الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ، وَالْمُخَالِفُ فِيهَا آثِمٌ مُخْطِئٌ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " شَرْحِ الْعُمَدِ ": لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٌ مُصِيبًا، بَلْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْفِقْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ، قَالَ: وَالْمُخْطِئُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ. كَذَا قَالَ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ، كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، كَمَا أَنَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ مَنْ يَقُولُ: الْعَرْضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ أَوْ بِنَفْيِ الْخَلَا وَإِثْبَاتِ الْمَلَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. .
[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]
الثَّالِثُ - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ: فَقَالَ الْأَصَمُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: إنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَأَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ، فَلِذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ فِيهَا فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، فَكَيْفَ بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَذْهَبُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا، فَالْحُجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ هَذِهِ حُجَّةً يَلْزَمُهَا بُطْلَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْهَا مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَاَلَّتِي لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَهِيَ الَّتِي أَدِلَّتُهَا قَاطِعَةٌ فِيهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا مِنْ دِينِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالْخَمْرِ، وَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ. وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَجَوَازِ بَيْعِ الْحَصَا، وَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُخْطِئُ فِي هَذِهِ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ.
وَأَمَّا الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَنَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا عُدِمَتْ فِيهَا النُّصُوصُ فِي الْفُرُوعِ، وَغَمُضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ وَيُرْجَعُ فِيهَا إلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ بِآثِمٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عِوَضِهَا امْتِحَانًا مِنْ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، لِيَتَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . وَعَلَى هَذَا يَتَأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» فَعَلَى هَذَا النَّوْعِ يُحْمَلُ هَذَا لِلَّفْظِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ خَاصًّا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؟ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي ذَلِكَ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِمْ فَنَقُولُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْجَمِيعِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادَهُ إلَى حُكْمٍ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ مُخَالَفَتُهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رحمهم الله إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا حَرَامًا، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَنَاظَرُوا فِي الْمَسَائِلِ وَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ، وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ إصَابَةَ الْحَقِّ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ. وَنَسَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ:" وَأَدَّى مَا كُلِّفَ ". فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ " أَصَابَ "، وَغَلَّطُوهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: الْحَقُّ مِنْ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَالْآخَرُ بَاطِلٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَأَكْثَرَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي " الشَّرْحِ " فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ: هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، لَا أَعْلَمُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِمَذْهَبِهِ إلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَادُّعُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فِي الْمُجْتَهِدِ:" أَدَّى مَا كُلِّفَ " فَقَالُوا: الْمُؤَدِّي مَا كُلِّفَ مُصِيبٌ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ خِلَافَ الْحَقِّ لَأَثِمَ، وَإِذَا خَالَفَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدِّي مَا كُلِّفَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَدَّى مَا كُلِّفَ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ وَضْعَ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ، وَسَلَكَ مَا وَجَبَ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَيْت فِيهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَاقْرَأْ الْبَابَ فَإِنَّك تَجِدُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ خَطَأٌ. ثُمَّ غَلَّطَ أَبُو إِسْحَاقَ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ: إذَا اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَوَجَّهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَتِهِ، وَلَوْ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَى خَلَفَ مَنْ لَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَلَهُ نَظَائِرُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ بِيَقِينٍ، هَلْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ أَمْ لَا؟ وَالْأَصَحُّ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَمَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَقُولُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ: لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ غَنِيًّا، تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ قَوْلَانِ: قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ " الْإِيضَاحِ " فِي " أُصُولِهِ " إنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَى الْحَقِّ عَلَمًا، وَجَعَلَ لَهُمْ إلَيْهِ طَرِيقًا فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ عُذِرَ بِخَطَئِهِ وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْلَةُ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ اسْتَقْصَى الْمُزَنِيّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " التَّرْغِيبِ فِي الْعِلْمِ " وَقَطَعَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلِّ مَنْ صَنَّفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ. وَابْنُ فَوْرَك وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَقَالَ: نُقِضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْبَصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِجُعَلٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَبَانَ.
الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ "، وَلَكِنَّهُ مَالَ إلَى اخْتِيَارِ: " كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ " وَهَذَا مَذْهَبُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَالُوا هَذَا لِجَهْلِهِمْ بِمَعَانِي الْفِقْهِ وَطُرُقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنْ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَرِيقٌ أَوْلَى مِنْ طَرِيقٍ، وَلَا أَمَارَةَ أَقْوَى مِنْ أُخْرَى، وَالْجَمِيعُ مُتَكَافِئُونَ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ حَكَمَ بِهِ، فَيَحْكُمُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَبَسَطُوا لِذَلِكَ أَلْسِنَةَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي طَلَبٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الظَّنِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِلْمًا وظَنًّا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي أُصُولِهِ ": قَدْ أَضَافَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ:" لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ ": قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَنُقِلَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَقَوْلِنَا. وَفِي بَعْضِهَا كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا مَا أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: صَارَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ مَعْذُورٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ.
إلَّا أَنَّهُ كُلِّفَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. ثُمَّ نَصَّ ابْنُ كَجٍّ عَلَى هَذَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ. ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ مَعْذُورٌ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: لِلنَّاسِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا - أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ قَصَرَ عَنْهُ وَفَقَدَ الصَّوَابَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَا إثْمَ، وَلَا نَقُولُ؛ إنَّهُ مَعْذُورٌ، لِأَنَّ الْمَعْذُورَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ، كَالْعَاجِزِ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ عِنْدَنَا قَدْ كُلِّفَ إصَابَةَ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ خَفَّفَ أَمْرَ خَطَئِهِ وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ عَلَى الظَّاهِرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ " وَ " أَدَبِ الْقَاضِي ".
وَقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فَالْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ قَوْلَيْهِمَا. وَالثَّانِي - أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ، وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا. وَالثَّالِثُ - أَنَّهُمَا كُلِّفُوا الرَّدَّ إلَى الْأَشْبَهِ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ. انْتَهَى. فَحَصَلَ وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ مَعْذُورٌ أَمْ لَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقِيلَ: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُخْطِئِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ هَذَا أَحَدُهُمَا. وَالثَّانِي: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَخَرَةٍ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ، وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِي أَنَّهُ هَلْ الْكُلُّ
مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: الْمُخْطِئُ فِي الْحُكْمِ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: الْكُلُّ مُصِيبٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْحُكْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّ عِنْدَ اللَّهِ شَبَهًا رُبَّمَا أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ وَرُبَّمَا أَخْطَأَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: تَفْسِيرُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ أَشْبَهَ. وَقِيلَ: الشَّبَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ قُوَّةُ الشُّبْهَةِ، فَهُوَ الْأَمَارَةُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ يَجِبُ طَلَبُهُ. وَقِيلَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ فِي الْحَادِثَةِ حُكْمُ لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَمْ يَنُصَّ إلَّا عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا هُوَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُخْطِئِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولَانِ: إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنَصِّبُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا [إمَّا] غَامِضًا وَإِمَّا جَلِيًّا. وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهُ وَإِصَابَتَهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَصَابَهُ كَانَ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَأَجْرٌ عَلَى إصَابَتِهِ. وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَالْخَطَأُ مَرْفُوعٌ.
وَحُكِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الْمَرِيسِيِّ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ وَزَادُوا فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، ثُمَّ أَخْطَأَهُ، كَانَ آثِمًا مُضَلِّلًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ " إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ ": إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ طَلَبَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ، لَا فِي الْحُكْمِ.
وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَيَكُونُ مُصِيبًا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمَعْنَى الْأَشْبَهِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَنْزَلَ حُكْمًا فِي الْحَادِثَةِ لَكَانَ هُوَ فَيَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْأَشْبَهِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَى الْحُكْمَيْنِ مَعًا دَلِيلًا، إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَغَمُضَتْ تَحَيَّرَ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ [إلَى] أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْمَطْلُوبِ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ، كَالْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ فُورَكٍ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَأَنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ.
فَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَوَّلِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِيهَا، وَاخْتَارَ هَذَا وَنَصَرَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، وَلَا دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ: - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي إلَى غَيْرِهِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ بِالدَّلِيلِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي نَصَّبَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مَعْذُورًا عَلَى خَطَئِهِ مُثَابًا عَلَى قَصْدِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إلَّا أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ.
