الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات
قوله: باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب والباب عبارة عن المدخل والمخرج وعرف بأنه فرجة في ساتر يتوصل بها من ظاهر إلى باطن ظاهرها الجهل وباطنها العلم حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني وفي الكلام إضمار تقديره باب ذكر الشيء الذي ينطق به. فما: موصولة بمعنى الذي ومعنى تنطق تفوه وتتكلم والألسنة: جمع لسان وهو جارحة معروفة وتعتقده تربط عليه وتشد الاعتقاد حتى لا يتفلت.
وقال الأصوليون: الاعتقاد هو الذكر النفسي الذي لا يحتمل النقيض عند الذاكر ثم هو اعتقاد صحيح إن طابق وفاسد إن لم يطابق. والأفئدة: جمع فؤاد والمراد به هنا القلب عبر عنه بلازمه كما عبر بالقلب عن المعنى القائم به وهو العقل والواجب قسمان: شرعي وعقلي.
فالشرعي: ما لا يجوز في الشرع تركه وسيأتي إن شاء الله، والعقلي: ما لا يمكن نفيه ويقابله المستحيل وهو ما لا يتصور وجوده والجائز عديلهما وهو ما لا يمنع تصوره من وجوده ومقابله فهذه أحكام العقل وبها الكلام في الإثبات والنفي وإنما ذكرتها هنا لتعلق الاعتقاد بها والله أعلم.
ومقصود الشيخ في هذا الباب ذكر ما يجب نطقاً واعتقاداً على الجمع والتفكيك: وقد اختلف في إدخاله في أبواب الفقه لتوقفه عليه في باب الردة وغيرها أو لا ولا يدخل في ذلك وضعها هنا لأن الكتاب موضوع لما هو من أمر الدين جملة والله أعلم.
(من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له).
من ذلك أي: مما يجب نطقاً واعتقاداً على التلازم الإقرار له تعالى بالوحدانية من جميع جهات الوحدانية وهو معنى قولنا: " لا إله إلا الله " فالله اسم لذات المعبود الحق الغني عن العلة والفاعل الموصوف بصفات الألوهية والله أطلقته العرب على كل معبود عبد بحق أو باطل فجاء الشرع بنفي ما عمموه وهو قوله: " لا إله إلا الله " أي: لا معبود
بحق إلا الله لأنه لا مستحق للاتصاف بالكمالات سواه وإنما أتى بصيغة النفي والإثبات نفياً للإبهام ورفعاً للأوهام وقد أشار تعالى لذلك بقوله الكريم: {وإلهكم إله واحد} فأثبت الوحدانية ثم رفع الوهم بقوله {لا إله إلا هو} ثم أشار لكمال الصفة بقوله {الرحمن الرحيم} ثم أشار للدليل بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
والوحدانية التفرد فيما هو به قال الشيخ أبو بكر بن فورك رحمه الله: والوحدانية في وصفه تعالى له ثلاث معان: لفظ الواحد حقيقة في جميعها.
أحدها: أن لا قسيم لذاته، وأنه غير متبعض ولا متحيز.
الثاني: لا شبيه له تقول العرب فلان واحد عصره أي لا شبيه له فيه.
الثالث: أنه لا شريك له في أفعاله ومنه قالوا فلان متوحد بهذا الأمر أي لا شريك له فيه ولا معاند انتهى.
قلت: والمقصود أنه تعالى واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في أفعاله ووصفه، بأن لا إله غيره جامع لكلها.
وقوله (لا شبيه له ولا نظير له إلى آخره) تفصيل لذلك ولك أن تقول لا شبيه له في ذاته إذ ليس كمثله شيء ولا نظير له في صفاته ولا شريك له في أفعاله ولا ولد له فيكون موروثاً ولا والد فيكون كغيره ولا صاحبة له فيكون محتاجاً له أو مغلوباً لأن الصاحبة إنما تراد للشهوة وهي غالبة أو لدفع الضرورة وهو افتقار أو للاستلذاذ وهو من سمات الحدوث ويتعالى ربنا عن ذلك كله والدليل على وحدانية ذاته أنه لو كان جسماً لكان مركباً ولو كان جوهراً لكان متحيزاً ولو كان عرضاً لكان مفتقراً والتركيب والتحيز والافتقار حوادث وما لا يعرى عن الحوادث لا يسبقها وما لا يسبقها كان حادثاً مثلها وموجداً لكل لا يصح أن يكون حادثاً للزوم التسلسل والدور فيلزم من قدمه نفي كل صفة حادثة عنه.
وأما وحدانية الصفات فقال الأشعري رحمه الله: لو أشبه الباري تعالى خلقه ولم
يخل أن يشبههم من كل جهة فيكون حادثاً مثلهم أو من بعض الجهات فيكون حادثاً من تلك الجهة لأن جميع جهات العالم حادثة وهو تعالى قديم باق منزه عن الحدوث.
وأما وحدانية الأفعال فلأنه لو كان اثنان فإما أن يقدر كل واحد منهما أن يمنع الآخر مما يريد أم لا أو يقدر أحدهما دون الآخر أو يتفقان والكل باطل لأن الأول يؤذن بعجزهما والثاني بعجز أحدهما والثالث مشروط بجواز انعدامهما ولو وجد قادران كانت نسبة المقدورات لهما سواء ولا مخالف في التوحيد إلا الثنوية القائلون بالنور والظلمة وكذلك الطبائعية والأفلاكية والمسبعة منهم، فأما النصارى فيقولون بتعدد القدماء في ذاته ويسمونه جوهراً أو يقولون هو ثلاثة أقانيم اتحدث في ذات القديم:
وجود وعلم وحياة فالوجود أب والعلم ابن وهو المسيح عندهم والحياة روح القدس، ولطائفة منهم أب هو الله وعيسى ابن مريم زوجة.
وقد رد الله على الجميع بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] الآية وقال عز من قائل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ} [المؤمنون: 117] فكل ما ذكرناه مداره على هذه الآية وعلى قوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله جل ذكره {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] وقد سئل بعضهم عن الله تعالى فقال: إن سألت عن ذاته فليس كمثله شيء، وإن سألت عن صفاته فهو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وإن سألت عن أسمائه: فـ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة وإن سألت عن أفعاله فكل يوم هو في شأن قيل يغفر ذنباً ويكشف كرباً ويبتلي قوماً ويعافي آخرين انتهى.
والنقل في هذا الباب واسع والنظر فيه على بساط التتريه ونفي التشبيه والتبري من الشبه من أعظم شيء في زيادة الإيمان وبالله التوفيق.
(ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء).
أي أن ما وقع في القرآن من اسمه الأول والآخر معناه أول بلا بداية، آخر بلا نهاية لا أن ثم أولية وآخرية تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً. ومدار كلامه على إثبات
القدم والبقاء وأنه تعالى قديم باق لأنه لو كان حادثاً لافتقر إلى محدث وكذلك القول في محدثة فيلزم التسلسل وما تسلسل لم يتحصل أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول وهو الله سبحانه الذي لا محدث للعالم سواه وما ثبت قدمه استحال عدمه لأنه لا يصح منه إعدام نفسه كما لا يصح منه إيجادها ويلزم في غيره ما لزم من التسلسل في وجوده واختلف في البقاء والقدم هل هما وجوديان أو لا يعقل منهما غير نفي العدم والزوال.
وقال الأشعري: البقاء وجودي بخلاف القدم لأن الوجود متحقق دون البقاء بخلاف الآخر فهو وجودي وقال القاضي، والإمامان وأكثر الأصحاب أنه نفس الوجود والجمهور على أن القدم ليس أمراً زائداً إلا أنه لا يعقل منه إلا نفي العدم فهي إذا ثلاثةً أقوال: أصحها أنهما ليسا بزائدين كالوجود والوحدانية وأنه قائم بنفسه مخالف للحوادث وهذه الست: هي صفات النفس والصفات التي لا يعقل منها غير وجوب الذات والله أعلم.
(لا يبلغ كنه صفته الواصفون).
كنه الشيء: غايته وقيل حقيقته فعلى الأول يكون المعنى لا كنه لصفاته حتى يبلغ لأن غاية الشيء ما ينتهي له وذلك لا يصح في وصفه تعالى ذاتاً ولا تعلقاً أما ذاتاً فلأن التناهي من صفات الكم ولا كم هناك وأما تعلقا فلأن التناهي يلازمه النقص والعجز ولا نقص ولا عجز ولا تناهي.
وأما على الثاني الذي هو أن الكنه بمعنى الحقيقة لأن الصفة لها حقيقة لكن لا يبلغ الواصفون إلى تلك الحقيقة وهذا هو ظاهر كلام الشيخ وعليه فلا يقال: كنه له بل له كنه لا تبلغ حقيقته فالمعنى العلم بتلك الحقيقة من حيث هي لا من حيث وجودها لأن وجودها ثابت.
وقد قال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] فأثبت العلم به ونفى الإحاطة فافهم.
(ولا يحيط بأمره المتفكرون).
يعني أن أهل الفكرة والاعتبار لا ينتهون إلى الإحاطة بأمره الجاري في خلقه ولا يصلون على الإحاطة بما هو من شأنه وإن بلغوا إلى العلم به فمن جهة الإثبات والتترية لا
من جهة الإحاطة والتكييف ولله در القائل:
أين منك الروح في جوهرها
…
هل تراها أو ترى كيف تجول
أين منك القلب في قالبه
…
وهو بيت الرب حقا إذ يقول
أين نور العقل والفهم إذا
…
غلب النوم فقل لي يا جهول
أين نور الشمس لما أن دجا
…
غيهب الليل وفاءت للأفول
هذه الأنفاس لا تعرفها
…
لا ولا تدري متى عنك تزول
أنت لا تدري صفات ركبت
…
فيم حارت في خفاياها العقول
فإذا كانت خفاياك التي
…
بين جنبيك بها أنت ضلول
كيف تدري من على العرش استوى
…
لا تقل كيف استوى كيف النزول
كيف تجلى لم تدر كيف يرى
…
فلعمري ليس ذا إلا فضول
إن تقل كيف فقد مثلته
…
أو تقل أين فقد رمت الحلول
فهو لا أين ولا كيف له
…
وهو رب الكيف والكيف يحول
وهو فوق الفوق لا فوق له
…
وهو في كل النواحي لا يزول
جل ذاتاً وصفاتاً وسما
…
وتعالى وصفه عما تقول
لو كلف العبد بالإحاطة بذاته ما أطاقه هذا سمعه وبصره وعقله وروحه ووجوده وتصرفه لا تمكنه الإحاطة بها فكيف بأمر بارئه تعالى ربنا وجل.
(يعتبر المتفكرون في آياته ولا يتفكرون في مائية ذاته).
الاعتبار التأمل والنظر والآيات والعلامات والدلائل فالمراد: ينظر المتفكرون ويتأملون في دليل وجوده وجريان فضله وجوده ليصلوا إلى إثباته وتعظيمه والعلم بأفعاله وصفاته وعظمة ذاته (ولا يتفكرون في مائية ذاته) لأنه لا يعرف بالمائية ولهذا قال فرعون: {وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال موسى عليه السلام {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] وجعل ما بعد ذلك من الجواب على وفق ذلك إما لأنه تعالى لا يوصف بالماهية ولا يعرف بها على أحد القولين وقد حكى الطرطوشي عن المحاسبي أنه قال لا يمكن أن تكون ذاته معلومة لنا
واحتج له إمام الحرمين بأن الكلي لا يمكن أن يكون معلوماً للجزئي لتناهي الجزئي وعدم تناهي الكلي.
وقال المقترح في المباحث العقلية: حقيقة واجب الوجود وما يجب له من صفات الكمال ونعوت الجلال غير ممكنة الحصول لنفوسنا زاد الآمدي لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] وهذا مذهب الغزالي وجماعة الصوفية لقولهم لا يعرف الله إلا الله ونقل ذلك عن الجنيد وعزاه الإمام لجمهور المحققين فالعلم بها ممتنع في الدنيا والآخرة.
وقال قوم: يمكن علمها في الآخرة وقد اختصر السبكي الخلاف في ذلك في " جمع الجوامع " فقال حقيقته تعالى غالبة لسائر الحقائق قال المحققون: ليست معلومة لنا واختلف هل يمكن عملها في الآخرة انتهى، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً على أصحابه فوجد جماعة مجتمعين فقال " فيم أنتم " فقالوا نتفكر في ذات الله فقال:«تفكروا في مخلوقاته ولا تتفكروا في ذاته» .
قال بعض العلماء: لأن الفكر في ذاته ربما أدى إلى شك أو وهم والتفكر في مخلوقاته يؤدي إلى علم أو فهم قالوا وفي القرآن أربعمائة آية كلها دالة على النظر والاستدلال إما نصاً صريحاً وإما إشارة وتلويحاً والله أعلم.
ولقد أحسن الشيخ أبو الحجاج الضرير في أرجوزته حيث يقول:
والعلم بالمهيمن القهار
…
بحسب الفكر والاعتبار
والفكر في بديع مصنوعاته
…
لا في صفاته ولا في ذاته
إذ ليس ينتهي لكنه العظمة
…
جل الله ربنا ما أعظمه
والفكر في عجائب الخليقة
…
من أفضل الطاعات في الحقيقة
لأنه به تكون المعرفة
…
وإنما يخافه من عرفه
وأشار بالشرط الأخير لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28] العلماء فتأمل ذلك وبالله التوفيق.
المراد بالعلم هنا المعلوم والمراد {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} من علم معلوماته {إِلَاّ بِمَا شَاءَ} أن يحيط هم به فإن علمهم ينتهي إليه بتعليمه إياهم ولولا ذلك لم يعلموه {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} قيل: المراد بالكرسي العلم أي وسع علمه السموات والأرض {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] وقيل: كرسيه ملكه لأن الكرسي من لوازم الملك كالعرش فعبر به عنه من باب ذكر الشيء بلازمه، وقيل مخلوق عظيم دون العرش السموات والأرض فيه كحلقة ملقاة في فلاة.
قال شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله: يعني إذا مدت كل واحدة إلى جانب الأخرى والسموات والأرضون مع الكرسي في العرش كحلقة ملقاة في فلاة والكل في قدرته تعالى كأدنى ذرة من الذرات وقيل هو العرش وقيل سرير دينه جعله تعالى لترتيب مملكته ولإظهار عظمته وقيل غير ذلك وقوله {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
معناه ولا يثقل عليه حفظ الكرسي وما فيه السموات والأرض وما في أنفسهما في قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] وهو العلي في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله عن كل نقص وحدوث بل عن كل كمال لا يليق بذاته الكريمة فضلاً عن النقائص العظيم في علوه كما أنه علي في عظمته إذ يصغر عند ذكر وصفه كل شيء سواه فافهم وبالله التوفيق.
تنبيه:
مرجع هذه العقيدة بل وكل عقيدة إلى ثلاث.
أولها: إثبات الذات الكريمة كما يليق بها من كمال التترية ونفي التشبيه والرجوع لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
والثاني: العلم بأسمائه تعالى وصفاته وما يرجع إليها من إجلال وتعظيم وتتريه.
والثالث: العلم بأفعاله تعالى الواقعة والمتوقعة والجائز نفياً وإثباتاً، وقد تكلم الشيخ على الأول من أول العقيدة إلى هنا ثم افتتح الكلام بالصفات والأسماء بقوله (العالم والخبير) على قوله والمقدر لحركاتهم وآجالهم ثم أتى بالثالث من قوله (الباعث
الرسل إليهم) أخر الباب فاعرف ذلك وتأمله وبالله التوفيق.
(العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير).
العالم من قام به العلم قاله الأشعري قال القاضي: والعلم عرفة المعلوم على ما هو به وألزم الطرد والعطس وإن كل علم معرفة وكلها علم قال بعضهم فالتزمه يريد منع الإطلاق لعدم التوقيف فلا يقال فيه عارف لعدم وروده شرعاً لأن الصحيح مذهب الشيخ الأشعري: إن الأسماء توفيقية لا تشبت إلا بكتاب أو سنة أو إجماع وفي خير الآحاد قولان المنع للشيح لقوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] والجواز للجمهور لأنها عبادة وعمل ونظر غير واحد من الأئمة في تفسير القاضي العلم من حيث أن المعرفة جزئية والخبير فعيل من الخبر كالعليم من العلم أتى به للمبالغة.
