الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِخِلَافِ مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَالْخَبَرُ هُوَ الَّذِي مَعَهُ دَلِيلُ الِانْتِقَالِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا جَاءَ بِتَوْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ عُلِمَ زَوَالُ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ الثَّانِي، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . .
وَ (ثَالِثُهَا) : أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، فَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الْحُكْمُ، كَالْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَنَهَى عَنْهُمَا، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَلَمْ يَفِدْ شَيْئًا أَفَادَ فِيمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَخَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، هَذَا إذَا عَلِمَ تَقْرِيرَهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ مُدَّةً ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرَانِ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَعْمَلَيْنِ لَهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَيْهَا، فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهَا نَظَرَ فِيهِمَا عَلَى هَذَا الْحَالِ. فَأَمَّا آيُ الْقُرْآنِ، فَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ بِإِبَاحَةِ شَيْءٍ فِي جُمْلَةِ الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَوْ جَاءَ خَبَرٌ بِتَحْلِيلِ مَا جَاءَ الْخَبَرُ الْآخَرُ بِتَحْرِيمِهِ نَظَرَ فِي الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْآيَةِ وَالْآخَرَ يُوجِبُ عُمُومَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ الْحَظْرِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ، فَإِنْ كَانَ الْحَظْرُ بَيَانَ الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْفَعَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ، وَيَكُونُ خَبَرُ التَّحْلِيلِ بِإِزَاءِ خَبَرِ التَّحْرِيمِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ، فَإِنْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالْحُكْمُ لَهُ، قَالَ: وَيَجِيءُ الْخَبَرَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، كَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِلْحَاجِّ، فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَفْعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ «نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَ «مَا نَكَحَهَا إلَّا وَهُوَ حَلَالٌ» . فَأَحَدُهُمَا غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي فَيُصَارُ إلَى الدَّلِيلِ يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا.
[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]
.
سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الرِّسَالَةِ ": وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْقَوْلَ عَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ، وَعَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ، وَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُ الْمُخْبَرُ الْخَبَرَ مُبَعَّضًا، وَالْخَبَرَ مُخْتَصَرًا، وَالْخَبَرُ يَأْتِي بِبَعْضِ مَعْنَاهُ دُونَ بَعْضٍ، وَيُحَدِّثُ الرَّجُلُ عَنْهُ الْحَدِيثَ قَدْ أَدْرَكَ جَوَابَهُ وَلَمْ يُدْرِكْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَوَابِ لِمَعْرِفَتِهِ السَّبَبَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَيَسُنُّ فِي الشَّيْءِ سُنَّةً وَفِيمَا يُخَالِفُهُ أُخْرَى فَلَا يَخْلُصُ بَعْضُ السَّامِعِينَ مِنْ اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُنَّ فِيهِمَا، وَيَسُنُّ سُنَّةً فِي نَصِّ مَعْنَاهُ فَيَحْفَظُهُمَا حَافِظٌ آخَرُ فِي مَعْنَى، يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَى، وَيُجَامِعُهُ فِي مَعْنَى سُنَّةِ غَيْرِهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرُهُ تِلْكَ السُّنَّةَ، فَإِذَا أَدَّى كُلٌّ مَا حَفِظَ رَآهُ بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَيَسُنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جُمْلَةً بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أَوْ تَحْلِيلِهِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ خِلَافُ الْجُمْلَةِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا حَرَّمَ مَا أَحَلَّ، وَلَا بِمَا أَحَلَّ مَا حَرَّمَ. قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ شَيْئًا مُخْتَلِفًا فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُ وَجْهًا يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَلِفًا، وَأَنْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي وُصِفَتْ. انْتَهَى. .
الْقَوْلُ فِي تَرْجِيحِ الظَّوَاهِرِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلَلٍ بِسَبَبِ الرُّوَاةِ، كَمَا سَبَقَ. .
وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلِيَأْتِ بِهِ حَتَّى أُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": وَلَمْ نَجِدْ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَلَهُمَا مَخْرَجٌ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ إمَّا مُوَافِقَةُ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ بَعْضِ الدَّلَائِلِ. انْتَهَى.
وَهُوَ بِاعْتِبَارَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) أَنْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ، وَ (الثَّانِي) بِالْمَتْنِ. .
أَمَّا التَّرْجِيحُ بِالْإِسْنَادِ فَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. فَيُرَجَّحُ مَا رُوَاتُهُ أَكْثَرُ عَلَى مَا رُوَاتُهُ أَقَلُّ بِخِلَافِهِ، كَاحْتِجَاجِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ، بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ» فَيَقُولُ: قَدْ رَوَى الرَّفْعَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ صَحَابِيًّا، وَكَثِيرٌ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَرِوَايَةِ التَّغْلِيسِ بِالصُّبْحِ عَلَى رِوَايَةِ الْإِسْفَارِ. هَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَقَالَ: الْأَخْذُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الرِّبَا أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» لِأَنَّهُ رَوَاهُ مَعَ عُبَادَةَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَرِوَايَةُ خَمْسَةٍ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ.
وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْعَدَدِ بِالنِّسْبَةِ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ فَقَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَكَذَلِكَ جِنْسُ الرِّجَالِ كُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ قَوِيَ الْحِفْظُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْجَدِيدِ، قَالَ: وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ
بِأَنَّ الشُّهُودَ مَنْصُوصٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ فَكُفِينَا مَئُونَةَ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَخْبَارُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالْأَوْلَى تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ، لِأَنَّهُمْ عَنْ الْخَطَأِ أَبْعَدُ، قَالَ: وَذَهَبَ فِي الْقَدِيمِ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَ بِالشَّهَادَاتِ.
قُلْتُ: وَعَكَسَ ابْنُ كَجٍّ وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابَيْهِمَا هَذَا النَّقْلَ فَقَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ: يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْأَخْبَارِ إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِ الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ الْغَلَطُ وَالْكَثْرَةُ تَدْفَعُ الْغَلَطَ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا جَمِيعًا فِي لُزُومِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَا فَقَدْ اسْتَوَيَا وَيَطْلُبُ دَلَالَةً سِوَاهُمَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّهَادَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ سُلَيْمٌ: أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا أَرَاهُ قَطْعِيًّا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ لَمْ يُمْكِنْ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ تَعَارَضَ لَهُمْ خَبَرَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ، بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هَذَا. قَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ النَّاظِرِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيٌ رَابِعٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَرُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ، لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ. فَلَمَّا كَثُرَ الْعَدَدُ وَلَمْ يَقْوَ الظَّنُّ بِصِدْقِهِمْ كَانَ خَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالرَّاجِحُ هُوَ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: بَلْ هُوَ أَقْوَى الْمُرَجَّحَاتِ، فَإِنَّ الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عَنْ تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ. وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا. .
.
وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ لَوْ تَعَارَضَتْ الْكَثْرَةُ مِنْ جَانِبٍ وَالْعَدَالَةُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِإِلْكِيَا: (إحْدَاهُمَا) : تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ، لِقُرْبِهَا مِنْ الْمُسْتَفِيضِ وَالتَّوَاتُرِ. وَ (الثَّانِي) : تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّ رَجُلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ فِي الثِّقَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ عَلَى رِوَايَةِ عَدَدٍ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ. قَالَ: وَهَذَا لَا نَجِدُ لَهُ مِثَالًا مِنْ النَّصِّ، فَإِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَلِلْقِيَاسِ مَجَالٌ وَرَاءَ الْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا مِثَالًا فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا أُسْتَاذُهُ فِي الْبُرْهَانِ " وَحَكَى فِيهَا الْخِلَافَ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَدَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ مَزِيَّةَ الثِّقَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ لَا تَبْلُغُ الْقَطْعَ، وَالْغَالِبُ تَقْدِيمُ مَزِيَّةِ الثِّقَةِ. الثَّانِي: لَا يَخْفَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى حَالَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْبَارِ. .
أَمَّا الْآيَاتُ فَإِذَا جَاءَتْ آيَتَانِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَهَلْ تُرَجَّحُ الْأُولَى.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى تَخَرُّجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَيُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْآيِ كَمَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَطَأَ مِنْ الرُّوَاةِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ شَيْءٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ الْآيِ.
وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ يُسَاوِي الْأَخْبَارَ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا. وَالْعُمُومَانِ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عُمُومٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقْوَى، وَتِلْكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. .
ثَانِيهَا - بِقِلَّةِ الْوَسَائِطِ وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ، وَهُوَ أَحَدُ فَوَائِدِ طَلَبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الْإِقَامَةُ مَثْنَى، كَالْأَذَانِ، لِمَا رَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا مُحَيْرِيزٍ حَدَّثَهُ أَنَّ «أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَذَكَرَ فِيهِ الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى» . فَنَقُولُ: بَلْ هِيَ فُرَادَى، لِمَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» ، فَإِنَّ خَالِدًا وَعَامِرًا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَوَى عَنْهُمَا شُعْبَةُ، وَحَدِيثُ عَامِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةٌ، وَخَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اثْنَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِهَذَا ظَاهِرٌ، إذَا كَانَ لَا يَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَرْجُوحٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْأَغْلَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَنْدَرِ.
.
وَثَالِثُهَا - تَقَدُّمُ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ عَلَى رِوَايَةِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ، وَمَثَّلُوهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ فِي الْحَجِّ، وَرِوَايَةِ أَنَسٍ الْقِرَانَ. وَمَا قِيلَ فِيهِ يَتَوَلَّجُ عَلَى النَّسَا وَسَبَبُ هَذَا التَّرْجِيحِ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - زِيَادَةُ الظَّنِّ بِالضَّبْطِ. وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " بِتَقْدِيمِ أَنَسٍ فِي أَحَادِيثِ رِبَا الْفَضْلِ وَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَقَالَ بِتَقَدُّمِ أَنَسٍ فِي الصُّحْبَةِ. وَهَلْ تَتَقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِ الْأَكَابِرِ. .
وَرَابِعُهَا - بِفِقْهِ الرَّاوِي سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى أَوْ بِاللَّفْظِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْفَقِيهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ. وَقِيلَ: هَذَا فِي خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ رُوِيَا بِاللَّفْظِ فَلَا مُرَجِّحَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لِلْفَقِيهِ مَزِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ، مِثْلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ» عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» . قَالَ: وَسَبَبُ تَقْدِيمِهِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ أَفْقَهَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْت: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مِثَالًا لِتَقْدِيمِ شَاهِدِ الْقِصَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِهَا، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَائِشَةُ كَانَتْ مُبَاشِرَةً لِلْوَاقِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا لَا يَنْبَغِي تَمْثِيلُهُ بِالصَّحَابَةِ تَأَدُّبًا. وَقَدْ مَثَّلَ بِرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَيْنِ فَقِيهَانِ مَشْهُورَانِ، وَالْأَخِيرَيْنِ إمَّا شَيْخَانِ أَوْ دُونَهُمَا فِي الْفِقْهِ. .
خَامِسُهَا - بِعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ الْعَالِمَ بِهَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ مَوَاقِعِ الزَّلَلِ، فَيَكُونُ الْوُثُوقُ بِرِوَايَتِهِ أَكْثَرَ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَرْجُوحٌ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِهَا يَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَا يُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ، وَالْجَاهِلُ بِهَا يَكُونُ خَائِفًا فَيُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ. .
سَادِسُهَا - الْأَفْضَلِيَّةُ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. .
سَابِعُهَا - حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ السُّنِّيِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، كَرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ بِدْعَتَهُ إنْ كَانَتْ بِذَهَابِهِ إلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَبِيرَةٌ كَانَ ظَنُّ صِدْقِهِ أَكْبَرَ. .
ثَامِنُهَا - كَوْنُ الرَّاوِي صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ، كَقَوْلِ «مَيْمُونَةَ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ» فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ (نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ) وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْجُرْجَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. .
تَاسِعُهَا - كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ كَتَرْجِيحِ خَبَرِ أَبِي رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُمَا حَلَالَانِ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا. وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَوْمِ الْجُنُبِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. .
.
عَاشِرُهَا - الْأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَالَطَةِ تَقْتَضِي زِيَادَةً فِي الِاطِّلَاعِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ الْقُرْآنِ سِوَى الْجَنَابَةِ» عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِهِ، كَأَزْوَاجِهِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُنَّ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِنَّ. .
حَادِي عَشَرَهَا - إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:«لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» . .
ثَانِي عَشَرَهَا - كَوْنُ أَحَدِهِمَا جَلِيسَ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ أَكْثَرَ مُجَالَسَةً مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَعْتَوِرُ الرِّوَايَةَ وَيُدَاخِلُهَا مِنْ الْخَلَلِ. .
ثَالِثُ عَشَرَهَا - كَثْرَةُ الصُّحْبَةِ تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ عَلَى قَلِيلِهَا، لِمَا يَحْصُلُ مِنْ زِيَادَةِ الظَّنِّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الصُّحْبَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمَصْحُوبِ. وَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى رِوَايَةِ وَائِلٍ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَبِسَبَبِ طُولِ الصُّحْبَةِ. .
.
رَابِعُ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُخْتَبَرًا فَيُرَجَّحُ الْعَدْلُ بِالتَّزْكِيَةِ عَلَى الْعَدْلِ بِالظَّاهِرِ. هَذَا إنْ قَبِلْنَا رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ، وَإِلَّا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. .
خَامِسُ عَشَرَهَا - الْعَدْلُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ عَلَى مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. .
سَادِسَ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِصَرِيحِ التَّزْكِيَةِ فَيُرَجَّحُ عَلَى الْمُعَدَّلِ بِالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عَدَالَتَهُ ضِمْنِيَّةٌ. .
سَابِعُ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِالْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْمُعَدَّلِ بِالْعَمَلِ عَلَى رِوَايَتِهِ، لِلْخِلَافِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلًا وَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّ عَمَلَ الْمُزَكَّى بِرِوَايَةِ مَنْ زَكَّاهُ مُرَجِّحٌ لِرِوَايَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا. .
ثَامِنُ عَشَرَهَا - التَّزْكِيَةُ مَعَ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ، قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ ". .
تَاسِعُ عَشَرَهَا - بِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ لِلرَّاوِي كَتَقْدِيمِ حَدِيثِ بُسْرَةَ عَلَى حَدِيثِ طَلْقٍ، لِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ وَالرُّوَاةِ لِبُسْرَةَ، وَقِلَّةِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ طَلْقٍ. .
