الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]
ُ قَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ، فِي الْمُنَاسِبِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ أَوْ أَلْغَاهُ، وَالْكَلَامُ فِيمَا جَهِلَ، أَيْ سَكَتَ الشَّرْعُ عَنْ اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب " الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ". وَيُلَقَّبُ ب " الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ ". وَلِهَذَا سُمِّيَتْ " مُرْسَلَةً " أَيْ لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمْ تُلْغَ. وَأَطْلَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهِ اسْمَ " الِاسْتِدْلَالِ "، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيَّ فِي " الْكَافِي " ب " الِاسْتِصْلَاحِ ". قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْخَلْقِ. وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنْ يُوجَدَ مَعْنَى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ مُنَاسِبٌ لَهُ عَقْلًا، وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ الْمُصَوَّرُ جَارٍ فِيهِ. وَفَسَّرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " بِأَنْ لَا يَسْتَنِدَ إلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ. وَفِيهِ مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَصْحَابِ. الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله، قَالَ الْإِمَامُ
فِي الْبُرْهَانِ ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهِ حَتَّى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنِدًا، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": إنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ أَيْضًا فِي التَّحْرِيرِ " عَلَى الْإِمَامِ وَقَالَ: أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ، لَا مِنْ نَقْلِ النَّاقِلِينَ.
وَكَذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ: وَقَدْ اجْتَرَأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ مَالِكٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ.
وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْ الْقُرْطُبِيِّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ قَدْ حَمَلَ كَلَامَ مَالِكٍ عَلَى مَا يَصِحُّ. وَسَيَأْتِي. وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ، الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى غَيْرِهِمَا. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّهُمْ يَعْقِدُونَ وَيَقُومُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذَلِكَ. قَالَ: وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَدْ عَمِلَ فِي كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ " أُمُورًا وَحَرَّرَهَا وَأَفْتَى بِهَا، وَالْمَالِكِيَّةُ بَعِيدُونَ عَنْهَا، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَقَالَهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ " مَعَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَدِيدَا الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ. قُلْت: وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الرَّجُلَيْنِ. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّ فِي جَنَّةِ النَّاظِرِ ": لَا تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكٍ فِي الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَقْرَأَ مَوَارِدَ الشَّرْعِ وَمَصَادِرَهُ أَفْضَى نَظَرُهُ إلَى الْعِلْمِ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا وَأَنْ لَا مَصْلَحَةَ.
إلَّا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي جِنْسِهَا، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلَّ مَصْلَحَةٍ صَادَمَهَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قَالَ: وَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ إذْ لَا أَخُصُّ مِنْهَا إلَّا الْأَخْذَ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِأَصْلٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِرْسَالِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ مَذْهَبًا، فَبَانَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْمُرْسَلَةِ الَّتِي قَالَ بِهَا مَالِكٌ، إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ. وَإِلَّا فَلَا. وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْوَطْءُ سَبَبُ الشَّغْلِ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ. فَلَيْسَ لِهَذَا الْأَصْلِ جُزْئِيٌّ، وَإِنَّمَا أَصْلُهُ كُلِّيٌّ مُهْدَرٌ، وَهُوَ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى اعْتِمَادِ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ مُلَائِمَتِهِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ نَقْلِ ابْنِ بَرْهَانٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْخُوَارِزْمِيِّ فِي " الْكَافِي ": إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَتَعْلِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِهَا. لَكِنْ إذَا قَيَّدْنَاهُ بِهَذَا انْسَلَخَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ التَّقْرِيبَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ، وَفَسَّرَهُ بِالْمُلَاءَمَةِ كَانَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، فَيَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْمُعْتَبَرِ، وَبِهِ يَخْرُجُ عَنْ الْإِرْسَالِ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": لَا يَظُنُّ بِمَالِكٍ - عَلَى جَلَالَتِهِ - أَنْ يُرْسِلَ النَّفْسَ عَلَى سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا، فَيَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أُصُولِ الشَّرْعِ بِحَالٍ، لَا عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا عَلَى جُزْئِيٍّ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ سَمِعُوا أَنَّهُ بَنَى الْأَحْكَامَ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُطْلَقَةِ فَأَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فِي بَابِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ: وَلَا نَرَى التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْخِلَافِ: مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْوَفْقِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ الْمُلَائِمَةُ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ تَزْكِيَةِ الْبَيِّنَةِ بِالشُّهُودِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ التُّهْمَةِ، فَهَذَا يَرُدُّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَا أَقَامَ عَلَى صِحَّتِهِ بَيِّنَةً غَيْرَ دَعْوَاهُ، فَلَا يَتَوَقَّعُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَلَا بَيِّنَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّلَ الْمُلَائِمَةَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى فِي صِدْقِ الْوَصْفِ، وَجَعَلَ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْوَفْقِ كَالِاسْتِظْهَارِ، فَلَمْ يَضُرَّهُ فَوَاتُهُ فِي أَصْلِ الِاعْتِبَارِ. وَالرَّابِعُ: اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرُهُمَا تَخْصِيصَ الِاعْتِبَارِ بِمَا إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ. وَالْمُرَادُ ب " الضَّرُورِيَّةِ " مَا يَكُونُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي يَجْزِمُ بِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا وَ " الْكُلِّيَّةِ " لِفَائِدَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ احْتِرَازًا عَنْ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَنْ أَجَازَ لِلْمُسَافِرِ إذَا أَعْجَلَهُ السَّفَرُ أَنْ يَدْفَعَ التِّبْرَ لِدَارِ الضَّرْبِ وَيَنْظُرُ مِقْدَارَ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ فَيَأْخُذُ بِقَدْرِهِ بَعْدَ طَرْحِ الْمَئُونَةِ، فَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لِضَرُورَةِ الِانْقِطَاعِ مِنْ الرُّفْقَةِ لَكِنَّهَا جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِاسْتِجْمَاعِهِ الشَّرَائِطَ بِمَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ، وَهِيَ مَا إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا مِنْ دُونِ جَرِيمَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ: هَذَا الْأَسِيرُ مَقْتُولٌ بِكُلِّ حَالٍّ، لِأَنَّا لَوْ كَفَفْنَا عَنْ التُّرْسِ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى أَيْضًا، فَحِفْظُ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ
الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا
الْتِفَاتًا عَلَى مَصْلَحَةِ عِلْمٍ بِالضَّرُورَةِ
كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً. فَخَرَجَ بِ " الْكُلِّيَّةِ " مَا إذَا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةِ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ. وَبِ " الْقَطْعِيَّةِ " مَا إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَلَّطُونَ عِنْدَ عَدَمِ رَمْيِ التُّرْسِ، وَبِ " الضَّرُورِيَّةِ " مَا إذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ، فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَخْذِ الْقَلْعَةِ.
وَهَذَا مِنْ الْغَزَالِيِّ تَصْرِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ حَكَوْا فِي مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ يُؤَوَّلُ إلَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَاطَ فِي الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحَ رَآهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَفَاءً بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوْ نَحْوًا مِنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي اعْتِبَارِهَا. وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تَصْوِيرٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً وَلَا شَرْعًا: أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، إذْ هُوَ غَيْبٌ عَنْهَا. وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةُ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوٌّ عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتِهَا قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهِ بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا
تَحَامُلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا، بَلْ الْمُسْتَحِيلَةَ لِلرِّيَاضَةِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وَصُورَةُ الْغَزَالِيِّ إنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ، لَا جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَسْت أُنْكِرُ عَلَى مَنْ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِيهَا. وَتَحْقِيقَهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ شَدِيدٍ رُبَّمَا خَرَجَ عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ. وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةَ بِسَبَبِ الْهَجْوِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَهَذَا نَحْوُ النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً قَالَ: وَقَدْ شَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي؟ قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ، وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عَنْ الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا، وَكُلُّ هَذِهِ مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ فِي أَذَى الْمُسْلِمِينَ.
تَنْبِيهٌ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ عِنْدَنَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فَذَاكَ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا قِيَاسٌ، فَإِنْ عَارَضَهَا خَرَجَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ قَوْلَانِ، مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ ": تُنَجِّسُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَمْ تُنَجِّسْهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ
الْأَصْلَحُ
لِلنَّاسِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الْقِرَاضِ مِنْ السِّلْسِلَةِ ": إذَا تَاجَرَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ اشْتَرَى بِغَيْرِ الْمَالِ وَرَبِحَ فَوَجْهَانِ:(أَحَدُهُمَا) : أَنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ بَاطِلَةٌ. و (الثَّانِي) : أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إجَازَةِ الْعُقُودِ وَبَيْنَ فَسْخِهَا. (قَالَ) : وَالْقِيَاسُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ،
وَالْمَصْلَحَةُ
مَعَ الثَّانِي.