الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]
فَصْلٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَنْقَسِمُ طُرُقُهُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ: كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا مِنْ الْبُرِّ، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ. ثَانِيهَا - مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شَبَهِ النَّصِّ: كَالْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكَرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ.
وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ. ثَالِثُهَا - مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ: كَاَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا. وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ. رَابِعُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ إجْمَالِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ. خَامِسُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتَمَتِّعِ {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فَاحْتَمَلَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ، فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. سَادِسُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، فَإِنَّهُ
أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى، فِي أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَدِينٍ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا سَابِعُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ: كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، مَعَ قَوْله تَعَالَى:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا مِنْ هُبُوطِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ. ثَامِنُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلَ قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّرْعِ إلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ، لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ. وَ (الثَّانِي) : يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ أَصْلٍ. وَقَدْ اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مَا دُونَ الْحَدِّ بِآرَائِهِمْ فِي أَصْلِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ. وَفِي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي حَالٍ، وَبِعِشْرِينَ فِي حَالٍ. وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ الْقِيَاسِ. .
مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيّ رحمه الله فِي كِتَابِ " فَسَادِ التَّقْلِيدِ ": إذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ وَادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِأَنَّ قَوْلَهَا نَظَرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابَةِ وَطَلَبُهُمْ الْحَقَّ بِالشُّورَى الْمَوْرُوثَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] فَيُحْضِرُ الْإِمَامُ أَهْلَ زَمَانِهِ فَيُنَاظِرُهُمْ فِيمَا
مَضَى وَحَدَثَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَسْأَلُ كُلَّ فِرْقَةٍ عَمَّا اخْتَارَتْ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْغَلَبَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَافِ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْقَصْدِ بِهِ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ النَّظَرُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَقُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، قِيلَ: عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي وَقَفَ فِي الْفَتْوَى مَوْقِفَ الْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْعُلَمَاءَ فَيُنَاظِرَهُمْ بِمِثْلِ مُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ - أَوْ كَانُوا - بِمَوْضِعٍ لَا يَصِلُ فِيهِ إلَيْهِمْ فَأَقْرَبُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ تَتَبُّعُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَامَتْ حُجَّتُهُ فِيهِمْ بِمَا وُصِفَتْ، وَإِدَامَةُ الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ فِي تَوْفِيقِهِ لِلْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ خَيْرًا إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ. انْتَهَى. وَهِيَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ. .
فَائِدَةٌ عَلَى فَقِيهِ النَّفْسِ ذِي الْمَلَكَةِ الصَّحِيحَةِ تَتَبُّعُ أَلْفَاظِ الْوَحْيَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي مِنْهُمَا. وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَجَدَهَا مَمْلُوءَةً، وَوَرَدَ الْبَحْرَ الَّذِي لَا يَنْزِفُ، وَكُلَّمَا ظَفِرَ بِأَيَّةٍ طَلَبَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَاسْتَمَدَّ مِنْ الْوَهَّابِ. وَمِنْ فِقْهِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» إنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلْمَالِ وَإِنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يُضَيَّعَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّعَ. وَالْفَقِيهُ أَعْلَى، يَأْخُذُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْحَاجَةِ، أَوْ الْمُسْتَرِيحَ عَلَى الْقَارِعَةِ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ إذَا بَاحَثَ نَفْسَهُ قَالَ لَهَا: هَلَّا حَصَّلْت ثَوَابًا وَعَمَلًا صَالِحًا، فَإِذَا قَالَ لَهُ الْوَسْوَاسُ: أَنْتَ عَلَى الْخَلَاءِ، وَمَا عَسَاك تُحَصِّلُ مِنْ الطَّاعَةِ وَأَنْتَ بِمَكَانٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ، يَقُولُ، إنَّمَا مُنِعْنَا ذِكْرَ اللَّهِ بِالْأَلْسُنِ، فَهَلَّا اسْتَحْضَرْتَ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِدَفْعِ هَذَا الْأَذَى عَنَّا، وَتَهَيُّؤِ الْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لَا يَخْلُو تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ مِنْ الْمَحَالِّ.
الْقَذِرَةِ. كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ فَتْحِ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ الْمُقَذَّرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ بِمُعَالَجَةِ الدِّبَاغِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ» فَيَتَعَدَّى اسْتِنْبَاطُهُ إلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مَا يُوقِعُ الْقَطِيعَةَ وَالْوَحْشَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادَ مَا بَيْنَهُمْ حَتَّى السَّعْيَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي مَنَاصِبِ بَعْضٍ وَوَظِيفَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ تَغْنَمُ بِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَتَثْمِيرِ الْأَعْمَالِ. .
