الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب الرفق والحياء وحسن الخلق
الفصل الأول
5068 -
عن عائشة [رضي الله عنها] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)). رواه مسلم. وفي رواية له: قال لعائشة: ((عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
ــ
باب الرفق والحياء وحسن الخلق
الفصل الأول
الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن الله رفيق)) ((قض)): الرفق ضد العنف وهو اللطف وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها. ومعنى ((إن الله تعالى رفيق)) أنه لطيف بعباده يردي بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، والظاهر أنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى اسما؛ لأنه لم يتواتر ولم يستعمل هاهنا أيضاً على قصد الاسمية. وإنما أخبر به عنه تمهيداً للحكم الذي بعده، وكأنه قال: إن الله يرفق بعباده في أمورهم فيعطيهم بالرفق ما لا يعطيهم على ما سواه. وإنما ذكر قوله: ((وما لا يعطي على ما سواه)) بعد قوله: ((ما لا يعطي على العنف)) ليدل على أن الرفق أنجح الأسباب كلها وأنفعها بأسرها، انتهى كلامه وفي معناه قول الشاعر:
يا طالب الرزق الهني بقوة هيهات أنت بباطل مشغوف
أكل العقاب بقوة جيف الفلا ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
المعنى: لا ينبغي للمرء أن يحرص في رزقه، بل يكله إلى الله تعالى الذي تولى القسمة في خلقه؛ فالنسر يأكل الجيفة بعنفه، والنحل يرعى الشهد برفقه.
((تو)): فإن قيل: فما معنى قوله: ((أنت الرفيق والله الطبيب))؟ قلت: الطبيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يرد بهذا القول نفي هذا الاسم عمن يتعاطى ذلك، وإنما حول المعنى من الطبيعة إلى الشريعة، وبين لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله، والمنان به على عباده، وهذا كقوله:((فإن الله هو الدهر)) وليس الطبيب بموجود في أسماء الله سبحانه ولا رفيق فلا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب! ولا يا رفيق!.
((مح)): قال المازري: لا يوصف الله سبحانه إلا بما سمى نفسه أو سماه به رسوله
5069 -
وعن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من يحرم الرفق يحرم الخير)) رواه مسلم.
5070 -
وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((دعه فإن الحياء من الإيمان)) متفق عليه.
5071 -
وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)). وفي رواية: ((الحياء خير كله)) متفق عليه.
ــ
صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة عليه. وأما ما لم يرد إذن في إطلاقه ولا ورد منع فيه، ففيه خلاف: منه من قال يبقى على ما كان قبل ورود الشرع فلا يوصف به ولا يمنع منه، ومنهم من منعه.
وبين الأصوليين خلاف في تسمية الله تعالى بما يثبت بخبر الآحاد، فقال بعضهم: يجوز؛ لأن خبر الواحد عنه يقتضي العمل به. وبعضهم لا يجوز ذلك؛ لأنه من باب العلميات، فلا يثبت بالأقيسة، وإن كانت يعمل بها في المسائل الفقهية العملية. قال الشيخ محيي الدين: والصحيح جواز تسمية الله تعالى رفيقاً وغيره مما يثبت بخبر الواحد. وفيه فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف، وأن الرفق سبب كل خير.
أقول: قوله: ((يكون)) يحتمل أن تكون تامة، و ((في شيء)) متعلق به، وأن تكون ناقصة، و ((في شيء)) خبره، والاستثناء مفرغ من أعم عام وصف الشيء أي لا يكون الرفق مستقر في شيء يتصف بوصف من الأوصاف إلا بصفة الزينة. والشيء عام في الأعراض والذوات.
الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعظ أخاه)) أي ينذره. ((غب)): الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. انتهى كلامه. والوعظ هاهنا بمعنى العتاب؛ لما جاء في شرح السنة: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنه ليستحيي، يعني كأنه يقول: قد أضربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه! فإن الحياء من الإيمان)). ((مح)): يعظه في الحياء، أي ينهاه عنه ويقبح له فعله ويزجره عن كثرته فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أي دعه على فعل الحياء وكف عن نهيه. ووقع لفظة ((دعه)) في البخاري، ولم تقع في مسلم.
