الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]
ٌ تَعَيَّنَتْ مُرَاجَعَتُهُ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهَلْ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ فِي الْأَعْلَمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ:(أَحَدُهُمَا) - وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ - أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِهَادًا آخَرَ فِي طَلَبِهِ، لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالسَّمَاعِ مِنْ الثِّقَاتِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِلْكِيَا، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَهْدَى إلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ. وَ (الْمُخْتَارُ) أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يَتَخَيَّرُ وَيَسْأَلُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصَحُّ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأَعْمَى: كُلُّ مَنْ دَلَّهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِبْلَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَمْ نَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَوْثَقِ، وَفِي خَبَرِ الْعَسِيفِ قَالَ وَالِدُ الزَّانِي: فَسَأَلْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُنَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ الْكُلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قَالَ إلْكِيَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَلَا يَجِبُ الْأَفْضَلُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى الصَّيْمَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بِفَتْوَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ فَاسِقًا فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا لَمْ يَنْفُذْ الطَّلَاقُ، وَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: هَؤُلَاءِ قَدْ أَفْتَوْك أَنَّك كُنْت عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ، وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَك الْيَوْمَ، وَأَنَا أَقُولُ لَك: إنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَك قَبْلَ هَذَا وَهِيَ الْيَوْمَ حَرَامٌ عَلَيْك. وَقَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ الْعَامِّيِّ إلَى مَذْهَبِهِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَرَجَعْت إلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَحُكِيَتْ لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ: كُنْت تَقُولُ: إنَّهُ كَمَا قُلْت بِهِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ تَقْلِيدَ الصَّيْمَرِيِّ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا قَلَّدَ ثِقَةٌ شَافِعِيًّا تَخَلَّصَ مِنْ الْإِثْمِ وَالتَّبِعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، هَلْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُقَلِّدُ فِيهَا؟ بِحَيْثُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ عَلَى مَذْهَبِ فَقِيهٍ أَقْوَى وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ؟ اخْتَلَفَ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقُدُورِيِّ، فَأَوْجَبَهُ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ اسْتِحْسَانُ الْأَحْكَامِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَلَا أَنْ يَقُولَ: قَوْلُ فُلَانٍ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ، وَلَا حُكْمَ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا اعْتِنَاءَ بِهِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الِاسْتِحْسَانِ كَمَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الصِّحَّةِ. وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ، نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا - فَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: " وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ". وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَطْلُبُ الْأَعْلَمَ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الْأَوْرَعَ؟ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: عَلَيْهِ، اسْتِنْبَاطًا. وَقِيلَ: لَا، إذْ لَا تَعَلُّقَ لِمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَرَعِ، وَالْأَصَحُّ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ عِلْمًا عَلَى الرَّاجِحِ وَرَعًا. فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْأَسَنُّ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ، لِطُولِ الْمُمَارَسَةِ. وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا شَافِعِيٌّ مَثَلًا، وَالْآخَرُ حَنَفِيٌّ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَصْلِ الْمَذْهَبَيْنِ فَيَعْلَمُ أَيَّهُمَا أَصَحَّ؟ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالرَّأْيِ، وَالْآخَرُ عَلَى النَّصِّ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجِبُ طَلَبُ الْأَعْلَمِ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَالَ إلْكِيَا: أَمَّا اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقِيلَ: يَجُوزُ، كَمَا يُتَّبَعُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إمْكَانُ دَرْكِ التَّنَاقُضِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ جَوَابُ مُجْتَهِدَيْنِ، فَالْقَصْرُ فِي حَقِّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه. فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنُ سُرَيْجٍ اجْتَهَدَ فِي الْأَوْثَقِ وَالْأَفْقَهِ.
