الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) باب الشفقة والرحمة على الخلق
الفصل الأول
4947 -
عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)). متفق عليه.
4948 -
وعن عائشة، قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)). متفق عليه.
ــ
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
والشفقة عناية مختلطة بخوف؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه.
الفصل الأول
الحديث الأول عن جرير: قوله: ((لا يرحم الله من لا يرحم)) الرحمة الثانية محمولة على الحقيقة، [والأولى على المجاز؛ لأن الرحمة من الخلق التعطف والرقة، وهو لا يجوز على الله تعالى ومن الله تعالى الرضى عمن رحمه] لأن من رق له القلب فقد رضي عنه، أو الإنعام وإرادة الخير؛ لأن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم، أصابهم بمعروفه وإنعامه.
الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أو أملك)) الهمزة الاستفهامية إنكارية. ((شف)): يروى ((أن)) بفتح الهمزة فهي مصدرية، ويقدر مضاف، أي لا أملك لك دفع نزع الله من قلبك الرحمة. ويرى بكسر الهمزة شرطاً، وجزاءه محذوف من جنس ما قبله. أي إن نزع الله من قلبك الرحمة لا أملك لك دفعه ومنعه.
أقول: والفاء في قوله: ((فما نقلبهم)) استبعادية، أي تفعلون ذلك وهو مستبعد عندنا. ونحو الفاء في قوله تعالى:{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} فإن موقعه موقع ((ثم)) في مثل هذه الآية، أي أن الإعراض في مثل آيات الله العظمى في وضوحها وإرشادها بعد التذكير بها، مستبعد في العقول.
الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من ابتلى من هذه البنات بشيء)) ((تو)):
4949 -
وعنها، قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فقال:((من ابتلى من هذه البناء بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)). متفق عليه.
4950 -
وعن أنس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا)) وضم أصابعه. رواه مسلم.
4951 -
وعن أبي هريرة، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله))، وأحسبه قال:((كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)). متفق عليه.
ــ
هذه الرواية هي الصواب. والرواية التي اختارها صاحب المصابيح يتخبط الناس فيها لمكان قوله: ((شيئاً)) وروى ((يلي)) بالياء من الولاية وليس بشيء. والصواب فيه: ((من بلى من هذه البنات بشيء)).
أقول: الرواية في البخاري والحميدي والبيهقي وشرح السنة: ((من ابتلى من هذه البنات بشيء)). ولم نقف على ما في المصابيح، وهو ((من بلى من هذه البنات شيئا)) في الأصول. وهذه إشارة إلى جنسهن. ((مح)): إنما سماهن ابتلاء؛ لأن الناس يكرهونهن في العادة. قال الله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} .
الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من عال)). ((نه)): يقال: عال الرجل عياله يعولهم: إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما. وقوله: ((أنا وهو هكذا)) جملة حالية بغير واو، أي جاء مصاحباً لي.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على الأرملة)) ((مح)): المراد بالساعي الكاسب لهما العامل لمئونتهما. والأرملة: من لا زوج لها، سواء تزوجت قبل ذلك أم لا. وقيل: هي التي فارقها زوجها. قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال، وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج. يقال: أرمل الرجل إذا فنى زاده. انتهى كلامه.
وإنما كان معنى ((الساعي على الأرملة)) ما قاله: لأنه صلى الله عليه وسلم عداه بـ ((على)) مضمنا فيه معنى
4952 -
وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم له، ولغيره، في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. رواه البخاري.
4953 -
وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). متفق عليه.
4954 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)). رواه مسلم.
4955 -
وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) ثم شبك بين أصابعه. متفق عليه.
ــ
الإنفاق. ((شف)): الألف واللام في ((كالقائم)) و ((كالصائم)) غير معرفين؛ ولذلك وصف كل واحد بجملة فعلية بعده كقوله الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
قوله: ((كالقائم لا يفتر وكالصائم لا تفطر)) هما عبارتان عن الصوم بالنهار والقيام بالليل. كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. يريدون الديمومة.
الحديث السادس عن سهل: قوله: ((وكافل اليتيم)) ((نه)) وهو القائم بأمر اليتيم المربي له. وهو من الكفيل الضمين. والضمير في قوله: ((ولغيره)) راجع إلى ((الكافل)). أي أن اليتيم سواء كان الكافل من ذوي رحمه وأنسابه، أو كان أجنبياً لغيره يكفل به.
أقول: قوله: ((في الجنة)) خبر ((أنا)) و ((هكذا)) نصب على المصدر من متعلق الخبر، وأشار بالسبابة والوسطى، أي أشار بهما إلى ما في ضميره صلى الله عليه وسلم من معنى الانضمام وهو بيان ((هكذا)).
الحديث السابع عن النعمان: قوله: ((تداعى له سائر الجسد)) ((نه)): كأنه بعضه دعا بعضاً ومنه قولهم: تداعت الحيطان، أي تساقطت أو كادت. ووجه التشبيه فيه هو التوافق في المشقة والراحة والنفع والضرر.
الحديث الثامن والتاسع عن أبي موسى: قوله: ((المؤمن للمؤمن)) التعريف فيه للجنس والمراد بعض المؤمن للبعض. وقوله: ((يشد بعضه بعضاً)) بيان لوجه التشبيه.
وقوله: ((ثم شبك بين أصابعه)) كالبنيان للوجه أي شدا مثل هذا الشد. ((مح)): فيه تعظيم
4956 -
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال:((اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)). متفق عليه.
4957 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). فقال رجل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال:((تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه)). متفق عليه.
