المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ] ِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ، - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٨

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا]

- ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

- ‌[الِاسْتِقْرَاءُ]

- ‌[اسْتِصْحَابُ الْحَالِ]

- ‌[الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ]

- ‌[شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ]

- ‌[دَلَالَةُ السِّيَاقِ]

- ‌[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ]

- ‌[سَدُّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[الِاسْتِحْسَانُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ]

- ‌[دَلَالَة الْإِلْهَام]

- ‌[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ]

- ‌[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ]

- ‌[الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد]

- ‌[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد]

- ‌[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ]

- ‌[التَّقْلِيدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى]

- ‌[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ]

- ‌[خَاتِمَة الْكتاب]

الفصل: ‌ ‌[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ] ِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ،

[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ]

ِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، لَلَزِمَ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْمُحَالِ.

[الِاسْتِقْرَاءُ]

ُ وَهُوَ تَصَفُّحُ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ لِيَحْكُمَ بِحُكْمِهَا عَلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ. وَيَنْقَسِمُ إلَى: تَامٍّ، وَنَاقِصٍ. فَالتَّامُّ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي جُزْئِيٍّ لِثُبُوتِهِ فِي الْكُلِّيِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَمِثَالُهُ: كُلُّ صَلَاةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً أَوْ نَافِلَةً، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعَ الطَّهَارَةِ. فَكُلُّ صَلَاةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعَ طَهَارَةٍ. وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ شَيْءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَفْرَادِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ. وَالنَّاقِصُ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي كُلِّيٍّ لِثُبُوتِهِ فِي أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَامِعٍ. وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِ (الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ) . وَهَذَا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ.

ص: 6

لِاحْتِمَالِ تَخَلُّفِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ الْحُكْمِ، كَمَا يُقَالُ: التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْفَكَّ الْأَعْلَى عِنْدَ الْمَضْغِ. فَإِنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ فِي تَحْرِيكِهَا الْأَسْفَلَ. وَاخْتَارَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالْمِنْهَاجِ " وَالْهِنْدِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا يُعْسَرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا إذَا تَأَيَّدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ الْحُصُولِ يَكُونُ حُجَّةً. وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ أَمْ لَا؟ لَا فِي أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ . وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمْنَا اتِّصَافَ أَغْلَبِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ نُشَاهِدُهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ، حَتَّى جَازَ لَنَا اسْتِرْقَاقُ الْكُلِّ وَرَمْيُ السِّهَامِ إلَى جَمِيعِ مَنْ فِي صَفِّهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا لَمَا جَازَ ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَعَادَةِ الْحَيْضِ بِتِسْعِ سِنِينَ، وَفِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا: فَلَوْ وَجَدْنَا الْمَرْأَةَ تَحِيضُ أَوْ تَطْهُرُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يُتْبَعُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَعْصَارِ. وَأَصَحُّهَا: لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ أَعْطَوْا الْبَحْثَ حَقَّهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: إنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَذْهَبَ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا.

ص: 7

وَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": التَّامُّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِيَّاتِ وَغَيْرُ التَّامِّ لَا يُصْلَحُ إلَّا لِلْفِقْهِيَّاتِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الْأَكْثَرُ عَلَى نَمَطٍ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ. .

الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَهَذَا عِنْدَنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِيمَا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ. أَعْنِي أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ ذَلِكَ فِيهِمَا إلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِهِمَا. أَمَّا قَبْلَهُ، فَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ:" لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ "، وَلَمْ يَحْكُمُوا هُنَا قَوْلًا بِالْوَقْفِ كَمَا هُنَاكَ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ. وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ الصُّورَتَيْنِ وَأَجْرَى الْخِلَافَ هُنَا أَيْضًا. وَكَأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ مَا قَبْلَ السَّمْعِ إلَى مَا بَعْدَهُ وَرَأَى أَنَّ مَا لَمْ يُشْكِلُ أَمْرُهُ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ خَاصٌّ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ مَا فِيهِ. ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَقَّقَ الْمَسْأَلَةَ تَحْقِيقًا فَقَالَ، بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْأَفْعَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ:" مَسْأَلَةٌ: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ فِي الشَّرْعِ " هَلْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ الْمَنْعِ؟ " حَكَمَ بِأَنَّهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْعَقْلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ.