مَسْأَلَةٌ ادَّعَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حَتَّى لَوْ اعْتَقَدَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ لِدَلِيلٍ كَانَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ إلَى أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ " - وَهُوَ مِنْ كُتُبِ " الْأُمِّ " مِنْ أَوَاخِرِهَا -: فَإِذَا قَدِمَ الْمُرْتَدُّ لِيُقْتَلَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَتَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ، وَلَوْلَا الشُّبْهَةُ لَكَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ مِنْ تَعْلِيقِهِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ: لَوْ كَانَ يَذْهَبُ - أَيْ الْمُحْرِمُ - إلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ بِمِنًى، فَبَعَثَ الْهَدْيَ فَنَحَرَ هُنَاكَ أَوْ ذَبَحَ لَمْ يَحِلَّ. وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى مَكَّةَ كَانَ حَرَامًا كَمَا كَانَ. (قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ رحمه الله) : وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا وَعَمِلَ بِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ فِعْلِهِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ هَذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ التَّحَلُّلِ وَتَحَلَّلَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَلَالًا بِذَلِكَ وَلَمْ نُصَحِّحْهُ فِي حَقِّهِ. وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " عَنْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَأَقَرَّهُ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الزِّنَا فِي الشُّبْهَةِ:
كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا لَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ. .
مَسْأَلَةٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَقُولُ فِي مَسْأَلَةٍ: " لَا أَعْلَمُ " حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي النَّظَرِ فِيهَا ثُمَّ يَقِفُ. كَمَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ: " أَعْلَمُ " وَيَذْكُرُ مَا عَلِمَهُ حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ وَيَعْلَمَ، نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَالِمَ لَيْسَ كَالْعَامِّيِّ، فَقَوْلُهُ: لَا أَعْلَمُ يُهَوِّنُ أَمْرَ الْمَسْأَلَةِ وَيُطْمِعُ السَّائِلَ فِي الْإِقْدَامِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مَنْصُوصَةَ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا فَالْعَالِمُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْلَمَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ " لَا أَعْلَمُ " مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَقِفَ عِنْدَ مُقْتَضَيَاتِ الْعِلْمِ بَعْدَ سَبْرِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُطْلِقُ " لَا أَعْلَمُ " إطْلَاقًا. أَمَّا مَنْ يُقَيِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَعْرِفُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَا يَمْنَعُ. .
مَسْأَلَةٌ هَلْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ بَيَانُ الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عِلْمُهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ؟ يُتَّجَهُ فِيهِ تَخْرِيجُ خِلَافٍ مِنْ الْمُفْتِي: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْفَتْوَى، أَوْ لَا يَجِبُ الشَّاهِدُ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُ مُسْتَنَدِهِ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ اسْتِفَاضَةٍ أَوْ لَا يَجِبُ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ وُقُوعِهَا. وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي. نَعَمْ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ: يُبَيِّنُ الْفَرْعَ فِي الْأَدَاءِ جِهَةُ التَّحَمُّلِ مِنْ اسْتِدْعَاءٍ أَوْ أَدَاءً أَوْ بَيَانِ سَبَبٍ. قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ الْغَالِبَ الْجَهْلُ بِطَرِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وَوَثِقَ بِهِ الْقَاضِي جَازَ تَرْكُهُ. .
مَسْأَلَةٌ إذَا وَجَدْنَا عَنْ مُجْتَهِدٍ حُكْمًا وَظَفِرْنَا لَهُ بِدَلِيلٍ مُنَاسِبٍ، وَفَقَدْنَا غَيْرَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا جَعْلُهُ مُعْتَمَدًا لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ؟ جَزَمَ بِهِ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ " قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّا إذَا رَأَيْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ حُكْمًا. وَظَفِرْنَا لَهُ بِمُنَاسَبَةٍ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا، لَكِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَيْهِ. .
مَسْأَلَةٌ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّصِّ. وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ. فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَلْيَعْمَلْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، فَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ، وَنُسِبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقِيلَ: فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ طَلَبُ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ، كَقَوْلِنَا، وَفِي بَعْضِهَا يَعْمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَأَبِي يُوسُفَ. وَقَدْ اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي هَذَا حَتَّى الْتَبَسَتْ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عَلَيْهِ طَلَبَ الِاجْتِهَادِ. لَا طَلَبَ الْحَقِّ. بِأَنَّ مَا أَخْفَاهُ اللَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى إظْهَارِهِ. وَفِي إلْزَامِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ قَوْلَيْنِ: أَنَّهُ
هَلْ الْمُكَلَّفُ بِهِ الِاجْتِهَادُ لَا غَيْرُ، أَوْ كُلِّفَ التَّوَجُّهَ لِلْقِبْلَةِ؟ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لَوْ اجْتَهَدَ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، هَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَجِبُ، وَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " هُنَاكَ هَذَا الْخِلَافَ أَيْضًا وَقَالَ: إنَّهُ يَجْرِي فِي كُلِّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، وَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ بَذْلَ الْمَجْهُودِ فِي الِاجْتِهَادِ. .
فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ: لَا يَخْلُو حَالُ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ تَخْتَلِفَ: فَإِنْ اتَّفَقَتْ فَهُوَ إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ: الْأَوَّلُ - الْعَقْلِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ مِمَّا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ، كَمَا فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، هُوَ الْمُكَلَّفُ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَكَمَا فِي وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ اسْمَ (الْكُفْرِ) ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ، لِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقِّ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً. أَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا فِي وُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، فَلَا الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ، وَلَا الْمُصِيبُ مَأْجُورٌ، إذْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ فِي أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ أَكْبَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأُصُولِ
مُصِيبٌ. وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ الْجَاحِظِ. وَيَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ مُخْطِئًا. وَأَمَّا الْجَاحِظُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ.
أَمَّا رَأْيُ الْعَنْبَرِيِّ فَبَيَّنَ الِاسْتِحَالَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَأَمَّا [رَأْيُ] الْجَاحِظِ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ ابْنُ الْعَنْبَرِيِّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدْ اُسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قُلْت: وَهَذَا أَحَدُ الْمَنْقُولَاتِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمْ الْمِلَّةُ. وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصَوِّبُونَ.
وَغَلَا بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ فَصَوَّبَ الْكَافِرِينَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الرَّاكِنِينَ إلَى الْبِدْعَةِ. وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ: أَنْتُمَا (أَوَّلًا) مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا. و (ثَانِيًا) إذَا أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ
خَرَجْتُمَا عَنْ حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ وَانْخَرَطْتُمَا فِي سِلْكِ الْأَنْعَامِ. وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ - كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجَاحِظِ - فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِالْمُجْمِعِينَ عَلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: مِمَّا خَاضَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ. وَأَجْمَعُوا قَبْلَ الْعَنْبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إدْرَاكُ بُطْلَانِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": لَعَلَّهُ أَرَادَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَخَلْقَ الْقُرْآنِ، إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُكَلَّفُ الْخَوْضَ فِيهِ، بِخِلَافِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ النُّبُوَّاتِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْإِصَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ عَلَى هَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَنَفْيِهَا فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا فِي اعْتِقَادِهِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الْمِلَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَا كُلِّفُوا إلَّا اعْتِقَادَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْحَثْ الصَّحَابَةُ عَنْ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ اعْتِقَادَهَا لَا يَجُرُّ حَرَجًا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُصِيبِ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْهُمَا الْجَوَازُ فِي الْأُصُولِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى حَطِّ الْإِثْمِ، لَا بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إذْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَمَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ فُورَكٍ فَنُقِلَ عَنْهُ ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّأْوِيلُ، نَحْوُ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الشِّفَاءِ ": ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِثْلَهُ عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْجَاحِظُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ. وَتَمَامُهُ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَنْحَى فِي كِتَابِ " التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ " وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلُّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ، لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ. فَمَنْ وَقَفَ فِيهِ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ. انْتَهَى.
وَمَا نَسَبَهُ لِلْغَزَالِيِّ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ، كَمَا سَبَقَ عَنْهُ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ " التَّفْرِقَةِ " هُوَ قَوْلُهُ: إنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ نَصَارَى الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْوِيبُهُمْ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نُقِلَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ إنْ أَرَادَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُتَفَاضِلَانِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْوُسْعَ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأُصُولِيَّاتِ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقَبٍ فَهَذَا أَقْرَبُ وَجْهًا، لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ لَزِمَ تَكْلِيفُهُ لِمَا لَا يُطَاقَ.
وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْعَنْبَرِيُّ عَمَّا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْيِيتِ الْمُشْتَرَكِينَ وَاغْتِرَارِهِمْ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَانِدِ وَغَيْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: الْمُكَلَّفُ مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ بَيْنَ مُعَانِدٍ وَمُقَصِّرٍ، وَأَنَا أَقُولُ بِهَلَاكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. هَذَا إنْ كَانَ مَا قَالَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْإِصَابَةِ فِي الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ وَالْمُجَسِّمَةِ: فَلَا شَكَّ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ. وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا: وَأَظْهَرُ مَذْهَبَيْهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ " إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ ": وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْد مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ. وَقَالَ: اخْطَفْنَا فِي عِبَارَةٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ. وَالْخِلَافُ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا يُكَفِّرُ، قِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُك؟ فَعَادَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ الْآخَرَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ. وَقَالُوا: إنَّمَا نُكَفِّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا، أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ. وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ أَيْضًا، كَمَا يُكَفَّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. قُلْت: وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَكْفِيرَ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. .
الثَّانِي - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ: كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَكَوْنِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَكَالْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَفِي الْحَاصِلِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمُصِيبِ وَاحِدًا فِي الظَّنِّيَّاتِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: