الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]
التَّفْرِيعُ إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ هَلْ يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ وَخَطَأِ الْمُخَالِفِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ:" أَصَحُّهُمَا "، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، اعْلَمْ إصَابَتَنَا لِلْحَقِّ وَاقْطَعْ بِخَطَأِ مَنْ خَالَفَنَا وَمَنْعِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُؤَثِّمُهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ، وَإِلَى مَا لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا فِي نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَ (مِنْهَا) : أَنَّ الْمُخْطِئَ هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ مَعْذُورٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) - وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ -: نَعَمْ وَ (الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ فُورَكٍ: لَا. وَ (مِنْهَا) اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَقْصِدُ الطَّالِبِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يُعْثَرُ [عَلَيْهِ] ، فَمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الدَّلِيلُ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ، فَحَكَى الْقَاضِي عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيِّ وَجَمِيعِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، إلْحَاقًا لِلْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ بِأَنَّهُ: هَلْ دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ أَوْ الْعَقْلُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُخْطِئِ هَذَا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ هَلْ هُوَ مَأْثُومٌ مَحْطُوطٌ
عَنْهُ؟ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأُخَرَةٍ: إنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ، وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، لِأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا. وَقِيلَ: بَلْ الْإِثْمُ مَحْطُوطٌ عَنْهُ.
وَحَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ. وَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ الْإِثْمَ مَوْضُوعٌ عَنْ مُخْطِئِهِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ كُلِّفَ طَلَبَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهَلْ كُلِّفَ إصَابَتَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ - أَوْ وَجْهَانِ -:(أَحَدُهُمَا) : نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَيُحْكَى عَنْ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ إلَى الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا إنْ أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ كَانَ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَلَهُ أَجْرٌ بِقَصْدِهِ الْحَقَّ. وَ (الثَّانِي) : وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، فَكُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ، هَلْ الْحَقُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ نَقُولُ: الْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله: فِيهِ وَجْهَانِ: اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ. وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَحَكَوْهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالدَّارَكِيِّ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مَطْلُوبًا هُوَ أَشْبَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي غَالِبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَلِهَذَا قِيلَ: هُنَاكَ أَشْبَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ. وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةُ الشَّبَهِ لِقُوَّةِ الْأَمَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُوَ مَا لَوْ وَرَدَ بِهِ نَصٌّ لِطَابَقِهِ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى الْغَيْبِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ،
وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ إلَّا مَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اخْتَلَفُوا: هَلْ نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أَدِلَّةً مُخْتَلِفَةً يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى دَلِيلٍ مَنْصُوبٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) نَعَمْ، كَالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ، فَكَذَا أَيْ الْأَدِلَّةُ صَارَ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ حَقًّا. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُ لَمْ يُنَصِّبْ عَلَيْهَا دَلَالَةً، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ. .
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّفِيَّ الْهِنْدِيَّ قَدْ حَرَّرَ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فَقَالَ: الْوَاقِعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا نَصٌّ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ أَمْ لَا. وَالثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَصِّرَ فِي طَلَبِهِ أَوْ لَا يُقَصِّرَ. وَإِنْ وَجَدَهُ فَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِوَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعِلْمِ وَلَكِنْ قُدِّرَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي الِاسْتِكْشَافِ وَالْبَحْثِ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا إذَا لَمْ يَجِدْهُ مَعَ الطَّلَبِ الشَّدِيدِ، وَسَيَأْتِي. وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ فَإِنْ كَانَ لِتَقْصِيرٍ فِي الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَآثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بِأَنْ بَالَغَ فِي التَّنْقِيبِ عَنْهُ وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ فِي طَلَبِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْهُ.
فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الرَّاوِي الَّذِي عِنْدَهُ النَّصُّ، أَوْ عَرَفَهُ وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ أَمْ مُصِيبٌ؟ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا
لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا. وَأَمَّا الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ فِيهَا قَبْلَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ لَا، بَلْ حُكْمُهُ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ. فَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ، كَأَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا خِلَافُهُ. وَهَذَا فِي أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَهَلْ وُجِدَ فِيهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ فِيهَا بِحُكْمٍ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؟ وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَإِلَيْهِ صَارَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ سُرَيْجٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": ذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَشْبَهِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا بَلْ هُوَ أَوْلَى طُرُقِ الشَّبَهِ فِي الْمَقَايِيسِ وَالْعِبَرِ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِإِلْحَاقِ الْأُرْزِ بِالْبُرِّ بِوَصْفِ الطُّعْمِ أَوْ الْقُوتِ أَوْ الْكَيْلِ، وَأَحَدُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ فِي التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُ الْمُخْلِصِ مِنْ الْمُصَوِّبَةِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ دَلَالَةٌ أَوْ أَمَارَةٌ فَقَطْ، أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ. فَأَمَّا (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) : وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلًا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَهُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَإِذَا أَخْطَأَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخْطِئِ هَلْ يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؟ فَذَهَبَ بَشَرٌ إلَى التَّأْثِيمِ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَغُمُوضِهِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ؟ فَذَهَبَ الْأَصَمُّ إلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ، وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ.
وَأَمَّا (الْقَوْلُ الثَّانِي) : وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْحُكْمِ أَمَارَةً فَقَطْ فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَهُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ - عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إصَابَتِهِ - لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) : وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ، فَذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ " كَدَفِينٍ ". قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. .
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، فَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ لَا غَيْرَ. .
الثَّالِثُ: مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُصَوِّبَةُ حَدِيثُ بَعْثَةِ عليه الصلاة والسلام السَّرِيَّةِ لِسَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ:(لَا تَنْزِلُوا حَتَّى تَأْتُوهُمْ) فَجَاءَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ (لَا تَنْزِلُوا) عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَمَّا عُرِضَتْ الْقِصَّةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَطِّئْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَمْ يُؤَثِّمْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: لَمَّا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْوِتْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا: (أَصَبْتُمَا) . وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: فَكَانَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّخْصَةِ، أَوْ الْعَكْسِ، فَفَضَّلَ كُلٌّ جِهَةً، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَفْضَلِ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَعَ الِاخْتِلَافِ.
وَيُحْتَجُّ لِلْمُخَطِّئَةِ بِحَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ» وَبِحَدِيثِ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، وَبِقَوْلِهِ عليه السلام لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ:«وَإِنْ طَلَبَ مِنْك أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي. أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» . .
الرَّابِعُ: قَدْ سَأَلَ الْمِصِّيصِيُّ الْغَزَالِيَّ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ - مَا فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ، كَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَةِ الرَّسُولِ عليه السلام، فَالْمُصِيبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ، إذْ النَّصُّ وَاحِدٌ، وَقَدْ وَضَعَ الشَّرْعُ إبَاحَةَ الضَّبِّ، وَعَلَى الْمُجْتَهِدِينَ تَعَرُّفُ مَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ، فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، أَيْ أَخْطَأَ النَّصَّ الَّذِي كَانَ مَأْمُورًا بِطَلَبِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ لَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَيَكُونُ النَّصُّ كَالْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ، وَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَهُ أَجْرَانِ، وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ. الثَّانِي - مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عَلَيْهِ، كَسِرَايَةِ عِتْقِ الْأَمَةِ، إذْ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَا شَهِدَ لَهُ النَّصُّ شَهَادَةً
جَلِيَّةً بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَمَنْ أَخْطَأَ مَعْنَى النَّصِّ كَمَنْ أَخْطَأَ عَيْنَ النَّصِّ، لِأَنَّ النَّصَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ.
وَمَهْمَا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ كَانَ مُصِيبُهُ وَاحِدًا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ:" أَخْطَأَ " إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ مَا قَصَدَ الشَّرْعُ مِنْهُ أَنْ يَعْثُرَ عَلَيْهِ، وَمَا لَوْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَالْأَوَّلِ. الثَّالِثُ - مَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّرْعُ لَا بِلَفْظٍ يَخُصُّهُ وَلَا يَخُصُّ غَيْرَهُ وَيَسْرِي إلَيْهِ، وَلَكِنْ لِلْخَلْقِ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَاطْلُبُوهُ. فَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ، فَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَالْمُصِيبُ مَنْ أَمْرِ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّاهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَحَ قَدْ تَعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ وَصَارَ مَطْلُوبًا، وَكُلُّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنَّهُ يُصِيبُ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَ فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ، وَكُلُّ مَا تُصَوِّرَ فِيهِ ذَلِكَ فَيُمَيَّزُ الْمُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ الْمُصِيبِ.
