المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الاجتهاد من غير الأنبياء في زمانهم] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٨

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا]

- ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

- ‌[الِاسْتِقْرَاءُ]

- ‌[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]

- ‌[الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ]

- ‌[شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ]

- ‌[دَلَالَةُ السِّيَاقِ]

- ‌[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]

- ‌[سَدُّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[الِاسْتِحْسَانُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ]

- ‌[دَلَالَة الْإِلْهَام]

- ‌[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ]

- ‌[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

- ‌[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]

- ‌[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]

- ‌[التَّقْلِيدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى]

- ‌[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ]

- ‌[خَاتِمَة الْكتاب]

الفصل: ‌[الاجتهاد من غير الأنبياء في زمانهم]

[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَقَامَيْنِ: الْجَوَازُ، وَالْوُقُوعُ. أَمَّا الْجَوَازُ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَنُقِلَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى مُسْتَحِيلٍ. فَإِنْ أَرَادُوا مَنْعَ الشَّرْعِ تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ فَهُوَ مَفْقُودٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى، وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ مُطْلَقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْغَائِبِ عَنْهُ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَيَجُوزُ دُونَ الْحَاضِرِينَ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ. ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: يُكْتَفَى بِسُكُوتِهِ عليه السلام، حَكَاهُ فِي

ص: 255

الْمُسْتَصْفَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَيْسَ بِمَرَضِيٍّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِذَلِكَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ نَزَّلَ السُّكُوتَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ صَرِيحَ الْإِذْنِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ سُؤَالِ النَّبِيِّ عليه السلام، كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ طَلَبِ النَّصِّ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلسَّالِكِ فِي بَرِّيَّةٍ مَخُوفَةٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى رَأْيِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ سُؤَالِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ الطَّرِيقِ عَنْ عِلْمٍ. وَإِذَا سَأَلَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَجُوزُ أَنْ يَكِلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام إلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: يُشْتَرَطُ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مَعَ النَّصِّ ثُمَّ يَتَأَمَّلُ: فَإِنْ كَانَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ صِرْنَا إلَى النَّصِّ، كَذَلِكَ يَجْتَهِدُ بِحَضْرَتِهِ، فَإِنْ أَفْتَى عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَفَصَّلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْحَاضِرِ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيجَابِ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَقَدْ أَفْتَى أَبُو السَّنَابِلِ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجُوزُ، كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى إيجَابِ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ، وَإِنَّمَا كَانَ إيذَانًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ بِحَضْرَتِهِ عليه الصلاة والسلام فِيمَنْ هُمْ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ هُمْ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ. قُلْت: وَإِذَا جَوَّزْنَا لِلْغَائِبِ فَمَا ضَابِطُ الْغَيْبَةِ؟ هَلْ هِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا. لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ بِفَرْسَخٍ أَوْ فَرَاسِخَ.

ص: 256

وَأَمَّا الْوُقُوعُ: فَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، فَقَالَ: وَقَعَ لِلْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ: وَهُوَ اُسْتُبْشِعَ فِي الِاسْتِقَامَةِ، وَأَمْيَلُ إلَى الِاقْتِصَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَذُّرُ الْمُرَاجَعَةِ مَعَ تَأَنِّي الدَّارِّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّ الْأَقْوَى عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْحَاضِرِ، وَقَطَعَ فِي الْغَائِبِ بِالْوُقُوعِ. هَذَا حَاصِلُ مَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ: اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ لَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ، كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ، فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُمَا، لِأَنَّ مُعَاذًا قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَاسْتَصْوَبَهُ، وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ. وَيَكُونُ اجْتِهَادُهُ أَمْرًا مُسَوَّغًا مَا لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُهُ. ثَانِيهِمَا - أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَانِ:(أَحَدُهُمَا) - أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَدَرَ عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ. و (ثَانِيهِمَا) - أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخَافُ فَوَاتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:(أَحَدُهُمَا) لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَشْرَعَ.

