المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(20) باب الغضب والكبر - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٠

[الطيبي]

الفصل: ‌(20) باب الغضب والكبر

5102 -

وعنه، أن رجلا شتم أبا بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم. وقام، فلحقه أبو بكر، وقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت. قال:((كان معك ملك يرد عليه، فلما رددت عليه وقع الشيطان)). ثم قال: ((يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاد الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة)). رواه أحمد. [5102]

5103 -

وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يريد الله بأهل بيت رفقاً إلا نفعهم، ولا يحرمهم إياه إلا ضرهم)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5103]

(20) باب الغضب والكبر

الفصل الأول

5104 -

عن أبي هريرة، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: ((لا تغضب فرد ذلك مراراً قال: ((لا تغضب)). رواه البخاري.

ــ

إلى ما قال صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله: أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))، فقوله:((وأحسنكم أخلاقا)) كقوله: ((وحسن عمله)) في إرادة الجمع بين طول العمر وحسن الخلق والله أعلم.

باب الغضب والكبر

((غب)): الكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجاب نفسه بأن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظمه الامتناع عن قبول الحق عن الله تعالى والإذعان له بالعبادة. والاستكبار على وجهين: أحدهما: أن يتحرى الإنسان أن يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يحب فهو المحمود. والثاني: أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له فهو المذموم: لقوله تعالى: {أبى واستكبر} . والمتكبر أيضاً على وجهين: إما محمود وهو أن تكون أفعاله الحسنة كثيرة زائدة في الحقيقة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر في قوله: {العزيز الجبار

ص: 3242

5105 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) متفق عليه.

ــ

المتكبر}، ومذموم: وذلك إذا كان متكلفاً متشبعاً لذلك، وهذا وصف عامة الناس نحو قوله تعالى:{فبئس مثوى المتكبرين} .

قال الشيخ أبو حامد: الكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن، فإذا ظهر على الجوارح يقال: تكبر، وإذا لم يظهر، يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه! فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه، ليرى نفسه فوقه في صفات المال ومتكبراً به. وبه ينفصل الكبر على العجب! فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً.

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تغضب)) ((تو)): قد كان صلى الله عليه وسلم مكاشفا بأوضاع الخلق عارفا بأدواتهم يضع الهناء موضع النقب، يأمرهم بما هو أولى بهم. فلما استوصاه الرجل، وقد رآه مملوء بالقوة الغضبية لم ير له خيرا من أن يتجنب عن دواعي الغضب، ويزحزح نفسه عنه.

((قض)): لعله صلى الله عليه وسلم لما رأي أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان وتعتريه إنما تعرض له من فرط شهوته واستيلاء غضبه، والشهوة مكثروة بالنسبة إلى ما يقتضيه الغضب غير ملتفت إليها. فلما سأله الرجل أن يشير إليه بما يتوصل به إلى التجنب عن القبائح والتحرز عن مظانها، نهاه عن الغضب الداعي إلى ما هو أعظم ضرر وأكثر وزرا! فإن ارتفاع السبب يوجب ارتفاع مسبباته لا محالة. أقول: ويؤيد ما ذهب إليه القاضي الحديث الآتي.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالصرعة)) ((نه)): الصرعة: بضم الصاد وفتح الراء المبالغ في الصرع الذي لا يغلب، فنقله إلى الذي يملك نفسه عند الغضب! فإنه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه! ولذلك قال:((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)) وهذا من الألفاظ التي نقلها عن وضعها اللغوي بضرب من التوسع والمجاز، وهو من فصيح الكلام؛ لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شهوة الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته، كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه.

ص: 3243

5106 -

وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) متفق عليه. وفيه رواية لمسلم: ((كل جواظ زنيم متكبر)).

5107 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله: ((لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) رواه مسلم.

ــ

الحديث الثالث عن حارثة: قوله: ((متضعف)) ((مح)): ضبطوه بفتح العين وكسرها، و ((المشهور الفتح، ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجرءون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه. وأما على الكسر فمعناه متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر.

و ((العتل)): بضم العين والتاء الجافي الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: ((الجافي)) الفظ الغليظ و ((الجواظ)): الجموع المنوع. وقيل: كثير اللحم المختال في مشيه. وقيل القصير البطين. وقيل: ((الفاخر)) بالخاء. و ((الزنيم)): الدعي في النسب الملصق بالقوم، وليس منهم تشبيهاً له بالزنمة وهي شيء يقطع من أذن الشاة ويترك معلقا بها. وقوله:((لو أقسم على الله)) معناه: لو حلق يمينا طمعا في كرم الله تعالى بإبراره لأبره.

الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((مثقال)) هو مأخوذ من الثقل. والمراد وزن حبة، وهذا تمثيل للقلة. وفيه إشعار بأن الإيمان قابل للزيادة والنقصان، وله شعب كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:((الإيمان بضع وسبعون شعبة)). قوله: ((ولا يدخل الجنة)) ((خط)): للحديث تأويلان: أحدهما: أن يراد بالكبر الكفر والشرك. ألا ترى أنه قد قابله في نقيضه بالإيمان؟ وثانيهما: أن الله تعالى إذا أراد أن يدخله الجنة، نزع ما كان في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر ولا غل في قلبه. وقوله: لا يدخل النار)) يعني به دخول تأبيد وتخليد.

أقول: الوجه الأول من باب المقابلة المعنوية وهو من أنفسها وأغربها؛ فإنه بالإيمان أشار إلى أن الكبر من صفات الكافرين المتمردين، فيجب أن يجتنب عنه، وبالكبر لمح إلى أن التواضع من سمات المؤمنين المحسنين، فينبغي أن يرغب فيه وهو الوجه؛ لأن القصد الأولى في سياق الكلام وإيراده إلى معنى الوصفين في الترغيب في أحدهما والتنفير عن الآخر لا إلى حكم الموصوفين، وإن لزمه تبعا، ومن الأسلوب قوله تعالى:{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} .

ص: 3244

5108 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال: ((إن الله تعالى جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم.

5109 -

وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم)). وفي رواية: ((ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) رواه مسلم.

ــ

الكشاف: فإن قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا راد لما يريده منهما ولا مزيل لما يصيبه منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الأخير: ليدل بذلك على ما ترك. وهو فن عجيب وأسلوب غريب.

الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الرجل يجب)) لما رأي الرجل العادة في المتكبرين لبس الثياب الفاخرة وجر الإزار، وغير ذلك مما يتعاطونه، سأل ما سأل. ((نه)):((بطر الحق)) هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيد وعبادته باطلا. وقيل: هو أن يتحير عند الحق فلا يراه حقا من توحيده وعبادته باطلا. وقيل: هو أن يتحير عند الحق فلا يراه حقا. وقيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله. ((تو)): وتفسيره على الباطل أشبه؛ لما ورد في غير هذه الرواية: ((إنما ذلك من سفه الحق وغمط الناس، أي رأي الحق سفها)).

أقول: والمقام أيضاً يقتضيه؛ لأن تحرير الجواب إن كان أخذ الرجل الزينة لأجل أن يرى الله تعالى نعمته عليه، وأن يعظم شعائره؛ لقوله تعالى:{أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشا} أي زينة، وقوله:{خذوا زينتكم عند كل مسجد} فهو جمال والله جميل يحب أن يرى أثر نعمه على عبده. وإن كان للبطر والأشر المؤدي إلى تسفيه الحق والصد عن سبيل الله وإلى تحقير الناس، فهو اختيال وافتخار، والله لا يحب كل مختال فخور. ولمثل هذا البطر نهى الله تعالى المؤمنين في قوله:{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} .

الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يكلمهم الله)) سبق بيان هذه الألفاظ في باب المساهلة في المعاملة. قوله: ((شيخ زان)) يعني الزنا قبيح ومن الشيخ أقبح، والكذب سمج ومن الملك أسمج، والتكبر مذموم ومن الفقير أذم.

ص: 3245

5110 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)). وفي رواية ((قذفته في النار)). رواه مسلم.

ــ

الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الكبرياء ردائي)). ((نه)): الكبرياء العظمة والملك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى وهو من الكبر- بالكسر- وهو العظمة. ويقال: كبر- بالضم- يكبر أي عظم فهو كبير، انتهى كلامه. قيل: إن الكبرياء والكبر والعظمة ألفاظ مترادفة متحدة المعنى، ولم يتعرض معظمهم للفرق، ولابد من الفرق؛ إذ الأصل عدم الترادف.

قال الإمام فخر الدين الرازي: جعل الله الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الأزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع وسواء عرف هذه الصفة أحد أم لا. وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره. وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية إضافية، والذاتي أعلى من الإضافي.