الْعِشْرُونَ - حِفْظُ الرَّاوِي لِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَاعْتِمَادُ الْآخَرِ عَلَى الْمَكْتُوبِ فَالْحَافِظُ أَوْلَى، لِمَا لَعَلَّهُ يَعْتَوِرُ الْخَطَّ مِنْ نَقْصٍ وَتَغَيُّرٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، رَوَى حَدِيثَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ» . قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ: نَظَرْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ قَالَ عَاصِمٌ: فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ " ثُمَّ لَمْ يُعِدْ ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّ الْكِتَابَ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْت: وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. .
.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ - قُوَّةُ حِفْظِهِ وَزِيَادَةُ ضَبْطِهِ وَشِدَّةُ اعْتِنَائِهِ فَيُرَجَّحُ عَلَى مَنْ كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ. حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ:" بَيْنَهُمَا فَضْلُ مَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ " وَالتَّفْضِيلُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي كَاخْتِصَاصِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. .
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - سُرْعَةُ حِفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَاءُ نِسْيَانِهِ مَعَ سُرْعَةِ حِفْظِ الْآخَرِ وَسُرْعَةِ نِسْيَانِهِ، لِأَنَّ نِسْيَانَ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحِفْظِ بَطِيءٌ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ احْتِمَالًا، وَصَدَّرَ كَلَامَهُ بِأَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ. .
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ - أَنْ لَا يَكْثُرَ تَفَرُّدُهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ الْحُفَّاظِ فَإِنْ كَثُرَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ خَبَرُهُ عَلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ. أَيْ وَإِنْ قُلْنَا زِيَادَةَ الثِّقَةِ. .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ - دَوَامُ عَقْلِهِ فَيُرَجَّحُ عَلَى مَنْ اخْتَلَطَ فِي عُمُرِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ رَوَى الْخَبَرَ فِي حَالَةِ سَلَامَةِ عَقْلِهِ أَوْ حَالَ اخْتِلَاطِهِ. .
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - شُهْرَةُ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ عَلَى الْخَامِلِ، لِأَنَّ الدِّينَ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْكَذِبِ.
كَذَلِكَ الشُّهْرَةُ وَالْمَنْصِبُ. .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ - شُهْرَةُ نَسَبِهِ فَإِنَّ احْتِرَازَ مَشْهُورِ النَّسَبِ مِمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ. قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ. نَعَمْ، قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": رِوَايَةُ مَعْرُوفِ النَّسَبِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَجْهُولِهِ. .
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ - عَدَمُ الْتِبَاسِ اسْمِهِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَلْتَبِسْ اسْمُهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ يَلْتَبِسُ فِيهِ ذَلِكَ. وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْسَرَ التَّمْيِيزُ. قَالَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَحْصُولِ ". .
الثَّانِي: بِوَقْتِ الرِّوَايَةِ - فَيُرَجَّحُ الرَّاوِي فِي الْبُلُوغِ عَلَى الَّذِي رَوَى فِي الصِّبَا وَفِي الْبُلُوغِ، لِأَنَّ الْبَالِغَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ، وَيُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي لَمْ يَتَحَمَّلْ رِوَايَةً إلَّا فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ إلَّا فِي زَمَنِ صِبَاهُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْإِفْرَادِ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي الْقِرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّشَهُّدِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مُتَأَخِّرَ الصُّحْبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مُتَقَدِّمِهَا فِي الرِّوَايَةِ، لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ. - وَيُرَجَّحُ مَنْ لَمْ يَرْوِ إلَّا فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَيُرَجَّحُ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَيُرَجَّحُ مَنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ، لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ
عَلَى رِوَايَتِهِ آخِرًا، كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّقْضِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى رِوَايَةِ قَيْسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَتَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَتَبِعَهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَجَزَمَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِهِ مُعْتَلًّا بِعَرَاقَةِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَدَّمُ خَبَرُ الْمُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامَ إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ إسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ رِوَايَةً الْمُتَقَدِّمُ فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَاهُنَا نَحْكُمُ بِالرُّجْحَانِ، لِأَنَّ النَّادِرَ مُلْحَقٌ بِالْغَالِبِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا فَالْغَالِبُ أَنَّ رِوَايَةَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ نَاسِخٌ، كَمَا نَسَخْنَا رِوَايَةَ طَلْقٍ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فِي أَحَدِهِمَا وَجُهِلَ فِي الْآخَرِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْمُؤَرَّخُ مِنْهُمَا فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ النَّاسِخُ لِمَا لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَيُنْسَخُ قَوْلُهُ عليه السلام: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» بِصَلَاةِ أَصْحَابِهِ قِيَامًا خَلْفَهُ وَهُوَ يُصَلِّي قَاعِدًا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فِيهِمَا وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَاحْتِيجَ إلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَقِيلَ: النَّاقِلُ مِنْهُمْ عَنْ الْعَادَةِ أَوْلَى مِنْ الْمُوَافِقِ لَهَا.
وَقِيلَ: الْمُحَرِّمُ أَوْلَى مِنْ الْمُبِيحِ، وَكَذَا الْمُوجِبُ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ مُحَرِّمًا لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ إلْكِيَا: يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِمْكَانِ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا، كَحَدِيثِ طَلْقٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُحْتَمَلًا، فَإِنْ كَانَ فَلَا، كَحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ:«جَاءَنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَإِنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبَعْدَهُ يُسَمَّى السِّخْتِيَانُ لِلْأَدِيمِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَإِيتَارِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ التَّرْجِيعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَسَعْدِ الْقَرَظِ، مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَذَانِ بِلَالٍ رضي الله عنهم. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَاجِيحَ كَثِيرَةٌ، وَمَنَاطَهَا مَا كَانَ إفَادَتُهُ لِلظَّنِّ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَرْجَحُ. وَقَدْ تَتَعَارَضُ هَذِهِ الْمُرَجَّحَاتُ، كَمَا فِي كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِ، فَيَعْتَمِدُ الْمُجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.
فَائِدَةٌ قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إنَّا لَا نُنْكِرُ تَفَاوُتًا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي جَوْدَةِ الْفَهْمِ وَقُوَّةِ الْحِفْظِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ رِوَايَةَ الذَّكَرِ تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْأُنْثَى، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْجِنْسِ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّوْعِ. قُلْت: قَدْ حَكَى سُلَيْمٌ فِيهِ الْخِلَافَ فَقَالَ: لَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَلَا الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي قُوَّةِ الْخَبَرِ، فَلَا يَدْخُلَانِ فِي التَّرْجِيحِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يُقَدَّمُ الذَّكَرُ فَيُغَيِّرُ أَحْكَامَ النِّسَاءِ. أَمَّا أَحْكَامُهُنَّ فَيُقَدَّمْنَ عَلَى غَيْرِهِنَّ، لِأَنَّ هِمَّتَهُنَّ وَقَصْدَهُنَّ لِمَا حَفِظْنَهُ أَكْثَرُ، وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ "، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. .
الثَّالِثُ: بِكَيْفِيَّةِ الرِّوَايَةِ (فَمِنْهَا) : يُرَجَّحُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى رَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى وَقْفِهِ، كَتَقْدِيمِ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ» فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي الْمُوَطَّإِ ".
