الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]
ثُمَّ لِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَيِّنَ الْأَدِلَّةِ، فَالدَّعَاوَى لَا يَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَانْبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّهَا دَعَاوَى مَحْضَةٌ تَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ فَلَيْسَ هُوَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ قُوَّةٌ فِي الدَّلِيلِ وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْعُمْدَةِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ دُخُولَ التَّرْجِيحِ مِنْهَا، وَضَعُفَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَنْشَأُ مِنْ مُنْتَهَى الدَّلِيلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لَمْ يَثْبُتْ التَّرْجِيحُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُ الْمَذَاهِبَ بِاعْتِبَارِ أُصُولِهَا وَنَوَادِرِهَا وَبَيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَدْ يَكُونُ أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ جَرَى التَّرْجِيحُ فِي الْبَيِّنَاتِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ عَامِّيٍّ قَوْلُ مُجْتَهِدَيْنِ، وَقُلْنَا: يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعَمِّ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ.
الثَّانِي: قَبُولُ الْأَدِلَّةِ التَّعَارُضَ فِي الظَّاهِرِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ:(أَحَدُهَا) : أَنَّهُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَيْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَقْطُوعٌ بِهَا فَلَا يُفِيدُ التَّرْجِيحُ فِيهَا شَيْئًا وَمَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّمَا هُوَ تَعَارُضٌ بَيْنَ دَلِيلٍ وَشِبْهِهِ، وَهَذَا وَإِنْ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ التَّعَادُلَ بَيْنَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُمْكِنٌ فِي الْأَذْهَانِ، فَهَلَّا قِيلَ: يَتَطَرَّقُ التَّرْجِيحُ إلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّعَارُضِ، كَمَا فِي الْأَمَارَاتِ ثُمَّ رَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَلَا شَكَّ فِي جَرَيَانِ هَذَا النَّصِّ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا مُقَدَّمَاتُهُ أَعْلَى وَأَوْضَحُ رَاجِحًا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَرَأَيْت الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ لَا تَتَفَاوَتُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ سَبَقَتْ أَوَّلَ الْكِتَابِ
وَ (الثَّانِيَةُ) : قِيلَ: إنَّ الظَّنِّيَّاتِ لَا تَتَعَارَضُ، وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ ظَنَّيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِأَمَارَتَيْنِ وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ (تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ) عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ وَتَأَوَّلْنَاهُ.
(الثَّالِثَةُ) : لَا مَجَالَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، أَعْنِي التَّقْلِيدَ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ إطْلَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ وَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى أَنَّهَا مَعَارِفُ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الْمَعَارِفِ، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَقَائِدَ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عُلُومًا وَالثِّقَةُ بِهَا مُخْتَلِفَةٌ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَجُوزُ فِي عَقَائِدِ الْعَامَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالِاعْتِقَادِ لَا بِالْعِلْمِ وَقَالَ الْأُرْمَوِيُّ: الْحَقُّ أَنَّا إنْ جَوَّزْنَا لِلْعَوَامِّ التَّقْلِيدَ فِيهَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ النَّفِيسِ فِي الْإِيضَاحِ ": يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِالْبُرْهَانِيَّةِ مِنْهَا أَمَّا الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِ فِيهَا وَكَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْقَطْعِيُّ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهِ، بَلْ الْقَطْعِيَّاتُ الشَّرْعِيَّاتُ أَيْضًا لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْجِيحِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ وَتَابَعَهُمْ فِي الْمَحْصُولِ " وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ، وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ، امْتَنَعَ، بَلْ يُصَارُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ إلْقَاءِ أَحَدِهِمَا، وَالِاسْتِعْمَالُ أَوْلَى مِنْ التَّعْطِيلِ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَتَرْكِ الْآخَرِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كُلِّهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ،