وَإِنْ قُلْنَا بِخِلَافِهِ قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَفِيهِ أَوْجُهٌ: (أَصَحُّهَا) : فِي " الرَّافِعِيِّ ": أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا تَسَاوَيَا فِي نَفْسِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَأَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ غَلَطٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَوْ لَمْ أَجِدْ تَخْيِيرَ الْعَامِّيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لَمَا كَانَ الْهُجُومُ عَلَى تَقْرِيرِهِ سَائِغًا، وَدَلَّ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَالَ: لَا تَنْزِلُوا حَتَّى تَأْتُوهُمْ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ: لَا تَنْزِلُوا عَلَى ظَاهِرِهِ. فَلَمَّا عُرِضَتْ الْقِصَّةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَطِّئْ أَحَدًا مِنْهُمْ» . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّرِيَّةَ مَا خَلَتْ عَمَّنْ لَا نَظَرَ لَهُ وَلَا مَفْزَعَ إلَّا تَقْلِيدُ وُجُوهِ الْقَوْمِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ مُخَيَّرًا، وَبِاخْتِيَارِهِ قَلَّدَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ عَتْبٌ وَلَا عَيْبٌ. و (الثَّانِي) : يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَ (الثَّالِثُ) : يَأْخُذُ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَخَفِّ. وَ (الرَّابِعُ) : يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَعْلَمِهِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ اسْتَوَيَا قَلَّدَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّهُ قَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي الْقِبْلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَعْمَى، عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ أَوْثَقَهُمَا وَأَدْيَنَهُمَا عِنْدَهُ. وَيُفَارِقُ مَا قَبْلَ السُّؤَالِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ فِي الِاجْتِهَادِ فِي أَعْيَانِهِمْ مَشَقَّةً. وَ (الْخَامِسُ) : يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ حِينَ سَأَلَهُ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ الرُّويَانِيِّ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لَوْ أَجَابَاهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: قَدْ لَزِمَهُ قَوْلُ السَّابِقِ.
وَ (السَّادِسُ) حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَبْنِي عَلَى الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ (سَابِعًا)، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَوْلَى، أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي قَوْلِ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُمَا. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ (ثَامِنًا) وَهُوَ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ حَقِّ عِبَادِهِ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا، وَمَا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَبِأَثْقَلِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْكَعْبِيُّ. وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ " الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ "(تَاسِعًا) عَنْ؛ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ، أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِلْفَهْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَنْ حُجَّتِهِمَا فَيَأْخُذَ بِأَرْجَحِ الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ. وَإِنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ (عَاشِرٌ) وَهُوَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمَا إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ) : وَلَوْ كَانَا عِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا) يَتَخَيَّرُ. وَ (الثَّانِي) يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا وَيُصَلِّي إلَى جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا بَيَّنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيُرَاجِعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ: تَنَاقَضَ عَلَى جَوَابِكُمَا وَتَسَاوَيْتُمَا فَمَا الَّذِي يَلْزَمُنِي؟ فَإِنْ خَيَّرَاهُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ الْمِيلِ إلَى أَحَدِهِمَا فَعَلَ، وَإِنْ أَصَرَّا عَلَى الْخِلَافِ: فَإِنْ كَانَا سَوَاءً فِي اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ أَرْجَحَ فَوَجْهَانِ: اخْتَارَ الْقَاضِي التَّخْيِيرَ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ اتِّبَاعَ الْأَفْضَلِ، لِرُجْحَانِ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ هُنَا مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالْإِصْرَارِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا ضَرُورَةَ بِهِ تَدْعُو إلَى اتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمِ اعْتِبَارِ ضِدِّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي أَشَارُوا إلَيْهِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَعَدَمُ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ. قِيلَ: وَكَأَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مُخَرَّجٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعِلَّتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي الْحَظْرَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: بَلْ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، أَوْ: كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَمَنْ خَيَّرَ بَيْنَهُمَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ قَالَ " الْمُصِيبُ وَاحِدٌ.
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا، فَلَوْ اسْتَفْتَى عَالِمًا فَعَمِلَ بِفَتْوَاهُ
ثُمًّ أَفْتَاهُ آخَرُ بِخِلَافِهِ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، قَالَهُ فِي " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ تَسَاوَيَا فِي ظَنِّهِ وَلَا تَرْجِيحَ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَقِيلَ: يَحْكُمُ بِخَاطِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ (الْإِلْهَامِ) . وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْلِيقُ بِعِلْمِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِيَكُونَ بَانِيًا عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": يَجْتَهِدُ، فَإِنْ ظَنَّ أَرْجَحِيَّةً فِي أَحَدِهِمَا عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ وَيَسْقُطَ التَّكْلِيفُ وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ ظَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي الدِّينِ دُونَ الْعِلْمِ قَلَّدَ الْأَعْلَمَ. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ. وَبِالْعَكْسِ الْأَدْيَنَ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَهَا أَعْلَمَ وَالْآخَرَ أَدْيَنَ فَالْأَقْرَبُ الْأَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَصْلٌ وَالدِّينُ مُكَمِّلٌ. .