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهَا مَسَائِلُ نَقَضُوا فِيهَا الْحُكْمَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، كَالْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَسَائِرِ مَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَأَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى وَاطِئِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ فِي ذَلِكَ. وَأَوْجَبُوا إعَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ أَوْ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، وَإِعَادَةَ الصَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ نِيَّتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَوْ نَوَى فِي فَرْضِهِ التَّطَوُّعَ، وَكَذَلِكَ نَقَضُوا الْحُكْمَ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ، وَخَبَرِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَالْعَرَايَا، وَالْفَلَسِ. وَكَانَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ يَنْقُضَانِ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَهَادَةَ، أَوْ شَهَادَةَ فَاسِقَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قَبْلَ قَوْلِ الْمُزَنِيّ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ فِعْلَ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ صَلَّى إلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ عَلِمَ خَطَأَهُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ عِنْدَهُمَا إصَابَةَ عَيْنِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الصَّلَاةَ بِالِاجْتِهَادِ. انْتَهَى. وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ " فَسَادِ التَّقْلِيدِ " لِلْمُزَنِيِّ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْفَتَاوَى، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لِمُخَالِفِهِ: قَدْ أَصَبْت فِيمَا خَالَفْتَنِي فِيهِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَيُرْوَى عَنْ السَّمْتِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، وَالْإِثْمُ فِيهِ مَرْفُوعٌ، قَالَ: وَجَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي طَسْتٍ ثُمَّ غَرِمَهُ لِلْمُقْضَى عَلَيْهِ. قَالَ الْمُزَنِيّ: فَلَوْ كَانَ يَقْطَعُ بِأَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ هُوَ الْحَقُّ لَمَا تَأَثَّمَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا غَرِمَ لِلظَّالِمِ ثَمَنَ طَسْتٍ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِهِ إيَّاهُ مِنْ صَاحِبِهِ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ عِنْدِي
خَافَ أَنْ يَكُونَ قَضَى عَلَيْهِ بِمَا أَغْفَلَ مِنْهُ وَظَلَمَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَتَوَرَّعَ فَاسْتَحَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَغَرِمَهُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ غَرِمَهُ لَهُ وَهُوَ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا طَلَبُ الثَّوَابِ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ إعْطَاءَهُ لِمُحْتَاجٍ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَصَارَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي طَبَقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ، وَالْغُلَاةُ مِنْهُمْ أَثْبَتُوا أَوْ نَفَوْا مَطْلُوبًا مُعَيَّنًا. وَعَزَا الْقَاضِي مَذْهَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ: لَوْلَاهُ لَكُنْت لَا أَعُدُّهُ مِنْ أَحْزَابِ الْأُصُولِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي عَمَلِهِ قَطْعًا. وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَهُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيُخْطِئُ الْمُخَالِفُ فِيهِ، أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ إلْكِيَا: انْقَسَمُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: غُلَاةٌ وَمُقْتَصِدَةٌ. فَالْغُلَاةُ افْتَرَقُوا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَيَأْخُذُ بِمَا يَشَاءُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا الْمَذْهَبُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ، أَمَّا السَّفْسَطَةُ فَلِكَوْنِهِ حَلَالًا حَرَامًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ. و (الثَّانِي) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ.
وَأَمَّا الْمُقْتَصِدَةُ فَقَالُوا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي عَمَلِهِ قَطْعًا، وَلَا يُقْطَعُ بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَادَّعُوا أَنَّ فِي الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ حُكْمًا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ شَوْقُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَطْلُوبُ الْبَاحِثِينَ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَ إصَابَتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْمُجْتَهِدُ مُقَصِّرٌ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْغُلَاةِ، وَمِنْهُمْ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال. وَقِيلَ: فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِ طَرِيقِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ آثِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَفَرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَحُكِيَ. عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَالْقِيَاسُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَالْفُرُوعُ الَّتِي تَتَجَاذَبُهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَيُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا قِيَاسُ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٌ فِيهَا مُصِيبٌ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْمُحَصِّلُونَ. وَقَالَ فِي بَعْضِ مَجْمُوعَاتِهِ فِي جَوَابٍ سُئِلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثَابَ عَنْهُ، لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ فِيمَا لَا يَسُوغُ، وَلَا فِي الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ.
ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ خَطَأً قُصَارَى أَمْرِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الثَّوَابِ عَلَى خَطَأٍ لَمْ يَصْنَعْهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ فِي كُتُبِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ الْأَشْبَهَ، وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَنَّهُ كُلِّفَ إصَابَتَهُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا إنْ كَانَ خَطَؤُهُ صَغِيرًا. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاتِّحَادِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفُرُوعِ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَقِيلَ: السَّمْعُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهِ وَاحِدٌ. وَذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي، أَيْ أَنَّ الْمُصَوِّبَةَ انْقَسَمُوا إلَى غُلَاةٍ وَمُقْتَصِدَةٍ.
وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَالَهُ إلْكِيَا. وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْذَرُ فِيهِ الْمُخْطِئُ وَلَا يُؤَثَّمُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ قَوْلٌ سِوَاهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا قُلْنَاهُ، وَ (الْآخَرُ) أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمُخَالِفُهُ خَطَأٌ وَصَاحِبُهُ مَأْثُومٌ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ ": قَالَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يَجُوزُ الْفَتْوَى فِي أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ حُقُوقٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ بِعَيْنِهِ.
ثُمَّ إنَّهُمْ افْتَرَقُوا، فَقَالَ
قَوْمٌ: الْجَمِيعُ حَقٌّ عَلَى التَّسَاوِي. وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاحِدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَحَقُّ، وَسَمُّوهُ (تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ: وَالْكَلَامُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ ثُمَّ افْتَرَقُوا فَقَالَ قَوْمٌ: إذَا لَمْ يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى لَوْ عَمِلَهُ يَقَعُ بِهِ صَحِيحًا شَرْعًا. كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: كُلٌّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الطُّرُقِ: إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. فَجَعَلَ قَضَاءَهُ فِي حَقِّهِ صَوَابًا مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ مُخْطِئُ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَهَذَا قَوْلُ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالنَّقْصِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا فِي حُكْمِهِ، قَالُوا: وَمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَالنَّاسُ بِطَلَبِهِ مُكَلَّفُونَ إصَابَتَهُ، فَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَصَابُوا حُمِدُوا وَأُجِرُوا. وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا وَلَمْ يَأْثَمُوا. إلَّا أَنْ يُقَصِّرُوا فِي أَسْبَابِ الطَّلَبِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ يَقُولُ: إنَّهُ مَأْجُورٌ فِي الطَّلَبِ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، وَمَعْذُورٌ عَلَى خَطَئِهِ وَعَدَمِ إصَابَتِهِ لِلْحَقِّ. وَقَدْ يُوجَدُ لِلشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَعَ خُصُومِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَصَابَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ عِنْدَ نَفْسِهِ مَبْلَغَ الصَّوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ عَيْنَ الْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَا قُلْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا
فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَقَالَ مَا قَالَ عَنْ شَهَوَاتِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمْ يُصِيبُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْبَاقُونَ يُصِيبُونَ الْحَقَّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِي. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ أَنَّ كُلًّا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ " عِنْدِي " وَلِذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الْمُخَالِفَ لَهُ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ. قُلْت: وَالْحَاصِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِنَا ثَلَاثُهُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهِيَ الْأَشْهَرُ: إثْبَاتُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصَحُّهُمَا - وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ - أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابَيْهِمَا: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي " كِتَابِ الْقَضَاءِ " وَفِي " الرِّسَالَةِ ": وَكُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمَا.
قَالَا: هَذَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ أَطْلَقَهَا وَكَانَ مُرَادُهُ فِيهَا مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِخُرَاسَانَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَنِسْبَةُ هَذَا إلَى الْأَشْعَرِيِّ أَشْهَرُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَغَيْرُ الْحَقِّ لَا يُؤْمَرُ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَقُولُ: الْحُكْمُ وَالْحَقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَوْ يَقُولُ: الْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا وَاحَدَا، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَأْمُورِ غَيْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَقَالَ لِعَبِيدِهِ: اُطْلُبُوهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَمْرِ وُجُودُ الْآبِقِ، وَمِنْ الْعَبِيدِ طَلَبُهُ فَحَسْبُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهُ فَمَا ذَمَّهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَانَوْا فِيهِ فَكَذَا هُنَا.
- وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَحَكَوْا عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ، وَزَعَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَفِي " كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ " وَفِي " رِسَالَةِ الْمَصْرِيِّينَ " مُحْتَمَلٌ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَالْأَشْبَهَ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَتَابَعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ النَّقَلَةُ عَنْهُ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مِنْ كَلَامِهِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ نُصُوصُهُ فِي " الرِّسَالَةِ " وَغَيْرِهَا طَافِحَةٌ بِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي - الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الرَّازِيَّ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ - التَّفْصِيلُ بَيْنَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إلْكِيَا فِي النَّقْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا عَنْهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " قَالَ: زَلَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ كَانَ يَسُوغُ لَهُ مُخَالَفَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلِهَذَا قَالَ: مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مَقِيسٌ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِدٌ فَالْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا مَا تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهِ مُصِيبُ.
قُلْت: وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. .