وَتَرْكُ التَّبَعِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ فَإِذَا عَمِلْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ التَّضْمِينِيَّةِ، وَإِنْ عَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ إذَا عَلِمْت هَذَا فَالْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:(أَحَدِهَا) : تَوْزِيعُ مُتَعَلَّقِ الْحُكْمِ إنْ أَمْكَنَ، كَمَا تُقْسَمُ الدَّارُ الْمُدَّعَى مِلْكُهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ (ثَانِيهَا) : يَنْزِلُ عَلَى الْأَحْكَامِ بَعْضُ كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ التَّعَدُّدِ، بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَضِيًا أَحْكَامًا، فَيَعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَعْضِهَا، وَبِالْآخِرِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا ثُمَّ فَعَلَهُ، فَإِنَّ فِعْلَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْحَرَجِ، وَنَهْيُهُ بِالْعَكْسِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْفِعْلُ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَكَنَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ فَعَلَهُ مَعَ عَائِشَةَ (ثَالِثِهَا) : التَّنْزِيلُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَقَوْلِهِ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ خَيْرِ الشُّهُودِ؟ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ» وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ» فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَطْبَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، أَعْنِي الْجَمْعَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ دَلِيلٍ، وَعَزَوْا ذَلِكَ إلَى تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ، كَقِرَاءَةِ " أَرْجُلَكُمْ " بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ، فَحَمَلُوا إحْدَاهُمَا عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ وَالْأُخْرَى عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ " يَطْهُرْنَ " وَ " يَطَّهَّرْنَ " إحْدَاهُمَا عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْعَشَرَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " فَقَالَ: إذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي حَالَيْنِ اُسْتُعْمِلَا، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": إذَا وَرَدَ مِثْلُ " اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ "، " لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيَخُصُّ فِي الثَّانِي وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ: هُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا دَلِيلًا فِي تَخْصِيصِ التَّالِي، وَالثَّانِيَ فِي تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذَا تَابَعَ فِيهِ الْقَاضِي، ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ رَأَوْا تَصَرُّفًا فِي الظَّوَاهِرِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عَلَى تَعَارُضِهِمَا إلَّا أَنْ يَتَّجِهَ تَأْوِيلٌ وَيَنْتَصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَكَأَنَّ الْإِمَامَ ظَنَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَحَكَّمُونَ بِتَعْيِينِ صُورَةٍ مِنْ صُورَةٍ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ ثَابِتَةً وَهَذِهِ مُخْرَجَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ صَنِيعُهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْقَائِلُ بِالتَّعَارُضِ عَطَّلَهُمَا جَمِيعًا، وَالْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِبَعْضِ صُوَرِهِ عَمِلَ بِهِمَا جَمِيعًا حَسَبَ إمْكَانِهِ ثُمَّ لَهُمْ فِي التَّعْيِينِ طَرِيقَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صُوَرَ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ تَتَفَاوَتَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَتَعْيِينُ الْفُقَهَاءِ أَوْلَى الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا الْقِسْمَ الْآخَرَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْأَدْنَى يَقْتَضِي
ثُبُوتَهُ فِي الْأَعْلَى، مِثَالُهُ: إذَا قَابَلْنَا بَيْنَ حَدِيثِ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ قَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَحَدٍ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي قَبُولَهَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا حَمَلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ صُوَرِهِ نَظَرْنَا فِي صُوَرِ الْكُفَّارِ وَجَدْنَاهَا قِسْمَيْنِ: كِتَابِيًّا وَغَيْرَ كِتَابِيٍّ، فَعَيَّنَّا الْكِتَابِيَّ لِلْجِزْيَةِ، وَغَيْرَهُ لِلسَّيْفِ وَلَيْسَ هَذَا احْتِكَامًا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّخْصِيصِ وَجَدْنَا الْكِتَابِيَّ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُسْتَبْقَى، إذْ لَهُ عَقِيدَةٌ مَا وَلِهَذَا أَجَازَ الشَّرْعُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْوَثَنِيَّاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا نَشِبَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ فَارِسٍ، لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِلَا كِتَابٍ فَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَيِّنُ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ الْإِثْبَاتِ مِنْ صُوَرِ الْإِخْرَاجِ، لَا بِالِاحْتِكَامِ وَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُمْ أَلْسِنَةُ الطَّاعِنِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْإِبْيَارِيِّ: تَخْصِيصُ الْعُمُومَيْنِ تَعْطِيلٌ لَهُمَا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: فِي الْجَمْعِ عَمَلٌ بِهِمَا فَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِمَا إذَا تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِهِمَا قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ إنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا تَصَدَّى لَنَا الْإِلْغَاءُ وَالْجَمْعُ، وَالْأَلْيَقُ بِالشَّرْعِ الْجَمْعُ وَإِنْ وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فَالْمُتَعَلِّقُ هُوَ الْمُتَّبَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَلَى عُمُومِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَقَالَ: لَا يَقْضِي بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقَضَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ «حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ يُعْطُوا» إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِذْ تَعَارَضَا رَجَعْنَا إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.
وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي إتْمَامِ وُضُوءِ الْجَنَابَةِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ بَلْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لِمُوَافَقَتِهِ تَشْرِيعَ الْعِبَادَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلَاهُ فِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ تَعَارُضِ قِرَاءَةِ (لَمَسْتُمْ) وَ (لَامَسْتُمْ) وَرَجَّحَ النَّقْضَ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: لَمَّا كَثُرَ عَلَى عَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ وَتَقْدِيمُهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرْجِيحِ أَخَذَهَا الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " مُسَلَّمَةً وَزَادَ فِيهَا قَيْدًا فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي فِيمَا إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ مَقْبُولًا عِنْدَ النَّفْسِ مُطْمَئِنَّةً بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ رُتْبَةِ التَّرْجِيحِ عَلَى رُتْبَةِ الْجَمْعِ، فَيُنْظَرُ إلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرُّوَاةِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّرْجِيحِ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ، وَسُكُونُهَا إلَى احْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي بَعْضِهِمْ أَقْوَى مِنْ سُكُونِهَا إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَبْعَدَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عِنْدَهَا، لَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ خَطَأً قَالَ: فَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي وَنَظَرِي، وَلَا أَقُولُ هَذَا فِي كُلِّ تَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ يَشْتَدُّ اسْتِكْرَاهُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ " فِي تَقْدِيرِ مَدَى حَوْضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَقُولُ قَوْلًا أَوْجَبَتْهُ شَجَاعَةُ نَفْسِهِ، لَا أَرَى ذِكْرَهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا قُلْت: وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَسَأَلْت عَنْهُمَا فَقَالَ: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا
مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَجَابَ الشَّيْخُ: الْمُرَادُ بِالنَّاحِيَتَيْنِ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ الْمُقَدَّرُ بِمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى، نَاحِيَتَاهُ مِنْ الْعَرْضِ قُلْت: وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا زَعَمَهُ الشَّيْخُ، لِلْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:«عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٌ:(سَوَاءٌ)، أَيْ: عَرْضُهُ وَطُولُهُ (سَوَاءٌ) .
الثَّانِي: سَبَقَ أَنَّ طَرِيقَةَ التَّنْزِيلِ عَلَى حَالَتَيْنِ لَيْسَتْ عَلَى الْحُكْمِ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي غَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ: وَهَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» عَلَى الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ، وَحَمَلُوا «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» فَاسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ:«لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» عَلَى الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ، وَحَمَلُوا «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهِيَ الْبَالِغَةُ، لِأَنَّا اسْتَفَدْنَا كَوْنَ الصِّغَارِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِنَّ إلَّا الْوَلِيُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانَ حَمْلُنَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالْمَزِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِلُّ وَهَلْ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) : نَعَمْ، كَالْمَزِيَّةِ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمُسْتَقِلَّ أَقْوَى مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ وَ (الثَّانِي) : وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَعَزَاهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ، الْمَنْعُ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ وَصْفٌ لِلدَّلِيلِ، وَالْمُسْتَقِلُّ لَيْسَ وَصْفًا لَهُ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ
بَاطِلٌ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِهِ لَا بِطَرِيقِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ رَجَعَ الْبَحْثُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْعَدَدِ، وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَمَاثَلَتْ سَقَطَ الزَّائِدُ، لِأَنَّ أَثَرَهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَزِيَّةِ أَنَّ الْفَضْلَةَ مُسْتَغْنًى عَنْهَا لَا اتِّصَالَ لَهَا بِالدَّلِيلِ، بِخِلَافِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى رُجُوعِهِ إلَى أَوْصَافٍ لَا إلَى ذَوَاتٍ، وَهُوَ كَثْرَةُ النَّظَائِرِ، وَكَثْرَتُهَا وَصْفٌ فِي الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْمِزْيَةَ أَيْضًا مُسْتَغْنًى عَنْهَا وَلِهَذَا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الدَّلِيلِ مِنْهَا لَاسْتَقَلَّ وَقَوْلُ النَّافِي: يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ، مَمْنُوعٌ، بَلْ التَّقْوِيَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَوْصَافٍ لَا بِذَوَاتٍ، وَهُوَ كَثْرَةُ النَّظَائِرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ فِي الدَّلِيلِ، وَكَأَنَّا رَجَّحْنَا بِالتَّأْكِيدِ لَا بِالتَّأْسِيسِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ.