ص: 257

وَ (الثَّانِي) يَجُوزُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ. وَعَلَى هَذَا فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ، لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا قَدِمَ الرَّسُولُ أَنْ يَسْأَلَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاصِلًا فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَغَائِبًا عَنْ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ فِي اجْتِهَادِهِ إلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، لِأَنَّ الْعَجْلَانِيُّ سَأَلَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ عَنْ قَذْفِ امْرَأَتِهِ بِمَا سَمَّاهُ فَقَالَ لَهُ: حَدٌّ فِي ظَهْرِك إنْ لَمْ تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ فَتَوَقَّفَ فِيهِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَجَابَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمُجْتَهِدُ إلَى أَصْلٍ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ، قَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي ": وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَامِرِ بِهَا، وَالْمُعَامَلَاتُ تَخْفِيفٌ فَتُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عَنْهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ، كَمَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرَّهُ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَحِيحًا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَلَبَ الْقَتِيلِ وَقَدْ أَخَذَهُ غَيْرُ قَاتِلِهِ. قُلْت: وَفِي مَعْنَى أَمْرِهِ بِهِ الْمُشَاوَرَةُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159][وَقَدْ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى وَغَيْرِهِ] . وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ بِحَضْرَتِهِ لِيَعْرِضُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ، فَإِنْ صَحَّ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ. كَبَحْثِ الطَّالِبِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ.

وَقَدْ اجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِهِ قَضَاءَ الْغَائِبِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ وَرَضِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:(قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ) وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ اجْتِهَادًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ يَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ.

ص: 258

وَقَدْ احْتَجَّ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الْوُقُوعِ: (1) بِقَضِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَ) وَلَمْ يَقُلْهُ الصِّدِّيقُ بِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ.

(2)

: وَكَذَلِكَ حَكَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ قَالَ: (لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ) . (3) وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنْ يَحْكُمَا بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَقَالَ لَهُمَا: إنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَظَرٌ: أَمَّا (الْأَوَّلُ) فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ عَامَ حُنَيْنٍ مُشْرِكًا ثُمَّ إنَّهُ عليه السلام قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَقُومُ أَبُو قَتَادَةَ

ص: 259

فَلَا يَجِدُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثَةُ قَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ مَا لَك؟ قَالَ: فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ. . . الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَقُلْهُ بِالِاجْتِهَادِ، بَلْ هُوَ تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» .

وَأَمَّا (الثَّانِي) فَالنِّزَاعُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ، كَغَالِبِ عَادَاتِهِمْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ مِمَّا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ. وَتَحْكِيمُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّهُ عليه السلام فَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِي وَاقِعَةٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عليه السلام. وَأَمَّا (الثَّالِثُ) فَقِيلَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، بَلْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْحُبَابِ حَدَّثَهُ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ خَصْمَيْنِ جَاءَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(اقْضِ بَيْنَهُمَا) وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الْقُضَاةِ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهْرَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: جَاءَ خَصْمَانِ إلَى النَّبِيِّ (ص)، فَقَالَ عليه السلام:(اقْضِ بَيْنَهُمَا) فَقُلْت، يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُنْتَ أَوْلَى بِهِ،

ص: 260

قَالَ: وَإِنْ كَانَ، قُلْتَ: مَا أَقْضِي؟ قَالَ: (عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْتَ كَانَ لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ كَانَ لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ) وَمَدَارُهُ عَلَى فَرَجٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ هَلْ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَوْ عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي (الْمُسْتَدْرَكِ) الْحَدِيثَ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَادَى يَوْمَ انْصَرَفَ مِنْ الْأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ النِّزَاعَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ يُرَاجِعُ، وَهَذَا اجْتِهَادٌ فِي نَصِّهِ عليه السلام مَا الْمُرَادُ بِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ. و (الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ لَهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. وَصَوَّبَهُ عليه الصلاة والسلام. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَحَدِيثُ بَعْثِهِ عليه السلام عَلِيًّا قَاضِيًا، وَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ ".

ص: 261

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ «حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ، فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ فِي الْوَلَدِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أَرَى أَنْ نُقْرِعَ بَيْنَكُمْ، فَقَرَعَ أَحَدُهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْوَلَدَ، فَقَالَ عليه السلام: مَا أَعْلَمُ فِيهَا إلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ» . وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ:«كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ بِاَلَّذِي سُبِقَ. فَقَالَ عليه السلام: اصْنَعُوا كَمَا صَنَعَ مُعَاذٌ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ تَغَيَّرَ مِنْ يَوْمئِذٍ وَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ بِأَمْرِهِ عليه السلام وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ. بَلْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُعْجَمِهِ "، بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِمَا إلَّا فُلَيْحًا فَعَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ: عَنْ «مُعَاذٍ قَالَ: فَجِئْت يَوْمًا وَقَدْ سُبِقْت وَأُشِيرَ إلَيَّ بِاَلَّذِي سُبِقْت بِهِ. فَقُلْتُ: لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ كُنْت عَلَيْهَا، فَكُنْت بِحَالِهِمْ الَّتِي وَجَدْتُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُمْتُ. فَصَلَّيْتُ وَاسْتَقْبَلَ عليه الصلاة والسلام النَّاسَ وَقَالَ: مَنْ الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: مُعَاذٌ، فَقَالَ قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاقْتَدُوا بِهِ. إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ سُبِقَ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَلِيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَلْيَقْضِ مَا سَبَقَهُ بِهِ» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُوَافَقَةِ عُمَرَ رضي الله عنه رَبَّهُ عز وجل فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ عليه الصلاة والسلام.

