الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الاعتكاف
يعين ذكر حكمه وبعض فروعه وسيأتي تعريفه.
(والاعتكاف من نوافل الخير).
يعني من القرب المرغب فيها وقيل هو من الأمور الجائزة قال في العارضة هو سنة لا يقال فيه مباح وقول أصحابنا في كتبهم جائز جهل وفي الكافي هو في رمضان سنة وفي غيره جائز وأخذ ابن رشد كراهته من رواية ابن نافع ما رأيت صحابيا اعتكف وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قبض وهو أشد الناس اتباعا فلم أزل أفكر حتى أجد في نفسي
أنهم تركوه لشدته لأن ليله ونهاره سواء كالوصال المنهي عنه مع وصاله صلى الله عليه وسلم.
(والعكوف الملازمة).
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97]{لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] إلى غير ذلك هذه حقيقته اللغوية.
فأما الشرعية فقال ابن بشير لزوم العبادة المختصة بالإنسان في الأماكن المختصة بالعبادة.
وقال ابن الحاجب لزوم المسلم المميز المسجد للعبادة صائما كافا عن الجماع ومقدماته يوما فما فوقه بالنية وقال (ع) لزوم مسجد مباح لقربة قاصرة بصوم مقدور على دوامه يوما وليلة سوى وقت خروجه لجمعة أو لمعينه الممنوع فيه انتهى فانظره.
وعرفه غيره بقوله لزوم المميز المسجد مدة أقلها يوم وليلة بصيام وصلاة وذكر وتلاوة فقط فتأمله.
(ولا اعتكاف إلا بصيام ولا يكون إلا متتابعا ولا يكون إلا في المساجد كما قال الله سبحانه فإن كان بلد فيه الجمعة فلا يكون في الجامع إلا أن ينذر أياما لا تأخذه فيها الجمعة).
هذه شروط صحته فأما الصيام فشرط فيه ولا يلزم كونه له ولو كان نذرا أو غيره على المشهور وأما التتابع فإذا عزم أو نذر أياما لزم تتابعها لأنه العرف بخلاف الصوم وأما أنه لا يكون إلا في المساجد فعلى المشهور خلافا لابن لبابة، وهو القائل بعدم لزوم الصيام فيه، وقول الله عز وجل هو قوله:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ولا يلزم الجامع إلا لمن قصد أيام تأتي عليه فيها الجمعة فيلزم الجامع فإن ابتدأه في مسجد غيره خرج لها على المشهور ثم كمل فيه ولا يرجع للأول وثالثها مخير.
(وأقل ما هو أحب إلينا من الاعتكاف عشرة أيام).
وقال ابن حبيب هذا أكثره وأقله يوم وليلة وعلى الأول فأكثره شهر ابن رشد ويكره ما زاد على الشهر قال وقول مالك مرة أقل الاعتكاف يوم وليلة ومرة عشرة أقل مستحبة لا واجبة ولابن وهب وأبي غمر أقله ثلاثة أيام ويلزم أقل الاعتكاف في ابتدائه مع النية لا بمجردها قاله عبد الملك ولابن العربي ما يقتضي اللزوم بمجردها وظاهر كلام الشيخ أنه لا حد لأكثره وقيده اللخمي بما إذا لم يخرج لحد التبتل المنهي عنه.
(ومن نذر اعتكاف فأكثر لزمه وإن نذر ليلة لزمه يوم وليلة).
ابن حارث من نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة اتفاقا وحكى غيره في ذلك اختلافا وظاهر ما هنا أنه لا يلزمه والمعروف خلافه وما ذكر في نذر اعتكاف ليلة هو
مذهب المدونة.
وقال سحنون: لا يلزمه شيء وصوبه اللخمي لأنه كمن نذر صلاة ركعة فانظره.
(ومن أفطر فيه متعمدا فليبتدئ اعتكافه وكذلك من جامع فيه ليلا أو نهار متعمدا أو ناسيا).
يعني أن الاعتكاف يبطل بموجب الكفارة في الصوم نهارا وبوقوع المعصية غيرها ليلا ونهارا وظاهر كلام الشيخ التفريق بين الناسي والعامد فيما ذكر فيه ذلك والمشهور استواء العمد والنسيان في ذلك وفروع المسألة كثيرة غير مهمة لقلة العمل به فانظرها إن شئت.
(وإن مرض خرج إلى بيته فإذا صح بنى على ما تقدم وكذلك إن حاضت المعتكفة وحرمة الاعتكاف عليهما في المرض وعلى الحائض في الحيض فإذا طهرت الحائض أو أفاق المريض في ليل أو نهار رجعا ساعتئذ إلى المسجد ولا يخرج المعتكف من معتكفه إلا لحاجة الإنسان).