الرَّابِعُ - مَا لَيْسَ لِلشَّرْعِ فِيهِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، وَلَكِنْ قِيلَ لِلْمُجْتَهِدِينَ: اُطْلُبُوا الْحُكْمَ وَتَرَدَّدُوا بَيْنَ رَأْيَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّأْيَيْنِ مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ هَاهُنَا مُصِيبٌ. وَهَذَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ، وَالْعَقْلِ: أَمَّا شَرْعًا فَكُلُّ حُكْمٍ نِيطَ بِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ، كَتَفْرِقَةِ الْعَطَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ التَّفَاوُتِ، كَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، إذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى عَيْنِهِ وَلَا عَلَى مَسْأَلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ يُقَالُ: إنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ فِيهِ إهْمَالٌ لِمَصْلَحَةِ تَمَيُّزِ الْفَاضِلِ مِنْ الْفُضُولِ، وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَفِي التَّفَاوُتِ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَمَهْمَا قُوبِلَ مَا فِي إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَضَرَّةِ بِمَا فِي إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ يَجُوزُ أَنْ تَتَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَسَاوَيَا فِي عِلْمِ اللَّهِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَإِذَا تَسَاوَيَا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا. وَلَوْلَا هَذَا لَرَدَّ الْمَفْضُولُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بَعْضَ مَا أَخَذَهُ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ. أَوْ لَامْتَنَعَ الْفَاضِلُ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ.
وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالَيْنِ وَتَقْرِيرِ الْحُكْمَيْنِ. فَهَذَا مِنْهُمْ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعُقُوبَةِ وَالنَّفَقَاتِ، كَمَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّرَقِّي إلَى الثَّمَانِينَ مَضَرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَصْلَحَةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَكَذَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مُتَسَاوِيَانِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَكَذَا كُلُّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ. الْخَامِسُ - مَسْأَلَةٌ تَدُورُ بَيْنَ نَصَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ الْأَصْلَحُ إنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالثَّالِثِ. وَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَشْبَهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى.
وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ أَشْبَهَ، وَقَدْ تَكُونُ نِسْبَتُهُ فِي الشَّبَهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ عَلَى التَّسَاوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ. فَهَذَا مُمْكِنٌ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَلَا مُخْطِئَ فِيهِ. إذْ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ يَسْتَدْعِي شَيْئًا مُعَيَّنًا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ، وَعَنْ الْغَفْلَةِ عَنْهُ بِالْخَطَأِ، وَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَإِذًا إنْ كَانَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاحِ أَوْ الشَّبَهِ مُمْكِنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَقَدْ صَحَّ مَا قُلْنَاهُ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا وَإِمْكَانَهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ بِقَوَاطِعِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا إنَّمَا سَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا لِتَسَاوِيهَا عِنْدَهُ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ السِّيَاسَاتِ وَجَمِيعُ مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ يَكَادُ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، إذْ قَلَّمَا يَكُونُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، فَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِتَحْلِيفِ أَحَدٍ، وَقَضَى آخَرُ بِتَحْلِيفِ الْآخَرِ فَقَدْ أَصَابَا، بَلْ أَقُولُ: لَوْ اسْتَوَى عِنْدَ قَاضٍ وَاحِدٍ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَضَرَّةُ فِي أَمْرَيْنِ، أَوْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الشَّبَهُ بِالْأَصْلَيْنِ أَوْ الِاسْتِصْحَابُ فِي مُقَابِلِ الْأَصْلَيْنِ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ صَارَ مُخَيَّرًا كَمَا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. فَإِذًا مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يُعْلَم أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُوَ عَنْ حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَالْخَيْلِ مَثَلًا فِي أَنَّهُ هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ مَعَ كَثْرَتِهِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَغْفَلَهُ عَنْ بَيَانِ حُكْمِهِ، فَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ نَصٌّ مَثَلًا، فَهَذَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ
عِنْدَ اللَّهِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأَشْخَاصِ وَأَعْيَانِ الْمَسَائِلِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَشْدِيدُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ فِي بَيْعِ الْعَيِّنَةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُجَاوَزَةٌ لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِإِجْمَاعٍ. وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ عَلَى أَخْذِ الْفَضْلِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقِسْمِ الثَّانِي. انْتَهَى. .