ص: 262

فَائِدَةٌ قَالَ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ وَقَالَ: بَلْ فِي مَسَائِلَ الْفِقْهِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ. فَفِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ: (أَصَحُّهُمَا) يَجْتَهِدُ وَلَا يُكَلِّفُ الْغَيْرَ، بِدَلِيلِ طَهَارَتِهِ مِنْ الْإِنَاءِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِهِ. (الثَّانِي) لَا، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ. وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَقْتِ. وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا أَقْوَى مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا التَّرْجِيحُ وَهْمٌ، فَالْقَادِرُ عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْيَقِينِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَحْيٌ، وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَنْزِلْ الْوَحْيُ فَلَا حُكْمَ فَلَا قَطْعَ وَلَا ظَنَّ. فَغَايَةُ الْقَادِرِ سُؤَال عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُجَوِّزُ نُزُولَ الْوَحْيِ فَيَكُونُ مُجَوِّزًا لِلْيَقِينِ، وَإِنَّمَا مَأْخَذُ هَذَا الْخِلَافِ الْأُصُولِيِّ مَا فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ التَّحَرِّي، وَمَا فِيهِ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يَأْمَنُ فِيهَا الْخَطَأُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ طَرِيقٍ يَأْمَنُ فِيهِ الْخَطَأَ، فَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لِلْخِلَافِ صَحِيحٌ. نَعَمْ، الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ عليه السلام تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِسُؤَالِ اللَّهِ، وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ، بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْيَقِينِ مَقْطُوعٌ بِهَا، سَوَاءٌ وَقَعَ الْجَوَابُ فِي الْحَالِ. كَمَا كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ، أَوْ بَعْدَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ. وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ التَّخْرِيجِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ

ص: 263

عُلِمَ، وَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ فِي تَعْيِينِهِ، وَمَسْأَلَتُنَا اجْتِهَادٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّجْوِيزِ فِي الْمُشْتَبَهِ بَعْدَ عِلْمِهِ الْجَوَازُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ. .

مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ وَمَا تَرَى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَإِنَّك لَا تَحْكُمُ إلَّا بِالصَّوَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. وَقَدْ سَبَقَتْ.

ص: 264

الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُجْتَهَدُ، فِيهِ وَهُوَ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ أَوْ عِلْمِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ الْعِلْمُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيِّ الْعَقْلِيُّ فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ مَا هُوَ كَسْبٌ لِلْمُكَلَّفِ إقْدَامًا وَإِحْجَامًا. وَبِالْعَمَلِيِّ مَا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ الْأُصُولِ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ الَّتِي يَسْتَنِدُ الْعَمَلُ إلَيْهَا. وَقَوْلُنَا: لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ احْتِرَازًا عَمَّا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ إذَا ظَفِرَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ حَرُمَ الرُّجُوعُ إلَى الظَّنِّ. مَسْأَلَةٌ فِي الْحَادِثَةِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظِيرِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ فِي نَظِيرِهَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْ مَعْنَى نُطْقِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِنَا إلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مَعَ إمْسَاكِهِ عَنْهُ. قُلْت: وَهَذَا كُلُّهُ بَحْثٌ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، أَمَّا الْوُقُوعُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لِوُجُوبِ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. .

ص: 265

فَصْلٌ فِي تَحْلِيلِ الْحُجَجِ لَيْسَ يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ عَلَى شَيْءٍ تَعَرُّفُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الِارْتِيَاضِ فِي مُبَاشَرَتِهِ، فَلِذَلِكَ إنَّمَا تَصِيرُ لِلْفَقِيهِ مَلَكَةُ الِاحْتِجَاجِ وَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَرْتَاضَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَمَا أَتَوْا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَرُبَّمَا أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ الْعَنَاءِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مِنْ فَاسِدِهَا. وَمِمَّا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى تَحْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ وَرَدِّهِ إلَى الْحُجَجِ، فَمَا وَافَقَ مِنْهَا التَّأْلِيفُ الصَّوَابَ فَهُوَ صَوَابٌ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ تَوَقَّفَ فِيهِ. .

ص: 266