الحديث الرابع عن عمران: قوله: ((لا يأتي إلا بخير)) أي لا يعتري الإنسان إلا بخير. والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم. ((مح)) قد يشكل على بعض
5072 -
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.
ــ
الناس في هذا الحديث من حيث أن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق من يجله ويعظمه، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة.
والجواب ما أجاب به جماعة من العلماء، منهم شيخ أبو عمرو بن الصلاح: أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز، وجوزوا تسميته حياء بحسب اللغة، وإنما حقيقة الحياء عن اصطلاح أهل الشرع: خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. يدل عليه ما روى الإمام أبو القاسم القشيري عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رحمهما الله تعالى قال: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
قال القاضي عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان؛ لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، وهذا هو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم:((الحياء من الإيمان)).
أقول: ويمكن أن يحمل التعريف فيه على العهد، ويكون إشارة إلى ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:((الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى البطن وما حوى)) الحديث.
الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن مما أدرك الناس)) ((من)) في ((مما)) ابتدائية، وهو خبر ((إن)) واسمه قوله:((إذا لم تستحي)) على تأويل أن هذا القول حاصل مما أدرك الناس، والراجع إلى ((ما)) محذوف، و ((الناس)) فاعل ((أدرك)) وعليه كلام الشيخ التوربشتي، حيث قال المعنى أن مما بقى بين الناس فأدركوه من كلام الأنبياء. ويجوز أن يكون فاعل ((أدرك)) ضميراً راجعاً إلى ((ما)) و ((الناس)) مفعوله، وعليه كلام القاضي: أي مما بلغ الناس من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع عن اقتراف القبائح، والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل. وقوله:((إذا لم تستحي)) الجملة الشرطية اسم ((إن)) على الحكاية.
قوله: ((من كلام النبوة الأولى)) ((خط)): معناه: اتفاق كلام الأنبياء عليهم السلام على استحسان الحياء، فما من نبي إلا وقد ندب إليه وبعث عليه، ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، ولم يبدل منها؛ وذلك أنه أمر قد علم صوابه، وبان فضله، واتفقت العقول على حسنه. وما كان هذا صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل، وقيد النبوة بـ ((الأولى)) للإرشاد إلى اتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام على استحسانه من أولهم إلى آخرهم.
قوله: ((فاصنع ما شئت)) ((حس)): فيه أقاويل: أحدها: أن معناه الخبر، وإن كان لفظه
5073 -
وعن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم. فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم.
ــ
لفظ الأمر، كأنه يقوله: إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت مما تدعوك إليه نفسك من القبيح، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد. وثانيها: أن معناه الوعيد، كقوله تعالى:{اعملوا ما شئتم} أي اصنع ما شئت فإن الله مجازيك، وإليه ذهب أبو العباس. وثالثها: معناه: أن تنظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ذلك مما لا يستحيي منه فافعله، وإن كان مما تستحيي منه فلا تفعله. وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي.
وروى هذا الحديث جرير عن منصور بإسناده، ثم قال جرير: معناه: أن يريد الرجل أن يفعل الخير فيدعه حياء من الناس، كأنه يخاف مذهب الرياء يقول: فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت. قال أبو عبيد: هو شبيه بالحديث الآخر: ((إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائى: فزدها طولا)).
أقول: قدر مر في الحديث السابق عن الشيخ محيي الدين النواوي: أن قانون الشرع في معنى الحياء يحتاج إلى اكتساب ونية، فينبغي أن يحمل الحديث على هذا المعنى. فالقانون فيه أنك إذا أردت أمراً أو اكتسبت فعلاً، وأنت بين الإقدام والإحجام فيه، فانظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ذلك مما لا يستحيي فيه من الله تعالى ولا من رسله وأنبيائه قديماً وحديثاً فافعله، ولا تبال من الخلق، وإن استحيت من الخلق. وإن كان مما يستحيي فيه من الله تعالى ومنهم فدعه، وإن لم يستحيي من الخلق فيه؛ ومن ثم صرح صلى الله عليه وسلم بقوله:((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)) فدخل الحديث إذاً في جملة جوامع الكلم التي استأثر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
الحديث السادس إلى الثامن عن النواس: قوله: ((البر حسن الخلق)). قيل: فسر البر في الحديث بمعان شتى: ففسره في موضع بما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، وفسره في موضع بالإيمان، وفي موضع بما يقربك إلى أن تعالى، وهنا بحسن الخلق وفسر حسن الخلق باحتمال الأذى وقلة الغضب وبسط الوجه وطيب الكلام، وكلها متقاربة في المعنى.
