الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]
ِ وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ - نَفْسُ الِاجْتِهَادِ - وَالْمُجْتَهِدِ - وَالْمُجْتَهَدِ فِيهِ
الْأَوَّلُ نَفْسُ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ لُغَةً: افْتِعَالٌ مِنْ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَهُوَ الطَّاقَةُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، لِتَخْرُجَ عَنْهُ الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ ضَرُورَةً مِنْ الشَّرْعِ، إذْ لَا مَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي الِاصْطِلَاحِ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِي بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَقَوْلُنَا:" بَذْلُ " أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ حَتَّى لَا يَقَعَ لَوْمٌ فِي التَّقْصِيرِ وَخَرَّجَ " الشَّرْعِيُّ " اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ، فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدًا وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا قُلْنَا:" بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ " لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ ظَاهِرًا أَوْ بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِهَا مِنْ الْمَعْنَى أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا مِنْ الْكُتُبِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادًا فَهُوَ لُغَةً لَا اصْطِلَاحًا وَسَبَقَ
فِي أَوَّلِ الْقِيَاسِ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِمَعْنًى " وَقِيلَ: طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: اسْمُ الِاجْتِهَادِ يَقَعُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا - الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً مِنْهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالثَّانِي - مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، كَالِاجْتِهَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ - الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ
مَسْأَلَةٌ قَالَ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ ": " الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ قَصَّرَ مِنْهُ أَهْلُ عَصْرٍ عَصَوْا بِتَرْكِهِ وَأَشْرَفُوا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الِاجْتِهَادِ تَرْتِيبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ كَانَتْ الْأَحْكَامُ عَاطِلَةً، وَالْآرَاءُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ مُجْتَهِدٍ " قُلْت: وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ مَا يُنَازَعُ فِي ذَلِكَ
مَسْأَلَةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْحَوَادِثِ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ، وَخِلَافُهُ فِيهِ وَفِي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ، وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
مَسْأَلَةٌ وَمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ هَلْ يُسَمَّى دِينُ اللَّهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْقِيَاسِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ تَنْبِيهٌ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ جَعْلِ الِاجْتِهَادِ رُكْنًا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَنَازَعَ فِيهِ الْعَبْدَرِيّ وَقَالَ: رُكْنُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ
الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَأْخَذِهَا وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ أَوَّلُهَا - إشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ بِالْأَحْكَامِ
قَالَ: قَالَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَوَّلَ مَنْ أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الظَّاهِرَةَ لَا الْحَصْرَ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، فَيَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِدَرْكِ ضَرُورَةٍ فِيهَا وَلِهَذَا عُدَّ مِنْ خَصَائِصِ الشَّافِعِيِّ التَّفَطُّنُ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ وَلَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى: {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ تُسَقْ لِلْأَحْكَامِ وَقَدْ نَازَعَهُمْ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا وَقَالَ: هُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذَا الْعَدَدِ، بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وَمَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ قُلْت: وَمَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَا فِيهَا مِنْ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِتِلَاوَتِهِ؟ قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَحْفَظَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْثَالِ وَالزَّوَاجِرِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحِفْظُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ.
وَثَانِيهَا - مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقِيلَ إنَّهَا خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ ": هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ سُنَّةٍ وَشَدَّدَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو الضَّرِيرِ: قُلْت لَهُ: كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنْ الْحَدِيثِ حَتَّى يُمْكِنُهُ أَنْ يُفْتِيَ؟ يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: مِائَتَا أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: أَرْجُو وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْت: فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ: قَالَ: لَعَلَّهُ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِهَذَا الْعَدَدِ آثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَطُرُقُ الْمُتُونِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ لَمْ يَجْمَعْ طُرُقَ الْحَدِيثِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ وَلَا الْفُتْيَا بِهِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يَحْفَظَ هَذَا الْقَدْرَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفُتْيَا أَوْ يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: الْأُصُولُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ السُّنَنِ، وَإِلَّا لَا نَسُدُّ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ اجْتَهَدَ عُمَرُ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَسْتَحْضِرُوا فِيهَا النُّصُوصَ حَتَّى رَوَيْت لَهُمْ، فَرَجَعُوا إلَيْهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، إذْ لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَوْ تُصُوِّرَ لِمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَوْ أَصْلٌ وَقَعَتْ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَيَكْتَفِي فِيهِ بِمَوَاقِعِ كُلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ، وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبْ الصَّحِيحَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهَا وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد؟ انْتَهَى.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُد لَيْسَ بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ لَا يَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا وَ (الثَّانِي) : أَنَّ فِي بَعْضِهِ مَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ السُّنَنِ بِلَا خِلَافٍ، لِعُسْرِهِ وَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ هَاهُنَا وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْآحَادِ، لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَقْطَعُ بِهِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقْطَعُ.