ص: 8

قَالَ: وَالْبَاقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ أَوْ يَخْتَصُّ نَوْعَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَقَوْلُهُ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ. وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنَى. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي السَّمْعِ الْإِبَاحَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ، فَهِيَ فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي إبَاحَةِ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ:{قُلْ لا أَجِدُ} [الأنعام: 145] . . . يَصْلُحُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا سَكَتَ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» يُرِيدُ: مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» فَشَرَّك بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلْ الْأَصْلَ أَحَدَهُمَا. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]

ص: 9

ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ. وَأَوْرَدَ أَنَّهَا تَأْتِي لِغَيْرِ الِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بِالظُّهُورِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ فَيَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الزِّينَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُسَمَّى الزِّينَةِ أَنْ لَا يَحْرُمَ شَيْءٌ مِنْ آحَادِهَا، فَإِذَا انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} [الجاثية: 12] إلَى قَوْلِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ [لَمْ] يَحْرُمْ عَلَى السَّائِلِ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلَا يَخْفَى أَجْوِبَةُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي. عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ فِيهِ، بَلْ عُفِيَ، وَلَا يُوصَفُ بِإِذْنٍ وَلَا مَنْعٍ. وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا إلَّا أَنَّهَا خُلِقَتْ لَنَا وَسُخِّرَتْ لَنَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا أُبِيحَتْ لَنَا، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ لَنَا وَلَا يُبَاحُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى إذْنٍ مِنْ جِهَتِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي كَلَامٍ لَهُ، قَالَ: فَصَارَ هَذَا بِمَثَابَةِ قَوْلِ السُّلْطَانِ لِجُنْدِهِ: هَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي أَجْمَعُهَا لَكُمْ. فَلَا.

ص: 10

يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُمْ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي التَّنَاوُلِ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا لَهُمْ وَإِنَّمَا بِإِذْنٍ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ زَمَانٍ آخَرَ، فَلَا بُدَّ إذْنٌ مِنْ إذْنٍ جَدِيدٍ، وَزَيْفٌ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ إنَّ الْأَفْعَالَ لَا حُكْمَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَبَعْدَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ تَبَيَّنَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً. قَالَ: ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] وَأَمَّا احْتِجَاجُ الرَّازِيَّ بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَطْعًا، فَلَيْسَ عَلَى أَصْلِنَا، لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَضَارِّ، فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهُوَ عَامٌّ. وَضَعَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الِاسْتِدْلَالَ [بِهِ] ، لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ، النَّهْيُ عَنْ الْإِضْرَارِ، وَلَا إضْرَارَ بِالنَّفْسِ، فَقَدْ يُؤْخَذُ عَلَى عُمُومِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِضْرَارُ بِالنَّفْسِ، فَيَتِمُّ الدَّلِيلُ.

تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ الْمَنَافِعِ الْأَمْوَالُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا التَّحْرِيمُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. . .» الْحَدِيثُ.

وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهَا. قُلْت: قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَصْلُ مَالِ كُلِّ امْرِئٍ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِمَا أَحَلَّ بِهِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَذَلِكَ، وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ. فَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ قَالَ آخِرُهُ: وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عَامَّةِ الْعِلْمِ. قَالَ

ص: 11

الصَّيْرَفِيُّ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا يَنْكَسِرُ أَبَدًا، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَصْلِ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أَوْ عَرْضٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى نَقْلِهِ. انْتَهَى. وَيُنَازِعُ فِيهِ تَخْرِيجُ الْمَاوَرْدِيِّ مَسْأَلَةَ النَّهْرِ الْمَشْكُوكِ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَمْلُوكٌ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. ثُمَّ إنْ سَلَّمَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي أَصْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ تَطْرَأْ عَلَيْهَا يَدُ مِلْكٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ. الثَّانِي: مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ النَّفْيِ فِي كُلِّ دَلِيلٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ، كَمَا فِي تَعْمِيمِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ. وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ غَيْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَجَعَلَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْعَقْلِ فِي عَدَمِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ تَكُونُ فِي الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَالِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ فِي الطَّارِئِ: ثُبُوتًا كَانَ أَوْ عَدَمًا. الثَّالِثُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَنَافِعِ هُنَا مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ بَلْ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ: الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الْحِلُّ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالنَّفْعِ الْمُكْنَةُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا، وَبِالْمَضَرَّةِ الْأَلَمُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهِ. .

التَّعَلُّقُ بِالْأُولَى قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا بَابٌ تَنَازَعُوا فِي تَعْيِينِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا جَمَعَ مَعْنَى الشَّيْءِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَمْثَالِهِ. قَالَ تَعَالَى لِمَنْ اعْتَلَّ عَنْ التَّخَلُّفِ بِشِدَّةِ الْحَرِّ:{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] يَعْنِي: فَلْيَتَخَلَّفُوا عَنْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] لِأَنَّ حَقَّهُمْ

ص: 12