وَفَصَّلَ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ " فَقَالَ: إنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُسْتَقِلُّ مُغْنِيًا عَنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ، لِأَنَّهُ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْنِيًا عَنْهُ صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْهُ وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِقِيَاسٍ فَعُورِضَ بِقِيَاسٍ، فَرَجَحَ قِيَاسُهُ بِالنَّصِّ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ النَّصَّ الَّذِي رَجَحَ بِهِ يُغْنِي عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْقِيَاسِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِنَصٍّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُصُولِيٍّ، بَلْ إلَى أَمْرٍ جَدَلِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ.
وَانْبَنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الظَّنَّيْنِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْوَاحِدِ، فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى.
وَ (مِنْهَا) : تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا كَثُرَ قَرُبَ مِنْ التَّوَاتُرِ فَالْتَحَقَ بِتَقْدِيمِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْآحَادِ وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَضْعَفُ وَلِهَذَا وَافَقَ هُنَا مَنْ خَالَفَ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَنْعَ، كَالشَّهَادَةِ، وَقَالَ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ التَّرْجِيحُ بِهِ،
لِأَنَّهُ يُورِثُ مَزِيدًا فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ وَسَيَأْتِي فِيهِ مَزِيدُ كَلَامٍ.
وَ (مِنْهَا) : أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ قِيَاسٌ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا مُرَجِّحَ بِهِ، لِأَنَّهُ ظَنٌّ مُسْتَقِلٌّ فَتَسَاقَطَا، وَيَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ، فَالْمَسْلَكَانِ يُفْضِيَانِ إلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ بِمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ فَالْقَاضِي يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ الْخَبَرُ فَإِنْ قُلْت: فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت: بَلْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ يَنْقُضُ وَالصُّورَةُ أَنَّهُ غَيْرُ جَلِيٍّ وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أَبُو الْعِزِّ فِي شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ": التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يَظْهَرُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إرَادَةَ الْمُجْمَلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ عَضُدُهُ بِقِيَاسٍ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدُهُ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ، تَفْرِقَةً بَيْنَ تَأْيِيدِهِ ظُهُورَ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى لِظُهُورِ الْقَصْدِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِذَلِكَ وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَزِيدُ وُضُوحٍ كَزِيَادَةِ الرُّوَاةِ وَالْعَدَالَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ، لِاسْتِقْلَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَرُورَةً عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ ثَابِتَةٌ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا ضَعُفَتْ بِالتَّعَارُضِ وَالْقِيَاسُ مُسْتَقِلٌّ فَيَتَعَارَضُ النَّظَرَانِ، قَالَ: وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرِيعَةِ، فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ.
وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَقْرَبَ إلَى الْقَوَاعِدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ فِي هَذَا لَهُ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ مُخَالَفَةً كَانَ أَكْثَرَ قُرْبًا، فَكَانَ أَرْجَحَ، فَإِنَّا لَوْ أَرَدْنَا
أَنْ نُثْبِتَ الْقِيَاسَ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَعَجَزْنَا وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ الْقَاضِي بِالتَّسَاقُطِ، إذْ لَوْ أَسْقَطْنَاهَا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى إثْبَاتِ هَيْئَةِ الْقِيَاسِ، فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحِ الْقُرْبِ.
مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوُجُوهٍ: ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدِهَا: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ثَانِيهَا: بِالنَّقْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَالْآخَرُ نَاقِلًا، فَيُقَدَّمُ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةً، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ خَلَفَهَا لِوَرَثَتِهِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ عَمْرٍو، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ بَنَوْا عَلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ ثَالِثِهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا، فَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ رَابِعِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ خَامِسِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ سَادِسِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السُّنَنَ أَكْثَرُهَا لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ إمَّا نَصًّا أَوْ اسْتِدْلَالًا سَابِعِهَا: أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ سَيَأْتِي مُفَصَّلًا، وَلَكِنْ أَحْبَبْت مَعْرِفَتَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَجْمُوعًا قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَإِذَا اجْتَمَعَ مُرَجَّحَاتٌ فِي خَبَرٍ، وَاثْنَانِ فِي خَبَرٍ، فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ.
مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَحَصَلَ اثْنَا عَشَرَ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُهُ أَوْ تَأَخُّرُهُ أَوْ يُجْهَلَ فَتَصِيرُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثِهِ أَضْرُبٍ:(الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) : أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ التَّارِيخُ، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، سَوَاءٌ كَانَا آيَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا آيَةً وَالْآخَرُ خَبَرًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ النَّسْخَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. أَمَّا مَنْ يَمْنَعُهُ فَيَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ، قَالَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُقُوعِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْكِتَابِ، وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَكِنَّهُ إذَا تَعَارَضَا وَأَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ تَعَيَّنَ الْمُتَأَخِّرُ، وَهَذَا إذَا كَانَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، وَإِلَّا كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْإِمَامُ: فَيَتَسَاقَطَانِ، وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ النقشواني، فَإِنَّ الْمَدْلُولَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَلَا يُعَارِضُ الْمُتَقَدِّمَ، بَلْ يَجِبُ إعْمَالُ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْمُتَأَخِّرِ.
قُلْت: وَهَذَا إذَا كَانَ نَقْلُ التَّارِيخِ مُتَوَاتِرًا أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ النَّصَّانِ مُتَوَاتِرَيْنِ وَالنَّسْخُ آحَادًا فَيُتَّجَهُ فِيهِ طَرِيقَتَانِ:
إحْدَاهُمَا) : إجْرَاءُ خِلَافٍ مَبْنِيٍّ عَلَى النَّسْخِ بِالْآحَادِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ نَسَخْنَا بِمَا دَلَّتْ الْآحَادُ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، وَعَمِلْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ. وَإِنْ مَنَعْنَاهُ حَكَمْنَا بِتَعَارُضِ الظَّنَّيْنِ وَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ أَوْ التَّخْيِيرِ. و (الثَّانِيَةُ) : الْقَطْعُ بِقَبُولِ الْآحَادِ فِي تَارِيخِ الْمُتَوَاتِرِ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، لِأَنَّ انْسِحَابَ الْعَمَلِ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ مَظْنُونٌ، فَمَا رَفَضْنَا إلَّا مَظْنُونًا بِمَظْنُونٍ، وَأَمَّا عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ يُفْرَضَ التَّارِيخُ مُتَوَاتِرًا، أَوْ الْمَتْنُ آحَادًا، فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. هَذَا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فَيَكُونُ نَاسِخًا، إذْ التَّقَدُّمُ يَكُونُ مَنْسُوخًا. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَرَآهُ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِتَسَاقُطِهِمَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " وَذَكَرَ لَهُ مِثَالَيْنِ تَخْرُجُ مِنْهُمَا صُورَتَانِ:(إحْدَاهُمَا) : إذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ عَنْ التَّارِيخِ، كَحَدِيثِ «إذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» مَعَ جُلُوسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قِيَامٌ. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ، فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ قَالَهُ فِي صِحَّتِهِ. وَ (الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ إسْلَامُ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ إسْلَامِ الْآخَرِ، كَحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَهُوَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ، مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالنَّقْضِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَيَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَى حَدِيثِ قَيْسٍ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنْ قَوْمٍ بَقَاءَ التَّعَارُضِ، إذْ لَا يُصَارُ إلَى الْفَسْخِ بِمُجَرَّدِ
الِاحْتِمَالِ، ثُمَّ تَوَسَّطَ فَقَالَ: إنْ عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ مُتَعَلَّقًا سِوَاهُ فَكَقَوْلَيْ. الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيَةِ الْحَادِثِ عَنْ مُوجِبِ الشَّرْعِ، وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهَا وَوَجَدَ الْقِيَاسَ مُضْطَرِبًا عَدَلَ عَنْهُمَا وَتَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْخَبَرُ الَّذِي بَعْدَ ظَنِّ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ فِي قِيَاسَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ خَبَرَيْنِ كَذَلِكَ.