قيل: وهو معنى العلم، وقد قال الشيخ ناصر الدين: إن المبالغة في العلم لكثرة المتعلقات لأن حقيقة العلم لا تقبل المبالغة قال والخبير بمعنى العليم في بناء المبالغة إلا أن الخبير قد يراد به المخبر ويشعر بإخباره عن الخفيات وقد يراد به المختبر ومنه قيل للفلاح خبير لاختباره حال الأرض في الحرث ويراد به المطلع على الشيء المشاهد له والله تعالى خبير بهذه الاعتبارات فهو مخبر ومختبر ومشاهد لما غاب ولما حضر ومطلع على ما ظهر واستتر انتهى.
وعلى هذه الوجوه قيل معناه: الذي عنده خبر كل شيء فلا يغيب عن علمه شيء، وقيل: المخبر عن الأشياء والمظهر لها على وفق علمه، وقيل: المختبر للأشياء أي مظهرها على وفق علمه كما يأتي بعد هذا من قول الشيخ علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره أي جرى ما قدر على ما علم والمدبر بالدال قبل الموحدة هو المبرم للأشياء على علمه بأدبارها أي عواقبها وما يؤول إليه أمها، ولم يرد هذا الاسم في كتاب ولا سنة وإنما ورد معناه في الوصف في مواضع من كتاب الله فقال تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} في سورة " يونس ".
وقال عز من قائل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ} " في سورة الرعد "، وقال جل علا {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة: 5] وقد اختلف في اشتقاق
الأسماء من الصفات والأفعال على قولين فمنع الشيخ الأشعري وأجاز غيره، وكأنه مذهب الشيخ هذا وهو ظاهر مذهب عامة المتصوفة إذا طابق المعنى وأفاد أدباً وكان ما اشتق منه ثابتاً بقاطع من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقد قال الشيخ أبو العباس بن البنا: لا يصح أن تكون أسماء الله مشتقة من شيء لأن المشتق مسبوق بالمشتق منه وأسماؤه تعالى قديمة فلا يصح أن تكون مشتقة من شيء قال: وإنما الأشياء مشتقة منها لقوله في الحديث هي «الرحم وأنا الرحمن شققت لها اسما من اسمي» ومنه قول حسان رضي الله عنه:
وشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
قال: وإنما يقال في مثل اسمه السلام فيه معنى السلامة قال بعض الشيوخ: وما ذكره لا يدفع ما وقع من أئمة الاشتقاق لأنه بمعنى ما ذكر ومرادهم جرى الاسم بمعنى ملحوظ فيه والله أعلم.
وقيل: المدبر المريد أي المخصص للأشياء بما أراد من زمان معين وكيف ونحوه وقد وقع في بعض النسخ بهذا اللفظ وإن كان الصحيح خلافه فالمراد إثباته ويشهد لذلك اقترانه بالعليم أولاً وبالقدير آخراً لأن الصفات الثلاث هي التي شهد فيها وجود المخلوقات فالعلم دليل الإيقان والإرادة للتخصيص والقدرة للإبراز فوجود العالم متقناً دليل على علم موجده، وكونه مخصصاً بزمان ومكان وكيفية دليل على الإرادة وإبرازه من العدم إلى الوجود دليل القدرة والكل شاهد بالحياة؛ لأن ذلك لا يكون من ميت ولا موات، والقدير فعيل من القدرة أتى بصيغة المبالغة لكثرة المتعلقات وقوة التأثير.
ثم العلم عام التعلق فيتعلق بالواجب والمستحيل والجائز والإرادة تتعلق بالجائز نفياً وإثباتاً والقدرة إنما تتعلق بالجائز المستحق وقوعه وتعلق القدرة بالأشياء قبل وجودها تعلقاً صلاحياً وعند إبرازها تعلقاً تنجيزياً وكذا الإرادة في تخصيصها ويتعلق العلم بالواجب من حيث وجوبه ووجوده كالعلم بذاته وصفاته وأسمائه وبالجائز من حيث جوازه وثبوته أو انتفائه وبالمستحيل من حيث نفيه وعدم قبوله الثبوت وما يجري بتقدير وقوعه كقوله {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ومذهب أهل الحق أن هذه صفات زائدة على الذات لا عينها ولا متعلقة بغيره وسيأتي الكلام في
ذلك إن شاء الله.
والسميع البصير صفتان زائدتان كغيرهما ليستا براجعتين إلى العلم. إذ قد أثبتهما القرآن مع ذكره أي: العلم، وقال الأستاذ أبو منصور هما راجعتان إليه، والصحيح خلافه، وأنهما واجبتان لكماله تعالى إذ لا يمنع منهما إلا الآفة لو كان الرب تعالى مؤفاً لكان ناقصاً في وصفه قال بعضهم: ولو كان كذلك؛ لكان في المخلوق من هو أكمل منه، ومهما وقع النقص في حق البارئ، والكمال في حق المخلوق فتلك إذا قسمة ضيزي.
وقال الإمام الغزالي – رحمه الله – ولو كان تعالى غير سميع ولا بصير لقلب أبو إبراهيم الحجة عليه حيث قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42] بأن يقول: والذي تدعو إليه أنت كذلك مع أنه تعالى يقول: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} انتهى. وفيه حجة على البلخي ومعتزلة بغداد إذ أنكروا السمع والبصر والعلي الكبير هو المتعالي عن أوصاف خلقه الذي لا يدرك كنه علوه وكبريائه غيره، وعلوه، وكبرياؤه المزية والمنزلة والمكانة والأوصاف المعنوية لا المكان والأوصاف الحسية فبصره لا بحدقة وأجفان، وسمعه لا بأصمخة وآذان، وكلامه لا بلهاة وشفة ولسان، كما يعلم بغير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، ويدبر بغير فكرة وترتيب، وأن لا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، لأن هذه كلها من لوازم النقص والحدوث وصفاته تعالى لا نقص، ولا حدوث فيها فيجب لصفاته تعالى من التتريه والتعظيم ما يجب لذاته الكريمة.
(وإنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان يعلمه).
يريد فوقية معنوية كما يقال: السلطان فوق الوزير والمالك فوق المملوك والشريف فوق الدنيء لا أنها حسية، كالسماء فوق الأرض وما في معناه لانتفاء الجهة في حقه تعالى لما يلزم عليها من النقص والحدوث، والعرش في اللغة: عبارة عما علا وارتفع، ومنه جنات معروشات، والمراد هنا مخلوق عظيم جامع للكائنات، الكرسي والسموات في جنبه كحلقة ملقاة في فلاة هو أجل الموجودات وأعلاها منصباً وأشرفها قدراً سوى بني آدم والملائكة فهو فوق العالم كله في الجلالة والرفعة، لكن رفعته
وجلالته إنما هي بجعل من الله له لا بذاته ولا لذاته ولا من ذاته فهو. وإن كان رفيعاً جليلاً فرفعة الحق تعالى وجلالته فوقه؛ لأنه امن ذاته بذاته لذاته، والمجيد يقال: بالخفض على أنه صفة للعرش، وبالرفع صفة لله تعالى، وهو الأظهر وكل صحيح، والتقدير أنه فوق عرشه المجيد الذي هو الرفعة والجلالة وإن كان العرش مجيد فإن مجده بتمجيده تعالى وهو قوله (مجيد بذاته) لا يتوقف على تمجيد غيره.
وقد قال بعض الشيوخ: إنما أحوج الشيخ لهذه العبارة الواهمة دفع ما ادعاه العبيديون في زمانه في شأن رقاده، ورأى أن اعتقاده الجهة مع التعظيم أيسر أمر مما كانوا يعتقدونه، وقد سئل عز الدين بن عبد السلام عن كلام الشيخ هذا: هل ظاهره القول بالجهة أم لا؟ فأجاب ظاهره القول بالجهة والصحيح أن القائل بالجهة لا يكفر.
وقال ابن أبي حمزة: القائل بالجهات لا يكفر؛ إذا لم يقبل عقله غيرها واستدل له بحديث السوداء، وفيه نظر، وما ذكره الشيخ هنا نقل ابن مجاهد في إجماعاته ما هو أعظم منه فقال: وما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه يريد إطلاقاً شرعياً؛ لأنه لم يرد في الشرع أنه في الأرض فلهذا قال: دون أرضه، وهذا مع علمهم بثبوت استحالة الجهة عليه تعالى مع معرفتهم بفصاحة العرب واتساعهم في الاستعارات.
ونقل الشيخ في المختصر والنوادر هذا الكلام بعينه وغير صورته هنا؛ لقصد اختصاره، وبالجملة فإخراجه عن ظاهره المحال واجب، وعذر الشيخ في ذكره واضح ونقله عن السلف قاطع لحجبة المعترض وبالله التوفيق.
وقوله: (وهو في كل مكان بعلمه) يعني: وعلمه محيط بكل مكان كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية.
وقد قال بعضهم: في هذه نفي لما يتوهم في التي قبلها؛ لأن الواحد بالذات لا يتعدد مكانه بل هو تعالى منزه عن المكان وكأنه يقول: هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلول والاستقرار.
وقالت الكرامية والمشبهة: هو فوق العرش، وهو خروج وضلال.
وقالت النجارية: هو في كل مكان بذاته.
وقالت المعتزلة: هو في كل مكان بالعلم لا بالذات وظاهر كلام الشيخ ينحو إليه، فلذلك قال ابن رشد في ذلك إنما يقال علمه محيط بكل شيء، وحكى ابن الفاكهاني عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كل عام مخصوص في كتاب الله إلا في أربع آيات أولها: قوله تعالى: {واللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، والثانية: قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} [آل عمران: 185] والثالثة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] والرابعة: قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] فهذا ما تيسر في هذه المسألة مما لابد منه وبالله التوفيق.
(خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقر إليه من حبل الوريد).
خلق: أوجد، وقيل: بمعنى قدر، وكلاهما صحيح، والأول أظهر، والإنسان: الجنس الآدمي، وقيل: المراد هنا آدم، والصحيح الأول، وقيل: هو لفظ عام، والمراد به من سوى الأنبياء عليهم السلام لعصمتهم من الوسواس عن الوسوسة التي هي حركات النفوس الداعية للشر في مقتضى الاستعمال، قالوا: ولهذا أضيف إلى النفس التي أخبر الله تعالى عنها أنها أمارة بالسوء إلا من رحم، وإلا فأصلها في اللغة: الحركة الخفية في النفس والاختلاج ومنه سمي صوت الحلي وسواساً.
قلت: والظاهر أنه المراد هنا؛ لأن المقصود إثبات العلم بخفيات السرائر، وهواجس الخواطر، وحركات الضمائر، وكل ما يليق به فلا يحتاج إلى تحاش واحتراز إلا عمد استشعار الإيهام والله أعلم.
وهو – أي الخالق سبحانه – أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد هو الذي أقرب الأشياء إلى الإنسان من وجوده لجريان النفس فيه وبه، وإنما دل على أنه تعالى أقرب للعبد من نفسه ومن نفسه؛ لأن جريان النفس إنما يكون بعلمه وقدرته وإرادته فهو سابق الوجود قبل ظهور تصريفه كما قال في الحكم ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه، والقرب على ثلاثة: أوجه: قرب مسافة، وهو محال عليه سبحانه فليس مراداً هنا، وقرب كرامة وليس مراداً أيضاً؛ لأنه عبارة عن غاية الإحسان والإكرام وتوجه الأفضال والإنعام، وقرب إحاطة وهو بمعنى شمول العلم والإرادة والقدرة في
جميع الأحوال وهو المراد هنا، وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق: 16].
فذكر الشيخ معنى الآية والمراد بالنفس قيل: الروح، وقيل: القلب، وقيل: وجود الإنسان، وقيل: ذات الشيء وعينه وحقيقته، وقيل: دمه وكلها تصلح في هذا الموضع إلا الدم، وحبل الوريد: العرق الذي يجري بالنفس في صفحة العنق عبر به؛ لتقريب التعريف لغاية القرب الذي لا يخفي معه شيء من وجود الإنسان، وإضافة الحبل إلى الوريد من إضافة الجنس إلى نوعه كصلاة الأولى، وبقلة الحمقاء.
قال الشيخ ناصر الدين: وليس من إضافة الشيء إلى نفسه كما زعم بعضهم، قيل: وهما وريدان عن يمين وشمال، وقيل: هو في الإنسان عرق واحد يسمى في العنق الوريد، وفي القلب الوتير، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النسا بالفتح، وفي الخصر الإسلام، فانظر ذلك.
وبالجملة فهو تعالى المحيط بكل شيء علماً وفوق كل شيء علواً فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات على العرش كمل أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] وما ذكرته في هذا المحل كلام الإمام أبي حامد – رحمه الله – وعقيدته غير ذكر الآية الأخيرة وبالله التوفيق.
(وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
يعني: ورقة من أوراق الأشجار أي ورقة كانت من أي شجرة كانت، فإنه يعلم سقوطها كما يعلم ابتداء وجودها، ومسافة محلها، ومدة بقائها، وحركتها، وسكونها، وتفصيل أبعاضها، وحيزها، وكيفيتها، ومكان سقوطها، وكيف تسقط، هل لظهرها أو لبطنها أو رطبة أو يابسة، وما يسبق ذلك، وما ينشأ عنه، وما يصحبه من أوصافها وخواصها وأحكامها وأسرارها إلى غير ذلك من شأنها، ويتعلق علمه بذلك قبل وجودها، وحالة كونها وبعد وجودها ويدخل في ذلك ورق شجرة أعمار بني آدم،
وهي على ما روي شجرة تحت العرش تشبه الرمانة ورقها على عدد بني آدم مكتوب في كل ورقة عمر صاحبها وملك الموت ينظر إليها.
فإذا اصفرت ورقة إنسان علم قرب أجله، وإذا سقطت فقد استوفى، ثم إن سقطت لوجهها فشقي، وإن سقطت على ظهرها فسعيد، والله أعلم.
وقوله (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
يحتمل أن يريد ولا تسقط من حبة رطبة ولا يابسة أو ما يكون من حبة رطبة ولا يابسة أو لا يكون من رطب ولا يابس حبة أو غيرها إلا كتاب هو اللوح المحفوظ مبين مفصح عن ذلك وقيل الكتاب المبين علم الله والحبة عبارة عن أقل القليل واختلف في الرطب واليابس فقيل عام في كل شيء مما لان وقسا وقيل الرطب قلب المؤمن واليابس قلب الكافر.
وقيل الرطب أهل المدائن واليابس أهل البادية وظلمات الأرض ما تحت تخومها وأسفل سافلين والمقصود إثبات علمه تعالى بما دق وجل واتباع القرآن في ذلك إذ قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويبصر حركة الذر في جو الهواء ويطلع على هواجس الضمائر وخفيات السرائر بعلم قديم قائم بذاته لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول – والانتقال تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً.
(على العرش استوى وعلى الملك احتوى له الأسماء الحسنى والصفات العلي).
وقع ذكر الاستواء على العرش في ستة مواضع من كتاب الله تعالى فقيل إن في ذلك من المتشابه الذي ينزه عن المحال ولا يتعرض لمعناه وهو مذهب السلف وجماعة من الأئمة وحمل عليه مذهب مالك إذ سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فقوله معلوم يعني في كلام العرب له مصارف، وقوله والكيف غير معقول نفي لما يتوهم فيه من محتملاته الحسية إذ لا تعقل في حقه تعالى وقوله والإيمان به واجب؛ لأنه ورد
نصاً في القرآن قوله (والسؤال عنه بدعة). أنه من تتبع المشكل الذي وقع النهي عنه.