وَثَالِثُهَا - الْإِجْمَاعُ: فَلْيَعْرِفْ مَوَاقِعَهُ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِهِ، بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فِيهَا يَعْلَمُ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ عَالِمٍ، أَوْ تَكُونُ الْحَادِثَةُ مُوَلَّدَةً وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الِاخْتِلَافَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَفَائِدَتُهُ حَتَّى لَا يُحْدِثَ قَوْلًا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُمْ فَيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِجْمَاعِ
وَرَابِعُهَا - الْقِيَاسُ: فَلْيَعْرِفْهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَإِنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِنْبَاطُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ نَعَمْ، إنْ جَوَّزْنَا تَجَزُّؤَ الِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَعُمُّ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّصِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: وَيَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الظَّاهِرِيَّةُ النُّفَاةُ لِلْقِيَاسِ مُجْتَهِدِينَ. وَخَامِسُهَا - كَيْفِيَّةُ النَّظَرِ: فَلْيَعْرِفْ شَرَائِطَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَيَسْتَفْتِحُ الْمَطْلُوبَ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَصْلُهُ اشْتِرَاطُ الْغَزَالِيُّ مَعْرِفَتَهُ بِعِلْمِ الْمَنْطِقِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقَعُ اصْطِلَاحُ أَرْبَابِ هَذَا الْفَنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَكُونُوا خَائِضِينَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ.
وَسَادِسُهَا - أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ: لُغَةً وَنَحْوًا وَتَصْرِيفًا، فَلْيَعْرِفْ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ، وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ، وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَكْفِيهِ مِنْ اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِفَ غَالِبَ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ، وَمِنْ النَّحْوِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّمْيِيزُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ، كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ وَمَا تَتَّفِقُ
عَلَيْهِ الْمَعَانِي فِي الْجَمْعِ وَالْعَطْفِ وَالْخِطَابِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْوَصْلِ وَالْفَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ الْإِشْرَافُ عَلَى دَقَائِقِهِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ ": يَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ مَا فِي كِتَابِ الْجُمَلِ " لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ مَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَاشْتِرَاطُ الْأَصْلِ فِيهِ مُتَعَيَّنٌ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ نَعَمْ، لَا يُشْتَرَطُ التَّوَسُّعُ الَّذِي أُحْدِثَ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْكَلَامِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَعْرِفَةُ لِسَانِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي إشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ فَفَرْضٌ فِيمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إحَاطَةُ الْمُجْتَهِدِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ تَتَعَذَّرُ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ، فَكَيْفَ نُحِيطُ نَحْنُ؟ قُلْنَا: لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ؟ قَالَ: كُلُّ النَّاسِ وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا عَزَبَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، كَالْقَوْلِ فِي السُّنَّةِ وَقَدْ زَلَّ كَثِيرٌ بِإِغْفَالِهِمْ الْعَرَبِيَّةَ، كَرِوَايَةِ الْإِمَامِيَّةِ:«مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً» بِالنَّصْبِ، وَالْقَدَرِيَّةُ:«فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى» بِنَصَبِ آدَمَ، وَنَظَائِرُهُ وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ، لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا، كَمَا فِي بَابِ الْمُجْمَلِ مِنْ لَفْظِ (مُخْتَارٍ) وَنَحْوِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.
وَسَابِعُهَا - مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: مُخَالَفَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ الْمَتْرُوكُ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، لِقَاضٍ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ النَّصِّ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ، وَالْمُبَيَّنِ، وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ وَثَامِنُهَا - مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ: وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ عَنْ الْفَاسِدِ، وَالْمَقْبُولِ عَنْ الْمَرْدُودِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ: وَيَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي دَاوُد، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَجَازَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ فِي الْقِيَمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مُضْطَرٌّ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ فِي بَابِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْعُلُومَ فَهُوَ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَمِقْدَارُهُ مَا أَحْسَنَ، وَلَنْ يَجُوزُ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعُلُومِ أَحَدٌ غَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَفَرِّقٌ فِي جُمْلَتِهِمْ وَالْغَرَضُ اللَّازِمُ مِنْ عِلْمِ مَا وَصَفْت مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ مَنْزِلَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، قَالَ: وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَعْرِفَةُ جُمَلِهِ لَا جَمِيعِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ نَرَهُ فِي السَّادَةِ الْقُدْوَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ كَانَ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ، مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَيَعْرِفُونَهَا مِنْ الْغَيْرِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذِهِ الْعُلُومُ الَّتِي يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ، وَعِظَمُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِهِ فُنُونٍ: الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَقَالَ الْإِمَامُ: أَهَمُّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ أُصُولُ الْفِقْهِ وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبِأَنَّنَا مُكَلَّفُونَ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِيهِ الْفِطْنَةَ وَالذَّكَاءَ، لِيَصِلَ بِهِمَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ، فَإِنْ قُلْت فِيهِ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لَمْ يَصِحَّ وَشَرَطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ الْعَدَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ.