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": اخْتَلَفُوا فِي كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ أَمْ لَا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَمْ لَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةً وَهِيَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) : مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنُصِبَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ وَالْأَمَارَاتُ فَإِذَا أُصِيبَ حَصَلَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَالْآخَرُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ.
وَ (الثَّانِي) : وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنْ يَنْظُرْ إلَى هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي وَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ عليه السلام: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ وَأَصَابَ» لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا مُعَيَّنًا. وقَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَلَا أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ: وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا غَوْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْإِصَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَقَدْ وَافَقَ الْغَزَالِيُّ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ: إنْ كَانَ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَالْخَطَأُ وَاقِعٌ لِتَقْصِيرِهِ، لَا لِخَطَئِهِ إصَابَةَ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَلَا حُكْمَ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ،
وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ النَّصُّ فَأَسْرَعُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخَابِرُ وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى بَلَغَهُ خَبَرُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِالنَّهْيِ عَنْهَا. انْتَهَى. .
مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ، قَالُوا بِأَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْخَطَأِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُخْطِئُ آثِمٌ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَأْجُورٍ وَلَا آثِمٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا. ثُمَّ وَعَلَى مَاذَا يُؤْجَرُ؟ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِيهِ لِقَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ، إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمُثَابِ، وَلَا تَرْغِيبَ فِي الْخَطَأِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى قَصْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ خَطَأً، كَمَا لَوْ اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا، وَهُوَ مَأْجُورٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَعِتْقُهُ لَمْ يَقَعْ، لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ.
قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا. وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْدِلَ فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ طُرُقٍ فَاسِدَةٍ فَيَفْتَحَ لَهُ فَاسِدَهَا إلَى طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَظُنُّ فِيهِ الْحَقَّ فَعُدُولُهُ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْفَاسِدَةِ اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ فَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ وَعَلَى نَفْسِ
الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْحُكْمِ لِخَطَئِهِ فِيهِ. فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ بِمَا بَلَغَ فِيهِ فَصَوَابٌ، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ إلَى بُلُوغِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْهُ، لِأَنَّ فَهْمَهُ بَلَغَ فِيهِ بَعْضَ طُرُقِهِ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ أَقْصَى مَا طَلَبَهُ، وَهُوَ فِيمَا إذَا أَتَى بِهِ مِنْهُ مَأْجُورٌ وَمُصِيبٌ فِيهِ، وَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْحَاجِّ الَّذِي أُمِرَ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِيَبْلُغَ بِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسَلَكَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَضَعُفَ عَنْ بَاقِيهِ وَتَلِفَتْ رَاحِلَتُهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، وَعَبَّرَ الْقَفَّالُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فِي قَصْدِهِ الْخَطَأَ الْمَوْضُوعَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى إنْشَاءِ قَصْدِ الثَّوَابِ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ، فَأَخْطَأَ فِي وَصْفِ الطَّرِيقِ وَعَدَلَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ، فَثَوَابُهُ مِنْ ابْتِدَاءِ قَصْدِهِ إلَى مَوْضِعِ عُدُولِهِ عَنْ الْخَطَأِ. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الثَّوَابِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:«نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» .