وفي بعض رواياته والكيفية مجهولة وقد عدلنا عنها للرواية التي ذكرنا لأن غير المعقول لا يمكن العلم به والمجهول يمكن علمه والمقصود نفي التعقل في ذلك فرواية نفيه أولى وإن كان غيرها أكثر رواية ثم هذا مما تعارضت فيه الأدلة العقلية والظواهر النقلية وقد أصل الشيخ ابن فورك رحمة الله تعالى عليه لذلك أصلاً فقال: إذا تعارضت الأدلة العقلية مع الظواهر النقلية فإن صدقناهما لزم الجمع بين النقيضين وإن كذبناهما لزم رفعهما وإن صدقنا الظواهر النقلية وكذبنا الأدلة العقلية لزم الطعن في الظواهر النقلية لأن الأدلة العقلية أصول الظواهر النقلية وتصديق الفرع مع تكذيب أصله يقضي إلى تكذيبها معا فلم يبقى إلا أن نقول بالأدلة العقلية، ونؤول الظواهر النقلية أو نفوض أمرهما إلى الله ولأهل السنة قولان فعلي القول بالتأويل إن وجدنا لها محلاً يسوغه العقل حملناها عليه وإلا فوضنا أمرها إلى الله.
قال وهذا القانون في هذا الباب والله الموفق للصواب، قال بعضهم ولئن كان التأويل أعلم فالتفويض أسلم ويسعنا ما وسع سلفنا من ذلك ولا يضرنا الجهل بتعيين المحمل إذا صح لنا التتريه ونفي التشبيه فليس ثم ألحن من صاحب الحجة بحجته وقد نسب الطرطوشي لمالك القول بالتأويل ونسب له غيره القول بالتفويض وبه قال الشافعي إذ قال آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله وعليه جرى الإمام أبو حامد حيث قال: وإنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بمحض قدرته ومقهورون في قبضته.
وذكر السهروردي في " آداب المريدين " له إجماع الصوفية على أنهم يقولون في كل موهم ما قاله مالك في الاستواء كاليد واللسان والعين والجنب والقدم ونحوه فتأمل ذلك فإنه باب من التفويض وبالله التوفيق ولا خلاف في نفي وجوب نفي المحال وإنما الخلاف في تعيين المحل وفي هذه المسألة أوجه منها استوى بمعنى استولى ومنها استوى بالقهر والغلبة ورده ابن رشد بأنه يستدعي مقاهرة ومغالبة فانظره وقيل بمعنى ظهر
ظهور دلالة وتعريف لا ظهور حلول وتكييف وقيل غير ذلك مما ليس بمحال ولا آيل إليه خلافاً للكرامية والمشبهة.
ومن قال بقولهم بأنه فوق العرش فهو كفر وخروج عن الدين أعاذنا الله منه وقوله (على الملك احتوى) يعني اشتمل فلم يدع لغيره ملكاً إلا هو مالك له والملك التصرف في المخلوقات بالقضايا والتدبيرات من غير منازع بنوع من القهر والجلال والعظمة وقوله (الأسماء الحسنى) يعني التسميات الحسنة الجميلة قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
وقوله: (والصفات العلى) يعني الصفات العلية الرفيعة الجليلة وقد تكلم علماؤنا في الاسم والمسمى والصفة والموصوف فأما الاسم فقال صاحب الأنوار إنها أربعة ألفاظ اسم وتسمية ومسم ومسمى ثم قال وأطبق القوم يعني الأصوليين على أن التسمية غير الاسم وغير المسمى وهي صفة قائمة بالمسمى، قال: وإنما الخلاف في الاسم والمسمى فقالت المعتزلة والكرامية والجهمية: الاسم غير المسمى. وقال أكثر المشايخ: أهل الحق على أن الاسم حقيقة في المسمى مجاز في التسمية وعكست المعتزلة.
وقال الأستاذ أبو منصور الثعالبي من أصحابنا حقيقة فيهما وعند ابن السبكي الكلام في هذا مما لا ينفع علمه ولا يضر جهله وأنكر جماعة الكلام فيه ورأوه بدعة منهم الشافعي وغيره فانظر ذلك.
(تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة).
أما الصفات فلا يصح حدوثها ولا قيامها ولا بعضها بحادث للزوم حدوث من قامت به الحوادث واستحالة اتصاف الحادث بالقدم لأن ما لا يعرى عن الحوادث لا يسبقها وما لا يسبقها فهو حادث مثلها وقد خالف في ذلك البلخي من المعتزلة ومعتزلة بغداد واضطرب مذهبهم فيه وكله باطل وأما الأسماء فما كان بنص من القرآن فلا إشكال في قدمه لأنها من كلام الكريم فلا يصح أن تكون محدثة وقد سئل محمد ابن موسى الواسطي من المتصوفة عن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فقال: ليس كذاته ذات ولا كصفاته صفات ولا كاسمه اسم ولا كفعله فعل إلا من حيث موافقة اللفظ وجلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حادثة كما استحال أن يكون للذات
الحادثة صفة قديمة.
قال الأستاذ: أبو القاسم القشيري رحمه الله هذه الحكاية جمعت مسائل التوحيد أو كلاماً هذا معناه فانظره وظاهر كلام الشيخ أن الأسماء لا تؤخذ بالاشتقاق وإنما تؤخذ من كلام الله تعالى فبذلك يصح قدمها وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فمذهب الجمهور أن الأسماء توقيفية خلافاً للمعتزلة وللقاضي من أهل السنة مثلهم وتوقف إمام الحرمين وفصل حجة الإسلام الغزالي لأن الخطر عظيم يعني من خوف الخطأ المؤدي إلى الإلحاد في أسمائه تعالى والذي ورد به الشرع تسعة وتسعون اسماً.
قال الحافظ بن شهاب الدين بن حجر: والتحقيق أن سردها مدرج من قول الصحابي أو غيره مع احتمال الرفع فمن رآها للتعبد قبل ذلك ومن رأى المسألة علمية لم يقبل غير ما ثبت بقاطع ثم من الأسماء والصفات ما يقال هي هو وهي أسماء الذات وصفاتها النفسية وما يقال هي غيره وهي صفات الأفعال كالخلق والرزق وما في معنى ذلك وما لا يقال هي هو ولا هي غيره ولا هي فيما بينهما أغيار بمعنى لا يصح ذلك أو يتوقف عنه وهي الصفات المعنوية وصفات المعاني عند أهل السنة قالوا والاسم غير الصفة لأنها معنوية وهو قولي والله أعلم.
(كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه وتجلى للجبل فصار دكا من جلاله).
ذكر في هذه الجملة أنه تعالى متكلم بكلام هو صفة له وأن موسى عليه السلام سمع ذلك الكلام وأنه مرئي الذات كما يليق بجلاله وأن القرآن شاهد بذلك ومثبت له وقد أجمع أهل الملل والمذاهب على أنه تعالى متكلم لأن الأنبياء أجمعوا عليه وقد ثبت صدقهم بالمعجزات من غير توقف على إخبار الله تعالى من صدقهم بطريق التكلم فلا يلزم الدور وإنما الخلاف في المراد بالكلام فذهب أهل الحق أن كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذات زائدة على ذاته كسائر صفاته المعنوية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر خلافاً للمعتزلة في إثباتهم ذلك للذات من غير صفتها فكل ما أثبت أهل السنة أثبتوه وإنما نفوا كونه معنى زائداً على الذات فراراً من تعدد القديم ولما رأى أهل السنة أن نفي المعنى نقص وأن الصفة والموصوف غير متعددين في الخارج وإن تعلقت الزيادة
لأن الصفة لا تعقل بغير ذات كما أن الذات من لوازم الصفة؛ لأنه معنى راجح إليها أثبتوها ثم الكلام عند أهل الحق صفة قائمة بنفس المتكلم تدل عليها العبارات وما يصطلح عليه من الإشارات قال الأشعري: فهو حقيقة في النفس مجاز في اللسان أحتج لذلك بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وجمهور المتأخرين على أنه حقيقة فيهما قال إمام الحرمين هو مجاز في النفس حقيقة في اللسان وقد قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فأثبت الكلام للنفس وقال عمر رضي الله عنه " زورت في نفسي مقالة أو كلاماً أقوله ".
وأجمع العقلاء على أن الآمر لعبده بشيء لا بد أن يجد من نفسه اقتضاءه أو طلباً يدل عليه فذلك هو كلامه النفسي ولا صوت ولا حرف فهو دال على ثبوت كلام لا صوت له ولا حرف كما نقوله في كلام ربنا غير أنا نمنع المماثلة والمشابهة جملة وتفصيلاً فتأمل ذلك وبالله التوفيق.
وقد قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] قال علماؤنا فأكد بالمصدر ليرفع المجاز وأن تكليمه له حقيقة وقد قال بعضهم اجتمعت الأئمة سنيها وبدعيها على أن الله تعالى كلم موسى واختلف في الكيفية.
فقال أهل الظاهر نؤمن بالكلام ولا نتعرض للكيفية لأنه من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله وقال أهل الباطن خلق الله لموسى فهما في قلبه ولم يخلق له سماعاً لصوت ولا لغيره.
وقال أهل السنة خلق الله لموسى – عليه السلام – فهما في قلبه وسمعاً في أذنيه سمع به كلامه ليس بصوت ولا حرف كما يرونه في الآخرة بغير جهة ولا كيف سمعة بإذنه وفهمه بقلبه وعلم بضرورته أن المكلم له ربه.
قال ابن فورك وعلى هذا إجماع المسلمين قلت وفي بعض التقاييد أنه سمع ذلك بكل جهاته فراراً من الحصر المؤدي إلى الجهة وهو مراده بإثبات جهات ومذهب أهل الحق أن كون السامع في جهة لا يلزمه كون المسموع من جهة وكذلك القول في الرؤية وقد ذكر ذلك الشريف وغيره في شرح الإرشاد فانظره وعن الأشعري أن الله
تعالى خلق في موسى – عليه السلام – معنى أدرك به كلامه وعلم أن المكلم له ربه يعلم ضروري خلقه له وفيه بحث من جهة أن كونه لا شبيه له لا ينفي الاشتباه عنه فلا يحتاج إلى دليل يدل على أنه هو والله أعلم.
وقول الشيخ لا خلق من خلقه قصد به الرد على المعتزلة القائلين إنما سمع عليه السلام صوت شجرة بناء على مذهبهم في إنكار الكلام النفسي والمتكلم حقيقة فاعل الكلام وهو باطل لما يلزم عليه من نفي خصوصية موسى عليه السلام بالتكليم وذلك أن الكلام كله إن كان قديماً فهو صفته وإن كان حادثاً فهو فعله فلو كان موسى إنما سمع كلاماً مخلوقاً في الشجرة أو في غيرها لم تكن له خصوصية في قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] إذ كل من سمع كلاماً فقد سمع كلام الله الذي يضاف إليه إضافة ملك وأي مزية وخصوصية مع ذلك وقوله (وتجلى للجبل) يعني ظهر له ظهور اقتضى له الاندكاك لما شهد من العظمة والجلال والجبل هو الطور والدك وهو المستوي بالأرض ومنه قولهم ناقة دكاء لا سنام لها فهي مستوية للظهر.
وفي هذا الكلام دليل أن الله خلق في الجبل إدراكاً حصل له به العلم بجلاله والرؤية التي أوجبت له الاندكاك والحياة التي لا بد منها في تحقيق ذلك وفي هذا دليل لإثبات الرؤيا وسيأتي الكلام عليها في محلها بعد إن شاء الله تعالى.
(وإن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيدو لا صفة لمخلوق فينفد).
القرآن في اللغة المجموع من قريب الماء في الحوض إذا جمعته وقد اشتهر عند المتكلمين إطلاقه على كلام القديم وإن كان قد يراد منه ما يؤدي به من حروف وغيرها وكونه ليس بمخلوق وهو مذهب أهل السنة لأنه لو كان مخلوقاً لباد أي فنى كما تفنى الجواهر ونفد كما تنفد الأعراض وليس بجوهر ولا عرض حتى ينفد أو يبيد، وقد قال رجل لبعض المعتزلة أحسن الله عزاءك في الفاتحة فأنكر مقالته فقال: أنت تقول مخلوقة وكل مخلوق يموت.
قال الشيخ ناصر الدين وكل معتقد أن القول بأن القرآن مخلوق محرم بخلاف قول القائل قراءتي ولفظي بالقرآن مخلوق كما ذهب إليه البخاري وأبو سعيد الكلاعي
وأكثر المتأخرين بحدوث الحروف والأصوات والكتابة الدالة عليه وامتنع أحمد بن حنبل من هذا الإطلاق فقيل له لفظي بالقرآن مخلوق فقال لا أقول ذلك، ولا يسمع مني التلفظ بالخلق مع ذكر القرآن حسماً للذريعة حتى لا يحتج به المبتدعة في القول بخلق القرآن وصبر على ما أوذي في الله لأجل امتناعه إذ سجن وضرب لأجل ذلك، ثم طرأت بعده فرقة ادعوا أن مذهبه قدم الحروف وغلوا في ذلك حتى قالوا إن جلد المصحف وعلاقته قديماً.
قال المحققون وكفى بهذا شاهد على جهلهم وكلامهم باطل بالضرورة فإن حصول كل حرف مشروط بانقضاء الآخر وقد رأيت تأليفاً للشيخ تقي الدين السبكي في الرد عليهم في ذلك وغيره مما نسبوه للإمام وهو بريء منه وحرر مقالته في ذلك وبين كونها كمذهب السلف دون ما يدعونه وقد حرر ذلك الشيخ أبو الحجاج في أرجوزته أتم تحرير فقال:
قراءة الخلق صفات لهم
…
فواجب حدوثها مثلهم
وقوله المقروء من صفاته
…
فواجب قدمه كذاته
وهو الذي سمعه الكليم
…
وهو كلام ربنا القديم
ليس له شبه ولا مثال
…
ولا له عن ذاته انتقال
وهذه الرسوم والأصوات
…
دلائل عليه موضوعات
كما يدل الذكر والكتاب
…
عليه جل الملك الوهاب
ثم القراءة ذوات غاية
…
وليس للمقروء من نهاية
فنوعب القرآن بالكتاب
…
وليس للمقروء من إيعاب
كما أتى في محكم القرآن
…
في آخر الكهف وفي لقمان
يعني قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] الآية وقوله عز وجل {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] الآية ولم يزل السلف يطلقون القرآن ليس بمخلوق وإن لم يتعرضوا للفرق بين التلاوة المتلو وإن كان الفرق موجوداً حتى قال علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه أتظنون أني حكمت مخلوقاً لا والله ما حكمت إلا القرآن.
وسمع ابن عباس رجلاً يقول يا رب القرآن فنهاه وقال القرآن غير مربوب إنما المربوب المخلوق ولم يحفظ عن مالك وطبقته إلا أن القرآن غير مخلوق دون زائد على ذلك وهو مذهب السلف والله أعلم.
(والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه).
هذا معطوف على أول الباب أعني قوله من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله واحد والإيمان بالقدر وأنه جار بالخير وهو ما فيه نفع وبالشر وهو ما فيه ضر وبالحلو هو ما فيه لذة وبالمر وهو ما فيه تألم يؤمن بأن كل ذلك قد قدره الله ربنا قالوا وفي قوله (وكل ذلك) للتفسير والمقصود أن كل الحوادث بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره خيراً كانت أو شراً طاعة كانت أو معصية لكن الطاعة بقضائه وقدره ومحبته ورضاه؛ أمره والمعصية بإرادته وقضائه وقدره وسخطه وكراهته لا بأمره ومحبته ورضاه لأن المحبة والرضا إرادة الشيء مع استحسانه.
وهذا لا يتحقق في المعصية ولا فرق بين الإرادة والمشيئة خلافاً للكرامية وقالت المعتزلة: الكفر والمعاصي ليست بإرادته تعالى، لأن الإرادة عندهم مطابقة الأمر وعند المحققين مطابقة الفعل فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وقالت المعتزلة المعاصي ليست بقضاء الله وقدره كما قالوا في الإرادة لنا قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وقد قال – علي كرم الله وجهه - «لقدري أتقدر بالله أو مع الله أو دون الله فإن قلت بالأول فأنت مؤمن بالله والقدر وإلا ضربت عنقك» وقال لآخر «خلقك الله كما شاء أو كما شئت» قال كما شاء قال ويصرفك فيما شاء أو فيما شئت قال: فيما شاء قال: ويصيرك إلى ما شاء أو إلى ما شئت قال إلى ما شاء قال إذا فليس لك من الأمر شيء انتهى.
