الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَوْجَبُ وَنِعْمَتَهُمْ أَعْظَمُ. وَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] وَقَالَ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ فَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالًّا أَجْوَزُ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى، وَإِذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فِي أَسْوَأِ حَالَيْهِ - أَعْنِي قَبْلَ التَّوْبَةِ - فَبَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْلَى. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: وَطِئَ الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا كَانَ يَرْفَعُ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَرْفَعَ [مَا] دُونَهَا أَوْلَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ أَنَّ التَّعَلُّقَ بَعْدَ إيضَاحِ الْإِجْمَاعِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِ الدَّلِيلِ أَوْ فِي مَأْخَذِهِ، وَلَيْسَ الْأَوْلَى عَيْنَ الدَّلِيلِ وَلَا رُكْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَانَ الْمَعْنَى الْحَاضِرُ غَيْرُهُ بَطَلَ التَّعَلُّقُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: هَدَمَ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهُ أَوْلَى، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنْ لَا هَدْمَ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْهَدْمِ فَلَا جَمْعَ قَالَ: وَلَسْنَا نَرَى فِي التَّعَلُّقِ كَثِيرَ فَائِدَةٍ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ، نَعَمْ نَبَّهَ عَلَى مَعْنَى الْأَصْلِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ شَيْئًا زَائِدًا. .
[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]
ِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ، عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُزِيلُ، فَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، كَمَا فِي الْحِسِّيَّاتِ أَنَّ الْجَوْهَرَ إذَا شَغَلَ الْمَكَانَ يَبْقَى شَاغِلًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُغَيِّرٌ، فَيُقَالُ: الْحُكْمُ الْفُلَانِيُّ قَدْ كَانَ فَلَمْ نَظْنُنْ عَدَمَهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَظْنُونُ.
الْبَقَاءِ. قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": وَهُوَ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى، فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ يَطْلُبُ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي زَوَالِهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثُبُوتِهِ فَالْأَصْلُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ حُجَّةٌ يَفْزَعُ إلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْحَادِثَةِ حُجَّةً خَاصَّةً. وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ. وَالنَّفْيُ لَهُ حَالَتَانِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ النَّفْيُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا وُجُودِيًّا عِنْدَنَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَنُقِلَ عَنْ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله، أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الزَّمَانِ يَفْتَقِرُ إلَى الدَّلِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَيُخَالِفُ الْحِسِّيَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ فِيهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَلَا تَلْحَقُ بِهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِالْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ مُطْلَقًا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِي الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ جَمِيعًا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، إذْ تَفَارِيعُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حُجَّةٌ.
قُلْت: وَالْمَنْقُولُ فِي كُتُبِ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ لِلْعُذْرِ وَالدَّفْعِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ وَلَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ بَقَاءَهَا صَلُحَتْ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ حَتَّى لَا يَرِثَ مِنْ الْأَقَارِبِ، وَالثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ قَالَ: وَلَكِنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: إنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُصْبِحُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ فِي مَوْضِعِ النَّظَرِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْقِيَاسِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ شَرْعًا فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ وَلَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ يُرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَوْجَبَ فِي الْأَوَّلِ شُبْهَةً، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ احْتِمَالِهِ النَّسْخَ إذْ ذَاكَ، وَهَذَا كَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَإِنْ يَبْنِي عَلَى الطَّهَارَةِ مَعَ احْتِمَالِ الْحَدَثِ، وَكَمَنْ شَكَّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَعِتْقِ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّ الثَّابِتَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ يُشْبِهُ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ عَمِلُوا فِيهَا بِالْأَصْلَيْنِ، كَوُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَنْ الْعَبْدِ الْمُنْقَطِعِ الْخَبَرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا إذَا ظَهَرَ لِبِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ لَبَنٌ فَارْتَضَعَ مِنْهُ صَغِيرٌ حَرَّمَ وَلَا يَحْكُمُ بِبُلُوغِهَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْبُلُوغِ قَائِمٌ وَالرَّضَاعُ كَالنَّسَبِ يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إلَّا أَقْصَى الدَّاخِلِ فِي مَقْدُورِهِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ يَبْقَى الْوُجُوبُ وَلَا يَسْمَعُ فِيهِ إذَا انْتَصَبَ مَسْئُولًا فِي مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا تَنَاظَرُوا وَتَذَكَّرُوا طُرُقَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُغْنِي الْمُجِيبَ قَوْلُهُ: لَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَلْ هُوَ إلَّا مُدَّعٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ عُهْدَةُ الطَّلَبِ بِالدَّلَالَةِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا سَبَقَ. قَالَ إلْكِيَا: وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ صَالِحٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، إحَالَةً عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ، لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَسَائِلَ:(مِنْهَا) مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِلْأَبِ الْمُدَّعَى، وَالْأَبُ مَيِّتٌ، فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَالْبَقَاءُ بَعْدَ الثُّبُوتِ إنَّمَا يَكُونُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَثْبُت دَفْعًا عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ، فَأَمَّا لِإِيجَابِ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا، وَمِلْكُ الْوَارِثِ لَمْ يَكُنْ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: الْمَفْقُودُ لَا يَرِثُ أَبَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ الْأَوَّلِ قَالَ: وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ دَلَالَةَ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلَالَةِ الْبَقَاءِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَصٌّ وَالْآخَرَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ لَا نَقُولُ: الْبَقَاءُ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ، بَلْ لِبَقَاءِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ لَا غَيْرَ. نَقَلَهُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ لَا أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ، قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ، فَلَا يَحْلُلْنَ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: نِكَاحٌ، أَوْ مِلْكُ يَمِينٍ، وَالنِّكَاحُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَقِيلَ: إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ مِنْ أَقْوَاهَا، قَالَ: وَأَجْمَعُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِصْلَاحِهِ لِلدَّلِيلِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّرْجِيحَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ. هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ، وَسَيَأْتِي أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: اسْتَقْرَأْت الِاسْتِصْحَابَ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْأَصْحَابُ فَوَجَدْت صُوَرًا كَثِيرَةً وَإِنَّمَا يُسْتَصْحَبُ فِيهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَعَكْسِهِ. وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ فَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَا عِلْمَ فِيهَا. وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُسْتَصْحَبَ لِلْحَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ سِوَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ صَحَّ اسْتِصْحَابُهُ، كَمَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى إبْطَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَالشِّغَارِ، بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَقْدَ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلَالَةِ. وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ إثْبَاتَ خِلَافِ قَوْلِ خَصْمِهِ مِنْ وَجْهٍ يُمْكِنُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ كَمَنْ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ: إنَّهُ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ خُصُومِهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا طَلَاقَ وَلَا ظِهَارَ وَلَا لِعَانَ، فَيَتَعَارَضُ بِالْأَصْلِ أَنْ لَا يَمِينَ وَلَا كَفَّارَةَ، فَيَتَعَارَضُ الِاسْتِصْحَابَانِ وَيَسْقُطَانِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيحِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُطْلِقُهُ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ النِّزَاعِ بِغَيْرِهِ فَنَقُولُ: لِلِاسْتِصْحَابِ صُوَرٌ:
إحْدَاهَا: اسْتِصْحَابٌ دَلَّ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ: كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَان الْقَوْلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إتْلَافٍ أَوْ الْتِزَامٍ، وَدَوَامِ الْحِلِّ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ النِّكَاحِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، إلَى أَنْ يَثْبُتَ مُعَارِضٌ لَهُ. وَمِنْ صُوَرِهِ تَكَرُّرُ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ. .
الثَّانِيَةُ: اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ التَّكَالِيفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِهِ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَيْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَمِنْ هَذَا يَسْتَشْكِلُ الْقَوْلُ بِهَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: إنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ حُجَّةَ الْعَقْلِ دَلِيلٌ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ سَمْعًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُنَا، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِنَا مَا فِي الْعَقْلِ فَصِرْنَا إلَيْهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّرْعُ لَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَدُلُّ إذًا إلَّا عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ. وَقَوْلنَا لِمَنْ يُوجِبُ الْوِتْرَ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ، فَأَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ. .
الثَّالِثَةُ: اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ: عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ. وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. .
الرَّابِعَةُ: اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ: إمَّا تَخْصِيصًا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا، أَوْ نَسْخًا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا، فَهَذَا أَمْرُهُ مَعْمُولٌ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ. ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهَا مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ، وَلَوْ سَمَّاهُ اسْتِصْحَابًا لَمْ يُنَاقَشْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدِي غَيْرُ دَلِيلِ بَقَائِهِ فَإِنَّ النَّصَّ مَثَلًا أَثْبَتَ أَصْلَهُ، ثُمَّ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ الْمُزِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَلِيلُ الْبَقَاءِ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَمَا جَازَ النَّسْخُ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَرْفَعُ الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَ الدَّوَامَ، كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَرَّةِ أَوْ الْمُطْلَقِ، وَقُلْنَا: لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا النَّسْخُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِفِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّقْرِيرِ وَالْبَقَاءِ نَصًّا، كَقَوْلِهِ: افْعَلُوهُ دَائِمًا أَبَدًا، وَهُوَ فِي الِاسْتِمْرَارِ ظَاهِرٌ. فَهُمَا دَلِيلَانِ: نَصٌّ فِي الثُّبُوتِ وَظَاهِرٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، وَأَبُو زَيْدٍ أَطْلَقَ، وَأَصَابَ فِي قَوْلِهِ: دَلِيلُ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلِيلِ الْبَقَاءِ، وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ: دَلِيلُ الْبَقَاءِ عَدَمُ الْمُزِيلِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ فِي شَيْءٍ. (انْتَهَى) . .
