المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول في التعارض والنظر في حقيقته وشروطه وأقسامه وأحكامه] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٨

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا]

- ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

- ‌[الِاسْتِقْرَاءُ]

- ‌[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]

- ‌[الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ]

- ‌[شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ]

- ‌[دَلَالَةُ السِّيَاقِ]

- ‌[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]

- ‌[سَدُّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[الِاسْتِحْسَانُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ]

- ‌[دَلَالَة الْإِلْهَام]

- ‌[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ]

- ‌[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

- ‌[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]

- ‌[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]

- ‌[التَّقْلِيدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى]

- ‌[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ]

- ‌[خَاتِمَة الْكتاب]

الفصل: ‌الفصل الأول في التعارض والنظر في حقيقته وشروطه وأقسامه وأحكامه]

[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

ُ وَالْقَصْدُ مِنْهُ: تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنَصِّبْ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً، بَلْ جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً قَصْدًا لِلتَّوْسِيعِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، فَقَدْ تُعَارَضُ بِعَارِضٍ فِي الظَّاهِرِ بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَيُّنِ الْأَقْوَى: أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَوْ أَمَارَتَانِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَا جَمِيعًا، أَوْ يُلْغَيَا جَمِيعًا، أَوْ يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ وَالرَّاجِحِ، وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ، وَفِيهِ فَصْلَانِ:.

ص: 119

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ، وَأَقْسَامِهِ، وَأَحْكَامِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ: فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ الْعُرْضِ (بِضَمِّ الْعَيْنِ) وَهُوَ النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ فِي عُرْضِ بَعْضٍ، أَيْ: نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ النُّفُوذِ إلَى حَيْثُ وُجِّهَ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ.

أَمَّا شُرُوطُهُ (فَمِنْهَا) : التَّسَاوِي فِي الثُّبُوتِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ (وَمِنْهَا) : التَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ، كَذَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ آحَادٌ، أَوْ آيَةٌ وَخَبَرٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا، وَكَانَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَارَضَانِ وَيَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي لُزُومِ الْحُجَّةِ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَعَارُضِ الظَّاهِرِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ.

ص: 120

وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ السُّنَّةُ، لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ وَالْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالثَّالِثُ: التَّعَارُضُ وَصَحَّحَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ السَّابِقِ، وَزَيَّفَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ، بَلْ الْمُعَارِضَةُ، قُلْت: وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ السُّنَّةَ عَلَى الْكِتَابِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا حَكَى مِنْ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ بَيَانًا، فَيُرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، لَا بِطَرِيقِ تَرْجِيحِ النَّوْعِ عَلَى النَّوْعِ، وَسَبَقَ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ الْخِلَافُ فِي قِيَاسِ نَصٍّ خَاصٍّ إذَا عَارَضَ عُمُومَ نَصٍّ آخَرَ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ (وَمِنْهَا) : اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ، وَالْمَحَلِّ، وَالْجِهَةِ، فَلَا امْتِنَاعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي زَمَانَيْنِ فِي مَحَلٍّ أَوْ مَحَلَّيْنِ، أَوْ مَحَلَّيْنِ فِي زَمَانٍ، أَوْ بِجِهَتَيْنِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ مَعَ الْجَوَازِ.

وَذَكَرَ الْمُنَاطَقَة شُرُوطَ التَّنَاقُضِ فِي الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ: اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالْإِضَافَةِ، وَالْجُزْءِ، وَالْكُلِّ، وَفِي الْقُوَّةِ، وَالْفِعْلِ، وَفِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاسِعًا، وَهُوَ اتِّحَادُهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ يَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى مَجَازًا، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَمْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ: اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالزَّمَانِ وَمِنْهُمْ مِنْ يَرُدُّهَا إلَى الْأَوَّلَيْنِ لِانْدِرَاجِ وَحِدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحِدَةِ الْمَحْمُولِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ لَا غَيْرَ، فَتَنْدَرِجُ الشُّرُوطُ الثَّمَانِيَةُ تَحْتَ هَذَا الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَنَبَّهَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ " عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا اعْتِبَارُهَا فِي تَنَاقُضِ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً مِنْ الْقَضَايَا، بَلْ الْقَضِيَّةُ إنْ كَانَتْ مَكَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فِيهَا وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْمَكَانِ، كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ جَالِسٌ،

ص: 121

زَيْدٌ لَيْسَ بِجَالِسٍ وَإِنْ كَانَتْ زَمَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فِيهَا وَحْدَةُ الزَّمَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَوَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَنَاقُضِ الْقَضَايَا بِأَسْرِهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ فَبِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهَا قَضِيَّةً قَضِيَّةً فَافْهَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاحِثَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَجِدُ مَا يُحَقِّقُ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَإِذًا لَا تَنَاقُضَ فِيهَا.

وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَبِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَقَعُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَاقِيهَا، فَيَقَعُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا قَدْ يُظَنُّ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِ بِحَمْلِ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، أَوْ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ، أَوْ مُجْمَلٍ عَلَى مُبَيَّنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يُتَصَوَّرْ كَالْآيَتَيْنِ، وَإِلَّا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ.

ص: 122

وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ، فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا لِعِصْمَتِهِ دُونَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَوَاتِرَيْنِ فَكَالْكِتَابِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتَا آحَادًا طُلِبَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِطَرِيقَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْخِلَافُ فِي التَّخْيِيرِ أَوْ التَّسَاقُطِ، وَإِنْ كَانَ إحْدَاهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْأُخْرَى آحَادًا فَالْمُتَوَاتِرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ قَطْعِيًّا مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ، وَالِاحْتِمَالَاتُ ثَلَاثَةٌ:(ثَالِثُهَا) : يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ اللَّفْظِيُّ الْمُتَوَاتِرُ دُونَ السُّكُوتِيِّ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِ قَاطِعِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ، أَمَّا السُّنَّةُ غَيْرُ الْمَقْطُوعِ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا فَفِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا وَعَكْسِهِ تَرَدُّدٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ قِيَاسِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَلِيٍّ قُدِّمَ الْخَبَرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَتُهُمَا لَمْ يَتَقَدَّرْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ مُسْتَنَدِهِ أَوْ صِفَتِهِ، كَتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ النَّصِّيِّ عَلَى الْقِيَاسِيِّ، وَالنُّطْقِيِّ عَلَى السُّكُوتِيِّ، وَاللَّفْظِيِّ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ قُدِّمَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ تَقَدُّمُ الشَّبَهِيِّ وَالطَّرْدِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ أَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مَعَ الْإِجْمَاعِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهُمَا إمَّا جَلِيَّانِ أَوْ خَفِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ دُونَ الْآخِرِ، فَالْجَلِيَّانِ يُسْتَعْمَلُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ، وَغَيْرُ الْجَلِيَّيْنِ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَلِيًّا قُدِّمَ عَلَى غَيْرِ الْجَلِيِّ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ

ص: 123

وَأَمَّا تَقْدِيرُ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ، مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا وَمَفْهُومًا وَعُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَكَثِيرٌ، وَسَنُفَصِّلُهَا.

تَنْبِيهٌ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الشَّرْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، بِأَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِزَيْدٍ بِكَذَا وَلِعَمْرٍو بِهِ، وَبَيْنَ الْأَصْلِيَّيْنِ، كَمَا لَوْ قَدَّ مَلْفُوفًا وَزَعَمَ الْوَلِيُّ حَيَاتَهُ وَالْجَانِي مَوْتَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَبَيْنَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَثِيَابِ الْكُفَّارِ.

وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَغْلِيبِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ فِي الدَّعَاوَى، وَعَلَى تَغْلِيبِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا وَالْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ النِّهَايَةِ ": تَقَابُلُ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ مِنْ غَوَامِضِ مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْمُحَصِّلُ اعْتِقَادَ تَقَابُلِ أَصْلَيْنِ لَا يَرْجَحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؟ ، وَحَكَى فِيهِمَا النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، وَهَذَا لَوْ فُرِضَ لَكَانَ مُبَاهَتَةً وَمُحَاوَرَةً لَا سَبِيلَ إلَى بَتِّ قَوْلٍ فِيهَا فِي فَتْوَى أَوْ حُكْمٍ، إذَا عَلِمَتْ ذَلِكَ فَالتَّعَادُلُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ، أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ لِتَقَدُّمِ الْقَطْعِيِّ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أَوْ ارْتَفَعَا، وَهَذَا فِيهِ أَمْرَانِ:(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ فَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِهِمَا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ

ص: 124

(ثَانِيهَا) : أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا فِي الْأَذْهَانِ فَجَائِزٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عَنْ الْقَدْحِ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمَارَتَيْنِ فَلْيَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْقَاطِعَيْنِ، وَأَمَّا التَّعَادُلُ بَيْنَ الْأَمَارَتَيْنِ فِي الْأَذْهَانِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُنَصِّبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحُكْمِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنَعَهُ الكرخي وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَرْجَحَ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ اعْتِدَالِهِمَا قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ اخْتَارَ إلْكِيَا قَوْلَ الْكَرْخِيِّ، وَنَقَلَهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إنَّهُ قَطَعَ بِهِ قَالَ: وَالِاسْتِحَالَةُ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْقَوْلَيْنِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا يَدُلُّ، لِأَنَّهُ تَعَادُلٌ ذِهْنِيٌّ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ، بَلْ نَصَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الرِّسَالَةِ "، فَقَالَ فِي بَابِ عِلَلِ الْأَحَادِيثِ: وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ نُسِبَا لِلِاخْتِلَافِ فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُمَا مَخْرَجًا، وَعَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ بِمُوَافَقَةِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ انْتَهَى وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهَا فَقَالَ: قَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبَدًا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْسِيرِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ.

وَقَدْ حَكَى الْجُرْجَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بِالْمَنْعِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ اخْتِلَافُ

ص: 125

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ لَمَّا تَسَاوَى عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ تَوَقَّفَ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُخَيِّرْ فِي الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، بَلْ أَخَذَ بِالْأَحْوَطِ وَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، فَقَالَ: يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ، نَعَمْ، حُكِيَ عَنْهُ التَّخْيِيرُ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَعَدَمِهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَالرَّاجِحُ كَمَا قَالَهُ فِي اللُّمَعِ " - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْأَشْبَهُ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ أُحَادِيَّةً تُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَتَعَارُضِهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ، وَبَيْنَ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَطْعِيَّ فَلَيْسَ خِلَافُنَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْخِلَافُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُقُوعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ قُلْت: هُوَ جَارٍ فِيهِمَا، فَقَدْ حَكَى ابْنُ فُورَكٍ قَوْلًا بِامْتِنَاعِ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، وَعَزَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ لِأَحْمَدَ وَالْإِمَامِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي خِلَافِ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَنَقَلَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فَقَالَ: حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، ثُمَّ قَضِيَّةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ أَنَّ الْجَوَازَ جَارٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَقَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْفُرُوعِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْكُلَّ صَوَابٌ عِنْدَهُ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي فِعْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ،

ص: 126

كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ فَإِنَّ وَاجِبَهُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتٍ لَبُونٍ وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا عَلَى حُكْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ - مَثَلًا - فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا.

التَّفْرِيعُ التَّعَادُلُ الذِّهْنِيُّ حُكْمُهُ: الْوَقْفُ، أَوْ التَّسَاقُطُ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا التَّعَادُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَتَعَادَلَا، وَعَجَزَ الْمُجْتَهِدُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَتَحَيَّرَ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، وَبِهِ قَالَ الْجُبَّائِيّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ قَالَ إلْكِيَا: وَسَوَّيَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَالْقِيَاسَيْنِ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي، وَاَلَّذِي فِي التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ رَأْيٌ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالثَّانِي: التَّسَاقُطُ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا، وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعُمُومِ أَوْ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مَا قَطَعَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَتَعَارَضُ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِتَعَارُضِهِمَا عَلَى وَهَائِهَا جَمِيعًا، أَوْ وَهَاءِ أَحَدِهَا غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ، فَأَسْقَطْنَاهَا جَمِيعًا، وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِتَفْرِيعِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ التَّعَادُلِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ

ص: 127

الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثَيْنِ.

وَأَنْكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِعْرَابِ "، وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَهُوَ خَطَأٌ، بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا جَمِيعًا، فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخِرِ، الثَّالِثُ: إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ فَيَتَخَيَّرُ حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْقَاضِي وَنَصَرَهُ وَالْفَرْقُ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا يَتَكَلَّمُ بِهِمَا، فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ قَطْعًا وَلَمْ نَعْلَمْهُ، فَتَرَكْنَاهُمَا، بِخِلَافِ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْقَاضِيَ نُسِبَ إلَيْهِ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، الرَّابِعُ: الْوَقْفُ كَالتَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ، إذْ الْوَقْفُ فِيهِ إلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ، إذْ لَا يُرْجَى فِيهِ ظُهُورُ الرُّجْحَانِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مَسْأَلَتَنَا، بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ قُلْت: لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ الْحُكْمِ وَالْتِحَاقِهِمَا بِالْوَقَائِعِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، لَا وَقْفُ خَبَرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " غَيْرَهُ، قَالَ: وَهَذَا حُكْمُ الْأُصُولِيِّ، وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُفْتِينَ وَلَمْ يَشْعُرْ الزَّمَانُ مِنْهُمْ فَلَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَمِنْ هَاهُنَا حَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْإِمَامِ امْتِنَاعَ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

