المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[الِاسْتِحْسَانُ] ُ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذِكْرِهِ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٨

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا]

- ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

- ‌[الِاسْتِقْرَاءُ]

- ‌[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]

- ‌[الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ]

- ‌[شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ]

- ‌[دَلَالَةُ السِّيَاقِ]

- ‌[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]

- ‌[سَدُّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[الِاسْتِحْسَانُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ]

- ‌[دَلَالَة الْإِلْهَام]

- ‌[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ]

- ‌[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

- ‌[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]

- ‌[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]

- ‌[التَّقْلِيدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى]

- ‌[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ]

- ‌[خَاتِمَة الْكتاب]

الفصل: ‌ ‌[الِاسْتِحْسَانُ] ُ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذِكْرِهِ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ

[الِاسْتِحْسَانُ]

ُ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذِكْرِهِ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعَقْلِيَّ لَا مَجَالَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَالِاسْتِحْسَانُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ؟ وَهُوَ لُغَةً: اعْتِمَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا، سَوَاءٌ كَانَ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يُنَبِّئُ عَنْ انْتِحَالِ مَذْهَبٍ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هُوَ الدِّينُ سَوَاءٌ اسْتَحْسَنَهُ نَفْسُهُ أَمْ لَا. وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ مَا حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، وَنَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ:" مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ ". وَهِيَ مِنْ مَحَاسِنِ كَلَامِهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْصِبَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ شَرْعِ الْمُصْطَفَى.

ص: 95

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَنْ شَرَّعَ فَقَدْ كَفَرَ. وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ لِوُضُوحِهَا. قَالَ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": مُرَادُهُ لَوْ جَازَ الِاسْتِحْسَانُ بِالرَّأْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لَكَانَ هَذَا بَعْثَ شَرِيعَةٍ أُخْرَى عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ، وَعَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمِيلُ إلَيْهَا. وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانُ مَا فِي الْعَادَاتِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ جَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَجَازَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدِ لِنَفْسِهِ شَرْعًا، وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي الزَّوَايَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَرْجُمُهُ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ فِي آخَرِ " الرِّسَالَةِ ": " تَلَذُّذٌ " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى طَرِيقَةٍ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ مَا اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلٍ، فَقَالُوا بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ حَتَّى قَالُوا فِي الْجَزَاءِ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَة، وَالِاسْتِحْسَانُ: شَاةٌ، وَقَالُوا فِي الشُّهُودِ بِالزَّوَايَا: الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا. قَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَنْ بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام، حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا وَدَلَّهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الِاسْتِحْسَانَ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمِمَّنْ أَنْكَرُوا الِاسْتِحْسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الطَّحْطَاوِيُّ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ.

ص: 96

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حُرِّرَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ زَالَ التَّشْنِيعُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بَرِيءَ إلَى اللَّهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ بِلَا حُجَّةٍ. قَالَ الْفَارِضُ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ ": وَقَدْ جَرَتْ لَفْظَةُ (الِاسْتِحْسَانِ) لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي كِتَابِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ. انْتَهَى. وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ مَالِكٌ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ. قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ: الِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ الْقِيَاسِ. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ " الْمُسْتَخْرَجَةِ " نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ ". وَقَالَ الْبَاجِيُّ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ: هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَتَخْصِيصُ الرُّعَافِ دُونَ الْقَيْءِ بِالْبِنَاءِ، لِلْحَدِيثِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَرِدْ سُنَّةٌ بِالْبِنَاءِ فِي الرُّعَافِ لَكَانَ فِي حُكْمِ الْقَيْءِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ، لِأَنَّ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَتَابُعَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي الرُّخْصَةِ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِرْنَا إلَيْهِ، وَأَبْقَيْنَا الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. انْتَهَى.

ص: 97

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَمِثَالُهُ: لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ. فَقِيلَ: يُرَدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْت لِمَالِكٍ: لَمْ يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ.

وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ: بَحَثْت عَنْ مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَذْهَبِنَا فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ، كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ فِي رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الْمُصَالَحَةِ، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ، وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ، أَوْ فِي الْيَسِيرِ، كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كَمَا جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ فِي الْمُرَاطَلَةِ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْنَى لَيْسَ فِي سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا جَرْيًا مُخْلِصًا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ. ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، حَتَّى كَانَ الْقِيَاسُ غَيْرَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أَوْ الْوُقُوفَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أَوْ مِثْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ قِيَاسًا، وَاَلَّذِي قَالَ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كَمَا مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بَيْنَ وُجُوهِ

ص: 98

النَّصْبِ فَقَالُوا: هَذَا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ. ثُمَّ نَبَّهَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ.

وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ إنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ. لَكِنْ هَذَا الِاسْمُ لَا نَعْرِفُهُ اسْمًا لِمَا يُقَالُ بِهِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ لِمَعَانِيهَا فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَتَحْسِينِ الدَّلَائِلِ، فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا يُقَبَّحُ فِي الْوَهْمِ مِنْ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ بِحُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ وَنَظِيرٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ. وَقَالَ السِّنْجِيُّ: الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوْ الْعَقْلِيُّ عَلَى حُسْنِهِ، كَالْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَقِدَمِ الْمُحْدِثِ، وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَإِثْبَاتِ صِدْقِهِمْ، وَكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لِهَذَا الضَّرْبِ يَجِبُ تَحْسِينُهُ، لِأَنَّ الْحُسْنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقُبْحُ مَا قَبَّحَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ إبَاحَتُهُ، وَيَكُونُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ، وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسًا اُسْتُحْسِنَ تَرْكُهُمَا وَالْأَخْذُ بِالْعَادَاتِ، كَقَوْلِهِ فِي خَبَرِ الْمُتَبَايِعَيْنِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، فَرَدَّ الْخَبَرَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَادَةِ النَّاسِ. وَكَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الزَّوَايَا. انْتَهَى.

ص: 99

إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ: وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، كَمَا خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ مِنْ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " الْعُنْوَانِ ". قَالَ شَارِحُهُ: وَفِي حَصْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى نَظَرٌ عِنْدِي، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ: نَحْنُ نُخَالِفُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ إلَى الْقِيَاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمُخَصِّصِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إذَا كَانَ حَتْمًا، كَمَا قَالَ فِي شُهُودِ الزِّنَى: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَلَكِنْ أَحَدَّهُ اسْتِحْسَانًا.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يُخَالِفُ فِيهِ، لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ أَضْعَفِهِمَا، وَلِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا لَا قِيَاسَ أَصْلًا وَلَا خَبَرًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْنِدُونَ لِمَا يَرَوْنَهُ إلَى خَبَرٍ، كَمَصِيرِهِمْ إلَى أَنَّ النَّاسِي بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ. الْخَامِسُ: قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ، مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَائِلَ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِيهِ إلَى الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَ قِيَاسًا أَوْ نَصًّا، يَعْنِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْدِلُ عَنْ الْحُكْمِ مِنْ مَسْأَلَةٍ بِمَا يَحْكُمُ فِي نَظَائِرِهَا إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ، لِوَجْهٍ

ص: 100

يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ، كَتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَا لِي صَدَقَةٌ عَلَى الزَّكَاةِ. فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ عَامٌّ فِي التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِمْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ، فَعَدَلَ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِزَكَوِيٍّ بِمَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِدَلِيلٍ اقْتَضَى الْعُدُولَ وَهُوَ الْآيَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي اقْتَضَى إلْحَاقَهَا بِنَظَائِرِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَذْهَبُهُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ بِالْخَاصِّ عَنْ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِدَلِيلٍ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَدَقِّ الْقِيَاسَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِهِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ. وَقَدْ قَسَّمَهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ، كَمَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ. الثَّانِي: اتِّبَاعُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، كَمَا قَالُوا فِي أُجْرَةِ الْعَبْدِ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ، اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، كَالْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّ اسْتِمْرَارَهَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ.

الرَّابِعُ: اتِّبَاعُ مَعْنَى خَفِيٍّ هُوَ أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ، كَمَا فِي إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فَعْلَةً وَاحِدَةً كَأَنْ يَزْحَفُ فِيهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ وَجَبَ عِنْدَنَا، لَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُتَّبَعُ عِنْدَنَا. وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْصَارَ.

