الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]
ٍ] وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ تَقْلِيدُ الْآخَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، لَكِنَّ الَّذِي صَرَفَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ أَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَنَشْرِ الدَّيْنِ وَإِعْلَامِهِ فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَفْرِيعِ الْفُرُوعِ وَتَدْوِينِهَا، وَلَا انْتَشَرَ لَهُمْ مَذَاهِبُ يُعْرَفُ آحَادُهُمْ بِهَا، كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. .
وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لَهُمْ فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالِ لِلشَّافِعِيِّ، ثَالِثُهَا: يَجُوزُ إنْ انْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُخَالَفْ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ أَفْرَدَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": إنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا لَمْ يَجِبْ تَقْلِيدُهُمْ، هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُقَلِّدُهُمْ. وَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ جَازَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ، وَإِنْ حَرَّمْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ إذَا قَالَ قَوْلًا وَانْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُخَالَفْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُقَلِّدُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ. وَقَالَ: وَرَجَعَ فِي الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ صَحَابِيًّا كَمَا لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ عَالِمًا آخَرَ. نَقَلَ الْمُزَنِيّ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الْفَتْوَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. انْتَهَى.
وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى إفْرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَهَا فَرْعًا لِمَا قَبْلَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالْآمِدِيُّ. وَيُوَافِقُهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ قَوْلَيْنِ فِي الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ قَوْلًا وَلَمْ يَنْتَشِرْ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ تَقْلِيدَهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ. و (الثَّانِي) : أَنَّ لَهُ مُخَالَفَتَهُ وَالنَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ. وَأَعْرَضَ ابْنُ الْحَاجِبِ
عَنْ إفْرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا عَيْنُ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّقْلِيدَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحُجَّةِ فَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ "، فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُشَاوِرِ: وَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ. هَذَا نَصُّهُ. فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ قَوْلِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّقْلِيدِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْجَوْرِيِّ: إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ بِمُفْرَدِهِ إذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الصَّحَابِيُّ إمَامًا، وَأَغْرَبَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فَحَكَى ذَلِكَ عَنْ الْجَدِيدِ وَقَدْ سَبَقَ. ثُمَّ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ مُعَارِضٌ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ. وَقَوْلُهُ: " قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ " نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَالرَّبِيعُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ " فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفَ فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا أَيْضًا فِي الْجَدِيدِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ مَجَازًا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَمَا سَبَقَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ الْقِيَاسَ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ. وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ فِي شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ. قُلْنَا لَهُ: فِي مَسْأَلَةِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَقْوَالٌ، فَلَعَلَّ هَذَا مَرْجُوعٌ عَنْهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّا
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنُ خَيْرَانَ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى فِي امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ اعْتَمَدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، أَوْ لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عُثْمَانُ، وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِرُ غَالِبًا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتَى. وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ وَالْحُكْمُ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ مَرَّةً: الْحُكْمُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِهِ أَشَدُّ وَالْمَشُورَةَ فِيهِ أَبْلَغُ. وَقَالَ مَرَّةً: الْفَتْوَى أَوْلَى، لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ يُحْمَلُ عَلَى الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ. وَعَزَا هَذَا الِاخْتِلَافُ لِلْقَدِيمِ وَجَعَلَهُ مَرْجُوعًا عَنْهُ. وَفِيهِ مِنْ النَّظَرِ مَا سَلَفَ نَصُّهُ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ. تَنْبِيهٌ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ ذَكَرَ الْمِنْهَاجُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ فِي أَصْلِ مَسْأَلَةِ الْحُجِّيَّةِ لَيْسَ بِغَلَطٍ، كَمَا زَعَمَ شُرَّاحُهُ، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ. .