قَالُوا: وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ فَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْفَتْوَى، لَا لِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ، لِأَنَّ شَرَائِطَ الْحُكْمِ أَغْلَظُ مِنْ شَرَائِطِ الْفُتْيَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ثِقَةً مَأْمُونًا، غَيْرَ مُتَسَاهِلٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مُرَادُهُمْ بِهِ مَا وَرَاءَ هَذَا وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ تَبَحُّرِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: (أَحَدُهُمَا) الِاشْتِرَاطُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَ (الثَّانِي) لَا يُشْتَرَطُ بَلْ مِنْ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى وَصْفِ الْمُؤْمِنِ كَفَاهُ قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ أَصْحَابِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرُهُمْ وَأَطْلَقَ الرَّازِيَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ فَشَرَطَ الضَّرُورِيَّاتِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وُجُوبُ
وُجُودِهِ لِذَاتِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، لِيَكُونَ فِيمَا يُسْنِدُهُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مُحِقًّا وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِق الْكَلَامِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَجْوِبَتِهَا كَالنَّحَارِيرِ مِنْ عُلَمَائِهِ.
وَكَلَامُ الرَّازِيَّ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّفَارِيعِ فِي الْفِقْهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَهُوَ الَّذِي يُوَلِّدُهَا بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ؟ ، فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا لِمَا تَقَدَّمَ وُجُودُهُ عَلَيْهَا وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَحَمَلَ عَلَى اشْتِرَاطِ مُمَارَسَتِهِ الْفِقْهَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ: إنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِجُمَلٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ يُحِيطُ بِالْمَشْهُورِ وَبِبَعْضِ الْغَامِضِ كَفُرُوعِ الْحَيْضِ وَالرَّضَاعِ وَالدَّوْرِ وَالْوَصَايَا وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُتَعَلِّقِ بِالْحِسَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ، لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ مِنْهُ إلَّا بِالْحِسَابِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالضَّرْبِ وَالْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ، مُتَمَكِّنًا مِنْ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، عَارِفًا بِحَقَائِقِهَا وَرُتَبِهَا، عَالِمًا بِتَقْدِيمِ مَا يَتَقَدَّمُ مِنْهَا وَتَأْخِيرِ مَا يَتَأَخَّرُ وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَنْ الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ:" مَنْ عَرَفَ كِتَابَ اللَّهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: لَا أَدْرِي وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَنْ أَفْتَى فِي كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ.
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ فِي النَّوْعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ، فَمَنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ، لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ وَكَذَا الْعَالِمُ بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ هَذَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَ إمَامٍ وَاسْتَقَلَّ بِإِجْرَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوَاعِدِهِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا ذَلِكَ الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَهُ فَهَذَا يُمْكِنُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ الْمُقَيَّدُ - وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، كَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَالْقِيَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا وَقَدْ اسْتَقَلَّ قَوْمٌ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ بِبِنَاءِ أَحْكَامٍ عَلَى أَحَادِيثَ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ لِإِمَامِهِمْ، وَهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي هَذَا إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ، فَإِذَا قَصَّرُوا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْسَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامِ، انْتَهَى وَهَذَا مَوْضِعٌ نَفِيسٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي التَّعَرُّضِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرِ مَنْصُوصَةٍ لِلْإِمَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَتْبَاعِهِ مُحْتَجًّا فِيهَا بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، فَيَظُنُّ الْوَاقِفُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِمَامِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ جُمْلَةِ مُقَلِّدِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مَسْأَلَةٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، بَلْ فِيمَا هُوَ مِنْهَا خَفِيٌّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَذْلُ الْوُسْعِ، فَيَطْلُبَهَا لِأَنَّهَا تُنَالُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
مَسْأَلَةٌ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعَرُّفِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَقَائِعِ، وَتَعَرُّفُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى التَّعْيِينِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا تَقُومُ بِهِ الْكِفَايَاتُ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَاَلَّذِي رَأَيْت فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ بِهِ فِي آحَادِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْهَا الِاسْتِمْدَادُ فِي الْفَتْوَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: الِاجْتِهَادُ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ (1) فَرْضُ عَيْنٍ، (2) وَفَرْضُ كِفَايَةٍ (3) وَنَدْبٌ: - فَالْأَوَّلُ: عَلَى حَالَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ وَ (الثَّانِي) اجْتِهَادُهُ فِيمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَّا عَلَى التَّرَاخِي - وَالثَّانِي: عَلَى حَالَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنْ أَجَابَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَإِلَّا أَثِمُوا جَمِيعًا لَكِنْ حَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي، هَلْ يَأْثَمُ بِالرَّدِّ؟ أَصَحُّهُمَا: لَا وَالثَّانِي: إنْ تَرَدَّدَ الْحُكْمُ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ فِي النَّظَرِ
فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فِيهِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُمَا وَالثَّالِثُ عَلَى حَالَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) فِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ النَّوَازِلِ، لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ وَ (الثَّانِي) أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ قَبْلَ نُزُولِهَا.