4958 -
وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن
ــ
حقوق المسلمين بعضهم لبعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه. وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((اشفعوا فلتؤجروا ((مظ)): يعني إذا عرض صاحب حاجة علي اشفعوا له إلى: فإنكم إذا شفعتم له إلي، حصل لكم بتلك الشفاعة أجر، سواء قبلت شفاعتكم أو لم تقبل. وقوله:((يقضي الله على لسان رسوله)) أي يجري على لساني ما شاء الله، إن قضيت حاجة من شفاعتكم له، فهو بتقدير الله. وإن لم أقض فهو أيضاً بتقدير الله.
أقول: قوله: ((على لسان رسوله)) من باب التجريد؛ إذا الظاهر أن يقال: ((على لساني)). كأنه قال: اشفعوا إلى، ولا تقولوا: ما ندري أيقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟؛ لأن الله تعالى هو القاضي، فإن قضى لي أن أقبل أقبل، وإلا فلا. وهو من قوله صلى الله عليه وسلم:((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) والفاء في ((فلتؤجروا)) واللام مقحمة بل كلاهما مؤكدان؛ لأنه لو قيل: ((تؤجروا)) جواباً للأمر لصح.
((مح)): أجمعوا على تحريم الشفاعة في الحدود بعد بلوغها إلى الإمام. وأما قبله فقد أجاز الشفاعة فيها أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس. وأما المعاصي التي لا حد فيها، والواجب التعزيز، فيجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا. ثم الشفاعة فيها مستحبة، إذا لم يكن المشفوع فيه مؤذياً وشريراً.
الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فذلك نصرك إياه)) إشارة إلى المنع. أي منعك أخاك عن الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه، وعلى نفسه التي تأمره بالسوء.
الحديث الثاني عشر عن ابن عمر: قوله: ((ولا يسلمه)) ((نه)): يقال: أسلم فلان فلانا إذا
مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)). متفق عليه.
4959 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخوة المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا)). ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)). رواه مسلم.
ــ
ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه. وهو عام في كل من أسلمته إلى كل شيء لكن دخله التخصص، وغلب عليه الإلقاء في الهلكة.
الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يظلمه)) استئناف إما بيان للموجب وإما لوجه التشبيه. والخذلان ترك الإعانة والنصرة. قوله: ((ولا يحقره)) ((مظ)): لا يجوز تحقير المتقي من الشرك والمعاصي. والتقوى محله القلب، وما كان محله القلب يكون مخفياً عن أعين الإنس. وإذا كان مخفياً فلا يجوز لأحد أن يحكم بعدم تقوى مسلم حتى يحقره. ويحتمل أن يكون معناه محل التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى فلا يحقر مسلماً؛ لأن المتقي لا يحقر المسلم.
أقول: والقول الثاني أوجه والنظم له أدعى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما شبه المسلم بالأخ لينبه على المساواة، وأن لا يرى أحد نفسه على أحد من المسلمين فضلاً ومزية، ويحب له ما يحب لنفسه. وتحقيره إياه مما ينافي هذه الحالة وينشأ منه قطع وصلة الأخوة التي أمر الله تعالى بها أن توصل. ومراعاة هذه الشريطة أمر صعب؛ لأنه ينبغي أن يسوي بين السلطان وأدنى العوام، وبين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف والكبير والصغير. ولا يتمكن من هذه الخصلة إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، وأخلصه من الكبر والغش والحقد، ونحوها: إخلاص الذهب الإبريز من خبثه ونقاه منها، فيؤثر لذلك أمر الله تعالى على متابعة الهوى؛ ولذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم:((التقوى هاهنا)) فإن كلا منهما متضمن للنهي عن الاحتقار.
وأنت عرفت أن موقع الاعتراض بين الكلام موقع التأكيد والتقرير. وقوله: ((كل المسلم على المسلم
…
)) إلخ. هو الغرض الأصلي والمقصود الأولى، والسابق كالتمهيد والمقدمة له. فجعل مال المسلم وعرضه جزاء منه تلويحاً إلى معنى ما روي:((حرمة مال المسلم كحرمة دمه)) والمال يبذل للعرض. قال:
4960 -
وعن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة، الضعيف الذي لا زبر له: الذين هم
ــ
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
ولما أن التقوى: تشد من عقد هذه الأخوة وتستوثق من عراها. قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله} يعني أنكم إن اتقيتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، ولأن مستقر التقوى ومكانه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد. قال الله تعالى:{أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} .
ولذلك كرر صلوات الله عليه هذه الكلمة، وأشار بيده إلى صدره ثلاثا. وإنما عدل الراوي من الماضي إلى المضارع استحضارا لتلك الحالة في مشاهدة السامع واهتماماً بشأنها. ونحوه قوله تعالى:{والهل الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} ومن ثمة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى صدره. ولم يقل: التقوى في القلب. وهذا الحديث من الجوامع وفصل الخطاب الذي خص به هذا النبي المكرم صلوات الله وسلامه عليه. قوله: ((بحسب امرئ)) مبتدأ والباء فيه زائدة. وقوله: ((أن يحقر أخاه)) خبره، أي حسبه وكافيه من خلال الشرور ورذائل الأخلاق تحقير أخيه المسلم. والله أعلم.