الْخَامِسَةُ: اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ: وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، بِأَنْ يُتَّفَقَ عَلَى حُكْمٍ فِي حَالَةٍ ثُمَّ تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَيَخْتَلِفُ الْمُجْمِعُونَ فِيهِ، فَيَسْتَدِلُّ مَنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْحُكْمَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. مِثَالٌ: إذَا اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَصْحَبَ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ. وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، كَمَا قَالَهُ فِي الْقَوَاطِعِ " وَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فِيهَا: فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ - مِنْهُمْ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ - إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الطَّوَائِفِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ": إنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، بَلْ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أَوْ غَيْرُهُ إلْحَاقَهُ بِمَا قَبْلَ الصِّفَةِ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْقُطْنِيُّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقَطَّانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": " كَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ شَدِيدَ الْقَوْلِ بِهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ مَا كَانَ يَخْرُجُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرُهُمْ أَيْضًا شَدِيدُو الْقَوْلِ بِهِ. انْتَهَى.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا، فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَدُلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ. وَحُكِيَ الْأَوَّلُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، كَانَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ يَقُولُ: دَاوُد لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَهُنَا يَقُولُ بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ الْخِلَافِ عَلَى حَالَةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ.
وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ غَيْرُ مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا يُوجَبُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ صِفَةُ تَغَيُّرِهِ، وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مُحَالٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا مُسْتَنَدَ إلَى الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْقَوْلُ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ يُؤَدِّي إلَى التَّكَافُؤِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَصْحِبُ حَالَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ إلَّا وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَهُ فِي مُقَابِلِهِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: أَجْمَعْنَا عَلَى بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَنَسْتَصْحِبُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِيهَا، وَتَغَيُّرُ الْأَحْوَالِ لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَنَقَلَ إلْكِيَا عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ، فَمَنْ ادَّعَى مَا يُبِيحُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ (قَالَ) : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ؟ .
إنْ قُلْت: قَبْلَهُ، فَمُسَلَّمٌ، أَوْ بَعْدَهُ، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً لِكَلَامِهِ. قُلْت: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": وَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ، وَقَالَ أَنَا أُقَرِّرُ الِاسْتِصْحَابَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ، فَقُلْت: هَاتِ فَقَالَ: إذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي إبْطَالِ الْوَقْفِ: أَنَّ مَا وُقِفَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالِاتِّفَاقِ مِلْكُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَقُلْت: الْعَكْسُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْوَقْفِ قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، فَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ إلَّا بِدَلِيلٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ لَا مِلْكَ لِلْوَاقِفِ عَلَى الْكِرَاءِ الَّذِي يَأْخُذُ بَدَلًا عَنْ الْمَنَافِعِ، فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِدَلِيلٍ. الثَّالِثُ: مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْوَقْفِ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ، الْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ: إذَا كَانَتْ مَسَائِلُ الِاسْتِصْحَابِ هَكَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْأَحْكَامِ قَالَ: وَمَا ادَّعَوْهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ بِالِاسْتِصْحَابِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ جُمْلَةً، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا. أَمَّا فِي اسْتِصْحَابِ الْعَامِّ وَالنَّصُّ قَبْلَ الْخَاصِّ وَالنَّاسِخِ فَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَائِمٌ وَهُوَ الْعَامُّ وَالنَّصُّ. وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ دَلِيلِ الْعَقْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَمِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قَائِمٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا، كَمَا فِي الْعَامِّ وَالنَّصِّ، فَوَجَبَ
الْحُكْمُ بِهِ. وَأَمَّا فِي اسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ قَدْ زَالَ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَوَجَبَ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ حَسَنَةٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَا اسْتِصْحَابَ الْإِجْمَاعِ لَفْظِيٌّ، وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّا لَا نُثْبِتُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا نَحْكُمُ لِشَيْءٍ لِأَجْلِ الِاسْتِصْحَابِ، لَكِنْ نَطْلُبُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةً يُقِيمُهَا، فَإِذَا لَمْ يُقِمْ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْكُمَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ. وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَهَذَا لَا نَقُولُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ مَا. انْتَهَى. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى تَغَايُرُ الْأُولَى، قَدْ ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ، وَحَاصِلُهَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ، وَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الدَّوَامِ إثْبَاتٌ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ اسْتِمْرَارُ مَا كَانَ لِعَدَمِ طَرَيَان مَا يَرْفَعُهُ. وَهِيَ تَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْكَلَامِيِّ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ فِي مَحَلِّ الْبَقَاءِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: فَإِنَّ قُلْنَا: لَا يَحْتَاجُ وَصَحَّتْ وَإِلَّا لَمْ يَنْتَهِضْ، لِأَنَّك فِي الدَّوَامِ تُرِيدُ دَلِيلًا وَأَنْتَ مُثْبِتٌ بِهِ فَكَيْفَ نَقُولُ: لَمْ نَحْكُمْ لِشَيْءٍ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافٍ آخَرَ فِي أَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ، هَلْ هِيَ الْإِمْكَانُ أَوْ الْحُدُوثُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوْ الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِمْكَانُ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَنْتَهِضُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَمِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ: إذَا حُقِّقَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْأَصْلُ يَقْتَضِي كَذَا، فَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصْلِ أَصْلَ الشَّرْعِ، أَوْ أَصْلَ الْعَقْلِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَقْلَ فَالْخَصْمُ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، فَلَا يُسْتَصْحَبُ الْحَالُ فِيهَا.