ومعنى قوله (مقادير الأمور بيده) أي تقديرها والحكم بها تحت قهره وقدره وأمره فإن اليد عند التأويل في حقه تعالى راجعة إلى القدرة وقد فرق بعضهم بين القضاء والقدر فقال الحكم الكلي الإجمالي في الأزل القضاء والقدر جزئيات ذلك
الحكم وتفاصيله ذكره صاحب التوشيح في التنبيه على الجامع الصحيح فالأشياء صادرة من قضاء الله أي حكمة جارية بتقديره.
(علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره).
يعني أن علمه سابق للمعلومات فما علم أنه يكون إرادة وما لا فلا خلافاً لمن يقول إنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها وهو مذهب قدماء القدرية ومنهم تبرأ عبد الله بن عمر المذكور في حديث القدر المذكور أول كتاب مسلم كذا قال عياض وقد قال الشيخ أبو العباس بن البناء في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} [الأحزاب: 18] الرب تعالى أعلم ويعلم لأنه عليم لأنه عالم لأنه علم ويعلم انتهى.
وهو عجيب والحاصل أن الأشياء إنما تصدر عن علمه وإرادته وقدرته وقوله (لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه الله وسبق علمه به) يعني فالكل منه وإليه قال الإمام الفخر ومما يتمسك به في هذا الأصل إجماع السلف قبل ظهور أهل الأهواء على كلمة متلقاة بالقبول غير معدودة في المجملات وهو قولهم ما شاء الله كان ولم يشأ لم يكن وذكر الآية الواردة في ذلك ثم قال ولنا في العقل مسلكان أحدهما البناء على خلق الأفعال وقد بينا أن كل خلق فالله تعالى بارؤه وخالقه ثم يجب من ذلك أنه مريد لكل حادث أراد إيقاعه واختراعه.
الثاني: أن تقول اتفق مثبتو الخالق على تعاليه وتقدسه عن سمات النقص ووصف القصور ثم اتفق أرباب الألباب على أن نفوذ المشيئة أصدق آيات الملك والسلطان وأحق دلالات الكمال ونقيض ذلك نقيض دليل نقيضه قال فإذا زعمت المعتزلة إن معظم ما يجري من العباد فالرب تعالى كاره له وهو واقع على كراهته فقد قضوا بالقصور وهو محال في حقه سبحانه انتهى. فتأمله فإنه مليح.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
استشهد بهذه الآية على أن علمه بالأشياء قبل وجودها وحال وجودها بعد وجودها والتقدير كيف لا يعلم الخالق خلقه قبل خلقه وحال خلقه وبعد ذلك في استمرار ووجوده (وهو اللطيف) أي الخفي عن الإدراك والموصل لعباده ما يريد بهم من حيث لا يشعرون إن ربي لطيف لما يشاء (والخبير) المختبر للأشياء أي المظهر لها
على وفق علمه والذي عنده خبر كل شيء من جليل وحقير على التفصيل ولا يقال على الجملة قال القاضي في الهداية تعالى الله عن أن يوصف بأنه يعلم الأشياء جملة لأن العلم بالجملة جهل بالتفصيل فتعالى عن ذلك علواً كبيراً انتهى.
ونقله ابن خليل في شرح أرجوزة الضرير وقد رأيت الهداية في خزانة جامع القرويين من مدينة فاس وفي نحو أربعين جزءاً كل واحد أكبر من الرسالة وبالله التوفيق.
(يضل من يشاء فيخذله بعدله ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله).
تقدم معنى هذه الألفاظ وهي ستة الضلال ويقابله الهداية: والخذلان ويقابله التوفيق والعدل ويقابله الفضل فالضلال التلف عن الحق والهداية الإرشاد والدلالة عليه والخذلان صرف والإعانة والتوفيق توجه الإعانة والعدل ما للمالك أن يفعله من غير منازع والفضل إعطاء الشيء على غير عوض ولا استحقاق وقد نطق القرآن بأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء من غير إسناد إلى سبب ولا علة.
(فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد).
يعني أن كل عبد مهيأ لما أعد له من شقاوة أو سعادة بتهيئة الله سبحانه وكل بقدرته وإرادته تعالى جار على وفق علمه في جميع الحركات والسكنات والخطرات والإرادات طاعة أو معصية نعمة أو بلية لا تخرج عن علمه وقدرته وإرادته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر ولا يجري إلا بما سبق علمه به أسعد من يشاء لا بوسيلة سبقت وأبعد من شاء لا بجريمة تقدمت لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا تبديل لشقاوة ولا سعادة أزلية وإنما المحو والإثبات في جرائد الملائكة قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] يعني في المكتوب على عباده {وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرعد: 39] الذي لا يقبل التبديل بحال لا تبديل لكلمات الله.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وكل بالرحم ملكاً يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فيكتب في بطن أمه فإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا شبراً أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا شبر
أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» قالوا: يا رسول الله إذا نتكل على كتابنا وندع العمل قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل الجنة فييسر لعمل أهل الجنة ومن كان من أهل النار فييسر لعمل أهل النار» أخرجه أهل الصحيح في المتفق عليه وهو الأصل الذي يبنى عليه وبالله التوفيق.
(تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غنى أو يكون خالق لشيء إلا هو).
بل لا يكون إلا ما أراده لأنه الفعال لما يريد ولا غني لأحد عنه لأن أمر الدنيا والآخرة بيده ولا خالق لشيء سواه بل هو خالق الذوات والصفات والأفعال والحسن والقبيح بالنسبة إلينا قال الله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 62، 63] الآية. وكلام الشيخ هنا كله رد على القدرية فقد حكي أنه اجتمع عبد الجبار الهمداني وأبو إسحاق الاسفرائيني في موضع فقال عبد الجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء ففهم عنه أبو إسحاق أنه يريد عن خلقها وإنها كلمة حق أريد بها باطل فقال سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء فالتفت إليه عبد الجبار وعرف أنه فهم عنه فقال أفيريد ربنا أن يعصى فقال أبو إسحاق فيعصى ربنا قهراً.
فقال عبد الجبار أرأيت إن منعني الهدى وسلك بي سبيل الردى أحسن إلي أم أساء فقال أبو إسحاق: إن منعك مالك فقد أساء وإن منعك ماله فيفعل في ملكه ما يشاء فانصرف الحاضرون وهم يقولون: ليس عن هذا جواب ويحكى أن هذا الجواب بعينه وقع للحسين بن علي رضي الله عنهما مع معتزلي فمر المعتزلي وهو يقول الله أعلم حيث يجعل رسالته.
«تنبيه» : قال علماؤنا يقال الله خالق كل شيء من نفع وضر وحلو ومر وخير وشر ولا يقال خالق القبائح والشر ورأوا الكفر والمعاصي والقاذورات والقردة والخنازير.
ولا يضاف اسم من أسمائه إلى ذلك أدباً معه سبحانه قال الإمام أبو حامد وهذا
هو المختار من مذهب أهل السنة وقال أبو الفرس الصواب الجواز حيث لا إيهام ومنعه حيث الإيهام ومن أدلة غناه وافتقار الكل إليه قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17].
وقد قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه الحق تعالى مستبد والوجود مستمد والمادة من عين الجود فلم انقطعت المادة لانهد الوجود انتهى ومعنى مستبد قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره والمستمد طالب المادة وهي إيصال ما ينتفع به والجود العطاء الذي لا علة له والله أعلم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 3] الآية فلا خلق لشيء سواه سبحانه.
(رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم).
الرب هو المالك فمعنى رب العباد مالكهم والعباد الخلق ومالك أعمالهم لأن موجد المركب موجد أجزائه وأحكامه وإلا فليس له وقالت المعتزلة إن العبد يخلق أفعاله القبيحة ولا صنع لله فيها ولا يصح إضافتها إليه بوجه وكذا جميع الإضافات في غير الأشياء المحمودة لامتناع وجود ذلك منه تعالى وهو مذهب فاسد يؤدي إلى إثبات اللبس كقول لا فعل للعبد أصلاً وما يضاف إليه توسع ومجاز ومذهب أهل الحق أن العبد له قدرة تقترن بالفعل ولا تؤثر فيه وأنه مجبور في عين اختياره حتى قال بعض الشيوخ الفاسيين في ذلك مذهبنا أن لنا قدرة حادثة لسنا بها نقدر خالقنا أبي إطلاقها في قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ودليلنا على المعتزلة قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] وعلى الجبرية الفرق بين حركة المرتعش والمختار.
وقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} [الحج: 77] وما ورد من الثواب والعقاب وما ورد من تعليق الأحكام بأفعال المكلفين وقد قيل للحسن رحمه الله أجبر الله عباده قال الله أعدل من ذلك قيل أفوض إليهم؟ قال الله أعز من ذلك ثم قال لو جبرهم لما عذبهم ولو فوض إليهم لما كان للأمر معنى ولكنه منزلة بين المنزلتين كبعد ما بين السماء والأرض ولله فيه سر لا تعلمونه.
وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال تعالى: {وَمَا
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فالتقدير ما رميت اختراعاً إذ رميت اختياراً ولكن الله رمى اختراعا قال بعض العلماء وهذه المسألة لم يزل الخلاف فيها من لدن آدم إلى الآن ولا يرتفع إلى الأبد وسمعت شيخنا أبا يزيد عبد الرحمن الجزولي التونسي وكان قد أخذ عن الشيخ أبي عبد الله لأبي صاحب شرح مسلم وغيره يقول كان شيخنا يعني الأبي يقول كل أوجل ضلالة المعتزلة في ثلاثة الكلام في الكلام والكلام في القدرة الاكتسابية والكلام في الرؤية، قلت ولكل منها تحرير وتحقيق مذكور في كتب الأئمة يتعين تحصيله على كل طالب نبيل ويتعين على ضعيف العقل تحريره من الاشتباه وترك الاتساع في الخوض فيه طلباً للسلامة وبالله التوفيق.
ثم مذهب أهل الحق أن الآجال والأرزاق مقدرة لا يتبدل ما في علمه منها والكلام في ذلك طويل عريض والله سبحانه أعلم.
(الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم).
الباعث هو الموجه والمشخص يقال بعثت الرجل إذا وجهته وأشخصته وأرسلته في أمر والرسول في اللغة السفير قال الجوهري السفير المصلح وهو في الشرع إنسان أوحي إليه بشرع أمر بتبليغه فإن لم يؤمر بالتبليغ فنبي قط وقيل النبي والرسول بمعنى واحد ولا يصح وقيل الرسول من جاء بشرع جديد أو كتاب جديد والنبي من جاء مجدداً لشريعة غيره كيوشع بن نون بلا خلاف استدل له بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] فقرنهما في الإرسال وفرق بينهما في المعنى.
وقوله عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ومذهب أهل الحق أن بعث الأنبياء من الجائز المتحقق وقوعه وجعلته المعتزلة واجباً والبراهمة محالاً فأفرط الأولون وفرط الآخرون وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه وروي أن الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر فقال المحققون هو خبر أحاد لا يفيد العلم وقد أعل بالوقف فنقر بجملتهم ولا نتعرض لعددهم ونعتقد أن أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم واختلف هل آدم رسول أو نبي فقط.
قال المحققون وليس فيهم أنثى لأن النبوة تقتضي الاستشهار والأنوثة تقتضي الاستتار وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً} [الأنبياء: 7].
ونقل عن الأشعري خلافه لحديث أربع نبيات أم موسى وأم عيسى وسارة امرأة إبراهيم وآسية امرأة فرعون وما نقل ابن حزم من أنهن سبع وتأوله الغزالي بأن قال إن ثبت فتأويله رفيعات القدر وذكر ابن القطان في مراتب الصحابة عن إمام الحرمين الإجماع أن مريم ليست نبية وهو محجوج بالخلاف المذكور وقال في كتاب " الأنوار وأكابر العلماء " على أن أربعة من الأنبياء أحياء الخضر إلياس في الأرض وعيسى وإدريس في السماء قال والجمهور على أن لقمان ليس نبياً وكذلك الإسكندري.
قلت: والخلاف في ذلك مشهور كالخلاف في الخضر فلا يلزم الجزم إلا بما أثبت الله لهم من الحكمة والتمكين في الأرض والاختصاص بالعلم اللدني ويفوض فيما وراء ذلك بالنبوة والرسالة بل والحياء ورسالة إلياس ثابتة بنص القرآن فلا يتوهم قصوره عن ذلك وإن اختلف في حياته وأفاد الشيخ بقوله لإقامة الحجة عليهم أنهم بعثوا لذلك ودليله قوله تعالى: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وبيان ذلك في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] وإنما تقوم الحجة بعد ثبوت صدقهم وصدقهم إنما ظهر بجريان المعجزة على أيديهم والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة قائم مقام قول الله صدق عبدي فاتبعوه.
ورأيت في الوسيلة للعقباني فيما أظن أن ما وقع من الخوارق قبل النبوة للنبي يسمى كرامة وبعدها ولم يتحد به يسمى آية وبعدها وتحدى به فهو المعجزة قال في كتاب جمع الجوامع هو الدعوى وفي الشفاء لعياض أنه معنى قوله لا يأتي به غيري وقد ذكر العلماء شروط المعجزة وأنهاها الغزالي في كتاب منهاج العابد إلى عشرة فانظر ذلك فإنه يطول قالوا ولا يكفي مجرد الخارق ولو كملت شروطه بل لا بد من ظهور مكارم الأخلاق وظهور الاستقامة.
وأدلة البشرى مع ذلك وبذلك يفرق بين السحر والكرامة حتى قال الشيخ أبو العباس بن البناء رحمه الله خرق العادة كرامة للمتبع واستدراج للمبتدع يفرق بينهما التوفيق في سلوك الطريق انتهى.
وقد ذكر في كلامه هذا فرق بين الكرامة وغيرها فكيف بالنبوة والله أعلم.
(ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
الختم والطبع والتمام والنهاية والتغطية على الشيء حتى لا يدخله غيره عند انتهائه والرسالة السفارة بين الله وعباده بوحيه لتقرير أحكامه ونحوها وقد تقدمت حقيقة النبي والرسول فأغنى عن الإعادة وفي الفرق بين النبي والرسول على وجه التحرير والدلالة كلام يطول والنبي مهموز وقد تبدل همزته ياء قيل وهو من النبأ أي الخبر لأنه المخبر عن الله بما تحقق عنده من وحيه أو كلامه وهو المبخر عن الله بواسطة الملك كذلك.
وقيل هو من النبوة التي هي ما ارتفع عن الأرض لأنه المرتفع على أبناء جنسه وكل صحيح في حقه عليه الصلاة والسلام لأنه محا الأخبار عن الله كما ذكر والمرتفع على خلقه برفعته له سبحانه وقد تقدم أنه إنسان أوحى إليه بشرع فخرج بقولهم إنسان الملك إذ لا يسمى نبياً وإن أوحي إليه وقوله بشرع احتراز ممن لم يوح إليه بشرع وإن كان قد أوحي إليه إلا بشرع.
وقد ذكر الحليمي والنسفي في تفسيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث للملائكة وادعيا الإجماع على ذلك ذكر الزركشي اختلافاً في أفضلية النبوة على الرسالة أو العكس وسيأتي إن شاء الله وإنما ذكر الله سبحانه في كتابه خاتم النبوة فقال ولكن رسول الله وخاتم النبيين لأنه يلزم من ختم النبوة ختم الرسالة ولا ينعكس لأن الرسالة أخص من النبوة ويلزم من رفع الأعم رفع الأخص كما يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم ولا ينعكس فافهم وتأمل ذلك.
والنذارة الإعلام بمخوف وهو عذاب الله عند المخالفة لأمره ثم النذارة من خواص أهل الحق والظاهرين به بخلاف البشارة فإنه قد يأتي بها غيرهم وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1، 2] ففاتحه في أول خطابه بالأمر بالإنذار لأنه قائم من بساط الحقيقة فظهر بالسطوة والصولة لأن ما جاء به حق لا حيلة فيه ولأنه لا يبشر إلا مطيع ولا مطيع إذ ذاك حتى إذا ظهر الفريقان ظهر بالبشارة فكان بشيراً ونذيراً.
وقد أشار إلى ذلك الشيخ بقوله:
(فجعله أخر المرسلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).