أقول: الأصل في الكبرياء والعظمة ما قاله أئمة اللغة، ثم استعمل في الحديث على حسب أهل العرف والعادة؛ يقال: فلان متكبر إذا أنزل نفسه فوق منزلتها فلا ينقاد لأحد، وفلان له عظمة إذا كثر ما يتعلق به من الخدم والحشم. ويقال: ركب الأمير في عظمته، أي في كثير من حواشيه وأجناده، فإذا التكبر صفة ذاتية والعظمة إضافية. فالله تعالى إذا وصف بالتكبر يكون معناه الترفع عن أن ينقاد لأحد لا المعنى الأول؛ لأنه تعالى إذا وصف بصفة وتكون تلك الصفة مختصة بالأجسام، تكون محمولة على نهايات أغراضها لا على بداياتها. وإذا وصف بالعظمة يكون ذا ملك عظيم، كما قال تعالى:{رب العرش العظيم} .

ثم إنه سبحانه وتعالى شبه صفة الكبرياء بالرداء، والرداء ما يلبس الرجل رأسه وكتفيه، وهذه الأعضاء مختصة بالترفع والتكبر والظهور، فناسب الرداء. وشبه صفة العظمة بالإزار، والإزار ما يلبس الرجل من وسطه إلى قدميه. وهذه الأعضاء مختصة بالنزول والانحطاط والخفاء، فناسب الإزار. ومعنى الاختصاص في قوله:((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)) من وجهين: أحدهما: أنه من التشبيه كما أن رداء الرجل وإزاره مختصان به لا يشاركه فيهما غيره، كذلك الكبرياء والعظمة مختصان بالله تعالى لا يوصف بهما غيره. وثانيهما: تعريف المسند إليه باللام والمسند بالإضافة يدل على القصر، كما إذا قلت: المنطلق زيد أو زيد المنطلق، يدل على انحصار الانطلاق في زيد.

ص: 3246

الفصل الثاني

5111 -

عن سلمة بن الأكوع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم)) رواه الترمذي. [5111]

5112 -

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)). رواه الترمذي [5112]

ــ

ومن ثمة فرع على التشبيه قوله: ((نازعني)) دلالة على أن ذلك ليس من حقه، ثم عقبه بالوعيد وحقر شأنه بلفظ القذف أي يقذف به قذف الحجارة والمدر في النار والسقر. وقد عرفت مما قيل أن الكبر هو الإعراض عن الحق وتحقير الناس. فالتواضع هو الإذعان للحق وتوقير الناس، وهو المعنى بقوله:((التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله)) فالمعنى: من تكبر على الله وعلى الخلق ابتلاه الله تعالى في الدنيا بالذل والهوان، وفي الآخرة بقذفه في أقصى دركات النيران. ومن تواضع لله مع الخلق رفعه الله درجته في الدنيا والآخرة، فالحديث إذن من جوامع الكلم وكنوز الحكم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم على قائله.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن سلمة رضي الله عنه: قوله: ((يذهب بنفسه)) ((مظ)): الباء يحتمل أن تكون للتعدية، أي يرفع نفسه ويبعدها عن الناس في المرتبة، ويعتقدها عظيمة القدر.

وللمصاحبة أي يرافق نفسه ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة. وفي أساس البلاغة: يقال: ذهب به: مربه مع نفسه، ومن المجاز ذهبت به الخيلاء.

الحديث الثاني عن عمرو: قوله: ((أمثال الذر)). ((نه)): الذر النمل الأحمر الصغير واحتها ذرة. وقيل: الذرة يراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة. ((تو)): يحمل ذلك على المجاز دون الحقيقة أي أذلاء مهانين يطأهم الناس بأرجلهم. وإنما منعنا عن القول بظاهره ما أخبرنا به الصادق المصدقون صلى الله عليه وسلم: ((إن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء، حتى أنهم يحشرون غرلا، يعاد منهم ما انفصل عنهم من القلفة))، وإلى هذا المعنى أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:((يغشاهم الذل من كل مكان)).

ص: 3247

5113 -

وعن عطية بن عروة السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)). رواه أبو داود. [5113]

5114 -

وعن أبي ذر [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غضب

ــ

((شف)): إنما قال: ((في صور الرجال)) بعد قوله: ((أمثال الذر)) قطعا منه حمل قوله: ((أمثال الذر)) على الحقيقة؛ والتعيينات لجريه على المجاز؛ ودفعا لوهم من يتوهم أن المتكبر لا يحشر في صورة الإنسان؛ وتحقيقاً لإعادة الأجساد المعدومة على ما كانت عليه من الأجزاء. ((مظ)): يعني صورهم صور الإنسان وجثتهم كجثة الذر في الصغر.