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَصْوِيرِهِ السَّابِقِ فِي تَعَارُضِ خَبَرَيْنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وُجِدَ الْقِيَاسُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْرَدَ الْإِبْيَارِيُّ عَلَى تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ هَلَّا عَمِلَ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْمُوَافِقَ لَهُ مُرَجِّحًا؟ وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِي التَّوْقِيفِ مُسْتَنَدًا اسْتَأْنَفَ الظَّنَّ فِي الْأَقْيِسَةِ فَوَجَدَهَا أَيْضًا مُتَعَارِضَةً، وَلَكِنْ وَجَدَ أَحَدَ قِيَاسَيْهِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ، فَجَعَلَ الْقِيَاسَ مُسْتَنَدًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْخَبَرَ الرَّاجِحَ مُسْتَنَدًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ مِنْهُ إلْغَاءُ كَوْنِهِ مُسْتَنَدًا لَكَانَ نَقْضًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُقَدَّمُ الْمُؤَرَّخُ عَلَى الْمُهْمَلِ، لِأَنَّ الْمُؤَرَّخَ يَقْطَعُ بِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الْمُهْمَلِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَقْتٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ فِيهِ الثُّبُوتُ وَالْعَدَمُ، فَيُقَدَّمُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي تَارِيخٍ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ الْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ، فَالتَّرْجِيحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَالتَّرْجِيحُ فِي الثَّانِيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْإِجْمَالِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ. وَهَذَا يَرُدُّ إيرَادَ الْإِبْيَارِيّ عَلَى الْمَنْقُولِ عَنْ الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ تَحَمَّلَ فِي حَالِ الْكِبَرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ التَّحَمُّلَ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ أَغْلَبُ، وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنْدَرُ، فَيُقَدَّمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّادِرِ، وَلَيْسَ كُلُّ احْتِمَالٍ وَاقِعًا، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ، فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ مِنْ غَايَاتِ الْآمَالِ. (الضَّرْبُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَا مَظْنُونَيْنِ، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَسَخَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ، فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ هُوَ الْمَظْنُونُ، كَانَ الْمَعْلُومُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ مُتَقَدِّمًا، مَا لَمْ يَنْسَخْهُ الْمَظْنُونُ فَنَعْمَلُ بِالْمَعْلُومِ. وَإِنْ جُهِلَ عُمِلَ بِالْمَعْلُومِ، سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ لَا. .
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا خَاصَّيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، وَالْحُكْمُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ. قَالَ سُلَيْمٌ: إنْ تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِنْ كَانَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ. وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ، كَالْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ، وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَوَقَّفَ فِيهِمَا وَلَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِتَرْجِيحٍ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ طَرِيقَةُ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَا يَدْخُلُ فِي تَقْوِيَةِ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ. .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ. فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعَامِّ وَتَأَخُّرُ الْخَاصِّ، فَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ نَاسِخًا، أَيْ: الْعَامَّ فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ. وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: إنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَالْمَذْهَبُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنْ كَانَ الْخَاصُّ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَالْعَامُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ بِهِ عَلَى الْعَامِّ. وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ قَضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: مَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " مَوْضِعُهُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ مَظْنُونٍ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَإِنْ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ كَانَ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ
الْمُتَقَدِّمِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ فَعِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ يَكُونُ الْخَاصُّ خَاصًّا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَحْصُولِ "، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ".
وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ فَعِنْدَنَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَنْسَخُهُ، وَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَيَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ. وَإِنْ جُهِلَ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ - أَعْنِي الْمُقَارَنَةَ وَجَهْلَ التَّارِيخِ - أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَالْكَرْخِيُّ: إنْ عُلِمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. وَإِنْ كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا كَانَا مَعْلُومَيْنِ. إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا قَالَ الْإِمَامُ: فَهَاهُنَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمَعْلُومُ عَامًّا وَالْمَظْنُونُ خَاصًّا وَوَرَدَا مَعًا، وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ وُرُودِهِمَا مَعًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:(أَحَدِهِمَا) : لَوْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عَنْ الْعَامِّ الْمَعْلُومِ، وَكَانَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْمَعْلُومِ، كَانَ أَيْضًا مُخَصِّصًا وَكَانَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ كَمَا فِي الْمُتَقَارِنَيْنِ. نَعَمْ، يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَ (ثَانِيهِمَا) : لَوْ تَقَدَّمَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عَلَى الْعَامِّ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الْمَظْنُونِ عَلَى الْعَامِّ الْمَعْلُومِ، مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا مَعًا. وَحِينَئِذٍ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا تَقْدِيمُ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ إلَّا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ: الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْإِمَامُ، وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ
كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعَ قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ، فَإِنَّ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ عَامَّةٌ فِي الْجَمْعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، خَاصَّةٌ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. وَكَقَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالثَّانِيَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ. فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ، بَلْ هُنَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ خُصُوصُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ فَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ أَنْ لَا يَقُولَ بِالنَّسْخِ هُنَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ، بَلْ يَذْهَبُ فِي التَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ لَمْ تُعْلَمْ أَيْضًا فَاللَّائِقُ
بِالْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُصَارَ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا حَظْرًا وَالْآخَرِ إبَاحَةً، أَوْ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُثْبَتًا وَالْآخَرِ مَنْفِيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا وَالْآخَرِ فِعْلِيًّا. لِأَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إطْرَاحُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. .