((تو)): حاك أثر من الحيك وهو أخذ القول في القلب، يقال: ما تحيك فيه الملامة إذا لم تؤثر فيه، تريد أن الإثم ما كان في القلب منه شيء فلا ينشرح له الصدر، والأقرب أن ذلك أمر يتهيأ لمن شرح الله صدره للإسلام دون عموم المكلفين، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد:((وإن أفتاك المفتون)).
5074 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً)) رواه البخاري.
5075 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) متفق عليه.
الفصل الثاني
5076 -
عن عائشة، [رضي الله عنها] قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أعطى حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة)) رواه في ((شرح السنة)) [5076]
5077 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة. والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) رواه أحمد، والترمذي. [5077]
ــ
أقول: مراعاة المطابقة تقتضي أن يفسر حسن الخلق بما يقابل ما حاك في الصدر، وهو قوله:((ما اطمأنت إليه النفس والقلب)) كما في حديث وابصة، فوضع موضعه حسن الخلق ليؤذن أن حسن لخلق هو ما اطمأنت إليه النفوس الشريفة الطاهرة من أوضار الذنوب ومساوئ الأخلاق المتحلية بمكارم الأخلاق، من الصدق في المقال واللطف في الأحوال والأفعال، وحسن معاملته مع الرحمن، ومعاشرته مع الإخوان وصلة الرحم والسخاء والشجاعة.
الفصل الثاني
الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((والإيمان في الجنة)) جعل أهل الإيمان عين الإيمان دلالة على أنهم تمحضوا منه وتمكنوا من بعض شعبه الذي هو أعلى فرع منه، كما جعل الإيمان مقرا ومبوأ لأهله في قوله تعالى:{والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} لتمكنهم من الإيمان واستقامتهم عليه.
5078 -
وعن أبي رجل من مزينة، قال: قالوا: يا رسول الله! ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: ((الخلق الحسن)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5078]
5079 -
وفي ((شرح السنة)) عن أسامة بن شريك [5089]
5080 -
وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري)) قال: والجواظ: الغليظ الفظ رواه أبو داود في ((سننه)). والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وصاحب ((جامع الأصول)) فيه عن حارثة وكذا في ((شرح السنة)) عنه، ولفظه: قال: ((لا يدخل الجنة الجواظ والجعظري)) يقال: الجعظري: الفظ الغليظ. [5080]
وفي نسخ ((المصابيح)) عن عكرمة بن وهب ولفظه قال: الجواظ: الذي جمع ومنع. والجعظري: الغليظ الفظ.
ــ
الحديث الثالث إلى الخامس عن حارثة رضي الله عنه: قوله: ((الجواظ الغليظ اللفظ)) كذا في سنن أبي داود والبيهقي. وفي ((نه)) و ((تو)) و ((قض)): الجواظ المختال من جاظ جوظا إذا اختال. وقيل: الجموع الممنوع من جاظ إذا جمع ومنع. وقيل: هو السمين. وقيل: الصياح المهذار. والجعظري: الفظ الغليظ. وقيل القصير المنتفخ بما ليس عنده. وقيل: العظيم الجسيم الأكول، والمانع لمن شأنه هذا أن يدخل الجنة حيثما يدخلها الآخرون عجبهم وسوء خلقهم وشرههم على الطعام، وإفراطهم في الكلام.
قوله: ((وفي نسخ المصابيح عن عكرمة بن وهب ولفظه: ((قال: والجواظ: الذي جمع ومنع)) أشار المؤلف بهذا أن راوي الحديث في الأصول المذكورة هو حارثة بن وهب، وهو صحابي، وفي نسخ المصابيح عن عكرمة بن وهب. وقد قال الشيخ التوربشتي: لم يذكره أحد في الصحابة، فالحديث مرسل حينئذ، وكذا قوله:((الذي جمع ومنع)) ليس في الأصول، وقد أثبت في حواشي المصابيح فألحق بالمتن. وكذا قوله:((الغليظ الفظ)) في المصابيح تفسير للجعفري، وفي الأصول تفسير للجواظ. وحارثة بن وهب الخزاعي أخو عبد الله بن عمرو بن الخطاب لأمه، وعداده في الكوفيين، روى عنه هذا الحديث معبد بن خالد الجهني.