وَلَهُ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ مِنْ خَطَئِهِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَثَانِيهَا - أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ مِنْ صَوَابِ عَمَلِهِ. وَثَالِثُهَا - أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ مِنْ الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَتُعَجِّلُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَوَّلًا أَصَحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ هُوَ خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ لَوْ وَصَفَهُ فِي صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ لَقَضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ، فَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ فِي " الْعُدَّةِ ": يُثَابُ الْمُخْطِئُ عَلَى مَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَلَى الِاجْتِهَادِ، كَرَجُلَيْنِ سَلَكَا الْجَامِعَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، قَصَدَ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَ أُثِيبَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَامِعِ.
وَ (الثَّانِي) عَلَى الْقَصْدِ، كَرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ، فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ عَلَى الْقَصْدِ. وَحَكَاهَا الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ ثُمَّ قَالَ: وَإِطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ عَلَى مَا بَيَّنْت. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى اسْتِدَادِهِ فِي تَقَصِّي النَّظَرِ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَسْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قَدْ يَحِيدُ فِي الْأَوَّلِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ ثُمَّ هُوَ مَأْجُورٌ بِحُكْمِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ الصَّوَابِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " الشَّرْحِ " ثُمَّ الْأَجْرُ عَلَى مَاذَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: (أَحَدُهُمَا) - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ - أَنَّهُ عَلَى الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ دُونَ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قُلْت: حَكَاهُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " ذَمِّ التَّقْلِيدِ " عَنْ النَّصِّ فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» : " لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ ". قَالَ الْمُزَنِيّ: فَقَدْ ثَبَتَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا أَنَّ الْمُخْطِئَ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ، وَإِنَّمَا أَجْرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ. انْتَهَى.
وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ، فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ، بِخِلَافِ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ وَإِنْ لَمْ يَنَلْ ثَوَابَ الْعَمَلِ. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهِ. وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الْإِتْمَامَ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ حَادَ عَنْهُ
فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُشْرَ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . قُلْت: وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَالِهِ فِي مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي الرَّجُلِ يَطَأُ أَمَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُخْتُهُ: أَمَّا فِي الْغَيْبِ فَلَمْ تَزَلْ أُخْتَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَكَانَتْ لَهُ حَلَالًا مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَيْهِ حَرَامٌ حِينَ عَلِمَ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ غَيْرَك يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ آثِمًا بِإِصَابَتِهَا وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عَنْ دَاوُد وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى فِي حَادِثَةٍ بِحُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مُصِيبٌ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا يَزِيدُ عَلَى الْعَنْبَرِيِّ، لِأَنَّ ذَاكَ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا صَوَّبَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا بَعْدَمَا بَذَلَ وُسْعَهُ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَنْ صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ، قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي قَوَاعِدِهِ ". قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُ الْحَنَفِيِّ لِلنَّبِيذِ مُبَاحًا وَإِنْ قُلْنَا
بِتَصْوِيبِهِمْ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ قَوْلَهُمْ: إنَّهُ لَا حُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مُعَيَّنًا، فَصَارَ كَمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَتَاعٌ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدَ فِيهِ مَتَاعًا وَجَدَهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَعْنِي: لَا حُكْمَ أَيْ مُعَيَّنًا فِيهَا فَيُدْرَكُ قَبْلَ الطَّلَبِ، كَمَا يُدْرَكُ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْ النَّصِّ الظَّاهِرِ، بَلْ فِيهَا حُكْمٌ لَهَا وَلِغَيْرِهَا يُدْرِكُهُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ تَصَفُّحِ قَوَانِينِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ، تَلْحَقُ بِهَا الْجُزَيْئَاتُ، فَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . الثَّانِي: قِيلَ عَلَى أُصُولِ الْمُصَوِّبَةِ: إنَّا نَقْطَعُ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنَّ الْمُخَطِّئَةَ تَظُنُّهَا ظَنًّا. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ عَلَى الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَوِّبَةَ تَقُولُ: لَا يَكْفِيهِ أَيُّ ظَنٍّ كَانَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِهَادٍ وَبَذْلِ وَسْعٍ. فِي تَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَحْقِيقِ الشَّرْطِ وَرَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ، بِحَيْثُ لَوْ دَخَلَ بِذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئًا آثِمًا. الثَّالِثُ: قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ فَمَا قَالَهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مُجْتَهِد مُصِيبًا، وَلَك فِي حَلِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ طُرُقٌ: إحْدَاهَا - أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْخِلَافُ فِي " أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ " إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. أَمَّا الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ فَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ قَطْعًا. الثَّانِيَةُ - يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَلَكِنْ لَمَّا قُلْت: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا. وَقَوْلُك أَنَّهُ مُصِيبٌ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ خَصْمُهُ أَيْضًا مُصِيبٌ. بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُصَوِّبِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي حَقِّ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي حَقِّ خَصْمِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
الرَّابِعُ - سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، لَكِنْ مَا الَّذِي يَعْنِي الْقَائِلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؟ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بُطْلَانَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ مَا لَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِالصِّحَّةِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنَّا، لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ بِتَصْوِيبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَابِعَةٌ لِظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ وَالْحَقِّ مَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، فَإِذًا الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى ظَنِّ تَقْيِيدِهِ. الْخَامِسُ: إنَّ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " وَالْأَصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إخْلَالُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ وَيُوجِبُهُ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا رَاجِحًا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ إلَى الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ [فِيهَا] غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. قَالَ: وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ عِنْدَ التَّفْوِيضِ مُعِينًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ.
فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: قَدْ رَاعَى الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ خِلَافُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسِّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا رَاعَاهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَلِذَلِكَ رَاعَى مَالِكٌ الْخِلَافَ، قَالَ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعِي صُورَةَ الْخِلَافِ وَهُوَ جَهْلٌ أَوْ عَدَمُ إنْصَافٍ. وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُرَاعِ كُلَّ خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَاعَى خِلَافًا لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ. قُلْت: وَقَدْ يُرَاعِي الشَّافِعِيُّ الْخِلَافَ الْمُشَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَرَّرَ الْقَصْرَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ قَالَ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ. ولَا أُفَضِّلُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. عَلَى أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ اسْتَشْكَلَ اسْتِحْبَابَ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّرْكَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّوَابِ، وَالْفِعْلُ جَائِزٌ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. نَعَمْ، الْوَرَعُ يَلِيقُ بِهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَيْنَ الْخِلَافِ لَا يَنْتَصِبُ شُبْهَةً وَلَا يُرَاعَى بَلْ النَّظَرُ إلَى الْمَأْخَذِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ الْبَحْرِ ": لَوْ كَانَ الْخِلَافُ بِنَفْسِهِ يَنْتَصِبُ شُبْهَةً لَاسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ، يَعْنِي مَسْأَلَةَ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي الدَّلَائِلِ. .
الثَّانِي: لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِلَفْظَةٍ نَوَى بِهَا الْكِنَايَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نِيَّةَ. وَتَرَى الْمَرْأَةُ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، فَلِلزَّوْجِ طَلَبُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، عَمَلًا مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، وَطَرِيقُ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَاجِعَا مُجْتَهِدًا آخَرَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، أَمْ كُلٌّ مُصِيبٌ. فَإِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ قَلَّدَ مَنْ شَاءَ، فَإِنْ اخْتَلَفَا يُخَيَّرُ إنْ اسْتَوَيَا، وَإِلَّا فَيُقَلِّدُ الْأَعْلَمَ وَالْأَوْرَعَ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ عَمِلَ بِمَا قُلْنَا فِي الْمُجْتَهِدِينَ. هَكَذَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ
وَاحِدٌ مَنْ صَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَى الْوَقْفِ حَتَّى يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا هُوَ الْوَقْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي فَيَنْزِلَهَا عَلَى اعْتِقَادِ نَفْسِهِ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ حِينَئِذٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَهُوَ السَّابِقُ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ. قَالَ: وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْمُجْتَهِدَاتِ، وَفِيهَا تَقَابُلُ الِاحْتِمَالَاتِ، فَيَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا عِنْدَنَا وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ وَقْفٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الْجَوَابِ. .