أقول: لفظ الحديث يساعد هذا؛ لأن قوله: ((أمثال الذر)) تشبيه لهم بالذر ولابد من بيان وجه التشبيه؛ لأنه يحتمل أن يكون وجه التشبيه الصغر في الجثة، وأن يكون الحقارة والصغار. فقوله:((في صور الرجال)) بيان لوجه ودفع وهم من يتوهم خلافه. وأما قوله: ((إن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء)) فليس فيه أنه لا تعاد تلك الأجزاء الأصلية في مثل الذر؛ لأن الله تعالى قادر عليه. وفيه الخلاف المشهور بين الأصوليين. وعلى هذا الحقارة ملزوم هذا التركيب، فلا ينافي إرادة الجثة مع الحقارة.

قوله: ((بولس)). ((نه)): هكذا جاء في الحديث مسمى.

قوله: ((نار الأنيار)). ((قض)): لم أجده مشروحاً ولكن هكذا يروى، فإن صحت الرواية فيحتمل أن يكون معناه نار النيران، فجمع ((نار)) على ((أنيار))، وأصلها أنوار؛ لأنها من الواو، كما جاء في ريح وعيد: أرياح وأعياد، وهما من الواو. والله أعلم.

((قض)): وإضافة النار إليها للمبالغة، كأن هذه النار لإفراط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران ما تفعل النار بغيرها. و ((طينة الخبال)) سبق شرحها في باب حد الخمر.

الحديث الثالث عن عطية: قوله: ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) أراد أن يقول: إذا غضب أحدكم فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن الغضب من الشيطان، فصور حالة الغضب ومنشأه ثم الإرشاد إلى تسكينه، فأخرج الكلام هذا المخرج ليكون أجمع وأنفع وللموانع أزجر وأردع. وهذا التصوير لا يمنع من أجرائه على الحقيقة؛ لأنه من باب الكناية.

الحديث الرابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وإلا فليضطجع)). ((حس)): إنما أمره

ص: 3248

أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) رواه أحمد، والترمذي. [5114]

5115 -

وعن أسماء بنت عميس، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس العبد عبد تخيل واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى، ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سهى ولهى، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتى وطغى، ونسى المبتدأ والمتنهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين. بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله،

ــ

بالقعود والاضطجاع لئلا يحصل منه في حال غضبه ما يندم عليه؛ فإن المضطجع أبعد من الحركة والبطش من القاعدة، والقاعدة من القائم.

أقول: لعله أراد به التواضع والخفض؛ لأن الغضب منشأه التكبر والترفع.

الحديث الخامس عن أسماء رضي الله عنها: قوله: ((تخيل واختال)) ((تو)): أي تخيل له أنه خير من غيره. ((واختال)) أي تكبر. ((نه)): الكبير: العظيم ذو الكبرياء. وقيل: المتعالي عن صفات الخلق. وقيل: المتكبر على عتاة خلقه و ((المتعالي)) الذي جل عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل: جل عن كل وصف وثناء وهو متفاعل من العلو، وقد يكون بمعنى العالي. ((مظ)):((سهى)) أي في أمور الدين و ((لهى)) أي اشتغل بغيرها مما لا يعنيه. ((نه)): ((العتو)): التجبر والتكبر. و ((طغى)): جاوز القدر في الشر، قوله:((ونسى المبتدأ والمنتهى:. ((شف)): أي نسى ابتداء خلقه، وهو كونه نطفة، وانتهاء حاله الذي يؤول إليه، وهو صيرورته تراباً، أي من كان ذلك ابتداؤه ويكون انتهاؤه هذا، جدير بأن يطيع الله تعالى في وسط الحالين وهو صار عليه في الأحوال الثلاث التي هي المبتدأ والمنتهى والوسط، ولا يعتو ولا يطغى عليه.

قوله: ((يختل الدنيا)) ((نه)): أي يطلب الدنيا بعمل الآخرة. يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه، وختل الذئب الصيد إذا تخفي له. ((مح)): ختل الصائد إذا مشى للصيد قليلاً قليلا لئلا يحس به. شبه فعل من يرى ورعا وديناً ليتوسل به إلى المطالب الدنيوية بختل الذئب للصائد. قوله: ((عبد طمع يقوده)) ((شف)): كأنه من كثرة الطمع والهوى اللازمين للعبد وشدة اتصالهما به أطلق نفس الطمع والهوى عليه وإن كانا قائمين به. وتقديره: ذو طمع يقوده، وذو هوى يضله، ويمكن أن يجعل قوله:((طمع)) فاعل ((يقوده)) و ((هوى)) فاعل ((يضله)) مقدمين على فعلهما على مذهب الكوفيين. قال الشاعر:

ص: 3249

بئس العبد عبد رغب يذله)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقالا: ليس إسناده بالقوي، وقال الترمذي أيضاً: هذا حديث غريب. [5115]

الفصل الثالث

5116 -

عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: ((ما تجرع عبد أفضل عند الله عز وجل من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى)). رواه أحمد. [5116]

ــ

صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم

ي قلما يدوم وصال على طول الصدود.

أقول الوجه الثاني أقرب من الأول لما يلزم منه وصف الوصف؛ لأن قوله: ((يقوده)) على هذا صفة ((طمع)) وهو صفة ((عبد)). والأشبه أن يكون ((طمع)) مبتدأ و ((يقوده)) خبره، أي طمع عظيم يقوده نحو: شر أهر ذا ناب، والجملة صفة ((عبد)).

قوله: ((رغب يذله)) ((نه)): أي الشره والحرص على الدنيا. وقيل: سعة الأمل وطلب الكثير. ((قض)): وإضافة ((العبد)) إليه للإهانة، كقولهم: عبد البطن؛ ولأن مجامع همته واجتهاده مقصور عليه وعائد إليه.

أقول: والظاهر أنه مرفوع مبتدأ وما بعده خبره، والجملة صفة ((عبد)) كما في القرينتين الأولتين؛ وليوافق قوله:((يختل الدنيا بالدين)) وقوله: ((يختل الدين بالشبهات)) إذ هو متعين للوصفية لا غير.

قوله: ((ليس إسناده بالقوي)). ((تو)): روى الترمذي بإسناد له عن هاشم بن سعيد الكوفي، وقد ذكره ابن أبي عدي في كتابه. وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يكظمها))، في أساس البلاغة: كظم القرابة ملأها وشد رأسها. وكظم الباب شده، ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ. انتهى كلامه. يريد أنه استعارة من ((كظم القربة)). وقوله:((من جرعة غيظ)) استعارة أخرى كالترشيح.

ص: 3250

5117 -

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} قال: الصبر عند الغضب، والعفو عن الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم قريب. رواه البخاري تعليقاً.

5118 -

وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب ليفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل)). [5118]

5119 -

وعن عمر، قال وهو على المنبر: يأيها الناس! تواضعوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير، وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير)). [5119]

ــ

الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((العفو عند الإساءة)) هذا التفسير على أن يكون ((لا)) في قوله: {ولا السيئة} مزيدة، المعنى لا تستوي الحسنة والسيئة. فعلى هذا يراد ((بالتي هي أحسن)) بالتي هي أحسن، فوضع ((الأحسن)) موضع ((الحسنة)) ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة. وإذا لم يجعل ((لا)) مزيدة يكون المعنى: أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها. إذا اعترضتك حسنات فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثاله: رجال أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك. مثل أن يذمك فتمدحه؛ فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك.

الحديث الثالث والربع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فهو في نفسه صغير)) الفاء فيه جزاء شرط محذوف، يعني من تواضع لله هضم حقه من نفسه فجعل نفسه دون منزلته. وهو المراد من قوله:((فهو في نفسه صغير)) ثم إن الله تعالى يرفعه من تلك المنزلة التي هي حقه إلى ما هي أرفع منها ويعظمه عند الناس بعكسه في القرينة الأخرى. ((حس)): قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل إذا تواضع. رفع الله حكمته. وقال: انتعش نعشك الله، فهو في

ص: 3251

5120 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى بن عمران عليه السلام: يا رب! من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر)). [5120]

5121 -

وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من خزن لسانه ستر الله عورته، ومن كف غضبه كف الله عنه عذابه يوم القيامة، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)). [5121]

5122 -

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات؛ فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضى والسخط، والقصد في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن)). روى البيهقي الأحاديث الخمسة في ((شعب الإيمان)). [5122]

ــ

نفسه صغير، وفي أعين الناس كبير. وإذا بطر وعدا طوره وهضه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ أخسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس صغير، حتى يكون أهون على الله من الخنزير.

الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من خزن لسانه)) أي من ستر عيوب الناس وكتمها ستر الله عورته، قال في أساس البلاغة: خزن المال في الخزانة أحرزه، ومن المجاز: اخزن لسانك وسرك؛ قال امرؤ القيس:

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه فليس على شيء سواه بخازن

الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وهي أشدهن)) لأن المعجب بنفسه متبع هواه، ومن هوى النفس: الشح المطاع. قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه} حيث أضاف الشح إلى النفس.

ص: 3252