- وَأَمَّا إذَا كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَكَمَا فِي الْمَعْلُومَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ فِيهَا بِقُوَّةِ الْأَشْبَاهِ. .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْمَعْلُومِ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَإِنْ عُلِمَ تَأْخِيرُهُ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا. وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ. وَأَمَّا عَلَى رَأَيْنَا فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عُلِمَ التَّقَارُنُ أَوْ جُهِلَ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ. مَعْلُومًا. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِدَلِيلٍ، وَفِي جَوَازِ خُلُوِّ مِثْلِ هَذَا عَنْ التَّرْجِيحِ قَوْلَانِ. وَإِذَا خَلَا سَقَطَا وَرَجَعَ الْمُجْتَهِدُ إلَى الْبَرَاءَةِ، وَنَقَلَ سُلَيْمٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَقْدِيمَ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْتِ،
لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي الْوَقْتِ، فَقُدِّمَ مَا فِيهِ. وَذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ " فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْعُمُومُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّا نَنْظُرُ إلَى أَيِّهِمَا أَعَمَّ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ، فَيُجْعَلُ الْآخَرُ فِي الْخَاصَّةِ. وَ (الثَّانِي) : إلَى أَيِّ اللَّفْظَتَيْنِ اُبْتُدِئَ بِهَا فَالْأُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّك لَوْ أَثْبَتَّ اللَّفْظَةَ الثَّانِيَةَ كَانَ فِيهَا رَفْعُ مَا اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَّا مَا لَا يُبْطِلُ الْأُولَى فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلثَّانِي عَلَى مَا قُلْنَا فِي التَّرْتِيبِ كَأَنَّا قُلْنَا: كُلُّ مِلْكِ يَمِينٍ فَهُوَ مُبَاحٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَذَكَرَ عُمُومَ الزَّوْجَاتِ وَعُمُومَ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَخَصَّ مِمَّا ذَكَرْت مِنْ الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمِلْكُ وَالنِّكَاحُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُقَابِلَ الْآيَةَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى لِمَا وَصَفْتُهُ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ إلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ. قَالَ: وَكَأَنَّ مُرَادَهُمْ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ، كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَدْلُولُ الْعُمُومِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " التَّفْصِيلَ السَّابِقَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْفَاضِلُ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فِيمَا وَجَدْتُهُ مُعَلَّقًا عَنْهُ: الْعَامَّانِ إذَا تَعَارَضَا فَكَمَا يُخَصَّصُ هَذَا بِذَاكَ لِمُعَارِضَتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ بِهَذَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُنْظَرُ فِيهِمَا: إنْ دَخَلَ أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رَجَحَ عَلَى مَا كَانَ عُمُومُهُ اتِّفَاقًا. انْتَهَى.
قُلْت: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِتَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَغَيْرُهَا. وَلِذَلِكَ نَقُولُ: دَلَالَةُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا فِي النِّكَاحِ وَالْمِلْكُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْيَمِينِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا سِيقَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجَمْعِ. .
مَسْأَلَةٌ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ مَا فِي حَدِيثِ آحَادٍ، فَقِيلَ: إنْ سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا رَجَّحْنَا عَلَيْهِ الْخَبَرَ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا يَرْجِعُ لِلَّقَبِ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ كَالْمَنْصُوصِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ تُقَدَّمُ عَلَى قِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْقُرْآنِ. .
مَسْأَلَةٌ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كُلُّ مُتَعَارِضَيْنِ لَا يَخْرُجَانِ عَنْ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فِي الْأَصْلِ حُكْمٌ مَعْلُومٌ، كَالْوَاقِعِ بِابْتِدَاءِ الشَّرْعِ، مِثْلُ الْإِحْدَاثِ فِي الْوُضُوءِ، فَيَتْرُكُ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْيَ عَنْ الْآخَرِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْأَوْلَى، وَيُصَارُ إلَى مَا عَضَّدَهُ الدَّلِيلُ أَوْ رَجَّحَهُ بِقِيَاسٍ أَوْ حِفْظٍ أَوْ كَثْرَةِ عَدَدٍ. .
وَ (ثَانِيهَا) : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجِبُ إبَاحَتُهُ أَوْ حَظْرُهُ فَأَيُّ الْخَبَرَيْنِ جَاءَ