ص: 101

لَا تَتَفَاوَتُ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ فِي الْكَثْرَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. فَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَفِيُّ إذَا كَانَ أَخَصَّ فَهُوَ مُتَّبَعٌ. وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكْتَفِ بِمُوجِبِهِ حَتَّى أَتَى بِالْعَجَبِ فَقَالَ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى أَرْبَعُ زَوَايَا، كُلُّ وَاحِدٍ يَشْهَدُ عَلَى زَاوِيَةٍ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَزَحَّفُ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِهَذَا الْخَيَالِ. انْتَهَى. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الثَّالِثِ، فَقَالَ: الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ مَا اُسْتُحْسِنَ بِالْعَادَةِ وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ. وَمَثَّلَهُ بِشُهُودِ الزِّنَى. انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " أَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ قَالَ: وَلَا عَيْبَ إذَنْ فِي إطْلَاقِهِ، بَلْ الْعَيْبُ عَلَى مَنْ جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وَقَالَ بِهِ مِنْ حَيْثُ عِيبَ عَنْ قَائِلِهِ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ فِي زَمَانِ الْمُسْتَعِينِ بِاَللَّهِ، قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ، صَنَّفَ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ.

قُلْت لَهُ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَك الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِهِ؟ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ " لِلشَّافِعِيِّ، فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ، إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، وَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ. قَالَ: فَهَذِهِ حِكَايَةٌ تُنَادِي عَلَى الْخَصْمِ أَنَّهُ يَقُولُ بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ. قُلْت: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ كَمَا نَقُولُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ، فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِك بِهِ بِاسْمٍ آخَرَ. وَلَئِنْ قُلْت: لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ قُلْنَا: هُنَا يُوهِمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ، فَقُلْ: هُوَ قِيَاسٌ فِي الْمَعْنَى. وَلَهُ اسْمٌ آخَرُ فِي

ص: 102

اللَّفْظِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَقْتَصِرُ عَنْهُ عِبَارَتُهُ، فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: وَهَذَا هُوَ بَيِّنٌ، لِأَنَّ مَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَا يَدْرِي هُوَ وَهْمٌ أَوْ تَحْقِيقٌ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ: بِأَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَجْمُوعِ قَرَائِنِ الْأَقْوَالِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، لَا يَتَأَتَّى عَنْ دَلِيلِهِ عِبَارَةٌ مُطَابِقَةٌ لَهُ. ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاخْتِلَالِ بِالْعِبَارَةِ الْإِخْلَالُ بِالْمُعَبَّرِ عَنْهُ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْمَعَانِي بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لَا بِالنُّطْقِ اللَّفْظِيِّ، قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا أَشْبَهَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الِاسْتِحْسَانُ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ خَطَؤُهُ مِنْ صَوَابِهِ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " الْكَافِي ": يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، إذْ لَا شَاهِدَ لَهُ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَحَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ "، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ: إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ ".

وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّفْسِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ. قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ فِي النَّقْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفْد صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ كِتَابًا فِي الْأُمِّ " فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ مِنْ جُمْلَتِهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا رَدَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بَيْنَ الْمُتَتَابِعَيْنِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، فَتَرَكَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِهَذَا التَّخْمِينِ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزَّوَايَا: الْقِيَاسُ أَنَّهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ، لَكِنْ اسْتَحْسَنَ قَبُولَهَا.

ص: 103

وَرَجْمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي قَتْلِ مُسْلِمِينَ؟ ، وَقَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَقَاذَفَا، قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ، لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، لِأَنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدُّهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقْبَحُ مِنْهُ تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هَذَا، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلَى {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وَلَمْ يَقُلْ: إلَى الِاسْتِحْسَانِ. وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنْ الْأُصُولِ فِيهَا إلَى الِاسْتِحْسَانِ:(مِنْهَا) دُخُولُ الْوَاحِدِ إلَى الْحَمَّامِ لِيَسْتَعْمِلَ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ.

ص: 104

وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْسَانَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَخْذَ بِالْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا غَيْرُهُمَا. وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ.

ص: 105