وَ (ثَانِيهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمُؤَدَّى بِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَرْوِيِّ بِمَعْنَاهُ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ إنْ كَانَ رَاوِي الْمَعْنَى عَارِفًا فَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا قُدِّمَ مَنْ رَوَى اللَّفْظَ. .
وَ (ثَالِثُهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي اتَّفَقَتْ رُوَاتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ لَفْظِ غَيْرِهِ؟ كَخَبَرِ السِّعَايَةِ وَمَا يُعَارِضُهُ فِي الْعِتْقِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. .
(رَابِعُهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي حَكَى الرَّاوِي سَبَبَ وُرُودِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكِهِ، لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ مِنْ الْحَاكِي، كَمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ مَيْمُونَةَ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ حَلَالٌ، عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَمَّا إذَا انْطَبَقَ أَحَدُهُمَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْآخَرُ مُطْلَقٌ فَيُقَدَّمُ الْمُطْلَقُ، كَمَا قَالَهُ إلْكِيَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُمُومِ، قَالَ: وَقَدْ يُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ فِي حَقِيقَتِهِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِعَارَةَ وَالْجُحُودَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا جَحَدَ يُقْطَعُ. قِيلَ: هَذَا ظَاهِرُهُ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا نَقَلَ الْجُحُودَ وَالِاسْتِعَارَةَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمُوَافَقَةِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، كَمَا قَالَ:«مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَسَرَقَتْ فَأَهَمَّ قُرَيْشًا شَأْنُهَا فَقَالَ:«وَاَللَّهِ لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ وَأَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ عَظِيمَةِ الْقَدْرِ لَقَطَعْتُهَا» . فَلَمَّا ذَكَرَ السَّرِقَةَ عُلِمَ أَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ لَا الِاسْتِعَارَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ كَانَتْ سَبَبَ جُرْأَتِهَا عَلَى السَّرِقَةِ. .
(خَامِسُهَا) : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ، إذَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ، وَحِينَئِذٍ فَالْخَبَرُ الَّذِي لَمْ [يَتَرَدَّدْ فِيهِ الْأَصْلُ] رَاجِحٌ عَلَى هَذِهِ. .
(سَادِسُهَا) : أَنْ يَخْتَلِفَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَيَتَّفِقَ رُوَاةُ الْآخَرِ قَالَ.
أَبُو مَنْصُورٍ: فَرِوَايَةُ مَنْ لَمْ تَخْتَلِفْ طُرُقُ رِوَايَاتِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ حَدِيثَ نُصُبِ الزَّكَاةِ، أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ بِخِلَافِهِ. وَحَكَى فِي اللُّمَعِ " فِيهِ وَجْهَيْنِ:(أَحَدَهُمَا) : تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ. وَ (الثَّانِيَ) : يَتَعَارَضَانِ عَمَّنْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَتَسَاقَطَانِ. وَتَبْقَى رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ. قُلْت: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ. وَجَزَمَ ابْنُ بَرْهَانٍ بِالْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَيُسْتَعْمَلُ بِزِيَادَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ لَمْ تَخْتَلِفْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ يَكُونُ لِحِفْظِ الرَّاوِي. قَالَ: وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاسْتِقْرَارِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ:«إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ اسْتَقَرَّتْ الْفَرِيضَةُ» وَأَبُو بَكْرٍ يَرْوِي الِاسْتِقْرَارَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ) . وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِحَدِيثِ وَائِلٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ» ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ عَنْهُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَيْهِ، وَرَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ الْبُرُوكِ بَرْكَ الْإِبِلِ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ وَائِلٍ انْفَرَدَ
مِنْ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ قَدْ عَاضَدَتْهُ إحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَوْلَى. قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. قَالَ: وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ مِثْلُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا مَنْقُولًا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ وُجُوهٍ، كَرِوَايَةِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ «أَعِدْ صَلَاتَك، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» وَرَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَقَفَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُؤْذِنُهُمْ بِتَكْبِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْرَمَ خَلْفَ الصَّفِّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَدَخَلَ فِيهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ. وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى يَسَارِ الرَّسُولِ، فَأَدَارَهُ عَنْ يَمِينِهِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ» ، فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ وَابِصَةَ. وَهُوَ يَرْجِعُ أَيْضًا إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. .
(سَابِعُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ مِنْ الْآخَرِ، كَتَرْجِيحِ رِوَايَةِ جَابِرٍ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي الْإِفْرَادِ، لِأَنَّهُ سَرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ عَادَ إلَيْهَا. .
(ثَامِنُهَا) : أَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَالْآخَرُ شِفَاهًا، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْمُشَافَهَةِ تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ، كَحَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «خَيَّرَ بَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ» ، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا.
مَا خَيَّرَهَا، وَرِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا. قُلْنَا: رِوَايَتُهُ مُقَدَّمَةٌ، لِأَنَّ رَاوِيَهَا عَنْ عَائِشَةَ عُرْوَةُ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْهَا شِفَاهًا، وَغَيْرُهُ يَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ. .
(تَاسِعُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِرِوَايَةِ (حَدَّثَنَا) وَالْآخَرُ بِرِوَايَةِ (أَخْبَرَنَا) ، فَاَلَّذِي بِرِوَايَةِ (حَدَّثَنَا) أَوْلَى. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ "، لِأَنَّ (أَخْبَرَنَا) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قُرِئَ عَلَيْهِ فَغَفَلَ أَوْ سَهَا. بِخِلَافِ (حَدَّثَنَا) . وَقِيلَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ سَهْوُ الشَّيْخِ فِي (أَخْبَرَنَا) يُحْتَمَلُ سَهْوُ الرَّاوِي فِي (حَدَّثَنَا) . .
(عَاشِرُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ عَنْ حِفْظِهِ وَكِتَابِهِ، وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِبُعْدِهِ مِنْ الزَّلَلِ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَوَاهُ وَسَمِعَهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ، وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِهِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِهِ سَمَاعُهُ فَلَا تَرْجِيحَ. .
(حَادِي عَشَرَهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ بِسَمَاعِهِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَالْآخَرُ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ إذَا قُلْنَا: قِرَاءَةُ الشَّيْخِ أَعْلَى، كَذَا ذَكَرُوهُ. وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا قَرَأَهُ الْعَالِمُ عَلَى الْعَالِمِ. أَمَّا إذَا قَرَأَهُ الْجَاهِلُ عَلَى الْجَاهِلِ فَهُمَا سِيَّانِ. .
(ثَانِي عَشَرَهَا) : مَا يَرْوِيهِ بِالسَّمَاعِ، عَلَى مَا يَرْوِيهِ بِالْإِجَازَةِ. (ثَالِثُ عَشَرَهَا) : الْمُسْنَدُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُرْسَلِ إنْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى قَبُولِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ وَقَالَ قَوْمٌ - مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ أَبَانَ -: الْمُرْسَلُ أَوْلَى. وَقَالَ قَوْمٌ - مِنْهُمْ عَبْدُ الْجَبَّارِ -: يَسْتَوِيَانِ.
قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَمَا قَالَهُ عِيسَى إنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يَقُولُ " الرَّاوِي ": قَالَ الرَّسُولُ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ مَا يَحْتَمِلُهُ كَقَوْلِهِ: عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرَجُّحَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ " رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ ". وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ أَوْ الرَّدَّ، وَضَعَّفَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ مِنْ سَمَاعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَمَّنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُنَبِّئُ عَنْ حُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ لَهُ، فَلَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْنَدِ، وَلِهَذَا قَبِلَهُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَهُنَا فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا هَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ مَرَاسِيلَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فَهِيَ كَالْمُسْنَدَةِ، حَتَّى لَوْ عَارَضَهَا صَحَابِيٌّ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فَهُمَا سَوَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُهُ خِلَافٌ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ، لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلَّمَا عُلِمَ مِنْ الْمَرَاسِيلِ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فَهُوَ أَرْجَحُ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَمَرَاسِيلُ كُلِّ عَصْرٍ أَوْلَى مِنْ مَرَاسِيلِ مَا بَعْدَهُ. ثَانِيهِمَا إذَا كَانَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ عَدْلٍ، كَابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَهُوَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ.
وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا إذَا حَصَلَ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْخَبَرِ فَمُرْسَلُهُ رَاجِحٌ عَلَى مُسْنَدِهِ. .
الرَّابِعُ: بِوَقْتِ وُرُودِ الْخَبَرِ؟ وَيُرَجَّحُ بِوُجُوهٍ، وَهِيَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ فِي الرُّجْحَانِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ:(أَوَّلُهَا) الْخَبَرُ الْمَدَنِيُّ، أَيْ الَّذِي رُوَاتُهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَهْبِطِ الْوَحْيِ، وَمَوْضِعَهُمْ مَوْضِعُ النَّاسِخِ، وَلَهُمْ الْعِنَايَةُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَدَنِيَّاتِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْهِجْرَةِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُمْ عَلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي تَرْجِيعِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ نَاسِخَةٌ لِلْمَكِّيَّةِ، مَعَ إمْكَانِ نُزُولِ الْمَكِّيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْمَدَنِيَّةِ قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّ نَسْخَ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْعَكْسِ. .
(ثَانِيهَا) تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. (ثَالِثُهَا) الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّغْلِيظِ عَلَى الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّخْفِيفِ؟ ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَرْأَفُ بِالنَّاسِ وَيَأْخُذُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَا يَتَعَبَّدُ بِالتَّغْلِيظِ، فَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ التَّشْدِيدِ أَظْهَرُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، حَيْثُ قَالَ: أَوْ شَدِيدُهُ، لِتَأَخُّرِ التَّشْدِيدَاتِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُقَدَّمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّخْفِيفِ. .
(رَابِعُهَا) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مُطْلَقًا عَلَى الْمَرْوِيِّ بِتَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَشْبَهَ بِالتَّأَخُّرِ. كَذَا قَالُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَرْجِيحِ الْأَصْحَابِ فِي الْبَيِّنَاتِ إذَا أُطْلِقَتْ وَاحِدَةٌ وَأُرِّخَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. .
.
خَامِسُهَا) الْمُؤَرَّخُ بِتَارِيخٍ مُضَيَّقٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا، وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُ أَخْبَارَ الدِّبَاغِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِيهَا. .
(سَادِسُهَا) إذَا حَصَلَ إسْلَامُ رَاوِيَيْنِ مَعًا، كَإِسْلَامِ خَالِدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْمِلُ الْحَدِيثَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ هَلْ تَحَمَّلَهُ الْآخَرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ التَّعَارُضُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَصْفِ، أَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ أَحَدِهِمَا كَانَ بِسَمَاعِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَسْتَقِيمُ. .
الْقَوْلُ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ وَهُوَ بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَيَقَعُ بِأُمُورٍ (أَوَّلُهَا) فَصَاحَةُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، مَعَ رَكَاكَةِ الْآخَرِ وَهَذَا إنْ قَبِلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْ الرَّكِيكَ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُرَجَّحُ الْأَفْصَحُ عَلَى الْفَصِيحِ، لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لَفْظُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَقْوَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهِ، لِأَنَّ الْبَلِيغَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ ذَوِي لُغَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى.
تِلْكَ الْفَصِيحَةِ، كَرِوَايَةِ:«لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ» . .
(ثَانِيهَا) يُرَجَّحُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ. قَالَ إلْكِيَا: وَالْفِقْهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُورُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَالْمُحْرِمِ، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَشَاهِدٍ» . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ثُمَّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْحَصَاةِ، وَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ. وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الْآيَةُ، ثُمَّ نَهَى عَنْ أَكْلِ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ حَمَلَ حَامِلٌ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَجَدَ مَقَالًا، وَلَكِنْ يُقَالُ: الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّ الْخَاصَّ أَقْرَبُ إلَى التَّعْيِينِ مِنْ الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَمْهِيدَ الْأُصُولِ. .
(ثَالِثُهَا) يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ. نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَجَازًا عَلَى قَوْلٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: لِأَنَّ الَّذِي قَدْ دَخَلَهُ قَدْ أُزِيلَ عَنْ تَمَامِ مُسَمَّاهُ، وَالْحَقِيقَةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَجَازِ، وَاعْتَرَضَ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ رَاجِحٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ التَّقْدِيمَ عَنْ قَوْمٍ، وَوَجَّهَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَا لَمْ يُخَصَّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا خُصَّ. قَالَ: وَعِنْدَنَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ سَمَاعِ الْحَادِثَةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَهُوَ مِنْ اللَّفْظِ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَخْصُوصَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالنَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اُسْتُثْنِيَ بَعْضُهُ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنِيرِ مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ، لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قَدْ قَلَّتْ أَفْرَادُهُ حَتَّى قَارَبَ النَّصَّ، إذْ كُلُّ عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِي أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ الْأَقَلِّ بِالتَّخْصِيصِ فَقَدْ قَرُبَ مِنْ التَّنْصِيصِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ. .
(رَابِعُهَا) يَتَقَدَّمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ عَلَى الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، إنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُوهِنُهُ وَيَحُطُّهُ عَنْ رُتْبَةِ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ، وَمَبْنَى التَّرْجِيحِ عَلَى غَلَبَةِ الظُّنُونِ، قَالَهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ "، وَسَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ إلْكِيَا، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْوَارِدَ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ مُتَّفَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ فِي عُمُومِهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ رَاجِحٍ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَبَّبِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، قُلْت: وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ فِي الْمُسَبَّبِ. .
(خَامِسُهَا) تَرْجِيحُ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ، لِتَبَادُرِهَا إلَى الذِّهْنِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يُغَلَّبْ الْمَجَازُ، فَإِنْ غُلِّبَ كَانَ أَظْهَرَ دَلَالَةً مِنْهَا، فَلَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَيْهِ. .
(سَادِسُهَا) أَنْ يَكُونَ مَجَازُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحَقِيقَةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا مَجَازُهُ يُشْبِهُهَا.