مَسْأَلَةٌ إذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فَقِيهًا مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَاهُ عَمِلَا بِهِ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ لَمْ يَجِدَا حَاكِمًا لَمْ يَلْزَمْهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ حَتَّى يَلْتَزِمَاهُ. وَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ ثُمَّ تَنَازَعَا إلَى الْحَاكِمِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ فِي الْبَاطِنِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى فَتْوَى الْفُقَهَاءِ، وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، أُجِيبَ الدَّاعِي إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ فُتْيَا الْفَقِيهِ إخْبَارٌ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ إجْبَارٌ، وَإِذَا دَعَا الْخَصْمُ إلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لَمْ تُجْبِرْهُ، وَإِنْ دَعَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَجْبَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الْفَقِيهُ عَدْلًا وَالْحَاكِمُ لَيْسَ بِعَدْلٍ فَأَفْتَاهُمَا الْفَقِيهُ بِحُكْمٍ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فِي الْبَاطِنِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْفَقِيهِ، وَلَزِمَهُمَا فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ إنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ قَوْلَهُ. فَإِنْ سُئِلَ عَنْ حِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ جَازَتْ حِكَايَتُهُ. وَلَوْ جَازَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ جَازَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَإِذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ. قَالَ: وَإِذَا أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَمْ يُخْبِرْ فِي الْقَبُولِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ، وَكَذَا إنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفْتِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّخْيِيرِ مَعْلُومًا مِنْ قَصْدِ الْمُفْتِي لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَيِّرَهُ لَفْظًا، بَلْ يَذْكُرَ لَهُ قَوْلَهُ فَقَطْ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُكْمُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ تَخْيِيرَهُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسْتَفْتِي مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَاخْتَارَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ هَذَا الْعَالِمِ وَلَا يَجِبُ تَخْيِيرُهُ. .
مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ سَأَلَهُ الْعَامِّيُّ عَلَى يَمِينٍ مَثَلًا وَكَانَ مُعْتَقَدُهُ الْحِنْثَ، أَنْ يُحِيلَهُ عَلَى آخَرَ يُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ أَوْ لَا؟ الظَّاهِرُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَمْرُ مُقَلِّدِهِ بِذَلِكَ. وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَفْتِي لَا تَشْدِيدًا وَلَا تَسْهِيلًا وَلَا بِحِيلَةٍ. وَقَدْ عَرَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ.
ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَحْمَدَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ إرْشَادِهِ إلَى آخَرَ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ. وَفِي " تَعْلِيقِ " الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فِي (بَابِ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ) أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ كَالْحَنَفِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، يَقَعُ عَلَى مُعْتَقِدِ إبَاحَتِهِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَفْتَى الشَّافِعِيُّ مَنْ يَرَى مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ. فَلَمَّا أَفْتَاهُ بِمَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ بَطَلَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ. .
مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْعَالَمِ أَنْ يُفْتِيَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يُحَكِّمُ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. قَالَ: وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتْوَاهُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فِيمَا هَذَا شَأْنُهُ. قُلْت: قَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " فِي هَذَا احْتِمَالَيْنِ. فَلَوْ رَضِيَ الْآخَرُ بِفَتْوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ إذَا أَفْتَى بِنَصٍّ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا فَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا فَتْوَى نَفْسِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى أَمْرِ دِينِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:«اسْتَفْتِ نَفْسَك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك» . وَأَمَّا فَتْوَاهُ فِيمَا يَعُودُ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ مَا سَبَقَ. .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ عِلَّتَهُ، خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. .