يعني بشيراً لأهل الصلاح بالفلاح أي البقاء في نعيم الأبد وأصل البشارة الخبر الصادق بخير أو شر ثم غلب استعماله في الخير علماً والدعاء إلى الله طلب الانحياش إليه والسراج المصباح مثل به – عليه السلام – لأنه يتناول منه ولا ينقص نوره بخلاف الشمس والقمر وغيرهما من النيرات وكونه منيراً في إشراقه لعموم دعوته وانتفاع العبد بضوئه كالقريب.
وفي الصحيح أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] وحرزاً في الأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يميته الله حتى يقيم به الملة العوجاء قال البخاري يعني ما كانت عليه العرب مما يدعون أنه ملة إبراهيم ففتح به أعينا عمياً وآذانا صماً {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أخرجه البخاري وغيره ويكفي في كرامته أن عيسى عليه السلام من أمته إذ ينزل إلى الأرض فيكون فيها حكماً عادلاً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير وإمامنا منا فهو أحد أكابر الملة وقد قيل إنه خاتم الأولياء والله أعلم.
وقوله بإذنه أي بأمره يعني حسب ما أمره وبالله التوفيق.
(وأنزل عليه كتابه الحكيم وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم).
يعني وأنزل الله كتابه الذي هو القرآن العظيم المحتوي على الحكمة التي هي الإتيان بكل شيء على وجهه وعلى الأحكام الشرعية وقد أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فجعله معجزاً في جملته وتفصيله {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] الآية.
قال الشيخ أبو إسحاق فالإعجاز وقع بسورة وأحصر سورة فيه سورة الكوثر وهي ثلاث آيات فالإعجاز وقع بثلاث آيات والقرآن ست آلاف آية ونيف فيه ففيه ألفاً معجزة وزائد وقد سئل بعض العلماء فقيل له لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتابنا
قال: {هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] وقال عز وعلا: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
وقال تعالى: {لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192، 195] فهو من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً محكم الآيات في وضعها وتناسبها ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً لكن لا اختلاف فيه ألبتة فهو من عند الله قال المقترح ومعنى كونه منزلاً أنه نزل به الملك وليس المعنى في نزول الملك أنه انتقل بانتقاله لأنه محال فإن الانتقال محال على المعاني كلها قديمها وحديثها فلا بد من إزالة هذا المحمل المحال وإن تعين محمل عمل عليه وإلا وكلنا ذلك إلى الله قال وشاهد هذه الإطلاقات المشار إليها وأن القرآن كلام الله مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة مسموع بالآذان محفوظ في الصدور منزل من عند الله ورود النص بها نحو قوله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49] وقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] انتهى.
وذكر الشيخ الصالح الولي أبو مدين رضي الله عنه في شرحه لعقيدة الإمام الغزالي في كونه نزل على قلبه جملة ثم منع النطق به إلى نزوله نجوماً قولين فذكرت ذلك لشيخنا أبي عبد الله السنوسي نزيل تلمسان فقال ليس في هذا ما ينكر لأنه أمر جائز لا يدفعه معارض هذا معنى كلامه غير أنه نقل غريب لم أقف عليه لغير هذا الشيخ وقوله وشرح به وهدى يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل بالقرآن لكن الأول أولى لقوله في الحديث ليقيم به الملة العوجاء.
قال البخاري هي ما كانت عليه العرب من ملة إبراهيم يعني فيما يزعمون وليس منها وقال مولانا جلت قدرته: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 52، 53] وورد نحو ذلك في القرآن مثل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
[الإسراء: 9]، وقوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] على أن هذه تحتمل أن تكون مشاراً بها لجملة ما جاء به صلوات الله وسلامه عليه ومعنى شرح أوضح وبين وإضافة الدين إلى الله إضافة تشريف واختيار إن الدين عند الله الإسلام والقويم والمستقيم بمعنى أي الذي لا أعوجاج فيه والصراط الطريق ومعنى هدى هنا أرشد وقد قال القاضي أبو بكر الباقلاني وهما صراطان صراط في الدنيا معنوي وصراط في الآخرة حسي فمن مشى في الدنيا على المعنوي مشى في الآخرة على الحسي وبالله التوفيق.
(وأن الساعة آتية لا ريب فيها).
الساعة عبارة عن فراغ أيام الدنيا وانقراضها سميت بذلك لقرب أمرها وسرعته قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ البَصَرِ} [النحل: 77] وهو أقرب ومعنى آتية أي جائية {لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] لا شك فيها يعني لا يمكن الشك لتحقق أمرها إذ قد جاء بالخير الصادق فلا يصح الشك فيه وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقربها وذكر علاماتها الصغرى والكبرى كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وفتح ردم يأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال فهذه خمسة كبرى متفق عليها وعد بعضهم الصغرى سبعين وقد ظهر جلها أو كلها فانظر ذلك ولا تعتمد فيه إلا ما صح سنة أو قرآناً قال شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله حاكياً عن سيدي أبي عبد الله الفلالي الصحيح أن لا يعرف حد الدنيا متى ولكن يجزم بالقرب خاصة والله أعلم.
وقال الشيخ ناصر الدين يجوز أن يكون المعنى آتية على جميع أمور الدنيا قال وقيل الريب الشك والصواب الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس واضطرابها وفي الحديث «دع ما يريبك فإن الصدق طمأنينة والشك ريبة ??» والله أعلم.
(وإن الله يبعث من يموت كما بداهم يعودون).
يعني أن حشر الأجساد حق ثابت لإخبار الصادق به مع ثبوت جوازه عقلاً وقد قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ} [الحج: 7] فعدل الشيخ عن ذكر القبور بياناً للمقصد إذ قالوا ذكر القبور خرج للغالب فلا مفهوم له وإن من غرق في البحار ومن أكلته السباع وغيرهم يبعثون كبعث أهل القبور فالمعاد جسماني حق وجاحده
كافر وعليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ودليلنا النصوص القاطعة من الكتاب والسنة التي لا تحتمل التأويل حتى صار ذلك معلوماً بالضرورة من الدين فحمله على التصوير والتمثيل للمعاد الروحاني كفر ثم اختلفوا أن الحشر إيجاد بعد الفناء أو جمع بعد التفريق وخلافهم مبني على أن الفناء إعدام الجواهر أو تفريق الأجسام وعليهما.
فقوله: (كما بدأهم يعودون) هل يعني أنه يوجدهم بعد العدم أو أنه يؤلفهم بعد التفريق ومذهب المحققين التوقف في ذلك لعدم الدليل وعلى فنائها ففي عجب الذنب قولان وقال المزني يفنى وتأول الحديث الذي هو قوله عليه السلام فكل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب وأنكر الطبيعة المعاد وتوقف جالينوس.
قال جمهور الفلاسفة المعاد روحاني فقط وجمهور المسلمين جسماني فقط وكثير من علماء الإسلام جسماني روحاني وهو رأي الغزالي والراغب والحليمي والدبوسي والكلبي وكثير من الصوفية وغيرهم قلت وهو مقتضى النصوص من الكتاب والسنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات وغفر الصغائر باجتناب الكبائر وجعل من لم يتب من الكبائر صائراً إلى مشيئته إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
يعني أن تضعيف الحسنات تكثيرها والزيادة فيها وفي الحديث أن الله تعالى يقول آذاهم عبدي بحسنة فلم يعلمها كتبتها له حسنة فإذا علمها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف الحديث ابن العربي للتضعيف خمس مراتب الحسنة بعشر للآية وبخمسة عشر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو «صم يومين ولك ما بقى» يعني من الشهر وثلاثين في الحديث نفسه «صم يوما ولك ما بقى فالحسنة بثلاثين» .
قلت: وفي الحديث: «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرة ومن قال سبحان الله كتبت له عشرين ومن قال الحمد لله كتبت له ثلاثين» ففي الحديث مرتبة العشرين والثلاثين قال «والرابعة بخمسين» لحديث «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف خمسون حسنة لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ??» قلت ومثله «ومن قتل وزغة بضربة فله مائة حسنة وبضربتين له خمسون حسنة» رواه
مسلم وفيه زيادة مرتبة المائة قال: والخامسة بسبعمائة لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية قال فهذه خمس مراتب للتضعيف في المقدر، قلت: بل هي سبع زيادة العشرين في حديث التسبيح في حديث الأذكار الثلاثة والمائة قي قتل الوزغ بضربة قال والسادسة غير مقدرة بشيء {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وكذلك «الصوم لي وأنا أجزي به» قال وهذا كله مع الإتيان بالعبادة كاملة ولا يحصل على بعضها إذا لم تكمل شيء وذلك كما إذا أتى ببعض صلاة قال ويظهر أثر التضعيف بالموازنة والله أعلم انتهى.
ولم يذكر تضعيف الصلوات وهو من المقدر فإذا صلى فذا بعشر وفي جماعة بسبع وعشرين صلاة أو بخمس وعشرين تضرب في عشرة فتكون بمائتين وخمسين وبيت المقدس فذا بخمسمائة تضرب في عشرة فتكون بخمسة آلاف ثم إن ضعفت بالجماعة إلى خمس وعشرين فكما تقدم وفي المدينة بألف تضعف في الجماعة بخمس وعشرين وكذلك القول في مسجد مكة لا سيما على قول الشافعي هي بمائة ألف فتأمل ذلك فهذه سبع مراتب زيادة على ما ذكر فالمجموع سبعة عشر مرتبة والله أعلم.
وقوله صفح معناه سمح وتجاوز والتوبة الرجوع عما لا يرضي الله إلى ما يرضيه وعبر عنها الغزالي بتبرئة القلب عن الذنب وقال في النصوح إنها ترك اختيار ذنب سبق مثله عنه تعظيماً الله وحذرا من سخطه وقال إمام المحرمين هي الندم على المعصية لرعاية حق الله وفيه بحث والكبائر جمع كبيرة قال قي " في جمع الجوامع " وقد اضطرب في الكبيرة فقيل ما توعد الله عليه بخصوصه وقيل ما فيه حد وقيل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد وقال الأستاذ والشيخ الإمام كل ذنب ونفياً الصغائر قال والمختار وفاقا لإمام الحرمين كل جريمة تؤذن بعد اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة كالقتل والزنا واللواط وشرب الخمر ومطلق السكر والسرقة والغصب والقذف والنميمة وشهادة الزور واليمين الفاجرة وقطع الرحم والعقوق والفرار ومال اليتيم وخيانة الكيل والوزن وتقديم الصلاة وتأخيرها والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب المسلم وسب الصحابة رضي الله عنهم وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة والقيادة والسعاية ومنع
الزكاة ويأس الرحمة وأمن المكر والظهار ولحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والغلول والمحاربة والسحر والربا وإدمان الصغيرة انتهى.
وقد ذكر ابن العربي وغيره الإجماع على أن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة وظواهر الأحاديث تقتضي خلاف ذلك ولا سيما حديث «إن الله غفر لأهل عرفات وضمن عنهم التبعات» وهو حديث صححي وجملة العلماء على أن المخصوص بهذا الأمر الخاص فانظر ذلك وأما غفران الصغائر باجتناب الكبائر فلقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} [النجم: 32] والمغفرة الستر على الذنوب وعدم المؤاخذة بها وسيأتي مزيد فيه إن شاء الله.
وقال علماؤنا فاجتناب الكبيرة مكفر للصغيرة وهل قطعا وهو مذهب الفقهاء والمحدثين أو ظنا وهو مذهب الأصوليين قالوا لو قطع بتكفيرها لكان إباحة إذ لا تباعة فيه ورد بوقوع المؤاخذة فيه بوجه ما وهو إذا لم تجتنب قال بعض علماؤنا وغالب الصغائر إنما هي مقدمات للكبائر فإذا جاهد نفسه وعصمه الله باجتناب الآخر غفر له وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر والفم يزني وزناه القبلة واليد تزني وزناها اللمس والقلب يتمنى أو يشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» أخرجه أهل الصحيح وقد تكون الصغيرة غير مقدمة أو الصغيرة مكررة غير مجتنبة فيكفرها وقوع عبادة موعود به فيها كقوله: «صلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ما اجتنبت الكبائر» كما صح قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال أصبت من امرأة قبلت أصليت معنا؟ قال نعم، قال:«إن الحسنات يذهبن السيئات» فتأمل ذلك وانظر كلام العلماء في الآيات والأحاديث فإنك لا تحقق ذلك إلا منها فانظره وبالله التوفيق.
وقوله (وجعل من لم يتب من الكبائر صائراً إلى مشيئته) يعني في الصغائر
والكبائر إن شاء عاقبه بالجميع أو غفر له الجميع أو غفر له الصغيرة فقط أو الكبيرة فقط وقد قال ابن عطاء الله في الحكم لا صغيرة إذا قابلك عدله ولا كبيرة إذا واجهك فضله ومعنى صائراً أي راجعاً إلى مشيئته يفعل به ما شاء من رحمة أو تعذيب.
والناس قسمان مؤمن وكافر فالكافر في النار بإجماع والمؤمن طائع وعاص فالطائع في الجنة بإجماع والعاصي صاحب كبيرة وصاحب صغيرة فالصغيرة مكفرة باجتناب الكبيرة والكبيرة مغفورة بالتوبة إذا استوفت شروطها في علم الله وهل قطعا أو زنا قولان وإن مات صاحبها قبل التوبة والتكفير فمذهب أهل الحق مؤمن وعاص متعرض للعفو والعقوبة حسب مشيئة الله فيه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] فلذلك أتى به الشيخ ههنا ثم في هذا رد على أربع طوائف.
الأولى: الخوارج القائلون بتكفير العاصي إن لم يتب والقائلون بأنه منافق وهذا نوع منهم ومنهم من عمم ذلك في الصغيرة والكبيرة ومن خصه بالكبيرة.
الثانية: المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان عمل كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
الثالثة: الوعيدية من المعتزلة القائلون بأنه لا بد من إنفاذ الوعيد والتخليد بالذنب في النار.
الرابعة: المعتزلة القائلون بأن له منزلة بين المنزلتين فلا يقال فيه مؤمن ولا كافر وجعلوا الفسق مرتبة بين الكفر والإيمان فالخلاف في العاصي على هذا حقيقة وحكما واسما ومذهب أهل السنة أنه مؤمن حقيقة واسما وحكما ما لم يكن مستحلا أو مستخفا بربه ودليلهم هو الآية وغيرها من الأدلة القاطعة فانظرها وتأملها تجد ما ذكر فيها ظاهرا منها وبالله التوفيق.
تنبيه:
جرت عادة أكثر المقيدين والشراح بذكر جملة من أحكام التوبة هنا وليس بمحل لها إنما محل الكلام عليها باب جمل من الفرائض والصواب هنا الكلام على ما يتعلق بالمعتقد وقد قالوا إن الاعتقادات كلها مأخوذة من سورة الأنعام فلذلك كان أول الكلام فيها من بدء الخلق والدلالة على الخالق وآخرها الكلام على تضعيف الأعمال
والإمامة فتأمل ذلك تجده صحيحاً وبالله التوفيق.
(من عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته).
يعني أن الأحاديث والآيات دالة على أنه لا بد لطائفة من الموحدين يعاقبون على ذنوبهم بدخول النار خلافاً للمرجئة وأنهم يخرجون منها بما شاء الله من شفاعة أو كرم بلا واسطة لإيمانهم حتى لا يبقى في جهنم إلا الكافرون خلافاً للمعتزلة في التخليد بالذنب وإن كل مؤمن من أهل الجنة طائعاً كان أو عاصياً وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله أخرجوا من النار من في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد متحشوا وصاروا حمما فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ألا تروا أنها تخرج صفراء ملتوية» رواه البخاري وغيره.
والحبة بكسر الحاء نبت الخلا والله أعلم وقد جاء في الصحيح «لن يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فقول الشيخ بإيمانه بيان للسبب والرحمة أصل كل شيء والباء في قوله (بناره) قال الشيخ ناصر الدين يجوز أن تكون بمعنى الفاء أي في ناره كقوله أقمت بمكة وقيل هي باء الفعل كقوله خلق الله العالم بقدرته وإضافة النار إلى الاسم الكريم إضافة ملك لمالك وقد قال تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة: 6] وإنما أضيفت للتهويل وأضيفت للجنة للتشريف كدين الله وبيت الله ونحو ذلك.
(ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره).
أشار بهذا لما وقع في الحديث من قوله: «أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» على أحد الروايات والمثقال زنة الشيء والذرة عبارة عن أدنى الشيء قيل هي النميلة الحمراء وقيل البيضاء لأنها لا تميل الميزان وقيل الحيوان الذي يظهر في الهباء عند دخول الشمس من بعض الكوى وقيل جزء من مائة وسبعين جزءاً من حبة من شعير وقيل ما لا يراه أحد وقيل غير ذلك وقد أنهى بعضهم الأقوال في ذلك إلى عشرين قولاً مرجعها إلى أقل شيء في الوجود ما هو والخير ما فيه منفعة دينية وسلامة هنا ويقابله الشر بضده.
وقد جاء القرآن بهما على المقابلة فاكتفى الشيخ بأحدهما عن الآخر لدلالته عليه
أو لأنه قصد لما ذكر في الحديث وهو الظاهر والله أعلم قالوا التقدير من يعمل مثقال ذرة من خير يره خيراً ومن يعمل مثقال ذرة من شر يره شراً فثواب كل عمل من جنسه سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
(ويخرج منها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته).
لا خلاف بين أهل السنة أن الشفاعة ثابتة لمحمد صلى الله عليه وسلم في عصاة أمته من أهل الكبائر والصغائر وغيرهم وقالت المعتزلة هي خاصة بالمطيعين في زيادة الثواب لا لأهل المعصية لدرء العقاب ودليلنا قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وطلب المغفرة شفاعة قوله عز وجل للكفرة {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقوله عليه السلام: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» الحديث.
قال النووي في الروضة لرسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعات خمس، الأولى: الشفاعة العظمى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء كما ثبت في الحديث الصحيح، والثانية: في جماعة فيدخلون الجنة بغير حساب، الثالثة: في جماعة استحقوا النار أن لا يدخلوها، الرابعة: في جماعة دخلوا النار أن يخرجوا منها، والخامسة: في رفع درجات الناس في الجنة وزاد القاضي أبو بكر شفاعته في التخفيف عن أبي طالب وزاد غيره شفاعته بثقل موازين أقوام عند وزن أعمالهم فهذه سبعة كلها خاصة به صلى الله عليه وسلم وقيل الخاص بعضها فقط وهي الأولى إجماعاً وغيرها محتمل لدخول غيره فيها ولعدمه وصحت شفاعته لمن جاء زائراً ولمن يموت بالمدينة ولمن صبر على شدتها ولمن أجاب المؤذن ثم سأل له الوسيلة.
وذكر النووي أن العشرة خاصة به والشفاعة في الخروج من النار تقع من الأنبياء والملائكة والأولياء والشهداء وغيرهم ممن ذكر في الأحاديث ونقل عن النووي والشيخ أبي محمد لا شفاعة إلا له صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر كلامه هنا والأحاديث تدل على خلافه.
(وإن الله تعالى خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم).
يعني أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لقوله تعالى {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ولا يكون معدا إلا ما كان حاصلاً وإلا ما كان ثابتاً فالحمل على ظاهر النصوص واجب هذا مذهب أهل السنة خلافاً لجمهور المعتزلة قال في المقاصد لم يرد نص صريح في مكان الجنة والنار والأكثر على أن الجنة فوق السموات السبع وتحت العرش تشبثاً بقوله تعالى {عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى} [النجم: 14، 15] وقوله عليه السلام: «سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع» والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير انتهى.
قيل وسميت جنة ولا جنتان أرضها بالأشجار أي سترها بها لكثرتها وتضافرها قلت: لو قيل: إنه لاجتنابها أي استتارها عن الأفهام والأوهام إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان له وجه فتأمل ذلك وقوله (فأعدها دار خلود لا وليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم) يعني هيأها محلا للبقاء السرمدي في حق أوليائه وهم المؤمنون لقوله تعالى الله {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} {وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ} وقد صح إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، يؤتي بالموت على صورة كبش فيقال: يا أهل الجنة ويا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت فيذبح بين الجنة. والنار ثم ينادي منادياً أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت، الحديث صحيح لكن لم أذكر لفظه لطول العهد به والنظر إلى وجهه تعالى أي ذاته من أكبر الكرامات وقد جاء الوعد به في الآخرة بقوله تعالى {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فبالضاد من النضرة التي هي الحسن والجمال وبالظاء المشالة من النظر الذي هو الأبصار بالبصائر والأبصار، فأما البصائر فلم يتعرض لها الشيخ، وإنما مراده رؤية الأبصار فيكشف سبحانه الغطاء عن أبصار عباده المؤمنين انكشاف القمر ليلة البدر كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه نيف وعشرون من أكابر الصحابة.
وقال علماؤنا شبه فيه النظر بالنظر لا المنظور بالمنظور لأنه تعالى منزه عن المكان والجهة والمقابلة والمواجهة وتقليب الحدقة واتصال الأشعة بل هي رؤية وجود لا أنه في مكان محدود بل كما قال بعضهم لما سئل كيف يرى الله في الآخرة يري نفسه
لمخلوقاته وليس في جهه من نفسه ولا مخلوقاته فرؤيته تعالى جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة خلافاً لجميع الفرق ودليل جوازها عقلاً هو أن علة الرؤية الوجود في كل موجود، فإذا جازت رؤية موجود جازت رؤية كل موجود وقد أوجبتها الشريعة في الآخرة بالوعد بها كما تقدم ونفتها في الدنيا لحديث «أن الدجال أعور وإن ربكم ليس بأعور وإن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت» .
قال علماؤنا والنبي صلى الله عليه وسلم خارج من هذا الخطاب إذ قد رآه ليلة الإسراء بقلبه عند الأكثر بعيني رأسه عند المحققين وتوقف عياض وغيره لعدم القاطع بنفي أو إثبات وحكى القشيري عن الأشعري قولين في إثبات وقوع رؤيته تعالى لغيره عليه السلام في الدنيا والكافة على المنع المنفي ويحتمل أن يكون أحد القولين رجوعاً إلى الكافة فتتم كلمة الإجماع وإلا فهو ضعيف بل مصادم للنص واستدل بعضهم للنفي بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] واستدل بها آخرون للإثبات بقوله {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فانظر ذلك وذهب الأشعري إلى أنه يجوز أن يقال أنه مشار إليه بناء على زعمه أن الإشارة تقوم بالمشير لا بالمشار إليه واختلف هل لمؤمني الجن رؤيته تعالى في الآخرة كالمؤمنين من الآدميين وجزم ابن عبد السلام بنفي رؤيته تعالى للملائكة وفيه نظر وذكر غيره الخلاف في ذلك وقد حكي عن كثير من السلف رؤيته تعالى في المنام والتحقيق.
أن الرائي في النوم هو الروح فتكون الرؤية مكاشفة وقد قال عمر رضي الله عنه رأى قلبي ربي ولما ادعى بعض الصوفية أنه رأى ربه في منامه على وصفه قيل له كيف رأيت فقال انعكس بصري في بصيرتي فصرت كلي بصراً فرأيت من ليس كمثله شيء انتهى.
ومذهب الأشعري أن الوجه صفة له تعالى معلومة من الشرع يجب الإيمان بها مع نفي الجارحة المستحيلة وكل ما ينافي الجلال فهو مستحيل.
(وقوله وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه).
يعني والجنة المذكورة بأنها أعدت لأوليائه تعالى هي التي كان فيها آدم حين قيل له ولمن كان معه {أهبطوا} يعني إلى الأرض والهبوط إنما يكون من علو إلى سفل
وقالت المعتزلة هي جنة بعدن لأن الله تعالى قد قال في الجنة التي أعدت للمتقين {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] ومذهب أهل السنة في توقف الجزاء بها لأنه وصف ذاتي هنا وقد ذهب منذر بن سعيد البلوطي لمذهب المعتزلة في هذه المسألة حكاه عنه ابن عطية فذكر ابن لما رحل إلى المشرق التقى ببعض المعتزلة فدس عليه هذه المسألة وهو مسبوق بالإجماع ومحجوج به ثم في قوله (نبيه وخليفته) تنبيه على مزية آدم وجلاله قدره حتى لا يتوهم شيء من النقص في نزوله لأن النبي معصوم من المعاصي.
والخلافة ثابتة له بقوله تعالى قبل أن يخلقه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] أتراه يقيمه خليفة على عباده ويجعله محل النقص والعصيان ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض إلا ليكمله وما أنزله لينقصه ولقد أنزله إليها قبل أن يخلقه إذ قال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أتراه يستخلفه في الأرض ثم لا ينزله إليها.
وقد أشار الشيخ إلى هذا بقوله بما سبق في سابق علمه وقد جاء القرآن بقوله تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] وهو مما يجب تأويله لبطلان العصيان الموجب للإثم في حقه لما يجب من اعتقاده توقيره وتعزيره الواجب لكل نبي فأجيب أن العصيان عبارة عن مخالفة الأمر بما هو أعم من قصد المخالفة فيصدق على النسيان وغيره وقد جاء صريح القرآن بذكر النسيان في ذلك فوجب حمل العصيان على وقوع المخالفة بالنسيان وذلك لا يوجب نقصاً ولا تأثيماً ومعنى فغوى أي شقي وتعب في الأرض بنزوله إذ كان في الجنة لا يجوع ولا يعري ولا يظمأ ولا يشقي فنزل إلى محل يحتاج إلى أن يأكل فيه من كد يمينه وعرق جبينه فأدركه الكد إلى غير ذلك فيما لا نقص فيه ولا إثم ثم إطلاق هذا الموهم في شأنه لا يضرنا مع تأويله.
ونقول في ذلك للسيد أن يقول لعبده ما شاء وعلينا أن نتأدب مع العبد لأنا مأمورون بذلك في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وهذا الذي ذكرنا من أنزه الطرق في التأويل وأوجهها والكلام في هذا الطويل عريض فلينظر في محله من التفاسير وبيان المشكل من الكتاب والسنة وخصوصاً آخر الشفاء لعياض ولكن يحتاج لعلم جم ونظر سديد والله أعلم.
(وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته).
ذكر في هذه الجملة أن النار مخلوقة وأنها أعدت للكافرين والملحدين على سبيل التخليد وأنهم محجوبون عن رؤيته ظاهره مطلقاً وقيل أنهم يرونه تعالى في عرصات القيامة لقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وهو معارض لقوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فتؤول الأول بأنه وقوف معنوي والحجب المعن عن الرؤية وبيان ذلك أن رؤية الملك كرامة فلا تكون إلا لأهل ولايته والحجب من لوازم الطرد والإبعاد وأجيب بأن الرؤية على وجه القمر والعذاب أشد من الحجب وقد تقدم الكلام في أن الجنة والنار مخلوقتان لأهل السعادة والشقاوة معدتان وأن الخلود هو البقاء الذي لا آخر له قالوا وإنما خلد كل لاعتقاده لأنه لو كان باقياً أبداً ما ترك ما هو عليه من دينه.
والكفر في اللغة التغطية ومنه سمى الحراث كافراً لأنه يغطي الزرع بالأرض وهو المراد بقوله تعالى: {أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] وهو شرعاً تغطية الحق بالباطل والإلحاد الحيدة عن الحق في الآيات بإنكارها وتبديلها وإخراجها عن مقصودها وأصله من اللحد وهو الحيدة في الدفن عن سواء القبر إلى جانبه والآيات الدالة الموصلة إلى العلم.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] هذا تهديد بل نص في أن من ألحد في آياته يلقى في النار وأن غير الملحد يأتي آمنا يوم القيامة والتحقيق أن الجنة محل رؤيته تعالى وكرامته للمؤمنين وأن النار محل الإهانة فلا رؤية فيها وعرصات القيامة موقف المطالبة ولا كرامة معها مع احتمالها المبالغة في العقوبة بظهور القهر وقيام الحجة ولا نص في ذلك من الشارع.
فالصواب الوقف وما في حديث الساق مشكل جداً وللعلماء فيه كلام فانظره وبالله التوفيق.
(وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم
وحسابها وعقوبتها وثوابها).
قيل يعني يجيء أمره وسلطانه وقيل المجيء في حقه تعالى صفة يجب إثباتها لنص القرآن ويجب إخراجها عن الظاهر المحال كالنزول والاستواء والساق والقدم والجنب والعين ونحو ذلك إلا أن تعرض شبهة فيؤخذ بما يقتضي التتريه من تأويلها وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وقد تقدم القول في الاستواء وأن مذهب السلف فيه التفويض بعد نفي المحال ومذهب غيرهم التأويل.
قال بعض المشايخ ولئن كان التأويل أعلم فالتفويض أسلم ويسعنا ما وسع سلفنا إذ كانوا في مثل ذلك يقولون أمروها كما جاءت ولا خلاف في وجوب نفي المحال وإنما التفويض في تعيين المحل قال علماء السلف ولا يضرنا الجهل بتعيين ذلك كما لا يضرنا الجهل بألوان الأنبياء وأنسابهم مع القيام بتعظيمهم واحترامهم وليس ثم ألحن من ذي الحجة بحجته ففوض تسلم والملك الملائكة وهم عباد الله المكرمون بطاعته لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وجمهور أهل المال على أنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة شأنهم الخير والعلم والقدر على الأعمال الشاقة لا يوصفون بالأنوثة إجماعاً ولا بالذكور على التحقيق.
ومعنى (صفا صفا) صفوفاً صفوفاً أي صفوفاً بعد صفوف قال بعضهم يكونون ثمانين صفاً محدقين بالخلائق بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فانظر ذلك في الأحاديث وتأمله فإن فيه موعظة واعتباراً وقد اختلف في إطلاق ما ورد في القرآن من المشكل في غيره كالمجيء ونحوه فأكثر المتكلمين على عدم جواز الإطلاق وأجازه القلانسي في جماعة من المحدثين والفقهاء وحكى المقترح فيما جرى اصطلاحا عند قوم لا يتوهمون كالحضرة والوصول ونحوه عند الصوفية قولين وأجمعوا على منع ما لا أصل له في كتاب ولا سنة ولا جرى به اصطلاح إن كان إيهامه يبعد عن الأذهان فانظر ذلك.
قال الشيخ ناصر الدين: في يوم القيامة مراتب لها ألفاظ منها البعث وهو الإخراج من القبور والحشر الذي هو الجمع والعرض ومعناهما واحد قال ويظهر أن معنى العرض إحضار المعروض وتمييزه عن غيره وهو مغاير لمعنى الجمع والحشر ثم
السؤال وهو ما علمت ولم عملت قال الله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] الآية، وانظر بقية كلامه وحاصلة أن العرض أولا ثم الحساب ثم الوزن ثم العقاب والثواب وفي البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حوسب عذب فقالت عائشة رضي الله عنها أو ليس يقول الله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8]، فقال: إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك الحديث.
(وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون).
يعني أن أعمال العباد توزن بميزان له كفتان ولسان قال الله تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] والموازين جمع ميزان وظاهر هذا أن الميزان متعدد وهل بحسب كل أمة أو بحسب كل شخص شخص أو الميزان متحد والمتعدد الموزونات ثلاثة أقوال الصحيح منها الآخر إذ لم يدل قاطع على خلافه ولا راجح من الأدلة عليه وأنكرت المعتزلة أن يكون ميزاناً حسياً وقالوا هو شيء يعرف به مقادير الأعمال كما تعرف الأوقات بميزان الشمس ونحوه وقالوا: إن الأعمال معان فلا يمكن وزنها وأجيب بأن الموزون الصحائف والثقل والخفة بحسب ما فيها من المعاني والنقص والرجحان معنى يرد على معنى وذلك غير مستحيل.