وَإِنْ أَرَادَ أَصْلَ الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا.
تَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ يُقَالُ بِالْتِزَامِ الثَّانِي بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقْرَأٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ. وَبَقِيَ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ " أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلشَّيْءِ أَصْلٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْحِلِّ أَوْ الْحَظْرِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي لَحْمٍ، فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِلَحْمٍ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ لَحْمُ مَيْتَةٍ، أَوْ ذَكَاةُ مَجُوسِيٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا يَبْقَى التَّحْرِيمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ. وَلَوْ اشْتَرَى صَاعًا مِنْ مَاءِ بِئْرٍ فِيهِ قُلَّتَانِ، ثُمَّ قَالَ: أَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ فَإِنْ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ. انْتَهَى. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى كُنَّا عَلَى حَالٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا فَنَحْنُ عَلَيْهَا، فَمَنْ ادَّعَى الِانْفِصَالَ عَنْهَا احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِصْحَابِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَنْبَنِي عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ، فَإِنَّا إنْ لَمْ نَقُلْ بِاسْتِمْرَارِ حَالِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ. انْتَهَى.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فَجَعَلَ الْخِلَافَ مَعْنَوِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ فِي كُلِّ مَا رَآهُ مُبَاحًا فَلَا يَحْظُرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لَمْ يَسْتَصْحِبْ شَيْئًا. السَّادِسَةُ: وَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قَسِيمًا لِمَا سَبَقَ: اسْتِصْحَابُ الْحَاضِرِ فِي الْمَاضِي: وَهُوَ الْمَقْلُوبُ فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ أَمْرٍ فِي الثَّانِي لِثُبُوتِهِ فِي الْأَوَّلِ، لِفُقْدَانِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ. وَهَذَا الْقِسْمُ فِي ثُبُوتِهِ فِي الْأَوَّلِ لِثُبُوتِهِ
فِي الثَّانِي، كَمَا إذَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّ زَيْدًا هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْسِ فِي مَكَانِ كَذَا.
وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فِيهِ الْيَوْمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، إذْ الْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْمَاضِي لِلْحَالِ. وَهَذَا الْقِسْمُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَنَقُولُ: إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمُدَّعِي فَنَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَضْعُ غَيْرَهُ فِيمَا سَبَقَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ إلَى هَذَا الْوَضْعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَغَيُّرِهِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا كَلَامٌ ظَرِيفٌ وَتَصَرُّفٌ غَرِيبٌ قَدْ يُتَبَادَرُ إلَى إنْكَارِهِ، وَيُقَالُ: الْأَصْلُ اسْتِقْرَارُ الْوَاقِعِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إلَى هَذَا الزَّمَنِ، أَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ انْعِطَافُ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْوَضْعُ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَاقِعُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا، كَمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّهُ طَرِيقُ جَدَلٍ لَا جَلَدٍ، وَالْجَدَلُ طَرِيقٌ فِي التَّحْقِيقِ سَالِكٌ عَلَى مَحَجٍّ مُضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا تَضْعُفُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إذَا ظَهَرَ لَنَا تَغَيُّرُ الْوَضْعِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَلَا بَأْسَ. قُلْت: وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ مُنَافَاةُ هَذَا الْقِسْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ [مَا] إذَا اشْتَرَى شَيْئًا وَادَّعَاهُ مُدَّعٍ وَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ.
قَالُوا: فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَكِنَّهَا تُظْهِرُهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَى إقَامَتِهَا وَيُقَدِّرُ لَهُ لَحْظَةً لَطِيفَةً. وَمِنْ الْمُحْتَمَلِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُمْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا، وَهُوَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ فِيهِ فِيمَا مَضَى، اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: إذَا وَجَدْنَا رِكَازًا وَلَمْ نَدْرِ هَلْ هُوَ إسْلَامِيٌّ أَمْ جَاهِلِيٌّ؟ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ عَلَى وَجْهٍ، لِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى.