المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في زمان الاجتهاد] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٨

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا]

- ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

- ‌[الِاسْتِقْرَاءُ]

- ‌[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]

- ‌[الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ]

- ‌[شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ]

- ‌[دَلَالَةُ السِّيَاقِ]

- ‌[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]

- ‌[سَدُّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[الِاسْتِحْسَانُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ]

- ‌[دَلَالَة الْإِلْهَام]

- ‌[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ]

- ‌[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

- ‌[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]

- ‌[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]

- ‌[التَّقْلِيدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى]

- ‌[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ]

- ‌[خَاتِمَة الْكتاب]

الفصل: ‌[فصل في زمان الاجتهاد]

[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

فَصْلٌ فِي زَمَانِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، كَمَا قَالَ سُلَيْمٌ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَثَّلَهُ بِإِرَادَةِ النَّبِيِّ عليه السلام أَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا مُبَاحٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُلَقِّحَ نَخْلَةً وَأَنْ يَتْرُكَهَا، قَالَ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ ثِمَارَهُ سِنِينَ دُونَ تَأْبِيرٍ فَاسْتَغْنَى عَنْهُ، انْتَهَى فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ فَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟ عَلَى مَذَاهِبَ.

ص: 247

الْأَوَّلُ - لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ، بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النُّطْقِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": كُلُّ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَهُ صلى الله عليه وسلم بِهِ قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ وَيَقُولُ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذَا الشَّيْءِ» ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْحُمُرِ، وَمِيرَاثِ الْبَنِينَ مَعَ الزَّوْجِ وَالْعَمَّةِ قَالَ: وَلَنَا أَخْذُهُ عليه السلام الْفِدَاءَ ثُمَّ نَزَلَ عِتَابُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُنْكِرُ أَنْ يُفْعَلَ عليه الصلاة والسلام مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ نَهْيُ رَبِّهِ تَعَالَى فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِ عَلَيْهِ.

قُلْت: ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ وَتَوَقَّفَ فِيهِ كَثِيرُونَ، مِنْهُمْ الرَّازِيَّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ - وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِيَانِ أَبُو يُوسُفَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ذَلِكَ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ "، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ نَبِيَّهُ كَمَا خَاطَبَ عِبَادَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى:{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. سَلَّمْنَا أَنَّ

ص: 248

الضَّمِيرَ لِلنُّطْقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَأْذُونٌ فِيهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ كَثِيرٌ، كَقَتْلِهِ النَّضْرَ وَنَحْوَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحَرَّى فِيهَا وَاخْتَارَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ غَيْرِهِ، لِعِصْمَتِهِ مِنْ الْخَطَأِ، فَإِذَا جَازَ لِغَيْرِهِ الَّذِي هُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْكَامِلِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ أَشَقُّ مِنْ الْعَمَلِ بِالْيَقِينِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَالثَّالِثُ - الْوَقْفُ عَنْ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِجَوَازِهِ كُلِّهِ وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا، فَقَالَ: مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ، اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ كُلُّ مَا سَنَّ، انْتَهَى لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا، فِي بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَفِي قَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِهِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ كِتَابٌ قَالَ: قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] : يَمْحُو فَرْضَ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فَرْضَ مَا يَشَاءُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ انْتَهَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا، (ثَالِثُهَا)، وَاخْتَارَهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِمَّا يُشَارِكُ فِيهِ الْأُمَّةَ، كَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَمْرِ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ، وَبَيَّنَ أَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ فِيهِ، كَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ وَحَدِّ الشَّارِبِ وَقِيلَ: يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا دُونَ غَيْرِهِ.

ص: 249

وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: - فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُقُوعِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَدَاوُد، «وَقَوْلُهُ لِعُمَرَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» ، «وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ لَهُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» فَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ - وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَهُ مُطْلَقًا - وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: كَانَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقَوَاعِدِ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْفُرُوعِ، كَقَوْلِهِ:«أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» وَاخْتَارَهُ فِي الْمَنْخُولِ " - وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، فَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ قَاطِعٌ وَالْمُنْكِرُونَ لِلْوُقُوعِ قَالُوا: السُّنَّةُ كُلُّهَا وَحْيٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُتْلَى، وَالْقُرْآنُ وَحْيٌ يُتْلَى وَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 250

«أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ، وَفِي حَدِيثِ «الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِك» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ تَنْزِلُ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ أَخْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَعْظَمُهَا وَصَرَّحَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الرِّسَالَةِ " بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنْزَلَةٌ كَالْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» وَالْمَسْأَلَةُ مُتَجَاذِبَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَطَاعَتُهَا كَالْقُرْآنِ وَمِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ قَوْلُهُ: «إلَّا الْإِذْخِرَ» عَقِيبَ مَا قِيلَ لَهُ: إلَّا الْإِذْخِرَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَيْسَ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوْحَى إلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ فِي أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْفَتَاوَى، وَأَنَّ الْأَقْضِيَةَ يَجُوزُ فِيهَا بِلَا نِزَاعٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا سَيَأْتِي وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ عليه السلام، وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٌ مُسْتَنْبَطَةٌ وَهِيَ الَّتِي يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ

ص: 251

وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ عَلَيْهِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ - إذَا جَوَّزْنَا، فَهَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ، وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ وَكَذَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الثَّانِي - إذَا اجْتَهَدَ فَهَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادُ بِرَأْيِهِ أَوْ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي اجْتِهَادِهِ إلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ سُنَنَهُ أَصْلٌ كَالْكِتَابِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْفَرْعِ الَّذِي قَاسَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى كُلِّ فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ، قَالَ: لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ فَلَا يُعْطَى إلَى مَآخِذِهِمْ الثَّالِثُ - إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ إلَى اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ، وَهُوَ يُنَافِي كَوْنَهُ خَطَأً وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " فَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: وَالِاجْتِهَادُ فِي الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَلَنْ يُؤْمَرَ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوا إلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الَّذِي عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَطَأِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فَأَمَّا مَنْ رَأْيُهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ فَلَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِاتِّبَاعِهِ، انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ مَعْصُومٌ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَعْصُومٌ فِي خَبَرِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَنَا، وَمِمَّنْ

ص: 252

جَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ " فَقَالَ فِي خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ: وَمِنْهَا الْعِصْمَةُ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَخُصُّوا بِأَدِلَّاءٍ حَتَّى تَتَّسِعَ الضُّرُوبُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَإِذَا تَفَاوَتَتْ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَجْلِهِ فِي ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالِارْتِقَاءِ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ عَامَّةَ سُنَنِ الرَّسُولِ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ بَذَلُوا الْجَهْدَ فِيهِ فَهُوَ إذًا يَفْهَمُهُ عليه الصلاة والسلام فَهْمًا لَا يَبْلُغُهُ فَهْمُ غَيْرِهِ عليه الصلاة والسلام. انْتَهَى.

وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلَهُ عُذْرًا لِعُمَرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَكْتُبَهُ، وَارْتِضَاءُ الرَّافِعِيِّ فِي الْعَدَدِ، فِي الْكَلَامِ عَنْ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ، وَكَذَا ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ " قَالَ: «كَفِعْلِهِ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إذْ أُنْزِلَتْ عَبَسَ» قُلْت: وَهُوَ قَوْلٌ لَا نُورَ عَلَيْهِ وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ غَيْرُ صَوَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ

ص: 253

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَنَصٍّ وَ (الثَّانِي) الْمَنْعُ، لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ وَقَالَا: قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام مَعْصُومٌ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُلْت: وَهَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ فَحَصَلَ فِي عِصْمَتِهِمْ فِي الِاجْتِهَادِ مَذَاهِبُ: (ثَالِثُهَا) : نَبِيُّنَا فَقَطْ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقِرِّينَ عَلَى الْخَطَأِ فِي وَقْتِ التَّنْفِيذِ، وَلَا يُمْهِلُونَ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَسْتَدْرِكَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ قُلْت: وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَهُوَ أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ، وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِي غَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا، أَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ عَلَى الْكُلِّ، لِحَدِيثِ التَّلْقِيحِ.

مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتُهُ صلى الله عليه وسلم تَنْحَصِرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْفَتْوَى وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْثِ الْجُيُوشِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِنْقَاذِهِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ الْقَضَاءُ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ الْقُضَاةُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَالْخِلَافُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ إذَا دَارَتْ الْحَادِثَةُ بَيْنَ تَنْزِيلِهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ عَلَى الْفَتْوَى فَعِنْدَنَا تَنْزِيلُهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى.

ص: 254