أما خروجه للمرض والحيض ونحوه فللضرورة وذلك لا يسقط حرمته ولا يجب معه التزامه بل يخرج وحرمة الاعتكاف عليه بترك ما يجب تركه وفعل ما يقدر عليه من شأنه وكذا جميع ما يخرج إليه إنما يكون بحرمة اعتكافه وجملة ذلك خمسة نظمها الغافقي فقال:
وما له إذا نوى أن يبرحا
…
إلا بخمسة لها قد سرحا
منها هديت حاجة الإنسان
…
والحيض والنفاس للنسوان
ونازل من حدث أو من مرض
…
وسعيه في قوته لا يعترض
قالوا: فيخرج لمرض أبويه أو تمريضهما أو تجهيزهما إن لم يكن أحد لا لجنازتهما أو لغسل ثوبه النجس وله الجلوس عنده حتى يجف إلى غير ذلك وسيأتي بعض ذلك إن شاء الله تعالى.
(وليدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يبتدئ فيها اعتكافه).
لا خلاف أن دخوله المعتكف أول ليلة ابتدائه به مطلوب وهل وجوبا فإن لم يفعل لم يعتد بذلك اليوم وهو قول سحنون أو استحبابا وهو قول البغداديين من أصحابنا قال بعضهم وتحصيل القول فيه أن دخوله إن كان قبل الغروب أجزأ اتفاقا ومع طلوع الشمس لم يجز اتفاقا وفي دخوله قبل الفجر قولان أصحهما الإجزاء وإن دخل مع الفجر فقولان أصحهما البطلان لفوت نية الصوم منه وبالصحة. قال اللخمي فانظره.
(ولا يعود مريضا ولا يصلي على جنازة ولا يخرج لتجارة).
أما لا يعود مريضا فلأنه يؤدي إلى الخروج من المسجد وأما الجنازة ففي المدونة لا يصلي عليها ولو اتصلت بالصفوف إليه.
وفي المعونة جوازها بالمسجد وفي الجلاب لا بأس أن يكتب في المسجد ويقرأ عليه القرآن بموضعه.
ابن العربي ما يجوز بالمسجد يجوز له من علم وتدريس وإنما الخلاف فيما بخارجه وفي جواز إمامته قولان لمطرف وسحنون وفي أذانه بسطح المسجد وعند بابه من داخله اختلاف وأصل الكل هل عمل المعتكف سائغ في جميع أعمال البر أو مقصور على
الصلاة والصوم والذكر والدعاء والتلاوة فقط والتعميم لابن وهب والتخصيص هو المشهور والله أعلم.
(ولا شرط في الاعتكاف ولا بأس أن يكون إمام المسجد وله أن يتزوج ويعقد نكاح غيره).
معنى الشرط في الاعتكاف أن ينوي فعل أمر مناف له في أثنائه عند عزمه عليه، قال في المدونة: وليس للمعتكف أن يشترط ف يالاعتكاف أمرا يغير سنته وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمين سنة الاعتكاف قيل لابن شهاب فإن اشترط المعتكف أن يطلع لقريته اليوم واليومين؟ قال شرك المعتكف في السنة التي مضت قال مالك وإن سافر أو عاد مريضا أو شهد جنازة ابتدأ اعتكافه ولم ينفعه شرطه وليقبل إذا اعتكف على شأنه ابن يونس حكى لنا عن ابن القصار أنه إن اشترط في الاعتكاف ما لا يجوز له لم يلزمه شيء عبد الوهاب وأجاز الشافعي الشرط في الاعتكاف والله أعلم.
وقوله (ولا بأس أن يكون إمام المسجد) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الإمامة باعتكافه ولا استخلف أيامه عياض وحكى ابن وضاح عن سحنون ولا يؤم في فرض ولا نفل وعلى الجواز فقال عبد الحق لا يجمع بهم ليلة المطر قال غيره ويستخلف من يصلي بهم على الجنازة وأما إباحة التزوج والتزويج له دون الحاج فلأنه غير ممنوع بالمسجد مع عدم الطول والحج مخالف له فيهما والله أعلم.
(ومن اعتكف أول الشهر أو وسطه خرج من اعتكافه بعد غروب الشمس من آخره وإن اعتكف بما يتصل فيه اعتكافه بيوم الفطر فليبت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى).
في الجواهر خروجه بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيام اعتكافه جائز إلا إذا اعتكف العشر الأواخر من رمضان فإنه يؤمر ببقائه حتى يخرج إلى العيد وروى
سحنون عن ابن القاسم أنه يخرج ليلة الفطر وعلى القول بعدم الخروج فقال عبد الملك بقاؤه واجب وقال عبد الوهاب مندوب وفائدة الخلاف تظهر في مسائل الاعتكاف التي منها أنه لو خرج ليلة الفطر هل يبطل اعتكافه أو لا والله أعلم.
خاتمة:
قال ابن حبيب أفضل الاعتكاف ما كان في العشر الأواخر من رمضان لالتماس ليلة القدر وفي الموطأ التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة وفي المدونة التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين والخامسة ليلة خمس وعشرين.