الحديث الرابع عشر عن عياض: قوله: ((ذو سلطان)) أي سلطان لأنه ذو قهر وغلبة من السلاطة، وهي التمكن من القهر. قال الله تعالى:{ولو شاء الله لسلطهم} ومنه سمي السلطان. وقيل: ذو حجة لأنه تقام الحجج به. و ((المقسط)) العادل. يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل. وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار. وكأن الهمزة فيه للسلب، كأن يقال: شكاه إليه فأشكاه. و ((الموفق)) هو الذي يهيئ له أسباب الخير وفتح له أبواب البر. وقوله: ((رقيق القلب)) مفسر لقوله: ((رحيم)) أي يرق قلبه ويترحم لكل من بينه وبينه لحمة القرابة أو صلة الإسلام. و ((العفيف)) المتعفف المتجنب عن المحارم والمتحاشي عن السؤال، المتوكل على الله تعالى في أمره وأمر عياله. وإذا استقرأت أحوال العباد على اختلافها، فلعلك لم تجد أحداً يستأهل أن يدخل الجنة ويحق له أن يكون من أهلها، إلا وهو مندرج تحت هذه الأقسام غير خارج عنها.
قوله: ((لا زبر له)) ((حس)): أي لا عقل له. وفي الغريبين: يقال: ما له زبر أي عقل. ((تو)):
فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفي له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك))، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير الفحاش)). رواه مسلم.
ــ
المعنى لا يستقيم عليه؛ لأن من لا عقل له لا تكليف عليه. فكيف يحكم بأنه من أهل النار؟ وأرى الوجه فيه أن يفسر بالتماسك؛ فإن أهل اللغة يقولون: لا زبر له أي لا تماسك له، وهو في الأصل مصدر. والمعنى: لا تماسك له عند مجيء الشهوات. فلا يرتدع عن فاحشة ولا يتورع عن حرام.
أقول: لعله ذهب إلى أن قوله: ((الذين هم فيكم تبع)) قسم آخر من الأقسام الخمسة؛ ولذلك فسره بقوله: ((يعني به الخدام الذين يكتنفون بالشبهات والمحرمات)) وعليه كلام القاضي؛ حيث قال: والذين هم فيكم تبع يريد به الخدام الذين لا مطمح لهم، ولا مطمع إلا ما يملأون به بطونهم من أي وجه كان، ولا تتخطى هممهم إلى ما وراء ذلك من أمر ديني أو دنيوي.
أقول: والظاهر أن الضعيف وصف باعتبار لفظه تارة بالمفرد وباعتبار الجنس أخرى بالجمع، أو الموصل الثاني بيان أو بدل مما قبله لعدم العاطف، كما في الأصول المشهورة. وعليه كلام الأشراف حيث قال:((الذي)) في قوله: ((الذي لا زبر له)) بمعنى ((الذين)) للجمع. قال الشاعر:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وهو الذي جوز جعل قوله: ((الذين هم فيكم تبع)) بدلا من قوله: ((الذي لا زبر له)) انتهى كلامه.
وعلى هذا لا يتوجه الإشكال الذي أورده الشيخ التوربشتي، ويتعين تقسيم الأقسام الخمسة: أحدها: الضعيف، وثانيها: الخائن، وثالثها: رجل، ورابعها: البخيل مثلا، وخامسها: الشنظير. قوله: ((تبع)) في بعض نسخ المصابيح مرفوعاً كما في صحيح مسلم على أنه فاعل الظرف، أو مبتدأ خبره الظرف، والجملة خبرهم. وفي بعضها منصوب كما في الحميدي وجامع الأصول، وهو حال عن الضمير المستتر في الخبر.
((مح)): ((لا يتبعون)) بالعين المهملة يخفف ويشدد من الإتباع. وفي بعض النسخ ((لا يبغون)) بالغين المعجمة: لا يطلبون. قوله: ((لا يخفي له طمع)) ((قض)): أي لا يخفي عليه شيء مما يمكن أن يطمع فيه، وإن دق، بحيث لا يكاد يدرك إلا وهو يسعى في التفحص عنه والتطلع عليه حتى يجده فيخونه. وهذا هو الإغراق في الوصف بالخيانة. ويحتمل أن يكون ((خفي)) من الأضداد. والمعنى لا يظهر له شيء يطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئاً يسيراً. والطمع مصدر بمعنى المفعول.
4961 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). متفق عليه.
4962 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا
ــ
قوله: ((يخادعك عن أهلك)) ((عن)) هنا كما في قوله الشاعر:
يمدح جوادا ويصف أضيافه ينهون عن أكل وعن شرب
أي يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. وقوله تعالى {فأزلهما الشيطان عنها} الكشاف: أي حملهما الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة فالمعنى: يخادعك بسبب أهلك ومالك، أي طمع في مالك وأهلك، فيظهر عندك الأمانة والعفة ويخون فيهما.
قوله: ((البخل أو الكذب)) ((تو)) أي البخيل والكذاب أقام المصدر مقام اسم الفاعل، انتهى كلامه. ولعل الراوي نسي ألفاظا ذكرها صلى الله عليه وسلم في شأن البخيل أو الكذاب فعبر بهذه الصيغة، وإلا كان يقول: والبخيل أو الكذاب. ((مح)): في أكثر النسخ: ((أو الكذاب)) بـ ((أو))، وفي بعضها بالواو. والأول هو المشهور في نسخ بلادنا. قال القاضي عياض: روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو، إلا ابن أبي جعفر عن الطبري فبـ ((أو)). وقال بعض الشيوخ: لعل الصواب، وبه تكون المذكورات خمسة.
أقول: فعلى هذا قوله: ((الشنظير)) مرفوع، فيكون عطفاً على ((رجل)) كما سبق. وعلى تأويل الواو ينبغي أن يكون منصوباً من تتمة الكذب أو البخل، أي البخيل السيئ الخلق. يقال: رجل شنظير وشنظيرة. و ((الفحاش)) نعت لـ ((الشنظير)). وليس بمعنى له، أي يكون مع سوء خلقه فحاشا.
الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤمن عبد)) ((مح)): قالوا: لا يؤمن الإيمان التام. وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة. والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والمباحات؛ يدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث ((حتى يحب لأخيه من الخير))؛ إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه. والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها. وذلك سهل على القلب السليم. وإنما يعسر على القلب الدغل.
الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بوائقه)) ((نه)): أي غوائله وشروره، واحدتها بائقة.
يؤمن، والله لا يؤمن)). قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) متفق عليه.
4963 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)). رواه مسلم.
4964 -
وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)). متفق عليه.
4965 -
وعن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن يحزنه)). متفق عليه.
4966 -
عن تميم الداري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الدين النصيحة)) ثلاثاً. قلنا:
ــ
الحديث السابع عشر إلى التاسع عشر عن عبد الله: قوله: ((من أجل أن يحزنه)) يجوز أن يكون علة للنهي، أي لا تتناجوا لئلا يحزن صاحبك، وأن يكون علة للفعل المنهي، أي لا ينبغي أن يصدر منكم تناج هو سبب للحزن. فعلم أن هناك تناجياً غير منهي. ((خط)): إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين: أحدهما: أنه ربما يتوهم أن نجواهما [التبييت] رأي فيه، أو دسيس غائلة له. والآخر: أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو يحزن صاحبه. وقال أبو عبيد: هذا في السفر، وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة، فلا بأس به.
((حس)): وقد صح عن عائشة رضي الله عنها: ((إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده يوما، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها فلما رآها رحب ثم سارها)). ففيه دليل على أن المساواة في الجمع حيث لا ريبة جائزة. ((مح)): هذا النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث وكذا بإذنه. وهذا مذهب ابن عمر ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء. وهو عام في كل الأزمان حضراً وسفراً.
الحديث العشرون عن تميم: قوله: ((الدين النصيحة)) ((خط)): ((النصيحة)) كلمة جامعة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير. وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة وجيزة تحصرها وتجمع معناها غيرها، كما قالوا في ((الفلاح)): ليس في كلامهم كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) يريد عماد أمر الدين إنما هو النصيحة. وبها ثباته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) أي صحتها وثباتها بالنية.
فمعنى نصيحة الله الإيمان به صحة الاعتقاد في وحدانية، وترك الإلحاد في صفاته
لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم)). رواه مسلم.
ــ
وإخلاص النية في عبادته، وبذلك الطاعة فيما أمر به ونهي عنه، والاعتراف بنعمه والشكر له عليها وموالاة من أطاعة، ومعاداة من عصاه. وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله، والله غني عن نصح كل ناصح.
ومعنى نصيحة الكتاب: الإيمان به وبأنه كلام الله ووحبه وتنزيله، لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكير في عجائبه، والعلم بمحكمه والتسليم بمشابهه. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التصديق بنبوته، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وبذل الطاعة فيما أمر ونهى، والانقياد له وإيثاره بالمحبة فوق نفسه ووالده وولده والناس أجمعين.
ونصيحة الأئمة أن يطيعهم في الحق، ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا، وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم لما غفلوا عنه أو لم يبلغهم من حقوق المسلمين، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم. ومن النصيحة لهم: الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وأن لا يغرهم بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعو لهم بالصلاح، هذا كله على أن المراد بالأئمة الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات.
وقد [يتأول] ذلك بالأئمة الذين هم علماء الدين، وإن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام والإحسان الظن بهم. ونصيحة عامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، وكف الأذى عنهم، وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويعينهم عليه قولا أو فعلا وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، كبيرهم ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غيبتهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم.
أقول: وجماع القول فيه أن النصيحة هي خلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعي حقه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتي بها على طريقتها متداركة للفرطات ماحية للسيئات. ويجعل قلبه محلا للنظر والفكر، وروحه مستقراً للمحبة وسره منصة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العين، بأن يحملها على النظر إلى الآيات الناصة من الآفاقية والأنفسية، والإذن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النطق بالحق وتحري الصدق والمواظبة على ذكر الله وثنائه. قال الله تعالى:{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان مسئولاً} .
4967 -
وعن جرير بن عبد الله، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. متفق عليه.
الفصل الثاني
4968 -
عن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقى)). رواه أحمد، والترمذي. [4968]
ــ
وقوله: ((لله ولكتابه)) جواب لمن سأل على سبيل التغليب أو الاستعارة المكنية، حيث أسند النطق إليه في قوله تعالى:{هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} : وقوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم} إذ كان ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. ((مح)): هذا حديث عظيم الشأن، عليه مدار الإسلام والإيمان. وأما ما قيل: إنه أحد أرباع الإسلام، أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام، فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده.
قال بعضهم فيه: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، وقالوا: النصيحة فرض كفاية إذا قام به واحد يسقط عن الباقين. والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا قام به واحد يسقط عن الباقين. والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه [تقبل] نصيحته، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. فإن خشي أذى فهو في سعة. والله أعلم.
الحديث الحادي والعشرون عن جرير: قوله: ((على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة)). ((مح)): إنما اقتصر على الصلاة والزكاة؛ لكونهما أم العبادات المالية والبدنية، وهما أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأظهرهما. قوله:((والنصح لكل مسلم)). ((مح)): روي أن جريراً رضي الله عنه اشترى له فرس بثلثمائة درهم، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال: فرسك خير من ذلك، أتبيعه بخمسمائة؟ ثم لم يزل يزيده مائة فمائة حتى بلغ ثمانمائة، فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الصادق المصدوق)). ((مظ)): الصادق من صدق في قوله وتحراه بفعله. والمصدوق من صدقه غيره. وقوله: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقى))؛ لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقى، فمن لا يرزق الرقة شقى.