وظاهر النصوص يقتضيه فلا وجه للعدول عنه وقوله {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} يعني على الوجه المعروف في الثقل والخفة لأن الأشياء لا تصرف على ما يعرف ولا تتأول على خلاف ما يعرف إذ كان المعروف ممكنا من غير معارض ولا دافع خلافاً لمن يقول أنه مخالف لميزان الدنيا بارتفاع كفة الثقل إلى فوق والصواب في هذا كله الوقف بعد إثبات الميزان والله أعلم والفلاح البقاء في النعيم الأبدي لأن الفلاح لغة البقاء لقول الشاعر:
لكل ضيق من الأمور سعة
…
والمساء والصبح لا فلاح معه
أي لا بقاء معه ويقال لمن تخلص من البلاء نجا فإذا حصل مع ذلك في النعيم فقد فاز فإن تم أمره فقد سعد فإن دام نعيمه فقد أفلح قال الله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] الآية فتأمل ذلك وقد اختصر الشيخ على أحد قسمي أهل الوزن وهم السعداء لأنه يدل على الآخر وهو من خفت موازينه واختلف في وزن أعمال الكفار لتعارض الأدلة فيهم إذ قال تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] وقال {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] ولا خلود إلا لكافر ولا تظهر الخفة إلا مع الوزن.
فتؤول بأن إقامة الوزن نفعه وقيل رجحانه بمقابله أو ظهور أثره فيما يوزن وقيل غير ذلك وحكى الغزالي كفتي الميزان في العظم كأطباق السموات توضع الحسنات في كفة النور على هيئة حسنة وتوضع السيئات في كفة الظلمة على خلاف ذلك قال والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لتمام العدل انتهى بالمعنى المحاذي للفظه.
(ويؤتون صحائفهم بأعمالهم).
يؤتون يعطون وصحائفهم كتبهم المكتوبة فيها أعمالهم قبل الوزن ثم توزن صحائف الحسنات وصحائف السيئات ويحتمل أن تكون بعد الوزن هل المكتوبة عليهم في الدنيا أو يكتبونها في القبر أو يكتبها العبد في قبره كان كاتباً أو ليس بمكاتب كل ذلك محتمل جائز ولم يرد به قاطع فالصواب الوقف بعد الإيمان بإيتاء الصحف.
(فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيراً).
يعني كما جاء القرآن بذلك ومعنى أوتي أعطي وكتابه مكتوبه الذي فيه أعماله واليمين معلومة وظاهر الأمر أن الكتاب مدفوع إليهم من أيدي الملائكة وقيل تهب ريح من تحت العرش فتلقي لكل إنسان كتابه فيأخذه المؤمن بيمينه ويأخذه الكافر بشماله ثم يجعل يده خلف ظهره ويكلف بأن يقرأه في هذه الحالة زيادة في عذابه والعياذ بالله والحساب اليسير هو السهل اللين ولا خلاف إن المؤمن المطيع يؤتي كتابه بيمينه والكافر بشماله وفي العاصي قولان والأكثر أنه كالمطيع قال في رسالة التنبيه لأبي الحجاج الضرير رحمه الله.
والمذنب الفاسق ذو الإيمان
…
من آخذي الكتاب بالإيمان
وقيل إن حكمه موقوف ولم يرد في أمره توقيف ومعنى {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}
[النساء: 10] أي يحرقون بنار سعرت يحطم بعضها بعضاً والسعير اسم لجملة النار وقيل السعير طبقة من نار وليس في المسألة قاطع يرجع إليه غير ذكر الأسماء التي هي جهنم ولظى والحطمة والسعير والجحيم والهاوية والدرك الأسفل فقيل طبقاتها وقيل اسم لجملتها وليس في ذلك توقيف ولا خلاف أن لها سبعة أبواب لكل باب منهم أي من الكافرين جزء مقسوم لأنه نص القرآن ويذكر أن أبواب الجنة ثمانية.
وأنكر ابن العربي قصر أبوابها على هذا العدد وأن تكون الجنات كذلك بل ما صح وهو جنتان آنيتهما وما فيهما من ذهب وجنتان آنيتهما وما فيهما من فضة الحديث.
(وإن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم).
الصراط لغة الطريق وشرعاً في باب الاعتقاد جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف رواه مسلم وأنكره المعتزلة وقوفاً مع معقول الشاهد واستبعاد لما ورد نصاً من الشارع من جوازه عقلاً ولما سئل صلى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه» .
وقال القرافي لم يصح أنه أحد من السيف وأرق من الشعر قائلاً والصحيح أنه عريض وفيه طريقان يمنى ويسرى إلى آخره (خ) قلت في قوله (لا يصح فيه أنه أرق من الشعرة وأحد من السيف) نظر لكونه في صحيح مسلم قلت لكنه أعلى بالإرسال وقد خرج الحاكم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه إنما الصراط مثل حد الموسى والأحاديث كثيرة في ذلك وقد قال عليه الصلاة والسلام «ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد أحداً إلا نفسه عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند الصحف حتى يعلم أيأخذ كتابه بيمينه أو بشماله وعند الصراط حتى يجاوزه» . وفي البخاري «يجوز المؤمنون الصراط فيحبسون على قنطرة بني الجنة والنار» الحديث فكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يقول الصراط في البخاري صراطان صراط عام وصراط خاص فتأمل ذلك وقوله (يجوزه العباد بقدر أعمالهم) ظاهره العموم في الكافر والمؤمن ولا خلاف في المؤمن وإنما الخلاف في الكافر ومعنى فناجون متفاوتون
يعني فيهم في النجاة من السقوط في النار متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، فمنهم من يجوزه كالبرق ومنهم من يجوزه كالريح المرسلة ومنهم كالخيل السابقة ومنهم من يجري جريا ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يمشي مرة ويكبو أخرى فهؤلاء أقسام الناجين وقسيمهم الهالكون ولا تقسيم فيهم.
وقد يفهم ذلك وأنهم على حسب جرمهم وهم المرادون بقوله أوبقتهم فيها أعمالهم أي حصلتهم فيها أعمالهم فلا مخلص لهم منها إلى الأبد إن كانوا كافرين وإلى مدة نفوذ الوعيد إن كانوا مؤمنين والله أعلم.
(والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه أبداً ويزاد عنه من بدل وغير).
هذا معطوف على قوله (والإيمان بالقدر) كما أن ذلك معطوف على قوله (من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان والإيمان بالحوض حوض محمد صلى الله عليه وسلم لدلالة الأحاديث عليه وقد ورد في الصحيح «أن ماءه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً» وفي الحديث أيضاً «عرضه مسيرة شهر عليه كيزان» وفي رواية «أباريق على عدد نجوم السماء فيه ميزابان يصبان من الجنة» وفي رواية «من الكوثر» قيل وذلك دليل أن الحوض بعد الصراط والخلاف في ذلك شهير لا يحتاج إلى تقرير والحاصل أن ليس في المسألة قاطع يرجع إليه فالواجب اعتقاد ثبوت الحوض والصراط والله أعلم بالمتقدم.
كما قال شيخ شيوخنا الشيخ أبو عبد الله محمد العكرمي رحمه الله في عقيدته إذ قال عند ذكر الحوض والصراط مقدماً يكون أو يتأخر وجزم الغزالي بتأخر الحوض والله أعلم بالأمر وقوله (لا يظمأ) هو بفتح أوله والهمزة آخره والظاء المشالة (لا يعطش من شرب منه) يعني بعد شربه ولو شربة واحدة كذلك ورد في الخبر.
ومعنى (يذاد) بذال معجمة أولاً ثم مهملة بينهما ألف يطرد عنه فلا يشرب منه.
من بدل وغير يعني بالكفر والابتداع لا بالعصيان المجرد لأنه ليس بتبديل ولا تغيير وإن كان مخالفاً للمطلوب.
وأصل المسالة قوله صلى الله عليه وسلم «ليذادن عن حوضي أقوام كما يذاد البعير» وقوله صلى الله عليه وسلم
«ليردن على الحوض أقوام فأعرفهم فأقول ألا هلموا فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا» الحديث، واختلف أهل لكل نبي حوض أو لا حوض إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل نبي إلا صالح فإنه قد استعجل حوضه آية لقومه ثلاثة أقوال والأخير رواه الترمذي في حديث ضعيف والذي يتعين من ذلك أن حوض محمد صلى الله عليه وسلم ثابت وحوض غيره محتمل فيقطع بالأول ويفوض غيره إلى الله سبحانه.
(وإن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وفيها الزيادة).
يعني فالقول الذي هو الشهادتان ترجمة ما في القلب من التصديق والإذعان المعبر عنه هنا بالإخلاص لإفراد الوجه فيه إلى الله ورسوله والعمل شرط كمال فقط كما سيأتي ثم الإيمان حقيقة في العقد مجاز في القول والفعل وقد اختلف في القول هل هو شرط فلا إيمان لمن لم يأت به مطلقاً أو شطر فيعتبر ما لم يحصل مانع كاخترام المنية بعد العزم عليه أو عذر كالإكراه على تركه مع تحقق الإيمان بقلبه وهذا هو الصحيح أو لا واحد منهما فيكفي مجرد الاعتقاد ما لم يكن المانع كبراً أو عناداً فلا يختلف في كفره أما النطق وحده فلا يكفي بإجماع أهل السنة خلافاً للنجارية والكرامية وهو باطل ولو سقط العمل مع ثبوت التصديق والإقرار فمذهب أهل الحق أنه مؤمن ويسمى فاسقاً خلافاً للمعتزلة إذ جعلوا الفسق مرتبة بين الكفر والإيمان. وقد مر الكلام عليه.
ثم زيادة الإيمان ونقصانه مختلف فيه على ثلاثة أقوال ثالثها يزيد ولا ينقص وكلها منقولة عن مالك وفي شامل إمام الحرمين كل من أطلق الإيمان على فعل الطاعة زاد ونقص وكان مالك يقول يزيد ولا يقول بنقص ثم لما سأله ابن نافع عند موته قال قد أبرمتمونا وإذا تدبرت هذا الأمر فما شيء يزيد إلا وهو ينقص قال ابن رشد وهو الصحيح، قلت وهو مذهب البخاري وقد انتصر له بظواهر القرآن والسنة كقوله تعالى:{الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المدثر: 31]{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] إلى غير ذلك.
وقال بعضهم الإيمان مثل السراج له آنية هي القول وزيت هو العمل وفتيلة مع نارها ونورها هو الاعتقاد وما يتبعه من أنواره وآثاره فالقول لا يزيد ولا ينقص والعمل
يزيد وينقص والفتيلة يزيد نورها بحسب حسن الزيت وكثرته المناسبة ولا ينقص أصلها لأنه لو نقصت جمرتها طفئت وهذا هو المناسب لكلام الشيخ إذ جعل النقص بالعمل وبه الزيادة لا أن غير العمل يلحقه نقص في ذاته قال الإمام أبو حامد رحمه الله وما روي عن السلف من أن الإيمان يزيد وينقص ليس معناه أن حقيقته تزيد وتنقص ولكن معناه أن ثمرته تزيد وفيض نوره على ماهيته قال الفهري يمكن أن تكون زيادته بكثرة المتعلقات وقال النووي بكثرة الأدلة قلت: لأن ذلك يقتضي تمكنه في القلب وانشراحه حتى يخالط بشاشة القلوب فلا يمكن الرجوع عنه ولا يحتاج إلى برهان عليه فتأمل ذلك وبالله التوفيق.
(ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ونية إلا بموافقة السنة).
قول الإيمان هو الشهادتان سواء قلت هو شطر أو شرط لتوقف صحته عليه وقد وقع ما يدل على تغاير الإيمان والإسلام وترادفهما فقال المحققون الذي يظهر من جهة الشرع واستعمال اللغة أن الإيمان حقيقة في العقد مجاز في العمل والإسلام عكسه وهما في الشرع واحد لتوقف كل واحد منهما في صحته على الآخر والمراد بالعمل إقامة الشرائع والحدود فالعمل شرط كمال للإيمان لا شرط صحته بإجماع أهل السنة إلا ما وقع لهم من الخلاف في تكفير تارك الصلاة وباقي القواعد على أن بعض العلماء قال التكفير بذلك من حيث إنه علامة على خبث الباطن لا من حيث ذاته فانظره وقوله (ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ونية إلا بموافقة السنة) يعني أن النية شرط كمال الأعمال يعني كانت مما تجب فيه أو لا تجب.
فالنية كسائر الأعمال تقلب أعيانها إلى الحسن وتزيدها في الثواب، قال الإمام أبو حامد رحمه الله وإنما الشأن في النية فإنها معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال، وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه النية عدم غير المنوي عند التلبس به والكلام في ذلك طويل وقد أفرده جماعة بالتأليف وأكمله مدخل ابن الحاج فلينظره من أراد ذلك والسنة المراد بها طريقة محمد صلى الله عليه وسلم التي كان عليها من قول أو فعل أو تقرير وتقابلها البدعة وهي إحداث أمر في الدين مشبه أنه منه وليس به على مذهب من يرى أن
العوائد لا تدخلها البدع وعلى كل حال فما وافق السنة كمال في أي باب كان والخير كله في الاتباع ويرحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد هذا البيت
وخير أمور الدين ما كان سنة
…
وشر الأمور المحدثات البدائع
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقال الحسن رضي الله عنه عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة انتهى. وتحقيق البدعة والسنة والنظر فيهما من أهم المهم لكثرة البدع واتساعها وبالله التوفيق.
(وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة).
يعني ممن يصلي إليها وهل بالفعل فيخرج تارك الصلاة أو باللزوم فلا يخرج وهما على القولين في تكفيره بتركها والتكفير لأكثر مذهب المحدثين مع أقل الفقهاء وعدمه لأكثر الفقهاء مع أقل المحدثين ولم يقع الأهل السنة تكفير بعمل سوى ما ذكر وأما تقدم أنه معتبر بدلالته على الكفر لا بنفسه والخلاف في باقي القواعد أضعف من الخلاف في الصلاة وفي الحديث ثلاثة من كمال الإيمان فذكر منها الكف عمن قال لا إله إلا الله أن لا نكفره بذنبه ولا نخرجه من الإسلام بعمل الحديث ذكره أبو نعيم وغيره فانظره واختلف في أهل الأهواء الذين يؤول قولهم إلى كفر كالقدرية والجبرية والمرجئة فقال سحنون بتكفيرهم وحكاه عن أكثر الأصحاب.
وقال مالك حين سئل أكفارهم من الكفر هربوا وحكى عياض الاتفاق على تكفير القائلين بالقدر وقيل هم كفار دون سائر الفرق وقيل كل الفرق كفار إلا الجبرية لقربهم من الحق وقيل من كفرنا كفرناه وهو مذهب الأستاذ، وقال الشيخ أبو بكر بن فورك الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلام خير من الغلط بإخراج مسلم واحد بشبهة كفر وكفر الغزالي الفلاسفة بإنكار حشر الأجساد وقدم العالم ونفي العلم بالجزئيات فانظر ذلك.
(وإن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين).
الشهداء جمع شهيد وهو من قتل في سبيل الله أي في الجهاد لإعلاء كلمة الله
قيل سمي بذلك لأن الملائكة تشهد له عند موته وقيل لأن دمه يشهد له يوم القيامة إذ يأتي وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك الحديث وما ذكره الشيخ هنا هو نص القرآن والتحقيق أنه حياة غير متعلقة وكونهم يرزقون هو على ما يفهم من الأكل والشرب ونحوه غير متعقل الكيف.
وقد أشار القرآن لعدم التعقل بقوله: {وَلَكِن لَاّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] وقد قال الحسن أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم غدوا وعشيا فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون، وقال مجاهد يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها وجمهور العلماء على أنهم فيها وما ورد أنهم في حواصل طير خضر أو في قيعان تحت العرش ونحو ذلك قيل اختلافه باختلاف مراتبهم وقيل باختلاف أحوالهم وما في الأحاديث من إطلاق اسم الشهيد على المبطون والمطعون والغرق وصاحب الهدم ونحو ذلك هو من حيث الثواب والكرامة لا أنهم مثل شهيد المعترك والله أعلم.
وقوله: (وأرواح أهل السعادة) إلى آخره يعني: أن الأرواح لا تغنى من مسلم ولا من كافر فهي باقية إلى الأبد، هذه منعمة بما يعرض عليها مما أعد الله لها وهذه أيضاً كذلك معذبة قال الله تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46] ولقوله عليه الصلاة والسلام «ما منكم من أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله» الحديث.