مَسْأَلَةٌ مَتَى يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ الْعَمَلُ بِمَا يُلَقِّنُهُ الْمُجْتَهِدُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: (أَحَدُهَا) : بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ. وَ (الثَّانِي) : إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ وَحَقِيقَتُهُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَوْلَى الْأَوْجُهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَمْ أَجِدْهُ لِغَيْرِهِ. وَ (الثَّالِثُ) : ذَكَرَهُ احْتِمَالًا: أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَالْكَفَّارَاتِ. وَهُوَ يَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشُّرُوعَ فِيمَا يَلْزَمُ مُلْزِمٌ. وَ (الرَّابِعُ) : - وَهُوَ الْأَصَحُّ - لَا يَلْزَمُهُ بِهِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، كَالنَّذْرِ، فَيَصِيرُ بِالْتِزَامِهِ لَازِمًا لَهُ، لَا بِالْفُتْيَا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ التَّخْيِيرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ جَوَابُ الْمُفْتِينَ. وَ (الْخَامِسُ) : - وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ أَوْ لَا، أَوْ بِرُجْحَانِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَكَانَ السُّؤَالُ مَثَلًا عَنْ يَمِينٍ فَقَالَ لَهُ الْمُجْتَهِدُ: حَنِثْت فَهَلْ يُقَدَّرُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، كَحُكْمِ الْحَاكِمِ، أَوْ إنَّمَا يَقَعُ الْحِنْثُ بِالِالْتِزَامِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِنِيَّةٍ؟ فِيهِ نَظَرٌ. .
مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ تَقْلِيدِ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
قَالَ إلْكِيَا: يَلْزَمُهُ. - وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَا، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي (أَوَائِلِ الْقَضَاءِ) وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ زَمَنَ مَالِكٍ حَمْلَ النَّاسَ فِي الْآفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ الْعِلْمَ فِي الْبِلَادِ بِتَفْرِيقِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَلَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى النَّاسِ، وَرُبَّمَا نُودِيَ:" لَا يُفْتَى أَحَدٌ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ " قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يُفْتَى أَحَدٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ مَالِكٌ بِالْأَهْلِيَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَا تَحْمِلْ عَلَى مَذْهَبِك فَيُحْرَجُوا، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ الطَّلَاقِ فَقَالَ: يَقَعُ يَقَعُ، فَقَالَ لَهُ الْقَائِلُ: فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، يَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَدَلَّهُ عَلَى حَلْقَةِ الْمَدَنِيِّينَ فِي الرَّصَافَةِ. فَقَالَ: إنْ أَفْتَوْنِي جَازَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ» . - وَتَوَسَّطَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ فَقَالَ: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لَا قَبْلَهُمْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يُدَوِّنُوا مَذَاهِبَهُمْ وَلَا كَثُرَتْ الْوَقَائِعُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى عُرِفَ مَذْهَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ الْوَقَائِعِ وَفِي أَكْثَرِهَا، وَكَانَ الَّذِي يَسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ - مَثَلًا - لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَا وَقَعَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَضِّدَهُ إلَّا سِرٌّ خَاصٌّ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فُهِمَتْ الْمَذَاهِبُ وَدُوِّنَتْ وَاشْتُهِرَتْ وَعُرِفَ الْمُرَخِّصُ مِنْ الْمُشَدِّدِ فِي كُلِّ
وَاقِعَةٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْمُسْتَفْتِي - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلَّا رُكُونًا إلَى الِانْحِلَالِ وَالِاسْتِسْهَالِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ الْهَرَوِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ إمَامَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدٍ آخَرَ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:(أَحَدُهَا) : الْمَنْعُ، وَبِهِ جَزَمَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ إمَامٍ مُسْتَقِلٌّ بِآحَادِ الْوَقَائِعِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَّا التَّشَهِّيَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ التَّرَخُّصِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ. وَ (الثَّانِي) : يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي " الرَّافِعِيِّ "، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْعَوَامّ تَعْيِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّ السَّبَبَ - وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْمُقَلِّدِ لِلتَّقْلِيدِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَقْوَالِهِ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُقَلِّدِ مُقْتَضٍ لِعُمُومِ هَذَا الْجَوَابِ. وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى مُفْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ سِيرَةِ الْأَوَّلِينَ. بَلْ يَقْوَى الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ فِي صُورَتَيْنِ:(إحْدَاهُمَا) : إذَا كَانَ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَكَانَ مَذْهَبُ مُقَلَّدِهِ
عَدَمَ الْحِنْثِ فَخَرَجَ مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ قَطْعًا.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ. وَ (الثَّانِيَةُ) : إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا وَلَمْ يَجِدْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا قَوِيًّا عَنْهُ وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ التَّقْلِيدِ حِينَئِذٍ
مُحَافَظَةً عَلَى الْعَمَلِ
بِظَاهِرِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ رُجُوعِ الْمُقَلِّدِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ فَهُوَ - إنْ صَحَّ - مَحْمُولٌ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا. وَاعْلَمْ أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ ذَلِكَ مُطْلَقًا، إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ.
وَلِهَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ: لَوْ أَنَّ عَامِّيًّا شَافِعِيًّا لَمَسَ امْرَأَتَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَالَ: عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ، قَالَ: وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْمَذْهَبِ، كَشُرْبِ الْمُثَلَّثِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ، وَيَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. انْتَهَى. وَ (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ إمَامِهِ لَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَلَا مَانِعَ فِيهَا مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ.
وَ (الرَّابِعُ) : إنْ كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبٍ، وَإِنْ حَدَثَ وَقَلَّدَ إمَامًا فِي حَادِثَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهَا فِي حَقِّهِ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، لِأَنَّ قَبْلَ تَقْرِيرِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا، لِلْخَبْطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ.
وَ (الْخَامِسُ) : إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ أَقْوَى مِنْ مُقَلَّدِهِ جَازَ. قَالَهُ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ. وَ (السَّادِسُ) : وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي " الْقَوَاعِدِ " -: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ عَنْهُ بِمَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ [لَهُ] الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ، لِبُطْلَانِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا [كَذَلِكَ] فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ.
وَقَالَ فِي " الْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةِ " - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ شَافِعِيٍّ حَضَرَ نِكَاحَ صَبِيَّةٍ لَا أَبَ لَهَا وَلَا جَدَّ وَالشَّهَادَةُ عَلَى إذْنِهَا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ - فَأَجَابَ: إنْ قَلَّدَ الْمُخَالِفَ فِي مَذَاهِبَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي " الرَّوْضَةِ " فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَوْ الْإِبَاحَةَ، بِاجْتِهَادٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ حُسْبَانٍ، أَوْ مُجَرَّدٍ. وَ (السَّابِعُ) : - وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - الْجَوَازُ بِشُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهَا، كَمَا إذَا افْتَصَدَ وَمَسَّ الذَّكَرَ وَصَلَّى. (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ مَا قَلَّدَ فِيهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ لَوْ وَقَعَ بِهِ. (وَالثَّالِثُ) انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ. وَدَلِيلُ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ:«وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك» فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك فَفِعْلُهُ إثْمٌ.
بَلْ أَقُولُ: إنَّ هَذَا شَرْطُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ وَهُوَ أَلَّا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ
مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَلَا اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، بَلْ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ النُّصُوصِ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُسْتَكْرَهًا، فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِقَائِلِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ الزَّنَاتِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ الْجَوَازَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:(أَحَدُهَا) أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى صُورَةٍ تُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَ (الثَّانِي) أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ فِي عَمَلِهِ. وَ (الثَّالِثَةُ) أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ. قَالَ: وَالْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَسْلَكٌ إلَى الْجَنَّةِ، وَطُرُقٌ إلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنْ سَلَكَ مِنْهَا طَرِيقًا وَصَّلَهُ. انْتَهَى.
وَحَكَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ هَذَا الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ أَوْ الْأَثْقَلِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنَّ مَنْ بُلِيَ بِوَسْوَاسٍ أَوْ شَكٍّ أَوْ قُنُوطٍ فَالْأَوْلَى أَخْذُهُ بِالْأَخَفِّ وَالْإِبَاحَةِ وَالرُّخَصِ، لِئَلَّا يَزْدَادَ مَا بِهِ وَيَخْرُجَ عَنْ الشَّرْعِ، وَمَنْ كَانَ قَلِيلَ الدِّينِ كَثِيرَ التَّسَاهُلِ أَخَذَ بِالْأَثْقَلِ وَالْعَزِيمَةِ لِئَلَّا يَزْدَادَ مَا بِهِ، فَيَخْرُجَ إلَى الْإِبَاحَةِ. وَمَرَّ بِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ يَرَى هَذَا الْقَوْلَ حَقًّا أَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَعَمْ، إلَّا فَلَا. وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ مُتَوَرِّعٍ، وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْمُلْتَزِمَ لِمَذْهَبٍ إذَا أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ إلَى أَحْوَالٍ:(إحْدَاهَا) : أَنْ يَعْتَقِدَ - بِحَسَبِ حَالِهِ - رُجْحَانَ مَذْهَبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَيَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلرَّاجِحِ فِي ظَنِّهِ. (الثَّانِيَةُ) أَنْ يَعْتَقِدَ مَذْهَبَ إمَامِهِ، أَوْ لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانًا أَصْلًا، لَكِنْ
فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي اعْتِقَادَهُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ، وَعَدَمَ الِاعْتِقَادِ - يَقْصِدُ تَقْلِيدَهُ احْتِيَاطًا لِدِينِهِ، كَالْحِيلَةِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْخَلَاصَ مِنْ الرِّبَا، كَبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَشِرَاءِ الْجَنِيبِ بِهَا، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، بِخِلَافِ الْحِيلَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِكَرَاهَتِهَا.
(الثَّالِثَةُ) أَنْ يَقْصِدَ بِتَقْلِيدِهِ الرُّخْصَةَ فِيمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ، أَوْ ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ، فَيَجُوزُ أَيْضًا، إلَّا إنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَيَقْصِدُ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ فَيَمْتَنِعُ، وَهُوَ صَعْبٌ. وَالْأَوْلَى: الْجَوَازُ. (الرَّابِعَةُ) أَلَّا تَدْعُوَهُ إلَى ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ، بَلْ مُجَرَّدِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ رُجْحَانُهُ، فَيَمْتَنِعُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلدِّينِ. (الْخَامِسَةُ) أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخْصِ دَيْدَنَهُ، فَيَمْتَنِعُ، لِمَا قُلْنَا وَزِيَادَةُ فُحْشِهِ. (السَّادِسَةُ) أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَمْتَنِعُ. (السَّابِعَةُ) أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِهِ الْأَوَّلَ، كَالْحَنَفِيِّ يَدَّعِي شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَيَأْخُذَهَا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُرِيدُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَيَمْتَنِعُ، لِتَحَقُّقِ خَطَئِهِ إمَّا فِي الْأَوَّلِ وَإِمَّا فِي الثَّانِي، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ - ادَّعَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ
الْعَمَلِ أَيْضًا، وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ؟ ، لَكِنَّ وَجْهَ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ، كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ، وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَفْعَلَ، كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ فَقَلَّدَ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ.
وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ. نَعَمْ، الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهٍّ. وَالثَّانِي - ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخْصِ وَغَيْرِهَا. وَرُبَّمَا قِيلَ: اتِّبَاعُ الرُّخْصِ مَحْبُوبٌ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» . وَيُشْبِهُ جَعْلَهُ فِي غَيْرِ الْمُتَتَبِّعِ مِنْ الِانْتِقَالِ قَطْعًا، خَشْيَةَ الِانْحِلَالِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ فَاوَضَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَالْكُلُّ دِينُ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى اللَّهِ، قَالَ: حَتَّى كَانَ هَذَا الشَّيْخُ رحمه الله مِنْ غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا جَاءَ يَسْتَفْتِيهِ - مَثَلًا - فِي حِنْثٍ يَنْظُرُ فِي وَاقِعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ لِي: أَفْتِهِ أَنْتَ.
يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَرَعًا. كَانَ يَنْظُرُ أَيْضًا فِي فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ التَّقَيُّدِ، فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ عَلَى الْعَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا مُسْتَدْرَكَ وَلَا تَقْلِيدَ، بَلْ جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتِرَاءٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ. قُلْت: كَمَا اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ وَقَدْ قَتَلَ تِسْعًا