4969 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). رواه أبو داود. والترمذي. [4969]
4970 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4970]
4971 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكرم شاب شيخا من أجل سنة إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه)). رواه الترمذي. [4971]
ــ
الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((ارحموا من في الأرض)) أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير. ((مظ)): اختلف في المراد من قوله ((من في السماء)) فقيل: هو الله سبحانه وتعالى، أي ارحموا من في الأرض شفقة يرحمكم الله تعالى فضلا. وتقدير الكلام: يرحمكم من في السماء ملكه وقدرته، وإنما نسب إلى السماء لأنها أوسع وأعظم من الأرض، أو لعلوها وارتفاعها، أو لأنها قبلة الدعاء ومكان الأرواح القدسية الطاهرة. وقيل: المراد منه الملائكة، أي تحفظكم الملائكة من الأعداء والمؤذيات بأمر الله تعالى ويستغفروا لكم ويطلبوا لكم الرحمة من الله الكريم.
أقول: ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: يرحمكم الله بأمره للملائكة أن تحفظكم. قال الله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله} أي جماعات من الله من الملائكة تتعقب في حفظه وكلائته، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله، أو يحفظونه من أجل أمر الله. أو من أجل أن الله أمرهم بحفظه، أو يحفظونه من بأس الله ونقمته، إذا [أذنب] بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب.
الحديث الثالث والرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا قيض الله)). ((نه)): أي سبب الله له وقدر له. قوله:: ((من أجل سنه)) أي لا لأجل أمر آخر: فإن الشيخوخة في نفسها
4972 -
وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط)). رواه أبو داواد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4972]
4973 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)). رواه ابن ماجه.
4974 -
وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مسح رأس يتيم لم
ــ
مكروهة، وما يكرمها من يكرمها إلا لأمر آخر، وهو كونها وقاراً من الله، كما ورد: كان إبراهيم أول الناس رأي الشيب، فقال: يا رب! ما هذا؟ قال الرب: وقار، قال: رب زدني وقارا! فإذا لا يكون إكرامها إلا الله تعالى، فمن أكرم لله تعالى وقاره لابد أن يجازيه بمثله بأن يقدر له عمرا يبلغ به إلى الشيخوخة، ويقدر له من يكرمه، يدل على هذا الحصر في الحديث. والله أعلم.
الحديث الخامس عن أبي موسى: قوله: ((إن من إجلال الله)) أي من جملة تعظيم الله تعالى وتوقيره أن يكرم موضع وقاره وهو شيبة المسلم؛ ولهذا السر قال الخليل: زدني وقارا! قال تعالى: {وتعزروه وتوقروه} . ((حس)): قال طاوس: من السنة أن توقر أربعة: العالم وذا الشيبة والسلطان والوالد.
قوله: ((غير الغالي فيه)). ((نه)): إنما قال: ((غير الغالي فيه والجافي عنه))؛ لأن من أخلاقه صلوات الله عليه وآدابه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوساطها. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ومنه الحديث:((اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه)) أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته. يريد لا تغلوا في القرآن بأن تبذلوا جهدكم في قرائته وتجويده من غير تفكر وتدبر، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو:((لم يفقه من القرآن في أقل من ثلاثة)) أو ((لا تجفوا عنه)) بأن تتركوا قراءته وتشتغلوا بتأويله وتفسيره.
الحديث السادس والسابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((من مسح رأس يتيم)) هو
يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) وقرن بين أصبعيه. رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4974]
4975 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آوى يتيماً إلى طعامه وشرابه أوجب الله له الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر. ومن عال ثلاث بنات أو مثلهن من الأخوات فأدبهن ورحمهن حتى يغنيهن الله أوجب الله له الجنة)).
ــ
كناية عن الشفقة والتلطف إليه. ولما لم تكن الكناية منافية لإرادة الحقيقة لإمكان الجمع بينهما، كما تقول: فلان طويل النجاد، وتريد طول قامته مع طول علاقة سيفه، رتب عليه قوله:((بكل شعرة تمر عليها يده)) وهذا عام في كل يتيم، سواء كان عنده أو لم يكن. وأما إذا كان عنده وهو كافله فيجب عليه أن يربيه تربية أولاده، ولا يقصر في الشفقة عليه والتلطف به، ويؤدبه أحسن تأديب ويعلمه أحسن تعليم. ويراعي غبطته في ماله وتزويجه وتزوجه. وهو المراد من قوله:((ومن أحسن إلى يتيمة)) وقدم اليتيمة؛ لأنها أحوج.
وقوله: ((لم يمسحه)) حال من فاعل ((مسح)) أي يمسحه والحال أنه لا يمسحه إلا الله تعالى. وقوله: ((في الجنة)) خبر ((كان)) فيجب أن يقدر متعلقة خاصاً يوافق قوله: ((كهاتين)) أي مقارنين في الجنة اقتراناً مثل هاتين الإصبعين. ويجوز أن يكون ((كهاتين)) حالا من الضمير المستقر في الخبر. وأن يكون هو الخبر وفي الجنة ظرفاً لـ ((كنت)).
الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((من آوى يتيماً إلى طعامه)) أي يضمه إليه ويطعمه. ((نه)): في حديث البيعة: أنه قال للأنصار: ((أبايعكم على أن تأووني وتنصروني)) أي تضموني إليكم وتحفظوني بينكم، يقال: آوى وأوى بمعنى واحد. والمقصور منهما لازم ومتعد. قوله: ((ذنبا لا يغفر)). المراد منه الشرك؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} . ((ومن عال)) أي تعهد وكفي مئونة ثلاث بنات. قال في أساس البلاغة: يقال: هذا يتيم عائل ليس له عائل أي فقير ليس له من يمونه.
((مح)): قوله: ((أو اثنتين)) عطف على قوله: ((ثلاث بنات)) عطف تلقين، أي: قل: أو اثنتين؛ ولذلك وافقه صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أو اثنتين))، كما عطف إبراهيم عليه السلام قوله:{ومن ذرتي} على الكاف في قوله تعالى: {إني جاعلك} وفي قولك لصحابك: وزيدا، إذا
فقال رجل: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: ((أو اثنتين)). حتى لو قالوا: أو واحدة؟ لقال: واحدة ((ومن أذهب الله بكريمتيه وجبت له الجنة)). قيل: يا رسول الله! وما كريمتاه؟ قال: ((عيناه)). رواه في ((شرح السنة)). [4975]
4976 -
وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وناصح الراوي ليس عند أصحاب الحديث بالقوى. [4976]
4977 -
وعن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقال الترمذي: هذا عندي حديث مرسل. [4977]
ــ
قال: سأكرمك، وحتى غاية الموافقة، أي لم يزل يوافقه في التنزل حتى لو قال: أو واحدة لوافقه. قوله: ((بكريمتيه))، ((نه)): يريد عينيه أي جارحتيه الكريمتين عليه. وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك.
الحديث التاسع والعاشر عن أيوب رضي الله عنه: قوله: ((من نحل أفضل)) ((نه)): النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. يقال: نحله ينحله نحلا بالضم والنحلة بالكسر العطية. انتهى كلامه. جعل الأدب الحسن من جنس المال والعطيات مبالغة، كما جعل الله تعالى القلب السليم من جنس المال والبنين في قوله:{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} .
قوله: ((هذا عندي حديث مرسل)) يدل على اختلاف فيه. وذلك أن قوله: ((عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده)) موهم بالاتصال والإرسال؛ فإن قوله: ((جده))، يحتمل أن يكون جد أيوب- وهو عمرو- فيكون مرسلا، وأن يكون جد أبيه موسى وهو سعيد صحابي فيكون متصلا. قال البيهقي: روى البخاري الحديث في تاريخه، وقال: إنه لم يصح سماع جد أيوب، فوافق الترمذي البخاري، وقال: هذا عندي حديث مرسل. وفي جامع الأصول إشعار بأنه متصل حيث روى عن سعيد بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4978 -
وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)). وأوما يزيد بن ذريع إلى الوسطى والسبابة ((امرأة آمت من زوجها، ذات منصب وجمال، حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)). رواه أبو داود. [4978]
4979 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها- يعني الذكور- أدخله الله الجنة)) رواه أبو داود [4979]
4980 -
وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يقدر على نصره فنصره؛ نصره لله في الدنيا والآخرة. فإن لم ينصره وهو يقدر على نصره؛ أدركه الله به في الدنيا والآخرة)). رواه في ((شرح السنة)). [4980]
ــ
الحديث الحادي عشر عن عوف رضي الله عنه: قوله: ((سعفاء الخدين)). ((قض)): أي متغيرة لون الخدين؛ لما يكابدها من المشقة والضنك. وسفعة الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة. وهي في الأصل سواد مشرب حمرة. وقوله: ((امرأة آمت)) .. إلخ بدل يجري مجرى البيان والتفسير، وآمت المرأة أيمة وأيوما: إذا صارت بلا زوج، وقوله:((حتى بانوا)) أي استقلوا بأمرهم وانفصلوا عنها. انتهى كلامه. والتنكير في ((امرأة)) للتعظيم. وقوله: ((سفعاء الخدين)) نصب أو رفع على المدح. وهو معترض بين المبتدأ والخبر. كقوله: ((إن بني نهشل لا ندعى لأب))، ومن ثم حسن إبدال ((امرأة آمت)) من قوله:((امرأة سفعاء الخدين)).
الحديث الثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((له أنثى)) في وضع ((الأنثى)) موضع ((النبت)) تحقيراً لشأنها، كما في وضع الولد مكان الابن تعظيماً له إيذان بمخالفة عظيمة لهوى النفس وإيثار رضي الله تعالى على رضاه، ولذلك رتب عليه دخول الجنة. وهو من باب الإدماج، كقوله تعالى:{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} حيث وضع موضع ((الوالد)) ((المولود له))؛ ليشعر بأن الولد للوالد وإليه نسب. والأم كالوعاء له. وقوله: ((فلم يئدها)) هو من الوأد وهو دفن البنات حيا.
الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أدركه الله)) أي خذله لمقابلته النص،
4981 -
وعن أسماء بنت زيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذب عن لحم أخيه بالمغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4981]
4982 -
وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة)). ثم تلا هذه الآية: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} . رواه في ((شرح السنة)).
4983 -
وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من امرئ مسلم يخذل أمراً مسلماً في موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في موطن
ــ
وخذلانه أن يدركه بسخطه. والضمير في ((به)) راجع إلى عدم النصر عند القدرة. والباء للسببية.