سَابِعُهَا) الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ الَّذِي صَارَ شَرْعِيًّا، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَفِي الْآخَرِ عَلَى اللُّغَوِيِّ. أَمَّا الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَى حُكْمٍ وَاللَّفْظُ الثَّانِي بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ عَلَى حُكْمٍ، وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَسْلَمُ تَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ عَلَى اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ هَذَا اللُّغَوِيَّ إذَا لَمْ يَنْقُلْهُ الشَّرْعُ فَهُوَ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ شَرْعِيٌّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ بِلُغَوِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ، وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ. .
(ثَامِنُهَا) وَالْخَبَرُ الْمُسْتَغْنَى عَنْ الْإِضْمَارِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُفْتَقِرِ إلَيْهَا. (تَاسِعُهَا) يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الدَّالِّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» فَقَضِيَّتُهُ أَنَّ مَا يُقْسَمُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:«فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَيُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ بِوَجْهٍ، وَحَدِيثُنَا يَدُلُّ بِوَجْهَيْنِ. .
(عَاشِرُهَا) تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ، لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقِلَّةِ الْوَاسِطَةِ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَالُ: إذَا بَطَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ بَطَلَ بِالْإِذْنِ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَرْجَحُ. .
(حَادِيَ عَشَرَهَا) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ لَفْظٍ مُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. لِأَنَّ الِانْقِيَادَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَى غَيْرِ الْمُعَلَّلِ، لِأَنَّ ظُهُورَ التَّعْلِيلِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ التَّعْمِيمِ، كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّبْدِيلَ إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ. .
(ثَانِيَ عَشَرَهَا) الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَكَسَ النَّقْشَوَانِيُّ. (ثَالِثَ عَشَرَهَا) الْمَذْكُورُ مَعَ مُعَارَضَةٍ أَوْلَى مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَحَدِيثِ «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ، فَيُرَجَّحُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ. (رَابِعَ عَشَرَهَا) الْمَقْرُونُ بِنَوْعٍ مِنْ التَّهْدِيدِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» . .
(خَامِسَ عَشَرَهَا) الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ بِأَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثًا، وَالْآخَرُ لَمْ يُؤَكَّدْ، فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَالتَّأْوِيلِ، كَقَوْلِهِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» فَإِنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ، لَوْ سَلِمَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ. .
(سَادِسَ عَشَرَهَا) الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ
السَّمَاءُ الْعُشْرُ مِنْ التَّمْرِ» مَعَ قَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ. بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قُصِدَ فِيهِ بَيَانُ الْمُزَكَّى، وَالْآخَرَ بَيَانُ الزَّكَاةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْكَلَامُ يُجْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفَصَّلُ فِي مَقْصُودِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ «فِي سَائِمِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» مَعَ قَوْلِهِ:«فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَكَذَلِكَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» مَعَ قَوْلِهِ: «فِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى بَيَانِ الْمُزَكَّى وَالزَّكَاةِ، لَا عَلَى مَا لَمْ يُنْقَلْ لَهُ الْخَبَرُ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمَسْمُوعُ، ذَكَرَهُ إلْكِيَا. ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ: قَدْ يَرِدُ عَلَى صُورَةِ الْبَيَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا حَقًّا، كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ:«أَشَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا» ، وَفِي لَفْظٍ: أَنْتَ تَشْهَدُ؟ وَأَنَّهُ رَدَّدَهُ، فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهُ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: «أَشَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا» ، دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:«فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» أَيْ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا. فَقُلْنَا: لَمْ يَكُنْ التَّرَدُّدُ وَالرَّدُّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالِاعْتِرَافِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَمْ يُفْصِحْ أَوَّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَرَأَى فِيهِ دَلَائِلَ الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:«لَعَلَّك لَمَسْت» ، وَسَأَلَ عَنْ النُّونِ وَالْكَافِ فَقُلْنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: رِوَايَةُ مَاعِزٍ مُقَدَّمَةٌ، وَقَلَبُوا الْأَمْرَ فَلَمْ يَجْعَلُوا الْبَيَانَ فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ مُعْتَبَرًا، قَدَّمُوا الْعُمُومَ عَلَيْهِ، وَقَدَّمُوا الْبَيَانَ عَلَى الْعُمُومِ هَاهُنَا. وَمِنْ هَذَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، فَكَانَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيمَا رَوَاهُ:«وَاسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعًا فَالسَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ خَمْسًا شَفَعْتَهَا بِالسَّجْدَتَيْنِ» فَذِكْرُ التَّرْغِيمِ، وَالشَّفْعِ لَا يَكُونُ مَعَ الْفَصْلِ وَالتَّخَلُّلِ، فَكَانَ مَا نَقَلْنَاهُ إيمَاءً إلَى بَيَانِ السَّبَبِ عَلَى مَا رَدَّدَهُ. وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ وُرُودُ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ، وَنَقَلُوا الْأَمْرَ فَقَطْ، وَالْأَمْرُ أَبْيَنُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي يُمْكِنُ تَقْدِيرُ اخْتِصَاصِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. .
(سَابِعَ عَشَرَهَا) مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ: عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى. وَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمُخَالَفَةُ لِأَنَّهَا تُفِيدُ تَأْسِيسًا، وَالْمُوَافَقَةُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى. وَقِيلَ: يَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَإِنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ يَقْتَضِي حِلَّ الْقُرْبَانِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَمَفْهُومَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قَبْلَ الْغُسْلِ. .
الثَّانِي - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ مَدْلُولِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ، وَيَقَعُ عَلَى أُمُورٍ أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُفِيدًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَالْبَرَاءَةِ وَالثَّانِي نَاقِلًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ النَّاقِلِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّاقِلَ زَائِدٌ عَلَى الْمُقَرَّرِ، وَمِنْ أَصْلِنَا قَبُولُ الزِّيَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْبَرَاءَةِ أَوْ الْقَضَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ أَوْلَى، لِأَنَّهُمَا قَدْ شَهِدَا بِمَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ وَزَادَ النَّقْلُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَمَا قُلْنَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: إذَا اجْتَمَعَا فَالْجَرْحُ أَوْلَى، انْتَهَى. وَقِيلَ: يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُقَرَّرِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، كَحَدِيثَيْ مَسِّ الذَّكَرِ، فَإِنَّ النَّاقِضَ نَاقِلٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْآخَرَ مُقَرِّرٌ لَهُ.
تَنْبِيهٌ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: هَذَا الْخِلَافُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، لِأَنَّا نَعْمَلُ بِالنَّاقِلِ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِالْخَبَرِ الْآخَرِ لَوْلَاهُ لَكِنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، لَا لِأَجْلِ الْخَبَرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، وَلِهَذَا أَوْرَدُوهُ فِي بَابِهِ لَا فِي بَابِ النَّسْخِ، لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِالنَّسْخِ، بَلْ نَقُولُ: الظَّاهِرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَابِ الْأَوْلَى، وَهُوَ تَرْجِيحٌ. .
ثَانِيهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْحَظْرَ، وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ، فَيُقَدَّمُ مُقْتَضَى الْحَظْرِ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهَا مَا أَمْكَنَ، وَلِحَدِيثِ:«دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» قَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ وَابْنُ بَرْهَانٍ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يُرَجَّحُ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ (نَفْيَ الْحَرَجِ) الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَأَشَارَ الْآمِدِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِهِ بَحْثًا، وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: يَتَسَاوَيَانِ، فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ صَدَقَ الرَّاوِي فِيهِمَا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَصَحَّحَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرٍ. وَصَوَّرَ فِي الْحَاصِلِ " الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْعَقْلُ حُرْمَةَ وَإِبَاحَةَ مَا أَبَاحَهُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ، وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ.
