الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الْبَاطِنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَبِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: يَعْمَلُ فِي الْبَاطِنِ بِنَقِيضِ اجْتِهَادِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ " وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ أَنَّهُ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا كَانَ حَرَامًا فِي نَظَرِهِ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ هَلْ يُغَيِّرُ مَا فِي الْبَاطِنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَهُمَا الْتِفَاتٌ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَمْ لَا؟ .
[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]
مَسْأَلَةٌ مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ خِلَافٌ: ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُقَلِّدُهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ إجْمَاعِ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا لِأَنَّ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ، مَعَاذَ اللَّهِ: فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُ قَدْرًا، بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ لَمْ يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ كَمَا ثَبَتَتْ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ قَدْ طَبَقُوا الْأَرْضَ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَفَوْا النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَسَبَرُوا وَنَظَرُوا وَأَكْثَرُوا أَوْضَاعَ الْمَسَائِلِ. وَنَازَعَ الْمُقْتَرَحُ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ جَمَعَ سَبْرًا أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ عَلَى قَضِيَّةِ هَذَا. قَالَ: إنَّمَا الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ فِي الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنْ تَعْطِيلِ مَعَاشِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُمْ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ
قُلْت: وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ: مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَهُ عُقُولُنَا. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ ".
وَمَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَأْخَذِ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذْهَبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ: مِنْ قُوَّةِ عِبَارَاتِهِمْ وَاسْتِصْعَابِهَا عَلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ. وَمِنْهَا: احْتِمَالُ رُجُوعِ الصَّحَابِيِّ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَمَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قَدْ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ. - وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ إسْنَادُ ذَلِكَ إلَى الصَّحَابَةِ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْمُصَنِّفِينَ فَإِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِنَقْلِهَا عَنْ الْأَئِمَّةِ، فَلِهَذِهِ الْغَوَائِلِ حَجَرْنَا عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ. ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ غَائِلَةٌ هَائِلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ هِيَ الْوَاقِعَةُ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَيَكُونُ غَلَطًا، لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا لِلْغَلَطِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ وَظَوَاهِرِهِ. إمَّا لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً، فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ. وَأَمَّا ابْنُ الصَّلَاحِ فَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْفُتْيَا " بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَزَادَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ التَّابِعِينَ أَيْضًا وَلَا مَنْ لَمْ يُدَوَّنْ مَذْهَبُهُ، وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ الَّذِينَ دُوِّنَتْ مَذَاهِبُهُمْ وَانْتَشَرَتْ حَتَّى ظَهَرَ مِنْهَا تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً، فَلَعَلَّ لَهَا مُكَمِّلًا أَوْ مُقَيِّدًا أَوْ مُخَصِّصًا، أَوْ أُنِيطَ كَلَامُ قَائِلِهِ، فَامْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْحَصِرُ التَّقْلِيدُ فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ. وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد عَلَى خِلَافٍ فِي دَاوُد حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ ذَوُو الْأَتْبَاعِ. وَلِأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَتْبَاعٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا. وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى [أَنَّ] الصَّحَابَةَ يُقَلَّدُونَ لِأَنَّهُمْ قَدْ نَالُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَهُمْ بِالصُّحْبَةِ يَزْدَادُونَ رِفْعَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إنْ عُلِمَ دَلِيلُهُ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي فَتَاوِيهِ " إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ. وَقَدْ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ إنَّ تَحَقُّقَ ثُبُوتِ مَذْهَبٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا، وَإِلَّا فَلَا، [لَا] لِكَوْنِهِ لَا يُقَلَّدُ، بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ فِي الْمَذَاهِبِ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ لَمْ تَكْثُرْ فُرُوعُهَا حَتَّى يُمْكِنَ الْمُكَلَّفُ الِاكْتِفَاءَ بِهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إلَى الِانْتِقَالِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَمَذَاهِبُ الْمُتَأَخِّرِينَ ضُبِطَتْ، فَيَكْفِي الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ الْمُكَلَّفَ طُولَ عُمُرِهِ، فَيَكْمُلُ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ مَنْعُ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ إلْكِيَا، بَعْدَ أَنَّ قَرَّرَ مَنْعَ الِانْتِقَالِ: الْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابَةِ إذَا كَانَ مُقَلِّدًا، بَلْ يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُصُولَ الَّتِي وَضَعَهَا أَبُو بَكْرٍ لَا تَفِي بِمَجَامِعِ الْمَسَائِلِ. وَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ وَافِيَةٌ بِهَا. فَلَوْ قُلْنَا بِتَقْلِيدِ الصِّدِّيقِ فِي حُكْمٍ لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِي حُكْمٍ آخَرَ، وَقَدْ لَا يَجِدُهُ. مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْلِيدِ أَوْجَبُوا التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمُسْتَنَدُهُمْ فِيهِ أَنَّهُمْ
اسْتَوْعَبُوا الْأَسَالِيبَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أُسْلُوبٌ مُتَمَاسِكٌ عَلَى السَّبْرِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَحْدَثَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْجَدَلِيَّةُ بَعْدَهُمْ خِلَافَ أَسَالِيبِهِمْ قَطَعَ كُلُّ مُحَقِّقٍ أَنَّهَا بِدَعٌ وَمَخَارِقُ لَا حَقَائِقَ. لَكِنَّ الْجَدَلِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَثْبُتُ بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْجَدَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ فِي اسْتِحْدَاثِهَا تَمْرِينُ الْأَذْهَانِ وَتَفْتِيحُ الْأَفْكَارِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُسْتَنَدَاتٌ وَحُجَجٌ عِنْدَ اللَّهِ يَلْقَى بِهَا فَلَا. وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمَّا أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا اجْتَرَءُوا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ، وَسَبَقَ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ؟ وَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ بِالْبُرْهَانِ حَتَّى لَمْ يُبْقُوا لَهُمْ بَاقِيَةً يَسْتَبِدُّونَ بِهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَظَهَرَ بِهَذَا تَعَذُّرُ إثْبَاتِ مَذْهَبٍ مُسْتَقِلٍّ بِقَوَاعِدَ.
مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُحِيطِ ": إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَحِلَ نِحْلَةَ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِّيِّ، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: فُلَانٌ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَفُلَانٌ يُخَالِفُهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ لَهُ: خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْجُهَّالَ مَمْنُوعُونَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي شَيْئَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَ (الثَّانِي) أَصْلُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ مَا الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى قَوْمٍ اخْتِيَارَ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ
دُونَ غَيْرِهِ؟ فَذَهَبَ أَصْحَابُ دَاوُد وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّا إنَّمَا رَجَعْنَا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَالْأَخْذِ بِأَقَاوِيلِهِمْ وَالْعَمَلِ بِفَتَاوَاهُمْ تَقْلِيدًا لَهُ، وَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ وَالْبَحْثُ عَنْ الْأَدِلَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ دُونَ قَوْلِ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الْعِصْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّا إنَّمَا صِرْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَاهُ أَهْدَى النَّاسِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَكْمَلَهُمْ آلَةً وَهِدَايَةً فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَتُهُ أَسَدَّ الطُّرُقِ سَلَكْنَاهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ: أَمَّا فِي اللُّغَةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فَلِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حَتَّى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ فَزِعَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنْ يَذْكُرُوا فَضْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَالِكٍ، وَمِنْهُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ جَمِيعُ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ حَفِظَهُ الشَّافِعِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْدَمَ فِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ مِنْ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ. وَأَمَّا الْآي وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِهَا. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَحَاطُوا بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ. وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ عَامِّيٍّ تَقْلِيدُهُ، وَتَابَعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ
مِنْ غَيْرِهِمْ تَقْلِيدًا فَيَتَعَيَّنُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَكَأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَقْلِيدٍ فَلْيُقَلَّدْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا اُبْتُدِئَ بِهِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ فَصَاعِدًا يُقَلِّدُ عَالِمًا بِعَيْنِهِ لَا يُخَالِفُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ. وَأَحَقُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْ أُمُّ الْكَمَلَةِ عَنْ بَنِيهَا: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْت أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِمْ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضَّلِينَ عَلَى التَّعْيِينِ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْعَادَةِ، فَلَا يَكَادُ يَسَعُ ذِهْنُ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِتَفْضِيلِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ إلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عَنْ اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قَالَ النَّاظِرُ حِينَئِذٍ: هَذِهِ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَإِلَّا فَمَا يُتَصَوَّرُ فِي آيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، لِتَنَاقُضِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْمَفْضُولِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ، عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ، عِنَايَةً مِنْ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِذَا قِيسَ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ كَانَتْ خَارِقَةً لِعَوَائِدِ أَشْكَالِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ مَنْ قَلَّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ ارْتَفَعَ قَلِيلًا إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ، فَإِذَا رَأَى حَدِيثًا مُحْتَجًّا بِهِ يُخَالِفُ رَأْيَ إمَامِهِ وَقَالَ بِهِ قَوْمٌ، فَهَلْ لَهُ الِاجْتِهَادُ؟ وَفِي
ذَلِكَ أَطْلَقَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ قَوْلِي بِخِلَافِ قَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، فَخُذُوا بِهِ، وَدَعُوا قَوْلِي. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَدْ اعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُعَارِضِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى يُحْسِنَ أَنْ يُقَالَ: لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، أَمَّا اسْتِقْرَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَحْجِيرٌ، وَمَا يُرِيدُ بِ " انْتِفَاءِ " الْمُعَارِضِ إنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَبَاطِلٌ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ فَبَاطِلٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ " أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ " فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَ لَهُ الْحُكْمُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ دَلِيلٌ، ثُمَّ يَقُولُ:" إذَا صَحَّ حَدِيثٌ أَقْوَى مِمَّا عِنْدِي، فَذَلِكَ مَذْهَبِي، فَخُذُوا بِهِ، وَاتْرُكُوا قَوْلِي " فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ؟ ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، كَالْبُوَيْطِيِّ وَالدَّارَكِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْهَيِّنِ، فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهِ يُسَوِّغُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ عَمِلَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْجَارُودِ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ، وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ سُنَّةً لِلرَّسُولِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كِتَابَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: إنْ كَانَ فِيهِ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ تَكْتَمِلُ آلَتُهُ، وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ، وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ
إنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِمَنْ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا، وَنَحْوِهَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عَنْهُ، وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ، قَلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: إنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ، لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنْقُولِ، بِحَيْثُ عَرَفَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ اخْتِلَافٍ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا، وَالْأَدِلَّةَ، وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْجُزْئِيِّ، وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَاحِثُ عَنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ أَقَاوِيلُهُمْ، وَعُدُّوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ أَنَّهُمْ إنَّمَا عُدُّوا لِذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْكُلِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَأَحَاطُوا بِأَدِلَّةِ جُمْلَةِ غَالِبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِ جَمْعٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُ الْقَوْلَ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، كَذَا، وَإِنْ صَحَّ قُلْت بِهِ، ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قَدْ صَحَّتْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ قَدْ صَحَّ، أَوْ يُعَلِّلُ رَدَّ الْحَدِيثِ بِعِلَّةٍ ظَهَرَتْ لَهُ يَظْهَرُ انْتِفَاؤُهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَثُرَ أَخْذُهُ بِالرَّأْيِ وَتَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْصُوفُ يُقَلِّدُ الْإِمَامَ فِي مَسَائِلَ يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهَا، وَقَعَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ، بَلْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَكِنْ جَمَعَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، وَعَرَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، لِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ إمَامِهِ، وَلَا بِهَذَا الدَّلِيلِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَيَنْبَغِي لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ
الْحَدِيثُ فِي جَانِبِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ اطِّلَاعَ إمَامِهِ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ لِعِلَّةٍ فِيهِ، أَوْ لِوُجُودِ أَقْوَى مِنْهُ. أَمَّا إنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَجْمَعْ أَدِلَّةَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، بَلْ رَأَى فِيهَا حَدِيثًا يَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فَهَذَا لَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُجَّةَ إمَامِهِ، كَمُخَالَفَةِ مَالِكٍ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِطَرِيقِهِ فَلْيَعْمَلْ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ إجْمَالًا، أَنَّ لِإِمَامِهِ أَوْ لِمَنْ خَالَفَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَدِلَّةً، يَجُوزُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ أَوْ يَقْوَى، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَتَرَجَّحُ مُخَالَفَةُ إمَامِهِ، وَلَهُ تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ الْحُجَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ إجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةٌ تَسُوغُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَجْمَعْ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا، فَالْأَوْلَى بِهَذَا تَتَبُّعُ الْمَآخِذِ، فَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى تَقْلِيدًا لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، وَلَهُ الْبَقَاءُ عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا اُسْتُقْرِئَ مِنْ أُصُولِ الصَّحَابَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى مَنْ اسْتَفْتَاهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ، وَسَأَلَ غَيْرَهُمْ عَنْ أُخْرَى، أُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَى مَنْ قَلَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ الْبَارِعُ فِي الْمَذْهَبِ وَمَآخِذِهِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِالْوُجُوهِ الْمَرْجُوحَةِ إذَا قَوِيَ مُدْرِكُهَا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا. (مِنْهَا) التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَفْتَى بِهِ، فَيَجُوزُ. أَوْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَتَبَيَّنَ الْمَأْخَذُ فَلَا.
وَ (مِنْهَا) وَهُوَ الْأَقْرَبُ، التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، كَجَرَيَانِ الرَّبَّا فِي الْفُلُوسِ إذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، وَبُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ اتَّخَذَهُ عَادَةً، وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّرْخِيصِ وَالتَّخْفِيفِ فَمُمْتَنِعٌ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَبَحُّرِ ذَلِكَ الْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فِي الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ قَطْعًا. وَحَيْثُ جَازَ فَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فَالْوَجْهُ أَوْلَى، وَهُوَ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهَا أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ الْقَفَّالُ فِي " فَتَاوِيهِ ": لَوْ قَالَ بِعْتُك صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُفْتِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْأَلُنِي إنَّمَا يَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَا عَنْ مَذْهَبِي. انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَقَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُهُ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذَا نَادِرٌ، لِأَنَّ نَظَرَ الْأَئِمَّةِ، كَانَ نَظَرًا مُتَنَاسِبًا مُفَرَّعًا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تَنْخَرِمُ.
مَسْأَلَةٌ فِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: امْتِنَاعُهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ شُرَيْحٍ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْمَفْضُولِ كَاعْتِقَادِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ مَعَ وُجُودِ الْأَرْجَحِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