الحديث الرابع عشر عن أسماء: قوله: ((عن لحم أخيه)) هو كناية عن الغيبة لاستعمال التنزيل فيها، كأنه قيل: من ذب عن غيبة أخيه في غيبته، وعلى هذا ((بالمغيبة)) ظرف، ويجوز أن يكون حالا. وفي هذه الكناية من المبالغة أنه جعل كأكل لحم الإنسان ولم يقتصر، بل جعلها كأكل لحم أخيه؛ لأنه أشد نفاراً من لحم الأجانب. وزاد في المبالغة حيث جعل الأخ ميتا.
الحديث الخامس عشر عن أبي الدرداء: قوله: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} استشهاد لقوله: ((إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه)) والضمير في ((عنه)) راجع إلى المسلم الذاب عن عرض أخيه. أتى بالعام فيدخل فيه من سيق له الكلام دخولاً أولياً، كما في قوله تعالى:{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنه الله على الكافرين} وهو أبلغ من لو قيل عليهم لموقف الكناية، وفيه أن مفهوم المسلم والمؤمن واحد، كما في قوله تعالى:{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} .
الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ينتهك)) الجوهري: انتهك عرضه أي بالغ في شتمه. ويقال أيضاً: نهكته الحمى إذا جهدته ونقصت لحمه.
يحب فيه نصرته وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)). رواه أبو داود. [4983]
4984 -
وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأي عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)). رواه أحمد، والترمذي وصححه. [4984]
4985 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم مرآة
ــ
الحديث السابع عشر عن عقبة: قوله: ((عورة)) أي خللا من هتك ستر أو وقع في عرض ونحوهما؛ لأن الناس يختل حالهم عندها، ومنها أعور الفارس وأعور المكان ((مظ)): يعني من رأي شيئاً قبيحا أو عيبا في مسلم فستره عليه، كان ثوابه كثواب من أحيا موءودة، أي من رأي حيا مدفوناً في قبره، فأخرج ذلك المدفون من القبر كيلا يموت ووجه تشبيه الستر على عيوب الناس بإحياء الموءودة، أن من انتهك ستره يكون من الخجالة كميت، ويحب الموت منها. فإذا ستر أحد على غيبه، فقد دفع عنه الجحالة التي هي عنده بمنزلة الموت.
أقول: يمكن أن يقال: إن وجه التشبيه الأمر العظيم، يعني من ستر على مسلم فقد ارتكب أمراً عظيماً كمن أحيا موءودة؛ فإنه أمر عظيم فيدل على فخامة تلك الشنعاء، نحو قوله تعالى:{ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} الكشاف: فيه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأن المعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل جميع الناس عظم ذلك عليه فثبطه. وكذلك الذي أراد إحياءها، انتهى كلامه. فكذلك من أراد أن يستر عيب مؤمن وعرضه، إذا تصور أنه أحيا الموءودة عظم عنده ستر عورة المؤمن، فيتحرى فيه ويبذل جهده.
الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن أحدكم مرآة أخيه)). قيل: أي المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه، كالمرآة المجلوة التي تحكي كل ما ارتسم فيها من الصور
إخيه، فإن رأي به أذى فليمط عنه)). رواه الترمذي وضعفه. وفي رواية له ولأي داود:((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)). [4985]
4986 -
وعن معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حمى مؤمنا من منافق بعث اله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. من رمى مسلماً بشيء يريد به شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)). رواه أبو داود. [4986]
4987 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) .. رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4987]
ــ
ولو كان أدنى شيء، فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه، يستشف من وراء أقواله وأفعاله وأحواله تعريفات وتلويحات من الله الكريم، فأي وقت ظهر من أحد المؤمنين المجتمعين في عقد الأخوة عيب قادح في أخوته نافروه؛ لأن ذلك يظهر بظهور النفس، وظهور النفس من تضييع حق الوقت، فعلموا منه خروجه بذلك من دائرة الجمعية وعقد الأخوة فنافروه ليعود إلى دائرة الجمعية. قال رويم: لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا هلكوا. وهذه إشارة منه إلى حسن تفقد بعضهم أحوال البعض إشفاقاً من ظهور النفس. يقول: إذا اصطلحوا ورفعوا النافر بينهم، يخاف أن يخامر البواطن المساهلة والمراءاة ومسامحة البعض في إهمال دقيق آدابهم، وبذلك تظهر النفوس وتستولي وتصدأ مرآة القلب فلا يرى فيها من الخلل والعيب.
قال عمر رضي الله عنه في مجلس فيه المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين، مرتين أو ثلاثاً؟ فلم يجيبوا. قال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح. قال عمرو رضي الله عنه: أنتم إذاً أنتم. هكذا في كتاب العوارف.
قوله: ((ضيعته))، ((نه)): في الحديث: ((إن أخاف على [الأعناب] الضيعة)) أي إنها تضيع
4988 -
وعن ابن مسعود، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت؛ فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت؛ فقد أسأت. رواه ابن ماجه. [4988]
4989 -
وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أنزلوا الناس منازلهم)). رواه أبو بكر داود. [4989]
الفصل الثالث
4990 -
عن عبد الرحمن بن أبي قراد، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((ما يحملكم على هذا؟)) قالوا: حب الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله
ــ
وتتلف. والضيعة في الأصل المرة من الضياع. ((مظ)): يعني ليدفع عنه ما فيه ضرر عليه. ((ويحوطه))، أي يحفظه في غيبته ويدفع عنه من يغتابه ويلحقه ضررا.
الحديث التاسع عشر إلى الحادي والعشرين عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((كيف لي؟)) أي كيف يحصل لي العلم بإحساني إذا صدر مني؟.
الحديث الثاني والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أنزلوا الناس منازلهم)) قيل: أي مقاماتهم المعينة المعلومة لهم. قال الله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} فلكل أحد مرتبة ومنزلة لا يتخطاها إلى غيرها. فالوضيع لا يكون في منزل الشرف، فاحفظوا على كل أحد مزلته، ولا تسووا بين الخادم والمخدوم والسائد والمسود، وأكرموا كلا على حسب فضله وشرفه. وقد قال الله تعالى:{ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} والله الموفق للصواب.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((من سره أن يحب الله)) يريد أن ادعاءكم محبة الله ومحبة رسوله لا يتم ولا يستتب بمسح الوضوء فقط، بل بالصدق في المقال وبأداء الأمانة والإحسان إلى الجار.
ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا ائتمن، وليحسن جوار من جاوره. [4990]
4991 -
وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4991]
4992 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال:((هي في النار)). قال يا رسول الله! فإن فلانة تذكر قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإن تصدق بالأثوار من الإقط، ولا تؤذي بلسانها جيرانها. قال:((هي في الجنة)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)).
4993 -
وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على ناس جلوس فقال: ((ألا أخبركم بخيركم من شركم؟)) قال: فسكتوا فقال ذلك ثلاث مرات فقال رجل: بلى يا رسول الله! أخبرنا بخيرنا من شرنا فقال: ((خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره،
ــ
الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ليس المؤمن)) التعريف فيه للجنس، أي ليس المؤمن الذي عرفته أنه مؤمن كامل بالذي يشبع.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تذكر)) على بناء المفعول مسند إلى ضمير ((فلانة)). و ((من)) في ((من كثرة صلاتها)) لابتداء الغاية، أي تذكر من أجل هذه. والقرينة الثانية ليس فيها ((من)) فالفعل مسند إلى ضمير ((فلانة)) و ((قلة)) نصب على نزع الخافض. و ((غير أنها)) منصوب على أنه استثناء منقطع بمعنى لكن، و ((الأثوار)) جمع ثور. الجوهري: الثور القطعة من الأقط.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من شركم)) حال أي أخبركم بخيركم مميزاً من شركم. ولما توهموا من معنى التميز، فتخوفوا من الفضيحة سكتوا، حتى كرر ثلاثاً،
وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان))، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [4993]
4994 -
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)). [4994]
4995 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله، قال:((المؤمن مألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) رواهما أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4995]
ــ
ثم أبرز البيان في معرض العموم لئلا يفتضحوا. قوله: ((خيركم من يرجى ..)) الخ. التقسيم العقلي يقتضي أربعة أقسام. ذكر منها قسمين ترغيباً وترهيباً، وترك القسمين الباقيين؛ إذ لا ترغيب فيهما ولا ترهيب.
الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الله يعطي الدنيا)) كالنشر لمالف قبله. وأشار بـ ((الدنيا)) إلى الأرزاق وبـ ((الدين)) إلى الأخلاق؛ ليشعر بأن الرزق الذي يقابل الخلق هو الدنيا، وليس من الدين في شيء. وأن الأخلاق الحميدة ليست غير الدين؛ قال الله تعالى:{وإنك لعلى خلق عظيم} ثم أتى بما يفضل الدين من الأعمال الخارجة والداخلة من الانقياد والتصديق. كما في حديث جبريل عليه السلام: ((أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) بعد ذكر الإسلام والإيمان. وفسرهما بما ينبئ عن الأخلاق. وخص القلب واللسان بالذكر؛ لأن مدار الإنسان عليهما، كما ورد في المثل: المرء بأصغريه. فإسلام اللسان كفه عما فيه آفاته، وهي لا تكاد تنحصر. وإسلام القلب تطهيره عن العقائد الباطلة والآراء الزائغة والأخلاق الذميمة، ثم تحليتها بما يخالفها.
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مألف)) يحتمل أن يكون مصدراً على سبيل المبالغة كرجل عدل، يعني إذا لم يألف صاحبه، ألف معه. وإذا ائتلف ائتلف، أو اسم سبيل المبالغة كرجل عدل، يعني إذا لم يألف صاحبه، ألف معه، وإذا ائتلف ائتلف، أو اسم
4996 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قضى لأحد من أمتي حاجة يريد أن يسره بها فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله، ومن سر الله أدخله الله الجنة)). [4996]
4997 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة، واحدة فيها صلاح أمره كله، وثنتان وسبعون له درجات يوم القيامة)). [4997]
4998 -
4999 - * وعنه، وعن عبد الله، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله)). روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [4998]، [4999]
ــ
مكان أي يكون مكان الألفة ومنشأها. ومنه إنشاؤها وإليه مرجعها. والتألف سبب الاعتصام بالله وبحبله. وبه يحصل الاجتماع بين المسلمين وبضده تحصل الفرقة بينهم. وهو بتوفيق الله وتأليفه. وإليه أشار تعالى بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} إلى قوله: {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} .
الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ومن سر الله)) مسرة الله تعالى مجاز عن رضاه وإيصال الخير إلى المرضى عنه. أو تمثيل شبه معامله الله تعالى معه بمعاملة من يسره بوصول ما يحبه إليه.
الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ملهوفاً))، ((نه)) هو المكروب، يقال: لهف لهفا فهو لهفان ولهف فهو ملهوف. قوله: ((واحدة فيها)) فيه أن غفران الذنوب مقدمة فتح باب رحمة الله تعالى في الدنيا والعقبى؛ ومن ثمة قدمها في قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} على قوله {ويتم نعمته عليك ويهديك} ؛ لأن التحلية بعد التخلية.