ثُمَّ نَقَلَ فِيهِ التَّسَاوِي، ثُمَّ قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا الْعَازِلِ لِلْعَقْلِ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَعَمْ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنْ كَانَ لِلشَّيْءِ أَصْلُ إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ، وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْأَصْلَ، وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ، كَانَ النَّاقِلُ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ أَوْلَى، كَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ فَيَرِدُ خَبَرٌ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَآخَرُ الْحَظْرَ، فَوَجْهَانِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْحَظْرَ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحَمَّامِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ مَوْلَاةِ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، أَيْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الْمُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ كَالْمُسْتَحِلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ فَالْحَظْرُ أَوْلَى، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُتَعَارِضِ، فَنُقَدِّمُ الْإِبَاحَةَ عَلَى طَرَيَان الْحَظْرِ، فَكَأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ. وَإِنْ كَانَ الْحَظْرُ هُوَ الْأَصْلُ فَالْأَخْذُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْلَى. أَمَّا إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يُعْلَمْ أَصْلُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ:
فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى أَنَّ الْحَظْرَ يُرَجَّحُ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ، لِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ. - وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: يَسْتَحِيلُ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُسْتَحِيلِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ إذَا أَمْكَنَ مِنْ تَعَارُضِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالرُّجُوعُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي التَّرْجِيحِ إمَّا مِنْ حَيْثُ الِاحْتِيَاطُ إذَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ فِي التَّرْجِيحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَوْ بِوَجْهٍ آخَرَ قَدَّمْنَاهُ. فَائِدَةٌ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَكَّارًا وَالْمُزَنِيَّ اجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ، وَكَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُزَنِيِّ، فَسَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْمُزَنِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ، جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَجَاءَ تَحْلِيلُهُ، فَلِمَ قَدَّمْتُمْ التَّحْرِيمَ عَلَى التَّحْلِيلِ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّبِيذَ كَانَ حَرَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا. فَهَذَا يَعْضِدُ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ بِالتَّحْرِيمِ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ. .
ثَالِثُهَا - أَنْ يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ الْإِيجَابَ وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ،
وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرَجَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ التَّسَاوِي، وَهِيَ أَقْرَبُ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِيَاطِ، لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ بِالتَّرْكِ، بِخِلَافِ الْإِيجَابِ، فَكِلَاهُمَا يُوقِعُ فِي الْعِقَابِ، وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَقَالَ: لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِثَالُهُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ بَعَثَ مِنْ يَنْظُرُ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِلَّا أَصْبَحَ صَائِمًا. وَهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ. وَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ:«مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " فِي تَعَارُضِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيجَابِ مَعَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّدَبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدَّمَ الْإِيجَابَ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي الْوُجُوبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى النَّدْبِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. .
رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا وَهُمَا شَرْعِيَّانِ، قَالَ فَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ وَلِهَذَا قَدَّمُوا خَبَرَ بِلَالٍ فِي صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى خَبَرِ أُسَامَةَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ. وَقِيلَ: بَلْ يُقَدَّمُ النَّافِي.
وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى "، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: النَّافِي إنْ نَقَلَ لَفْظًا مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَمَا إذَا نَقَلَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَنَقَلَ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحِلُّ، فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، وَنَفَاهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يَقُلْهُ "، أَوْ " لَمْ يَفْعَلْهُ "، فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمُصْغِي وَالْمُسْتَمِعِ وَإِنْ كَانَ مُحَدِّثًا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ فَصَّلَ بَيْنَ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا بِضَبْطِ الْمَجْلِسِ وَتَحَقُّقِ السُّكُوتِ، أَوْ لَا، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا وَادَّعَى سَبَبًا يُوَصِّلُ لِلْيَقِينِ تَعَارَضَا وَلَا يُرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَقَالَ إلْكِيَا: إذَا تَعَارَضَ رِوَايَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَانَا جَمِيعًا شَرْعِيَّيْنِ اُسْتُفْسِرَ النَّافِي، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِ بِالنَّفْيِ صَارَ هُوَ وَالْمُثْبِتُ سَوَاءً، وَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ نَفْيِ الصَّلَاةِ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ عَلَى رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ النَّفْيَ اُعْتُضِدَ بِمَزِيدِ ثِقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ، وَالْمَقْتُولَ عَمُّ أَحَدِهِمَا وَوَالِدُ الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ قَالَ النَّافِي: لَمْ أَعْلَمْ بِمَا يُزِيلُهُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ، كَرِوَايَةِ «عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَهَا وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ عِلْمِهَا فَلَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَكَحَدِيثِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ. وَحَاصِلُهُ: إنْ كَانَ النَّافِي قَدْ اسْتَنَدَ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُثْبِتِ، وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ نَحْوُهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْمُثْبِتِ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّفْيِ الْمَحْصُورِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَنَا وَلَمْ يَغِبْ عَنَّا، تَعَارَضَا.
وَبَحَثَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مَحْصُورًا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ، قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ. وَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ صَحِيحٌ، وَالنَّفْيُ الْمَحْصُورُ وَالْإِثْبَاتُ سِيَّانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ كَانَ الْمُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالنَّافِي عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمَانِ شَرْعِيَّيْنِ فَقَدْ تَسَاوَيَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِالنَّفْيِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ الْمُثْبِتُ أَوْلَى، كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ فِي تَقْبِيلِهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهَا، وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ النَّافِي أَخَصَّ مِنْ الْمُثْبِتِ فَالْحُكْمُ لِلْأَخَصِّ. وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ إلَّا فِي صُوَرٍ:، (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَنْحَصِرَ النَّفْيُ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا تَكْرَارَ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ. (الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ رَاوِي النَّفْيِ لَهُ عِنَايَةٌ بِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَمَا قُدِّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَتْلَى، وَكَمَا قُدِّمَ حَدِيثُهُ فِي الْإِفْرَادِ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْقِرَانِ، لِأَنَّهُ صَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى آخِرِهِ. (الثَّالِثَةُ) : أَنْ يَسْتَنِدَ نَفْيُ النَّافِي إلَى عِلْمٍ. .
خَامِسُهَا - تَرْجِيحُ الْخَبَرِ النَّافِي لِلْحَدِّ وَالْعِقَابِ عَلَى مُوجِبٍ لَهُمَا - عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، كَحَدِيثِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، حَكَاهُ سُلَيْمٌ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ تَرْجِيحًا وَلَيْسَ بِتَرْجِيحٍ، قَالَ: لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا، فِي صِدْقِ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْإِيجَابِ أَوْ الْإِسْقَاطِ، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الرَّافِعُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي فِي أَنَّهُ هَلْ تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْعِتْقِ عَلَى النَّافِيَةِ لَهُ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ. .
سَادِسُهَا - الْمُثْبِتُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ. وَعَكَسَ قَوْمٌ لِمُوَافَقَةِ التَّأْسِيسِ. .
سَابِعُهَا - إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَخَفَّ وَحُكْمُ الْآخَرِ أَثْقَلَ فَقِيلَ: إنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. .