وَالْخَامِسُ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّادِسُ: يُصَارُ إلَى التَّوْزِيعِ إنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كُلِّ أَمَارَةٍ عَلَى أَمْرٍ وَالْأُخْرَى عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الثُّلُثَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ، وَكَمَا فِي الشُّفْعَةِ تُوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ وَتَارَةً عَلَى عَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ، وَالسَّابِعُ: إنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاجِبَاتِ، فَالتَّخْيِيرُ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ

ص: 128

التَّخْيِيرُ فِي الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ وَإِنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ، فَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالثَّامِنُ: يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَتَجِيءُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ قَوْلِ الْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَا فَرَضْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ وَعَنْ دَلِيلٍ آخَرَ هُوَ الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ فِي مُطْلَقِ التَّعَادُلِ وَمُرَادُهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ الثَّانِي سَتَأْتِي، فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَى الْعَامِّيِّ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ، مَذَاهِبُ أُخْرَى يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهَا هُنَا، لَكِنْ الْمَذْهَبُ هُنَاكَ التَّخْيِيرُ، وَهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّرْجِيحِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُضْطَرُّ إلَى الْمُرَجَّحِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَهُ تَصَرُّفٌ وَرَاءَ التَّعَارُضِ الثَّالِثُ إذَا تَخَيَّرَ فَلِلْمُنَاظِرِ ثَلَاثَة أَحْوَالٍ: فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا تَخَيَّرَ فِي إلْحَاقِهِ بِمَا شَاءَ إنْ قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، امْتَنَعَ التَّخْيِيرُ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا، فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَتْ

ص: 129

الْمُصَوِّبَةُ: لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الْمُسْتَفْتِي، بَلْ يَجْزِمُ بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا، وَبِهِ أَجَابَ فِي الْمَحْصُولِ " وَاسْتَشْكَلَ الْهِنْدِيُّ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا، وَقَالَ: لَيْسَ فِي التَّخْيِيرِ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ، وَاخْتَارَ رَأْيًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْزِمَ لَهُ الْفُتْيَا، وَبَيْنَ أَنْ يُخَيِّرَهُ، إذْ لَيْسَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَلَا فَسَادٌ، فَيَسُوغُ الْأَمْرَانِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا، فَقَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْكُلُّ - يَعْنِي: الْمُصَوِّبَةَ، وَالْمُخَطِّئَةَ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَخْيِيرُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ بَتُّ الْحُكْمِ بِاعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ نُصِبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، وَلَوْ خَيَّرَهُمَا لَمَا انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَارُ الَّذِي هُوَ أَرْفَقُ لَهُ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُفْتِي فَلَوْ اخْتَارَ الْقَاضِي إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ وَحَكَمَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْأُخْرَى فِي وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اتِّهَامِهِ بِالْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ، وَحُكِيَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ جَوَازَهُ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فِي الْحُكْمِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَحَكَمَ بِالْقَوْلِ وَضِدِّهِ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي الْمُشَرَّكَةِ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي نَعَمْ، احْتَجَّ فِي الْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ " لِلْمَنْعِ «بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: لَا تَحْكُمْ فِي قَضِيَّةٍ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ» وَقَدْ أُنْكِرَ

ص: 130

عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، قُلْت: وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَبِي بَكْرَةَ كَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ.

مَسْأَلَةٌ، تَنَاقَشُوا فِي الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ التَّعَارُضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَمَّحَ وَأَضَافَهُ إلَى الْأَمَارَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَاقَشَ نَفْسَهُ وَأَضَافَهُ إلَى صُوَرِ الْأَمَارَاتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْجُوحِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَمَارَةٍ حَقِيقَةً إذْ الْحُكْمُ عِنْدَهَا مَفْقُودٌ مَظْنُونٌ الْعَدَمُ، نَعَمْ، صُورَتُهَا مَحْفُوظَةٌ، وَمَعْنَى الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ، أَيْ لَوْ انْفَرَدَتْ هَذِهِ الْأَمَارَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ لَكَانَتْ أَمَارَةً حَقِيقَةً، وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ بِتَعَارُضِ الْقَاطِعَيْنِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْأَمَارَةَ وُجِدَ فِيهَا مُقْتَضَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ بِهَا لِمُعَارِضٍ، فَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا التَّصْحِيحُ وَالتَّرْجِيحُ، وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَلَا مُقْتَضَى فِيهَا لِلصِّحَّةِ أَلْبَتَّةَ وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِيهِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ، وَيَخْتَلِفُ عَمَلُهُ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ لَا مُقْتَضَى لِلصِّحَّةِ فِيهِ، فَبِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ أَطْلَقْنَا عَلَى الْمَرْجُوحِيَّةِ أَنَّهَا أَمَارَةٌ، بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَوَاطِعِ.

مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْعَالِمِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا يُعْلَمُ

ص: 131

قَبْلَ الشَّافِعِيِّ بِهِ تَصْرِيحًا وَهُوَ رحمه الله قَدْ ابْتَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَذَكَرَهَا فِي كُتُبِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُخَالِفِيهِ وَنَسَبُوهُ إلَى الْخَطَأِ وَقَالُوا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُقْصَانِ الْآلَةِ، وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَقَالُوا: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رضي الله عنهما، فَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ يَجْتَهِدُ فِي مُجْتَهَدٍ فِي وَقْتٍ فَيُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَيُؤَدِّي إلَى خِلَافِهِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا طَعْنُ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ تَصْنِيفًا، وَرَأَيْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِجُعَلٍ فِي هَذَا كِتَابًا مُفْرَدًا صَنَّفَهُ لِلْمَعْرُوفِ بِالصَّاحِبِ، وَهُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ، أَيْ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.

وَقَدْ قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْقَوْلَيْنِ تَقْسِيمًا بَيَّنُوا فِيهِ فَسَادَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَأَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ الْآتِيَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ:(أَحَدِهِمَا) : مَا طُعِنَ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ (وَالثَّانِي) : فِي كَيْفِيَّةِ إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ قَرِيحَتِهِ، وَتَبَحُّرِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَأْخَذِ، وَمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَوَادِثِ، وَتَعْلِيمِهِمْ طُرُقَ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالُوا: إنَّمَا يَسُوغُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَمَّا

ص: 132

عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: بَلْ لِمَخْرَجِهَا طُرُقٌ فَذَكَرَهَا وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ: الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى ضِدَّيْنِ مِنْ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ، وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لِقَوْلِهِ مَخَارِجُ ثَلَاثَةٌ:(أَحَدُهَا) : اعْتِقَادُهُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ مَا عَدَا ذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاقِفًا فِيهِمَا، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ (ثَانِيهَا) : أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، كَقَوْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ (ثَالِثِهَا) : أَنْ يَقُولَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ لِتَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ كَمَا عَمِلَ عُمَرُ فِي الشُّورَى، جَعَلَ الْأَمْرَ بَيْنَ سِتَّةٍ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاعْتِذَارَ (الْأَوَّلَ) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ، وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْطَعُ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِهِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَهُ عَرَفَ ذَلِكَ، وَحَكَى (الثَّالِثَ) عَنْ الْقَاضِي، وَقَالَ: إنَّهُ بَنَاهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تَحْرِيمًا وَالْآخَرُ تَحْلِيلًا، إذْ يَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ حَرَامٍ وَمُبَاحٍ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ حَيْثُ نَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا مَذْهَبٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِمَا، وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ رُتْبَةِ الرَّجُلِ، وَتَوَسُّعِهِ فِي الْعِلْمِ وَعَمَلِهِ بِطُرُقِ الْأَشْبَاهِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ إذْ لَيْسَ

ص: 133

لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلٌ وَلَا قَوْلَانِ، قُلْنَا هَكَذَا نَقُولُ وَلَا نَتَحَاشَى مِنْهُ وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ هُوَ ذِكْرُهُ لَهُمَا، وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهِمَا، هَذَا أَسَدُّهَا وَأَوْضَحُهَا.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَافِيَانِ فَلَهُ حَالَتَانِ: (الْحَالَةُ الْأُولَى) : أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يُعَقِّبَ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ يَقُولَ: أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَشْبَهُهُمَا بِالْحَقِّ عِنْدِي، وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ: هَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ أَوْ مُنْكَرٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ لِيَبْعَثَ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ:(أَصَحِّهَا) : أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ قَوْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ دَلِيلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فِي نَظَرِهِ، وَقَوْلُهُ:" فِيهِ قَوْلَانِ " أَيْ: احْتِمَالَانِ لِوُجُودِ دَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، لَا أَنَّهُمَا مَذْهَبَانِ لِمُجْتَهِدَيْنِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَا نَعْرِفُ مَذْهَبَهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ (وَالثَّانِي) : يَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ، وَرُجُوعِهِ عَنْ الْآخَرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ دُونَ نِسْبَتِهِمَا جَمِيعًا، وَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ كَالنَّصَّيْنِ إذَا عَلِمْنَا نَسْخَ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَكَالرَّاوِي إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ الْآمِدِيَّ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ عَمَلِ الْفُقَهَاءِ (وَالثَّالِثِ) : أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ، وَحُكْمُهُمَا التَّخْيِيرُ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": وَهَذَا بَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى

ص: 134

اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنْ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ، وَيَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ دُونِ تَرْجِيحٍ قَلِيلٌ، حَتَّى نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ ": إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَوَقَعَ فِي الْمَحْصُولِ " ذَلِكَ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَجَزَمَ بِأَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، لَكِنْ رَأَيْتُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ رحمه الله فِيمَا انْتَخَبَهُ مِنْ كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ " لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا لَفْظُهُ: كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَبْلُغُ مَا لَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ أَقَاوِيلُهُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، وَالْبَاقِيَ كُلَّهَا قَطَعَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْأَقَاوِيلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا: وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَفِي بَعْضِهَا: وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَفِي بَعْضِهَا: وَهُوَ أَوْلَاهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ عَشَرًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ، قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنْهُمَا وَمَاتَ قَبْلَ بَيَانِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ وَكَانَ مُتَوَقِّفًا فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فِي مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا مَعْنًى، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِمَا فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا لَيُعَلِّمَ أَصْحَابَهُ طُرُقَ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ وَالِاجْتِهَادِ، وَبَيَانَ مَا يُصَحِّحُ الْعِلَلَ وَيُفْسِدُهَا، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ كَمَا يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ، وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا عَدَاهُمَا بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا (انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي)

ص: 135

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا يَذْكُرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ نَظَرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّهُ فِي مُدَّةِ النَّظَرِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى الْوَقْفِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْوَرَعِ وَهُوَ دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ قَالَ: وَيُتَّجَهُ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ: (أَحَدِهَا) : أَنَّ الْمُفْتِيَ إنَّمَا يُفْتِي بِالْحُكْمِ لَا بِالتَّرَدُّدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ عَلَى مَا حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا جَمْعُ الْقَوْلِ مُتَرَدِّدٌ فِي بِضْعِ عَشْرَةِ مَسْأَلَةٍ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ يُوجَدُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا التَّرَدُّدِ (الثَّانِي) : إنْ كَانَ حَاصِلُهُ التَّرَدُّدَ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا؟ وَجَوَابُهُ: لَهُ خَمْسُ فَوَائِدَ: (1) - وَضْعُ تَصْوِيرِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ (2) - وَالتَّحْرِيكُ لِدَاعِيَةِ النَّظَرِ فِيهَا (3) - وَحَثُّهُ لِأَصْحَابِهِ لِتَخْرِيجِهَا عَلَى أَشْبَهِ أُصُولِهِ (4) - وَإِنَّهُ يَكْفِي مُؤْنَةَ النَّظَرِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ سِوَى مَا ذَكَرَهُ (5) - وَذَكَرَ تَوْجِيهَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ كُلٍّ، فَتَحْصُلُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ وَمَدَارِكُ الْعُلَمَاءِ، وَيَهُونُ النَّظَرُ فِي طَلَبِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ طَلَبَ التَّرْجِيحِ وَحْدَهُ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ فَعَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ هَذِهِ الْوَظَائِفُ الْخَمْسُ تَصْوِيرُهَا وَطَلَبُ الِاحْتِمَالَاتِ فِيهَا، وَحَصْرُ مَا يَنْقَدِحُ مِنْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ وَطَلَبُ أَدِلَّتِهَا وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ وَالشَّافِعِيُّ قَامَ بِالْوَظَائِفِ الْأَرْبَعِ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْخَامِسَةَ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ فَائِدَةَ الْقَوْلَيْنِ؟ .

، (الثَّالِثِ) : مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا قَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: لَهُ قَوْلَانِ؟ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ

ص: 136

يُقَالَ: لِفُلَانٍ فِي الْحَادِثَةِ رَأْيَانِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى وَكَذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ ذِكْرُهُ لَهَا وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهَا.

(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعَيْنِ، بِأَنْ يَنُصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى إبَاحَةِ شَيْءٍ، وَفِي آخَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ - فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَرْجُوعًا عَنْهُ، وَيَجْعَلُ الْأَوَّلَ كَالْمَنْسُوخِ فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ قَوْلًا لَهُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ لَمْ يَنُصَّ فِي الْجَدِيدِ الرُّجُوعَ عَنْ الْقَدِيمِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا حَكَاهُ الشَّيْخُ وَكَذَا الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا خَالَفَ الْآخِرُ الْأَوَّلَ، هَلْ يَكُونُ الْآخِرُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(أَحَدِهِمَا) : أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَنُصُّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ وَ (الثَّانِي) : يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ شَيْئًا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَوَّلُ مَذْهَبًا بِهِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فَوَجْهَانِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ رُجُوعٌ إلَّا فِي مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، قَالَ سُلَيْمٌ: وَيَكُونُ إضَافَةُ الْقَدِيمِ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتٍ، لَا عَلَى وَجْهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْآخِرِ.