ابن رشد المذهب أنها تنتقل كانتقالها في العشر الوسط ليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وفي أوتار العشر الأواخر، ابن عبد البر قول مالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور أنها تنتقل في العشر الأواخر (خ) وانتقلت وهل في السنة أو في الشهر خلاف (ع) فيها تسعة عشر قولا أحدها أنها مبهمة في كل سنة الثاني: أنها مبهمة في كل الشهر.
وقاله ابن عمر وجماعة من الصحابة الثالث أنها مبهمة في العشر الوسط أو الأواخر الرابع: أنها مبهمة في الأخرى، الخامس: من رواية المدونة مع ابن حبيب والموطأ الذي تقدم، السادس: انتقالها في أشفاع الأواخر وحكاه ابن العربي عن الأنصار السابع نقل ابن رشد عن المذهب انتقالها وقد تقدم، الثامن: نقله عن ابن حبيب يتحرى جميع لياليها، التاسع: ليلة إحدى وعشرين ورجحه الشافعي كالثالث والعشرين، العاشر: أنها ليلة سبعة وعشرين. الحادي عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين. الثاني عشر: أنها ليلة سبع عشرة.
قاله ابن الزبير ومال إليه جماعة: الثالث عشر لعلي وابن مسعود رضي الله عنهما ليلة سبع وعشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين. الرابع عشر: ليلة التاسع عشر. الخامس عشر: أنها رفعت فانظر ذلك.
والتحقيق أن الله أخفاها كالوسطى في الصلوات ووليه في المؤمنين والحسنة الموجبة والسيئة الموجبة وساعة الجمعة ومن ملح ما وقع في ذلك أن القاضي أبا بكر بن العربي يقول تكون في النصف الأخير من رمضان ليلة الجمعة فإذا دخل الشهر بالأحد
كانت ليلة سبع وعشرين وإذا دخل بالاثنين فهي ليلة تسعة عشرة، وإذا كان بالثلاثاء كانت ليلة خمس وعشرين وإذا كان بالأربعاء كانت ليلة سبعة عشر، وإذا كان بالخميس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وإذا كان بالجمعة كانت ليلة تسع وعشرين وإذا كان بالسبت كانت ليلة إحدى وعشرين كذا وجدته عنه ولم أقف عليه في كتبه.
وسمع الشيخ أبا عبد الله القوري يحكيه غير مرة ومن عجيب الاستنباط فيها أن قوله تعالى في سورة القدر (هي) وقع سابع وعشرين كلمة فكأنها تعيين لها وكذا ما يذكر عن بعض الطلبة أنه قال ليلة القدر تسعة أحرف، وقد تكرر هذا الاسم في السورة ثلاثا فيضرب في عدد الحروف يكون سبعا وعشرين فتكون هي واحتج لها بعض الناس بإجماع أهل المغرب الأقصى على ذلك وليس بحجة وجرى ابن عباس رضي الله عنه في ذلك بوجوه كثيرة وكل ذلك ايتئناس لا تقوم به حجة.
وما ذكره بعض المتصوفة من أن التضعيف يؤدي إليها بأن اليوم الأول بعشر والثاني بضعفه ثم كذلك حتى يكون الثالث عشر أكثر من ألف شهر وما بعده أكثر منه وعلى هذا فتكون متعددة وهو بعيد لا سلف فيه ولا سنة فيلغى ولا يعتبر به والله أعلم.
والحق أن الله أخفاها عن خلقه ليحرص الناس على قيام الليل قيل لبعضهم بم تعرف ليلة القدر قال: إن أردتها فلا يفوتنك القيام في ليلة من السنة فإنك تدركها في ضرورة وكذا قال بعضهم: إن أردت إدراك الصلاة الوسطى فحافظ على كل الصلوات فإنها فيها ضرورة وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن أبي جمرة ولا يعرف القيام عند السلف إلا بعد نوم فهو أفضل وحكى غيره اختلافا في هذا هل الأفضل في طلبها قيام الليل كله أو بعضه.
قال هو رحمه الله والأفضل قيامها بورده عليه السلام الاثنتي عشرة ركعة إذ لم يخالفها قط ولا يأخذ في نفسه الكريمة إلا بما هو الأفضل وذكر أن ثوابها يجري في الجزاء على حسبها لقول ابن المسيب رضي الله عنه من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر قال هذا بما لا يقول التابعي برأيه والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» رواه أصحاب السنن الخمسة إلا أبا داود وصححه الترمذي والحاكم وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطاة عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يفرغ الرحمة فيها أفراغا أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلتا العيد قلت: فهي مظنة لها وقد نص أهل المذهب على استحباب إحياء ليلتلي العيد والتوفيق بيد الله وهو المرجو للعفو عنا وإصلاح أحوالنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.