5081 -
وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروى أبو داود الفصل الأول. [5081]
5082 -
وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار)) رواه أبو داود. [5082]
5083 -
وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أحمد، والترمذي والدارمي. [5083]
ــ
الحديث السادس عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((البذيء)) في الغريبين: رجل بذيء أي فاحش سيء الخلق وقد بذأ يبذأ بذاءة. انتهى كلامه. أوقع قوله: ((وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) مقابلا لقوله: ((إن أثقل شيء يوضع في الميزان)) دلالة على أن أخف ما يوضع في الميزان هو سوء الخلق، وأن حسن الخلق أحب الأشياء عند الله تعالى، والخلق السيئ أبغضها، وأن الفحش والبذاءة أسوأ شيء في مساوئ الأخلاق.
الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بحسن خلقه)) قال الحسن: حسن الخلق بسط الوجه، وبذلك الندى وكف الأذى. وقال الواسطي: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال أيضاً: هو إرضاء الخلق في السراء والضراء. وقال سهل: أدنى حسن الخلق، الاحتمال وترك المكافأة، والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه.
الحديث الثامن عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) قيل: يعلم منه أن العبد لا يستغني في حال من الأحوال عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثار تلك السيئات. فسماع الملاهي يكفر بسماع القرآن وبمجالس الذكر، وشرب الخمر يكفر بالتصدق بكل شراب حلال. وعلى هذا قفس؛ لأن المرض يعالج بضده والمتضادات هي المتناسبات! فلذلك ينبغي أن يمحو كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها، فالبياض يزال
5084 -
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار وبمن تحرم النار عليه! على كل هين لين قريب سهل)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. [5084]
5085 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [5085]
ــ
بالسواد لا بغيره، وحب الدنيا أثر السرور بها في القلب، فلا جرم كفارته كل أذى يصيب المسلم من الهم والغم.
الحديث التاسع عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((على كل هين لين)) هذا جواب عن السؤالين، والجواب الظاهر عنهما: كل هين لين، ثم في الدرجة الثانية أن يقال عن الأول: يحرم على النار كل هين لين، وعلى الثاني: تحرم النار على كل هين لين. فأتى بجواب موجز يدل عليهما بالتفصيل، ولو أتى به كما يقتضيه الظاهر وهو قوله:((كل هين لين)) لم يدل على التفصيل.
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((غر)) ((نه)): أي ليس بذي مكر فهو ينخذع لانقياده ولينه وهو ضد الخب. يقال: فتى غر وفتاة وقد غررت تغر غرارة، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه. وليس ذلك منه جهلا ولكنه كرم وحسن خلق. انتهى كلامه. قال الفرزدق:
واستمطروا من قريش كل منخدع إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وقيل: هم الذين لم يجربوا الأمور فهم قليلوا الشر منقادون! فإن من آثر الخمول وإصلاح نفسه والتزود لمعاده ونبذ أمور الدنيا، فليس غراً فيما قصده ولا مذموماً بنوع من الذم، والأول هو الوجه لما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم:((المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)) لأن المؤمن قد ينخدع تارة في مقام اللين والعطف مع الأحباب وقد لا ينخدع مع الأغيار.
وروى: أن ابن عمر رضي الله عنهما كلما صلى عبد له أعتقه. فقيل له فقال: من خادعنا بالله ننخدع. ولفظ الحديث أيضا يساعده: لأنه صلى الله عليه وسلم لما وصفه بالغرر أي الوصف غير كامل، فكمله بقوله:((كريم))! لئلا يتوهم فيه ذلك نقصا، و ((الخب)) - بالفتح- الخداع، وهو الجريز الذي يسعى بين الناس بالفساد. يقال: رجل خب وامرأته خبة، وقد تكسر خاؤه. وأما المصدر فبالكسر لا غير.