وقد تكلم الناس في حقيقة الروح فأطالوا وقصروا بسطوا واختصروا حتى لقد قال ابن رشد في كتابه «المرقبة العليا في تفسير الرؤيا» أخبرنا شيخنا القرافي عن شيخه ابن دقيق العيد أنه رأى كتاباً للحكماء في حقيقة الروح والنفس وفيه ثمانية أقوال، قال وكثرة المقالات تؤذن بكثرة الجهالات واختلف العلماء في جواز الخوض في ذلك فمنعه المحققون وأجازه منهم ولم يقف له أحد على حقيقة والأقرب أنه جسم لطيف شفاف نوراني سار في الأجسام سريان النار في الوقيد والله أعلم. وفي جمع
الجوامع حقيقة لم يتكلم فيها محمد صلى الله عليه وسلم فنمسك عنها.
(وإن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسالون ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
فتنة القبر بالسؤال عن الإيمان والتوحيد ونعيمه وعذابه للمستحق ثابت في الأحاديث الصحيحة فلا وجه لإنكاره خلافاً المتأخري المعتزلة ويسأل الصبيان كغيرهم وفي الترمذي «فتانا القبر منكر ونكير» زاد في حيلة أبي نعيم وناكور وحكى الغزالي أن لأهل الطاعة مبشراً وبشيراً ومنكراً ونكير للعصاة وقال أبو عمر فتنة القبر للمؤمن وعذابه للكافر والمنافق قال ودلت الأحاديث الصحيحة أن الكافر لا يسال في قبره وفي البخاري وغيره من أحاديث أسماء رضي الله عنها.
وأما المنافق والمرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته وهذا يدل أن المسئول من وسم بالإسلام وإن كان كافراً فكلامه إذا إنما هو في الكافر المبرز بكفره والله أعلم، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيسأل الشهيد؟ فقال:«كفى ببارقة السيوف شا» أي شاهداً ولكنه أتى به على الترخيم رواه مسلم.
قال علماؤنا ولا سؤال إلا بعد حياة فقال إمام الحرمين المرضى عندنا أن السؤال يقع على أجزاء من القلب أو غيره يحييها الله تعالى، وقال الحليمي يحيا بجملته وهو مقتضى ما جاء في حديث البراء بن عازب من إعادة الروح إلى الجسد وكل جائز والله أعلم وكل ميت محله قبره فيسأل فيه. وقال الفهري على وقوع السؤال للصبيان لا بد من تكميل قلوبهم.
وقوله (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) يعني بالشهادة عند الموت وفي الآخرة عند السؤال من الملكين لأن القبر أول منزلة من منازل الآخرة والسؤال من الله عند المواجهة رزقنا الله ذلك في كل موقف بمنه وكرمه.
(وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك علم ربهم).
ي1/عني لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11]
***
الآية {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] فيكتبون حسن العمل وسيئه قيل ومباحه ثم يترك وما يؤخذ به من خواطره يعلم ذلك ريح يخرج من فيه وظاهر النصوص أن الكافر يكتب عليه الزيادة في الحجة وفي الحديث «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» قيل كاتبان بالليل وآخران بالنهار وهل يتجددان في كل يوم أم لا وأين يكونان إذا مات الإنسان قيل ومحلهما العانقان وقيل عند الشفتين والصواب في هذا كله الوقف لعدم القاطع عند المحققين والله أعلم.
وقوله: (ولا يسقط شيء من ذلك عن علم) ربهم يعين أن الكتب إنما هو لإظهار حكمته وإثبات رحمته وإلا فعلمه محيط بما كان من خلقه لا لتذكره ولا توثق إذ إنما يذكر من يجوز عليه الإغفال وإنما ينبه من يمكن منه الإهمال وكل ذلك عليه تعالى محال.
(وإن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه).
ملك الموت هو عزرائيل أحد أكابر الملائكة عليهم السلام وقد تقدم الكلام على حقيقة الملك وأنه مخلوق من نور وأعطي التشكل على ما يريد من الصور ليسوا بإناث ولا يقال فيهم ذكور ولا لهم آباء ولا أبناء ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يصح منهم الجهل بالله ولا بصفة من صفاته ولا حكم من أحكامه.
قال ابن العربي وقد أحياهم الله حياة واحدة ويميتهم ميتة واحدة ثم يحييهم بعد هذا فلهم حياتان وموته واحدة ومن عداهم لهم حياتان وموتتان وللآدمي أربعة حياة الميثاق وحياة التكليف وحياة القبر وحياة الحشر وقال الأشعري الموت صفة وجودية كالحياة لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] قال ولا يعرى جوهر عنها، وقال الإسفرائيني الموت بعد الحياة وتأول الخلق بالتقدير، وهو خلاف الظاهر، وقوله (الأرواح) يعني جميعها من آدمي وغيره لقوله تعالى {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وَكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] الآية وقد يعارض هذا بقوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] فيجاب بأن هذه إضافة حقيقية لمحققها وذلك إضافة فعل إلى مكتسب ومعنى بإذن ربه بأمره وحكمه.
(وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
يعني لقوله عليه السلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قيل ثم كذلك إلى آخر الدهر لقوله عليه السلام: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» .
وقيل لا لقوله: «ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» الحديث والقرن لغة الجيل من الناس قاله الجوهري وقيل هو عبارة عن جماعة من الناس مجتمعه في صفة واحدة أو مكان واحد أو زمان واحد وهو أخصه.
واختلف في حده فقيل مائة وعشرون سنة وقيل مائة وهو المتعارف ورجح بظواهر وأحاديث وقيل ثمانون وسبعون وستون وأربعون وثلاثون وعشرة وقيل منها إلى مائة وعشرين والمقصود أن أفضل القرون قرن الصحابة وهو من اجتمع بمحمد صلى الله عليه وسلم مؤمناً به قال أبو زرعة الرازي مات عليه السلام عن مائة ألف وأربعة عشر ألفاً كلهم رآه أو روى عنه ذكره ابن الأثير وابن القطان وغيرهما والقرن الثاني هم التابعون أعني الذين رأوهم وتابعوا التابعين بعدهم وسيأتي تمام الكلام في ذلك آخر الكتاب إن شاء الله فانظره.
(وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون الهادون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان علي رضي الله عنهم أجمعين).
الرواية هنا وأفضل أصحابه وفي رواية الصحابة الخلفاء وهم القائمون بأمر الأمة بعد موته عليه السلام وأولهم أبو بكر عبد الله بن عثمان أبو قحافة بويع له يوم وفاته صلى الله عليه وسلم بإجماع الصحابة وإن توقف بعضهم للتروي في النظر فقد لحق بهم في وقته فتم الإجماع على تقديمه وكذلك على تقديم عمر بعده رضي الله عنهما قال أبو منصور السمعاني أجمع أهل السنة على أفضلية أبو بكر على كل الصحابة قال ولا يعتد بخلاف الروافض وغيرهم ثم لا خلاف أن ليس بعد أبي بكر إلا عمر في الفضل والتحقيق أن الخلفاء
الأربع في الفضل على مراتبهم في الخلافة.
قال ابن رشد وهو المعمول به من قول مالك وفي المدونة أنه سئل من خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر ثم عمر ثم قال أو في ذلك شك قيل فعلي وعثمان قال ما أدركت أحداً يعتد به يفضل أحدهما على صاحبه ويرى الكف عن ذلك وعنه أدركت أهل العلم ببلدنا لا يفضلون أحداً من الصحابة على أحد ويقولون الكل فضلاء وعليه رواية العطف بالواو الجميع هنا فهي إذا ثلاثة أقوال كلها لمالك، وقال أبو بكر الباقلاني هم في الفضل سواء لأن فضلهم خارج عن الحصر والترجيح لا يكون إلا بالطعن والطعن ممنوع.
قال والمسألة اجتهادية فمن فضل باجتهاده من غير طعن فلا عتب عليه والخطأ لا يوجب الإثم لأنه ليس في أمر يلزم العمل به ولا هو من فرائض الدين والواجب إنما هو اعتقاد فضل الصحابة على جميع الأمم ثم العشرة أفضلهم ثم الأربعة وأهل بدر غيرهم دونهم فانظر ذلك وربما عبر بعضهم بقوله أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر واعترض بعيسى فقيل الصواب أن يقال أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر لأنه أفضل الأمة التي هي أفضل الأمم وعيسى عليه السلام وإن كان نزوله على حكم الأمة فدرجة النبوة في الفضل لا ترتفع عنه والله أعلم.
(وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب).
يعني أنه يجب تعظيم الصحابة وتوقيرهم والكف عن القدح فيهم لأن الله تعالى قد عظمهم فقال عز من قائل: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم:«الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» الحديث.
وقال أبو القاسم الحكيم اليهود والنصارى أحسن حالاً من الروافض وإن كانوا
مسلمين لأنه لو قيل ليهودي من أفضل الناس قال موسى فإذا قيل من أفضل الناس بعده قال نقباؤه ولو قيل للنصراني من أفضل الناس قال عيسى فإذا قيل له من بعده في الفضل قال حواريوه ولو قيل لرافضي من أفضل الناس قال محمد صلى الله عليه وسلم فإذا قيل له من شر الناس بعد موته قال أصحابه فقبح الله رأيهم فيما أنوا من ذلك فالواجب ذكرهم بكل جميل والإمساك عن كل ما يؤدي لخلافه وما وقع بين علي ومعاوية فعن اجتهاد ولكل أجر بما وقع منه ومذهب أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول وكل ما في ذلك من الخلافة للمعتزلة.
وقد قال بعضهم إن الصحابة عيون ودواء العين لا تمس ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسئل ميمون بن مهران عن أهل صفين فقال تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا تخضب بها ألسنتنا وكذا قال عمر بن عبد العزيز في شأن يزيد قال صاحب الأنوار وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تكفير يزيد ولا لعنه فإنه من جملة المؤمنين وأنه في المشيئة حتى قال الإمام حجة الإسلام يعني الغزالي وعلى الواعظ وغيره الكف عن رواية مقتل الحسين وما جرى بين الصحابة من التخاصم فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم.
وسئل الحسن عن حرب علي ومعاوية فقال شغلني عنه ذكر الهاوية وقد كفر قوم يزيد بمقالات رويت عنه وهو كذلك إن صحت والأمر في الحجاج مثله وقد جزم جماعة من العلماء بكفر الحجاج منهم القاضي أبو بكر بن العربي فسألت شيخنا أبا عبد الله القوري رحمه الله عن ذلك فقال لأنه كان يفضل الملك على النبوة وهذا إن صح لم يختلف في كفره والمقطوع به في شأنه وشأن يزيد أنهما ظالمان سخط الله عليهما أقرب من رحمته لهما ويعلق كفرهما على صحة ما نقل عنهما من الأقوال والأفعال الدالة عليه والله أعلم.
ومعنى شجر: اشتبه واختلط وظاهر كلام الشيخ التناقض إذ أمر بالإمساك أولاً ثم بحسن التأويل آخراً وأجيب بأن الأول حكم العوام والثاني حكم الطلبة ومن في معناهم والظاهر أن الإمساك هو الأصل فإن وقع الكلام فالحمل على الوجه الأحسن هو المطلوب والله أعلم.
(والطاعة لائمة المسلمين ولاة أمورهم وعلمائهم).
يعني من واجب أمور الديانات طاعة الأمراء فيما ليس بمعصية ولا يؤدي إلى
معصية من خروج ولا خلاف فقد قال عمر رضي الله عنه لسويد بن غفلة يا سويد بن غفلة لعلك لا تلقاني بعد اليوم عليك بالسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً مجدعاً إن شتمك فاصبر وإن ضربك فاصبر وإن أخذ مالك فاصبر وإن راودك عن دينك فقل طاعة مني دمي دون ديني ولا تخرج أبداً من طاعته انتهى.
وقد قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية وقد علم أن العلماء ورثة الأنبياء فوجب الرجوع إليهم وامتثال أمرهم إن كانوا ممن يصح الاقتداء بهم وهو كونهم من أهل العدالة مع علمهم والله أعلم.
(وأتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم).
السلف الصالح الصحابة ومن تبع طريقتهم من سلف الأمة والصالح من صلحت أقواله وأفعاله وأحواله فلم يمكن وجه الرد عليه ولا معنى للطعن فيه فيجب اتباع طريقتهم واقتفاؤهم يعني موافقتهم في علمهم حتى كأنه يمشي خلف قفاهم من غير حيدة ولا خروج عن هديهم القويم وسبيلهم المستقيم وآثارهم ما دل على أمرهم وشأنهم وإنما يستغفر لهم لما لهم من الحق فيما قاموا به من أمر الشريعة إذ أصلوا وحصلوا وفصلوا وجمعوا ووصلوا ونصحوا الأمة بما فعلوا فما من الأمة واحد إلا ولهم عليه منة في دينه بل وفي دنياه بحسب ما وصل إليه من ذلك والله أعلم وسيأتي في هذا مزيد آخر الكتاب إن شاء الله.
(وترك المراء والجدال في الدين).
يعني من واجب أمور الديانات ترك المراء والمراء قوة الجدال والجدال المنازعة وقد جاء النهي عنه في أمر الدين لأنه لا يزيد إلا شراً إلا أن تلجئ الضرورة إليه مع الاقتدار على النصرة أو لتذكر العلم بحسن الخلق وقد قسم العلماء الجدال إلى أقسام الشريعة وحمل القاضي عبد الوهاب كلام الشيخ على ترك الكلام مع أهل الأهواء ومنازعتهم لأنه في الغالب ضرر ولا نفع فيه إلا للنادر في النادر والنادر لا حكم له وقد جاء في الحديث «من ترك المرء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة» فانظر ذلك.
(وترك كل ما أحدثه المحدثون إلخ).
يعني في أمر الدين لقوله عليه السلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد» قال علماؤنا فالبدعة إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس به وهذا على قول من يرى أن البدع لا تدخل في العادات وإلا فقوله في الدين زيادة والأول أصح وقد قسم عز الدين بن عبد السلام البدع إلى أقسام الشريعة اعتباراً بمطلق الأحاديث.
وقال المحققون: إنما تدور بين محرم ومكروه لقوله عليه السلام: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ولا يصح أن يكون المباح ونحوه ضلالة ثم البدع ثلاثة أنواع بدع صريحة وهي التي ترفع ما كان مشروعاً أو تزاحمه وبدع إضافية وهي ما أضيف إلى ثابت شرعاً بإدخال كيفية ليست منه وبدع خلافية وهي التي تتجاذبها الأصول فيتبع كل إمام أصله فيها وتفصيل ذلك يطول وقد ألف الناس في ذلك طويلاً وعريضاً فممن ألف الطرطوشي وما أوعب ابن الحاجب في مدخله والشيخ أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الحوادث والبدع وابن فرحون وغيره من المتأخرين.
وقد فتح الله في ذلك بتأليف فيه مائة فصل دار جله على أمر الصوفية لكثرة البدع من المدعين في طريقهم المبني على الكتاب والسنة أولاً تحريف الظالمين والله بصير بما يعملون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
خاتمة:
قد جمعت هذه العقيدة نحواً من مائة مسألة من مسائل الاعتقاد وأتى بها الشيخ مسلمة من غير برهان اكتفاء بالمعاني على الاصطلاح ولأن إيمان المقلد عنده صحيح وهو مذهب جماعة من الأئمة وادعى بعضهم الإجماع عليه وبعضهم الإجماع على عكسه وعلى صحة أئمة المذاهب الأربع الثوري والأوزاعي وكافة أهل الظاهر وكثير من المتكلمين خلافاً لأكثرهم والمعتزلة إن لم يكن مع احتمال شك أو وهم وإلا فليس بصحيح لأن التقليد أخذ قول الغير بغير حجة فإن كان مع الجزم ففيه الخلاف وإلا فباطل واختلف مع الصحة في تأثيره بترك النظر مع القدرة عليه.
وقال شيخنا أبو عبد الله السنوسي رحمه الله هو كمال وإن لم يكن واجباً إجماعاً فلا ينبغي تركه بغير عذر وتقدم التنبيه عليه أول الكتاب وإن مأخذ العقائد وجريها على ترتيب سورة الأنعام فلذلك كان أولها خلق السموات والأرض وآخرها عقد
الإمامة وفضل الصحابة لقوله تعالى في خاتمتها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] وهذا جملة الأمر ومداره وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.