الثَّالِثُ: وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ. وَإِلَّا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ النَّقْضِ وَيَتَسَلْسَلُ فَتَضْطَرِبُ الْأَحْكَامُ وَلَا يُوثَقُ فِيهَا. فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَتَزَوَّجَهَا الرَّابِعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى هَذَا الِاعْتِقَادِ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَأَدَّاهُ إلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لَمْ يَنْقَضِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي بَلْ يَبْقَى عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالصِّحَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا. لِأَنَّ الْمُصَاحِبَ الْآنَ قَاضٍ بَانَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ خَطَأً، فَيُعْمَلُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ، بَلْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ ". وَقَوْلُهُ.
فِي الْحَاكِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فِرَاقِهِ إيَّاهَا نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّفْصِيلَ ثُمَّ قَالَ: وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلَّدِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا. هَذَا فِيمَا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَوْ تَغَيَّرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَفْتَى مُقَلِّدُهُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثًا وَنَكَحَهَا الْمُقَلِّدُ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " وَالْإِحْكَامِ " وَتَبِعَهُ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْرِيحُهَا، كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ مَتَى اتَّصَلَ بِالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ اسْتَقَرَّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ النَّقْضُ عِنْدَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ ": لَوْ نَكَحَ رَجُلٌ نِكَاحًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اسْتَفْتَى فَأَفْتَاهُ بِالْإِفْسَادِ، فَهَلْ تَبِينُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِمُجَرَّدِ الْفَتْوَى؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي، قُلْت: وَحَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " فِي بَابِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْيَمِينِ عَنْ رِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا فَقَالَ: إنْ صَحَّحَ النِّكَاحُ قَاضٍ فَالْفَتْوَى لَا تَرْفَعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ تَصْحِيحُهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ ارْتَفَعَ بِالْفَتْوَى. وَحَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ عَدَدِ الشُّهُودِ، قَالَ: وَهَذَا إذَا اعْتَمَدَ فِي الْعَقْدِ الْفَتْوَى، فَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ مُتَوَلِّيَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إلَّا بِحُكْمِهِ. وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُونَا مُجْتَهِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ وَاخْتَلَفَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَجَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفْتَى بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ قَدْ
عَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ عَنْ قَوْلِهِ. وَلَوْ قَالَ مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ - وَالصُّورَةُ هَذِهِ -: أَخْطَأَ بِهِ مَنْ قَلَّدْتَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي.
الرَّابِعُ: حَيْثُ كَانَتْ حُجَّةُ الْحُكْمِ قَطْعِيَّةً فَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا وَقَعَ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ، بِخِلَافِ الظَّنِّيَّةِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ عَلَى الْحَاكِمِ دَلِيلًا قَاطِعًا، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قَالَ: لَا يُنْقَضُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَمِنْهُ مَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لِدَلِيلٍ أَوْ أَمَارَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَمَارَةٌ تُسَاوِي الْأُولَى. وَكَذَا مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْ الْأُولَى، لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى ظُهُورِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَارَنَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ حَاصِلٌ حَالَ الْحُكْمِ. أَمَّا لَوْ ظَهَرَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ جَلِيٌّ بِخِلَافِهِ نُقِضَ هُوَ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ الظَّنُّ وَإِنَّمَا نُقِضَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ آمِرٌ لَوْ قَارَنَ الْعِلْمَ بِهِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ قَطْعًا، فَكَذَلِكَ نُقِضَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّصِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَهُ هُوَ الظَّاهِرُ.
خَاتِمَةٌ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَهَكَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ، لِصِحَّةِ الْكُلِّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَخِلَافُهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَمَنْ قَرَأَ عَنْ إمَامٍ لَا يَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ. قَالَ: وَلَيْسَتْ كَالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَضَادَّةٍ، وَأَحْكَامُ الْقِرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهَا مَعًا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَنَظِيرُ قِرَاءَةِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] . نَظِيرُ مَنْ قَالَ: هُوَ حَلَالٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مِثْلُهُ، لَا نَظِيرَ مَنْ قَالَ: هُوَ حَلَالٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ حَرَامٌ.