إصابتها أرغب من نفسك في المصيبة حال كونك غير مصاب بها؛ لأنك تثاب بوصولها إليك، ويفوتك الثواب إذا لم تصل إليك. فوضع ((أبقيت)) موضع ((لم يصب)) يريد أن المؤمن إذا أذنب ذنبا، وجوزي في الدنيا بمصيبة وصبر عليها، يثاب في الآخرة. وإن لم يجاز عليها بالمصيبة في الدنيا أبقيت له ويجازى في الآخرة، قال تعالى:{ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فاختصر الكلام. وفيه حث على التسلي وتنبيه على أن العاقل لا يرغب في إبقاء المصيبة وتأخيرها إلى الآخرة والآخرة خير وأبقى.
الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((احفظ الله)) أي راع حق الله تعالى وتحر رضاه. و ((تجاهك)) أي مقابلك وحذاءك. والتاء بدل من الواو كما في تقاة وتخمة، أي
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)). رواه أحمد، والترمذي. [5302]
5303 -
وعن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب.
ــ
احفظ حق الله حتى يحفظك الله من مكاره الدنيا والآخرة. وزاد بعد قوله: ((تجاهك)) في رواية رزين: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) وفي آخره: ((فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين)). والحديث بطوله قد جاء مثله أو نحوه في مسند أحمد بن حنبل.
((نه)): معنى ((تعرف إلى الله)) اجعله يعرفك بطاعته، والعمل فيما أولاك من نعمته: فإنه يجازيك عند الشدة والحاجة إليه في الدنيا والآخرة.
أقول: أراد بقوله: ((لن يغلب عسر يسرين)) أن التعريف في ((العسر)) الثاني في قوله تعالى للعهد، والتنكير في ((يسرا)) للنوع، فيكون العسر واحدا واليسر اثنين فالعسر ما كانوا عليه من متاعب الدنيا ومشاقها، واليسر في الدنيا الفتح والنصرة على الأعداء .. وفي العقبى الفوز بالحسنى.
الحديث الخامس عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((رضاه بما قضى الله له)) أي الرضا بقضاء الله وهو ترك السخط علامة سعادته. وإنما جعله علامة سعادة العبد لأمرين: أحدهما: ليتفرغ للعبادة؛ لأنه إذا لم يرض بالقضاء، يكون أبدا مهموما مشغول القلب بحدوث الحوادث، ويقول: لم كان كذا ولم لا يكون كذا؟ والثاني: لئلا يتعرض لغضب الله تعالى بسخطه. وسخط العبد أن يذكر غير ما قضى الله له، وقال: إنه أصلح وأولى فيما لا يستيقن فساده وصلاحه.
فإن قلت: ما موقع قوله: ((ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله)) بين المتقابلين؟ قلت: موقعه بين القرينتين لدفع توهم من يترك الاستخارة، ويفوض أمره بالكلية فقدم اهتماما.
الفصل الثالث
5304 -
عن جابر، أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال:((إن هذا اخترط على سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا. قال: ما يمنعك مني؟ فقلت: الله، ثلاثا))، ولم يعاقبه، وجلس. متفق عليه.
5305 -
وفي رواية أبي بكر الاسماعيلي في ((صحيحه)) فقال: من يمنعك مني؟ قال: ((الله) فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فقال:((من يمنعك مني؟)) فقال: كن خير آخذ. فقال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. هكذا في ((كتاب الحميدي)) و ((الرياض)).
5306 -
وعن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأعلم آية لو أخذ الناس
ــ
الفصل الثالث
الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((القائلة))، الجوهري: القائلة الظهيرة.
وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا وهي النوم في الظهيرة. و ((العضاة)) الشجر الذي له شوك. و ((السمرة)) – بفتح السين وضم الميم – الشجرة من الطلح، وهي العظام من شجر العضاة. و ((اخترط السيف)) أي: سله، وهو في يده صلتا أي مسلولا، وهو بفتح الصاد وضمها. قوله:((من يمنعك مني؟)) أي يحميك مني؛ قال في أساس البلاغة ومن المجاز: فلان يمنع الجار أي يحميه من أن يضام. وقوله: ((خير آخذ)) أي آخذ بالجنايات والمعاقب بها، يريد العفو.
الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إني لأعلم آية)) يريد الآية بتمامها. قوله: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} إلى قوله: {ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} إشارة إلى أنه تعالى يكفيه جميع ما
بها لكفتهم: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} رواه أحمد، وابن ماجه، والدارمي. [5306]
5307 -
وعن ابن مسعود، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أنا الرزاق ذو القوة المتين). رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
5308 -
وعن أنس، قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((لعلك ترزق به)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح غريب. [5308]
ــ
يخشى ويكره من أمور الدنيا والآخرة. وقوله: ((ومن يتوكل ..)) الخ. إشارة إلى أنه تعالى يكفيه جميع ما يطلبه ويبتغيه من أمور الدنيا والآخرة. و ((بالغ أمره)) أي نافذ أمره، وفيه بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوفيقه، لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل وأنشد:
إذا المرء أمسى حليف التقى فلم يخش من طارق حله
ألم تسمع الله سبحانه ومن يتق الله يجعل له
الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أقرأني)) أي حملني على أن أقرأ. وقوله: ((إني أنا الرزاق)) قراءة شاذة منسوبة إلى رسول الله، والمشهور:{إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} و ((المتين)) الشديد القوة. والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. قوله: {ذُو القُوَّةِ} خبر بعد خبر، وفيه من المبالغات: تصدير الجملة ((بإن))، وتوسط ضمير الفصل المفيد للاختصاص، وتعريف الخبر بلام الجنس ثم إردافه بقوله:((ذو القوة)) وتتميمه بالمتانة، فوجب أن لا يتوكل إلا عليه ولا تفوض الأمور إلا إليه.
الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((النبي صلى الله عليه وسلم) هو منصور على انتزاع الخافض، قال في أساس البلاغة: شكوت إليه فلانا فأشكاني منه، أي أخذ لي منه ما أرضاني.
ومعنى ((لعل)) في قوله: لعلك يجوز أن يرجع إلى ((رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيفيد القطع والتوبيخ، كما
5309 -
وعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قلب ابن آدم بكل واد شعبة، فمن أتبع قلبه الشعب كلها لم يبال الله بأي واد أهلكه، ومن توكل على الله كفاه الشعب)). رواه ابن ماجه. [5309]
5310 -
وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((قال ربكم عز وجل: لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، واطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد)). رواه أحمد. [5310]
5311 -
وعنه، قال: دخل رجل على أهله، فلما رأي ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى، فوضعتها، وإلى التنور، فسجرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت. قالت: وذهبت إلى التنور، فوجدته ممتلئا. قال: فرجع الزوج، قال: أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته: نعم، من ربنا، وقام إلى الرحى، فذكر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أما إنه لو لم يرفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة)). رواه أحمد.
ــ
ورد: ((هل ترزقون إلا بضعفائكم))، وأن يرجع إلى المخاطب ليبعثه على التفكر والتأمل فينصف من نفسه.
الحديث الخامس عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((شعبة)) ((نه)): الشعبة الطائفة من كل شيء والقطعة منه، انتهى كلامه، ولا بد فيه من تقدير أي في كل واد له شعبة. وقوله:((كفاه الشعب)) أي كفاه الله تعالى مؤون حاجاته المتشعبة المختلفة.
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولم أسمعهم صوت الرعد)) من باب التتميم؛ فإن السحاب مع وجود الرعد فيه شائبة الخوف من البرق، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا} فنفاه ليكون رحمة محضة.
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم ارزقنا)) دعت أن يصيب زوجها بما يطحنه ويعجنه ويخبزه فهيأت الأسباب لذلك ((وقام إلى الرحى)) أي قام الزوج إلى الرحى فرفعها، يدل عليه ما بعده، فعلى هذا ((قام)) معطوف على محذوف.
5312 -
وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)). رواه أبو نعيم في ((الحلية)). [5312]
5313 -
وعن ابن مسعود، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. متفق عليه.
ــ
الحديث الثامن والتاسع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((نبيا)) منصوب على شريطة التفسير بقرينة قوله: ((ضربه)) وهو حكاية لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يقدر مضاف، أي يحكي حال نبي من الأنبياء، وهو معنى ما تلفظ به، وحينئذ ((ضربه)) يجوز أن يكون صفة للنبي، وأن يكون استئنافا، كأن سائلا سأل ما حكاه، فقيل:((ضربه)).