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ ": قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ فِيهِ عَجِيبٌ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ الْقَيَّاسَ كَالْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، لَا النَّاقِلِ فَقَطْ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرِيُّ فِي الْمُسْكِتِ " فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: وَتَحْتَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: لَا يُخْلِي اللَّهُ زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَّى زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ زَالَ التَّكْلِيفُ، إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ - كَمَا قَالَ الْخَصْمُ - فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، لِأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تَقُمْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، وَلَوْ عُطِّلَتْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتْ النِّقْمَةُ بِذَلِكَ فِي الْخَلْقِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، لَكِنْ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخَرِ الزَّمَانِ وَقَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ ": وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَالِكٍ إلَى الْحَقِّ عَلَى وَاضِحِ الْمُحَجَّةِ، إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَيَتَتَابَعُ بَعْدَهُ مَا بَقِيَ مَعَهُ إلَى قُدُومِ الْأُخْرَى وَمُرَادُهُ بِالْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مَثَلًا، وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخُلُوَّ مِنْ مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ مِنْهُ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ تَرْكُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَالَ وَالِدُهُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ تَلْقِيحِ الْأَفْهَامِ ": عَزَّ الْمُجْتَهِدُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ فِي اشْتِغَالِهِمْ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَالْمُخْتَارُ قَبُولُ فَتْوَى الرَّاوِي عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ جَدُّهُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرَحِ، مُعْتَرِضًا عَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ:" لَا يَجُوزُ انْحِطَاطُ الْعُلَمَاءِ ": إنْ أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ، وَزَمَانُنَا هَذَا قَدْ يَشْغَرُ مِنْهُمْ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّقَلَةَ فَهَذَا يُتَّجَهُ، فَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَقْضِ بِانْحِطَاطِهِمْ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَلَفْظِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ نَعَمْ، إنْ فَتَرَتْ الدَّوَاعِي وَقَلَّتْ الْهِمَمُ فَيَجُوزُ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، انْتَهَى وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: وَقَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَلَا يَلِي فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا مَنْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ: تَسْأَلُ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي؟ وَقَالَ، هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ: لَسْنَا مُقَلِّدَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَاذَا كَلَامُ مَنْ يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ أَنَّ
ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، لَا عَنْ مُجْتَهِدٍ فِي مَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ إلَّا فِيهَا.
مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ غَيْرِهِ وَعَزَاهُ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النُّكَتِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنْ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِهِ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَأْخَذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ وَالنَّاظِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَارَكَةِ تَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَثَلًا وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْفِقْهِ رُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا نَوْعًا آخَرَ مِنْهُ، كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ تَحْلِيلَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِعْجَالِ، فَلَا تَكْتَمِلُ شَرَائِطُ الِاجْتِهَادِ فِي جُزْءٍ حَتَّى يَسْتَقِلَّ بِالْفُنُونِ كُلِّهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْأُصُولِيِّ فِي الْفِقْهِ؟
فَإِنْ قُلْنَا: يَتَجَزَّأُ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ، وَإِلَّا فَلَا قِيلَ: وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ إذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ أَمَّا مَسْأَلَةً دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ قَطْعًا وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِبْيَارِيُّ، وَتَوَسَّطَ فَقَالَ: إنْ أَجْمَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى ضَبْطِ مَآخِذِهَا وَكَانَ النَّاظِرُ الْمَخْصُوصُ مُحِيطًا بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمَآخِذِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حَتَّى تَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَفِقْدَانُ الْمُعَارِضِ مِنْ الشَّرِيعَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ النَّاظِرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَجْزِمُ أَوْ يَظُنُّ؟ ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: الْحَقُّ التَّفْصِيلُ: فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ كُلِّيًّا، كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَارِي الْكَلَامِ وَمَا يُقْبَلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ، فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ وَمَا كَانَ خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ أَوْ بَابٍ فَإِذَا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ كَانَ فَرْضُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