5086 -
وعن مكحول، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ)). رواه الترمذي مرسلاً [5086]
5087 -
وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5087]
ــ
الحديث الحادي عشر عن مكحول رضي الله عنه: قوله: ((هينون لينون)). ((نه)): هما تخفيف الهين واللين. قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بـ ((الهين واللين)) مخففين وتذم بهما مثقلين. وهين فيعل من الهون، وهو السكينة والوقار والسهولة، فعينة واو، وشيء هين أي سهل.
وقوله: ((كالجمل الآنف)) أي المأنوف، وهو الذي عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذي به. وقيل: الآنف الذلول، يقال: أنف البعير يأنف أنفا فهو آنف إذا اشتكى أنفه من الخشاش. والخشاش بالكسر خشب يدخل في أنف البعير. وكان الأصل أن يقال: مأنوف! لأنه مفعول به، كما يقال: مصدور ومبطون للذي يشتكي صدره وبطنه، وإنما جاء هذا شاذاً ويروي:((كالجمل الآنف)) بالمد وهو بمعناه.
((فا)): والمحذوفة من يائي ((هين ولين)) الأولى، وقيل: الثانية. والكاف مرفوعة المحل على أنها خبر ثالث، والمعنى أن كل واحد منهم كالجمل الآنف ويجوز أن ينتصب محلها على أنها صفة لمصدر محذوف، تقديره: لينون لينا مثل لين الجمل الآنف.
((حس)): معنى الحديث أن المؤمن شديد الانقياد للشارع في أوامره ونواهيه. وفي قوله: ((وإن أنيخ على صخرة استناخ)) إيذان بكثرة تحمل المشاق؛ لأن الإناخة على الصخرة شاقة. أقول: أشار إلى أنه من باب التتميم كقول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان
فإن النار الشاعلة إذا لم يتصل بها دخان، كانت أشد تقوياً، ولعمري هذا غاية في التواضع وخفض الجناح المعنى بقوله تعالى:{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} والذلة في قوله: {أذلة على المؤمنين}
الحديث الثاني عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أفضل من الذي لا يخالطهم))
5088 -
وعن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كظم غيظاً
ــ
قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: اختلفوا في المخالطة والعزلة وتفضيل إحداهما على الأخرى: فقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والأحوال: للتألف والتحبب إلى المؤمنين، والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى. روى عن علي رضي الله عنه قال: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع إلى قول أهل النار:{فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم} وهذا الحديث أدل شيء على استحباب المخالطة.
وما أكثر العباد والزهاد إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة: قال عمر رضي الله عنه: خذوا بحظكم من العزلة. وقال فضيل: كفي بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظا، اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا. وأوصى داود الطائي أبا الربيع فقال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد. وقال وهب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت، والعاشرة في عزلة الناس. ودخل على حاتم الأصم بعض الأمراء فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم! قال: ما هي؟ قال: أن لا تراني وقال ابن عباس: أفضل المجالس مجلس في قعر بيتك لا ترى ولا ترى، وأنشد
شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره:
إن مدحت الخمول نبهت أقواما نياما يضايقوني إليه
هو قد دلني على لذة العيش فما لي أدل غيري عليه
وقال أيضاً:
خمولك يرفع عنك الأذى فكن قانعا أبدا بالخمول
فكم من علي في ذري شاهق من الغر يرحم عند النزول
وقال أيضا:
من أخمل النفس أحياها وأنعشها ولم يتب قط من أمر على خطر
إن الرياح إذا هاجت عواصفها فليس يرمي سوى العالي من الشجر
وقيل: آداب العزلة أربعة: أن ينوي بها كف شره أولا، ثم السلامة من الشر ثانيا، ثم الخلاص من الإخلال بالحقوق ثالثا، ثم التجرد بكنه الهمة للعبادة رابعاً.
الحديث الثالث عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((كظم)) ((نه)): كظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه. انتهى كلامه. وإنما حمد الكظم لأنه قهر للنفس الأمارة بالسوء!
وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء)). رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5088]
5089 -
وفي رواية لأبي داود، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه، قال:((ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)). [5089]
وذكر حديث سويد: ((من ترك لبس ثوب جمال)) في ((كتاب اللباس)).
الفصل الثالث
5090 -
عن زيد بن طلحه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء)). رواه مالك مرسلاً. [5090]
5091 -
و 5092 - * ورواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن أنس، وابن عباس. [5091]، [5092]
5093 -
وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)). [5093]
ــ
ولذلك مدحهم الله تعالى بقوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ومن نهى النفس عن هواه فإن الجنة مثواه، والحور العين جزاءه، والمعني بقوله:((على رءوس الخلائق)) أنه يشتهر بين الناس ويباهي به، ويقال في حقه: هذا الذي صدرت منه هذه الخصلة العظيمة.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل دين خلقاً))، ((نه)): الخلق: الدين والطبع والسجية. انتهى كلامه. والمعنى أن الغالب على أهل كل دين سجية سوى الحياء، والغالب على أهل ديننا الحياء! لأنه متمم لمكارم الأخلاق، وإنما بعث صلى الله عليه وسلم لإتمامها. وقال يوماً لأصحابه:((استحيوا من الله حق الحياء)) الحديث.
الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قرناء)) فيه دليل لمن يقول: إن أقل
5094 -
وفي رواية ابن عباس: ((فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5094]
5095 -
وعن معاذ، قال: كان آخر ما وصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: ((يا معاذ! أحسن خلقك للناس)). رواه مالك. [5095]
5096 -
وعن مالك، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) رواه في ((الموطأ)). [5096]
5097 -
ورواه أحمد عن أبي هريرة [5097]
ــ
الجمع اثنان. وفيه رائحة من التجريد! حيث جرد من الإيمان شعبة منه، وجعلها قرينا له على سبيل الاستعارة، كأنهما رضيعا لبان ثدي أم تقاسما أن لا يتفرقا.
الحديث الثالث عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((في الغرز)) ((نه)): الغرز: ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب. وقيل: هو الكور مطلقاً مثل الركاب للسرج، انتهى كلامه. قوله:((أن قال)) خبر ((كان)) و ((حين وضعت)) ظرف. قاله حين بعثه إلى اليمن للقضاء وصاه ليجامل الناس بحسن الخلق.
الحديث الرابع عن مالك: قوله: ((بلغه)) هذا يحتمل أن يكون متصلا، وراوي مالك لم يذكر الاتصال وأن يكون مرسلا، وإن لم يذكر مالك التابعي ولا الصحابي. وقيل: إنه منقطع. وقوله: ((لأتمم حسن الأخلاق)) يحتمل أن يراد به أنه كملها بعد النقصان، وأنه جمعها بعد التفرقة، وعليه قوله تعالى:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه} .
قال الإمام فخر الدين: الآية دالة على فضله صلوات الله عليه على سائر الأنبياء! لأنه تعالى أمره بالاقتداء بهم، ولابد من امتثاله لذلك الأمر، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وأخلاقهم المتفرقة، وإلى المعنى الأول أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ترك منه موضع لبنة)) إلى قوله: ((فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، حتم بين البنيان)).
5098 -
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة قال: ((الحمد لله الذي حسن خلقي وخلقي، وزان مني ما شان من غيري)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [5098]
5099 -
وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم حسنت خلقي فأحسن خلقي)). رواه أحمد. [5099]
5100 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخياركم؟)) قالوا: بلى قال: ((خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أخلاقاً)) رواه أحمد. [5100]
5101 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)). رواه أبو داود، والدارمي. [5101]
ــ
الحديث الخامس عن جعفر رضي الله عنه: قوله: ((وزان مني ما شان من غيري)) فيه معنى قوله: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) فجعل النقصان شيئاً! كما قال أبو الطيب:
ولم أر من عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام
وعلى نحو هذا الحمد حمد داود وسليمان عليهما السلام في قوله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} وفيه استحباب النظر في المرآة، والحمد على حسن الخلقة والخلق؛ لأنهما نعمتان موهوبتان من الله تعالى، يجب الشكر عليهما.
الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فأحسن خلقي)) يحتمل أن يراد به طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه بإكمال دينه. قال تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وفيه إشارة إلى قول عائشة رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) وأن يكون قد طلب المزيد والثبات على ما كان.
الحديث السابع إلى العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أطولكم أعماراً)) إشارة