ثَامِنُهَا - أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْآخَرُ تَعُمُّ بِهِ. فَالْأَوَّلُ رَاجِحٌ لِلِاتِّفَاقِ فِيهِ. .
تَاسِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ يَنْفِيهَا الثَّانِي. وَفِي تَقْدِيمِ الثَّانِي عَلَيْهِ إبْطَالُهَا. .
.
عَاشِرُهَا - الْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفِيُّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْمُخَاطَبِ وَفَهْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَوَقِّفِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَوَقِّفِ. وَقِيلَ: التَّكْلِيفِيُّ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَثُوبَةً، وَأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالذَّاتِ، وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَانَ أَوْلَى. .
الثَّالِثُ - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أَوَّلُهَا - اعْتِضَادُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِقَرِينَةِ الْكِتَابِ كَتَقْدِيمِ (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَرِيضَتَانِ) عَلَى رِوَايَةِ (الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ) لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَعَارَضَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: وَقَوْلُهُ أَتِمُّوا " دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ. وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَاضِي: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَكِنَّا أَخَذْنَا مِنْ الْمُسْتَقِلِّ وَصْفًا فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ تَرَاخِي النَّظْمِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مَا وَافَقَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كَانَتْ النُّفُوسُ أَمْيَلَ إلَيْهِ، وَالْقَاضِي يَقُولُ: بَلْ الَّذِي
يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ لَا يُنْقَلُ مَا نُقِلَ إلَّا عَنْ زِيَادَةِ الثَّبْتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَقْرَبُ إلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْفَقُ لِلْعُرْفِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا. قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُ مُتَنَمِّقًا بِإِيرَادِ كَلَامِهِ: وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ: الْإِتْمَامُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَعَلَى إتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ. وَمِنْ مُثُلِهِ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] . وَكَتَرْجِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّشَهُّدِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، وَتَرْجِيحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، لِقَوْلِهِ:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَهَذَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا، وَبَنَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُصُولَ.
وَكَذَا قُدِّمَ حَدِيثُ خَوَّاتٍ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَلَى رِوَايَةِ
ابْنِ عُمَرَ، لِأَجْلِ الْحَذَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " مِنْ أَصْلِهِ، فَوَافَقَ الْأُصُولَ، لِأَنَّ رِوَايَةَ خَوَّاتُ، الْأَفْعَالُ فِيهَا قَلِيلَةٌ، قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي لِلشَّافِعِيِّ: إنْ كُنْت تَتَّهِمُ ابْنَ عُمَرَ بِحَيْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَمُحَالٌ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مُنَاسِبًا لِمَأْخَذِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَقْدَحَ فِيهِ. وَإِنْ قُلْت: إنَّ الْغَالِبَ عَلَى الرَّسُولِ الْجَرْيُ عَلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ فَيُعَارِضُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاقِلَ عَنْ الْقِيَاسِ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْإِبْرَاءِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلِ الدَّيْنِ. قَالَ إلْكِيَا: وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْجَهُ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ وَلَا يَظْهَرُ لِلْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطَّرِيقِ، وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّصِّ، أَمَّا إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ وَاعْتُضِدَ أَحَدُهُمَا بِقِيَاسٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُتَّجَهْ فِيهِ تَأْوِيلٌ مُتَأَيِّدٌ لِلْقِيَاسِ لَا يُبَالَى بِهِ. وَلَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ عَاضَدَانِ لِلتَّأْوِيلِ وَأَحَدُهُمَا أَجْلَى قُدِّمَ الْأَجْلَى، وَلَوْ تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ أَوْ نَصَّانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَالْقَاضِي يَرَى تَعَارُضَهُمَا أَخْذًا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى تَقْدِيمَ الْأَحْوَطِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ، كَرِوَايَةِ خَوَّاتٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، وَكَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ إذَا تَضَمَّنَتْ إحْدَاهُمَا تَحْلِيلًا وَالْأُخْرَى تَحْرِيمًا. وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. فَلَا يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا الْحُكْمُ بِالِاحْتِيَاطِ. .
ثَانِيهَا - أَنْ يَكُونَ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُوَافِقًا لَهُ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ، كَحَدِيثِ التَّغْلِيسِ.
.
ثَالِثُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً، وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْأَفْعَالِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ. .
رَابِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُصَرِّحًا بِالْحُكْمِ وَالْآخَرُ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ، كَاحْتِجَاجِنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِحَدِيثِ:«صَلَّى بِي جِبْرِيلُ» الْحَدِيثُ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ:«مَا مِثْلُكُمْ مَعَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إلَّا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا» إلَى آخِرِهِ. فَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ آخَرُ الْوَقْتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: تُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْإِجَارَةِ سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ. كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ انْتَهَى لِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ، لَكِنَّهُ مُتَعَارِضٌ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ وَهِيَ عِبَارَةٌ تَرَجَّحَتْ عَلَى الْإِشَارَةِ. .
خَامِسُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ مَا لَا يُوَفَّقُ لَهُ
الْأَقَلُّ، كَتَقْدِيمِنَا حَدِيثَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا سَبْعَةٌ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ سِوَاهَا أَيْضًا عَلَى حَدِيثِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا فِي الْأُولَى خَمْسٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ، لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ وَالْجُبَّائِيُّ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَا وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ، فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى تَقْدِيمَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْحَدِيثِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ فِي نُصُبِ النَّعَمِ وَقَدَّمَهُ عَلَى رِوَايَةِ عَلِيٍّ فِيهَا، لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْخَيْنِ يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَنَسٍ، فَقَالَ رضي الله عنه: أُقَدِّمُ حَدِيثَ أَنَسٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ التَّأَنِّي فِيهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا بُلُوغُهُمْ حَدِيثَ عَلِيٍّ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. وَالرَّأْيُ تَعَارُضُهُمَا وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النُّصُبَ مَقَادِيرُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهَا، فَيُقَدَّمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ إلْكِيَا: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا بُلُوغَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحَابَةَ وَخَالَفُوا أَحَدَهُمَا فَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ قَادِحَةٌ فِيهِ، سَوَاءٌ عَارَضَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغُ الْحَدِيثِ إيَّاهُمْ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ: لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِنَاسِخٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا عَمِلُوا بِهِ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَوْضَحُ. .
سَادِسُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآخَرُ لَمْ يَتَوَارَثُوهُ، فَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ. قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. .
.
سَابِعُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَمَلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا انْضَافَ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْأُخْرَى عَمَلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا الْكَثِيرُ الظَّاهِرُ، فَقِيلَ: مُوَافَقَةُ الْعَمَلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُوجِبُ التَّقْدِيمَ وَيَرْجَحُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْجِيحًا. .
ثَامِنُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مُرْسَلٌ عَنْ ثِقَةٍ فَتُقَدَّمُ بِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي تُوَافِقُهُ. .
تَاسِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَالْآخَرُ مُخَالِفًا لَهُ، كَحَدِيثِ «الضَّحِكُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ» مَعَ حَدِيثِ «يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ» قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَغْلَبُ شَرْعًا، فَالْإِلْحَاقُ بِالْغَالِبِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْحَاقِ بِالنَّادِرِ، وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. .