ص: 137

كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي إضَافَةِ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قُلْت: وَقَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْقَدِيمَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَمَّا فِيهِ، فَلَا يَبْقَى لِلتَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَجْهٌ نَعَمْ، هَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْحَابِنَا فِي مَسَائِلَ عَمِلُوا بِهَا عَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوا فِي الْجَدِيدِ مَا يُخَالِفُهَا - وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْحَالُ وَلَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ، فَإِنْ بَيَّنَ اخْتِيَارَهُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فَالْوَقْفُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْوَقْفُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَقْفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُهُ وَ (الثَّانِي) : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاقِفٌ غَيْرُ حَاكِمٍ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا الثَّانِي إنَّمَا يَقْوَى إذَا قَالَهُمَا الْمُجْتَهِدُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُحْكَى عَنْهُ قَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّرْجِيحِ وَقَدْ وَقَعَ الْحَالَانِ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: أَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمًا وَتَدْقِيقًا كَانَ نَظَرُهُ أَتَمَّ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ أَعَمَّ.

وَأَمَّا الدِّينُ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ الرُّجْحَانِ أَقَامَ عَلَى مَقَالَتِهِ الْأُولَى، بَلْ صَرَّحَ عَلَى بُطْلَانِهَا وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنْ تَشْنِيعَ الْخَصْمِ بَاطِلٌ وَقَدْ صَنَّفَ أَصْحَابُنَا فِي نُصْرَةِ الْقَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاصِّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَالرُّويَانِيُّ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ السَّلَفُ، فَإِنَّ عُمَرَ نَصَّ فِي الشُّورَى عَلَى سِتَّةٍ وَحَصَرَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، تَنْبِيهًا عَلَى حَصْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ عَلَيْهِ

ص: 138

وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخِرِ بِأُمُورٍ: (مِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ أُصُولُ مَذْهَبِهِ مُوَافِقَةً دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ هُوَ الْمَذْهَبُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَسَبَ ابْنُ كَجٍّ الرُّجُوعَ فِي حَالَةِ التَّفْرِيعِ إلَى الْمُزَنِيّ قَالَ: وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّفْرِيعِ، وَحَكَى خِلَافَ الْمُزَنِيّ فِي التَّكْرِيرِ وَقَالَ: خَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ فَقَالَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيّ هُوَ الصَّحِيحُ وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.

وَ (مِنْهَا) : مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: مَا يُخَالِفُهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ، وَعَكَسَ الْقَفَّالُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَالْأَصَحُّ: التَّرْجِيحُ بِالنَّظَرِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَالْوَقْفُ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ قَبْلَ الدِّيَاتِ، وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي والماوردي أَنَّهُ قَسَمَ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا: أَحَدِهَا: أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ فِي آخَرَ كَقَوْلِهِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُرِيدُ مَعَ لَيْلَتِهِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَكِنْ لَا يُقَالُ: لَهُ قَوْلَانِ وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ ثَانِيهَا: أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهُ مَعَ اتِّفَاقِ مَعَانِيهَا مِنْ وَجْهٍ وَاخْتِلَافِهَا مِنْ وَجْهٍ فَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حُكْمَ الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يُغَلِّبْ حُكْمَ الِاتِّفَاقِ،

ص: 139

فَخَرَّجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْمُظَاهِرِ: أُحِبُّ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْقُبْلَةِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: رَأَيْت ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، فَحَمْلُهَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى ثَالِثِهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ، لِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ كَصَدَاقِ السِّرِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِهِ، وَفِي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ السِّرِّ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِلَّا فَعَكْسُهُ رَابِعِهَا: لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، كَتَرَدُّدِهِ فِي نَقْضِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ " لَمَسْتُمْ " أَوْ " لَامَسْتُمْ " وَكَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَهُ خَامِسِهَا: لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ نَقَلَتْهُ عَنْ الْأَوَّلِ، كَصِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ثُمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهَا فَأَوْجَبَ صِيَامَهَا بَعْدَ إحْرَامِهِ وَقِيلَ: يَوْمَ عَرَفَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى سَادِسِهَا: لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَ مَذْهَبَهُ مِنْ بَعْدُ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ السُّنَّةِ، كَالصِّيَامِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ مِنْ غَسْلِهِ.

سَابِعِهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذَكَرِهِمَا إبْطَالَ مَا عَدَاهُمَا، فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ مَقْصُودًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا ثَامِنِهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِهِمَا إبْطَالَ مَا يَتَوَسَّطُهُمَا، وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهُمَا مَا حَكَمَ بِهِ، وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِالثُّلُثِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يُوضَعَ جَمِيعُهَا، أَوْ لَا يُوضَعَ شَيْءٌ مِنْهَا تَاسِعِهَا: أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ

ص: 140

وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَسَعْ التَّخْرِيجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَخْلُ قَوْلَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا فِي وَقْتٍ أَوْ وَقْتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي وَقْتٍ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ فِيهَا بِقَوْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي قَوْلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَاشِرِهَا: لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ بِهِ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْآخَرِ فَعَدَلَ إلَيْهِ، فَمَذْهَبُهُ الثَّانِي، وَلَا يُرْسِلُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ.

حَادِيَ عَشَرَهَا: أَنْ يَكُونَ قَالَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيُخَرِّجُهَا أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ فِي إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ عَلَى التَّسَاوِي غَلَطٌ، وَيُنْظَرُ إنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْعَمَلُ لِلْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ جَهِلَ تَوَقَّفَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مَا يُوَافِقُهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمَذْهَبُ فَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَالَ الْمُزَنِيّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّ الْمُتَكَرِّرَ وَذَا التَّفْرِيعِ مَذْهَبُهُ دُونَ الْآخَرِ ثَانِيَ عَشَرَهَا: أَنْ يَذْكُرَهُمَا حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ وَمَثَّلَهُ ابْنُ كَجٍّ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْوَلَاءِ، قَالَ طَائِفَةٌ بِكَذَا، وَقَالَتْ طَائِقَةٌ بِكَذَا ثُمَّ قَطَعَ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِالْإِنْكَارِ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِي غَيْرِهِمَا، أَوْ بِالْجَوَازِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِيهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا أَوْ بِالِاخْتِيَارِ فِيهِمَا ثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُعْتَقِدًا لِأَحَدِهِمَا وَزَاجِرًا بِالْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ، وَفِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَعَبَّرَ عَنْهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ فَقَالَ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَمَذْهَبُهُ الْأَخِيرُ رَابِعَ عَشَرَهَا: أَنْ يَقُولَهُمَا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنْ نَبَّهَ عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا

ص: 141

فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَزَادَ الْغَزَالِيُّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَأَنْ يَذْكُرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ وَقَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَنْكَرَهُ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ عِنْدِي بِمُنْكَرٍ، بَلْ مُتَّجَهٌ قُلْت: ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ كَمَا سَبَقَ مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَذَا وَكَذَا كَانَ مَذْهَبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ احْتِمَالٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَوَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ

مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُجْتَهِدِ قَوْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ لَهُ قَوْلٌ فِي نَظِيرِهَا وَلَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْفَرْقُ، كَمَا قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ " إلَى خِلَافٍ فِيهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ قَوْلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ مَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِ؟ قُلْنَا: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ، وَلَا قَوْلُ رَسُولِهِ

ص: 142

وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ دَلَّ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَرْعٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ الْأَصْحَابِ هَلْ تُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ؟ لَمْ أَرَ فِيهَا كَلَامًا وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُمْ يُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوَاعِدَ عَامَّةٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ إنَّمَا يَكُونُ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ.

ص: 143

فَصْلٌ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ نَقْطَعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يُدَوِّنْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْعَمِيُّ فِي الْغَرَرِ ": الِاخْتِلَافُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: (مِنْهَا) : الْغَلَطُ فِي السَّمَاعِ، كَأَنْ يُجِيبَ بِحَرْفِ النَّفْيِ إذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ، فَيُشْتَبَهُ عَلَى الرَّاوِي فَيَنْقُلُ مَا سَمِعَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ يَعْلَمُ بَعْضُ مَنْ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ رُجُوعَهُ عَنْهُ، فَيَرْوِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَالْآخَرُ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَرْوِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِيَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ لِلِاحْتِيَاطِ، فَيَذْكُرُ الْجَوَابَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ قَالَ: وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرِّوَايَةِ وَقَعَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِ دُونَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ حَصَلَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَعَجَبٌ انْتَهَى.

ص: 144