المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(38) - (1449) - باب ما يكون من الفتن - شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌تَتِمَّة كتاب الدّعاء

- ‌(1) - (1412) - بَابُ الْجَوَامِعِ مِنَ الدُّعَاءِ

- ‌(2) - (1413) - بَابُ الدُّعَاءِ بِالْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ

- ‌(3) - (1414) - بَابٌ: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ .. فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ

- ‌(4) - (1415) - بَابٌ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ

- ‌(5) - (1416) - بَابٌ: لَا يَقُولُ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ؛ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ

- ‌(6) - (1417) - بَابُ اسْمِ اللهِ الْأَعْظَمِ

- ‌(7) - (1418) - بَابُ أَسْمَاءِ اللهِ عز وجل

- ‌(8) - (1419) - بَابُ دَعْوَةِ الْوَالِدِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

- ‌(9) - (1420) - بَابُ كَرَاهِيَةِ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ

- ‌(10) - (1421) - بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ

- ‌(11) - (1422) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى

- ‌(12) - (1423) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ

- ‌(13) - (1424) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ إِذَا انْتَبَهَ مِنَ اللَّيْلِ

- ‌(14) - (1425) - بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ

- ‌(15) - (1426) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ

- ‌(16) - (1427) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ

- ‌(17) - (1428) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ إِذَا سَافَرَ

- ‌(18) - (1429) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى السَّحَابَ وَالْمَطَرَ

- ‌(19) - (1430) - بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ إِذَا نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ

- ‌تذييل لهذا الحديث

- ‌كِتَابُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا

- ‌(20) - (1431) - بَابٌ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ

- ‌(21) - (1432) - بَابُ رُؤْيَةِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ

- ‌(22) - (1433) - بَابٌ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ

- ‌(23) - (1434) - بَابُ مَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُهَا

- ‌(24) - (1435) - بَابٌ: مَنْ لَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِهِ .. فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ

- ‌(25) - (1436) - بَابُ الرُّؤْيَا إِذَا عُبِرَتْ .. وَقَعَتْ؛ فَلَا يَقُصُّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ

- ‌(26) - (1437) - بَابٌ: عَلَامَ تُعْبَرُ بِهِ الرُّؤْيَا

- ‌(27) - (1438) - بَابُ مَنْ تَحَلَّمَ حُلُمًا كَاذَبًا

- ‌(28) - (1439) - بَابٌ: أَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا .. أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا

- ‌(29) - (1440) - بَابُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا

- ‌كتاب الفتن

- ‌(30) - (1441) - بَابُ الْكَفِّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ

- ‌(31) - (1442) - بَابُ حُرْمَةِ دَمِ الْمُؤْمِنِ وَمَالِهِ

- ‌(32) - (1443) - بَابُ النَّهْيِ عَنِ النُّهْبَةِ

- ‌(33) - (1444) - بَابٌ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كفْرٌ

- ‌(34) - (1445) - بَابٌ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

- ‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌(35) - (1446) - بَابٌ: الْمُسْلِمُونَ فِي ذِمَّةِ اللهِ عز وجل

- ‌(36) - (1447) - بَابُ الْعَصَبِيَّةِ

- ‌(37) - (1448) - بَابُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ

- ‌(38) - (1449) - بَابُ مَا يَكُونُ مِنَ الْفِتَنِ

- ‌(39) - (1450) - بَابُ التَّثَبُّتِ فِي الْفِتْنَةِ

- ‌(40) - (1451) - بَابُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا

الفصل: ‌(38) - (1449) - باب ما يكون من الفتن

(38) - (1449) - بَابُ مَا يَكُونُ مِنَ الْفِتَنِ

(108)

- 3895 - (1) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ رَجَاءٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ،

===

(38)

- (1449) - (باب ما يكون من الفتن)

(108)

- 3895 - (1)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).

(وعلي بن محمد) بن إسحاق الطنافسي الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثلاث، وقيل: خمس وثلاثين ومئتين. يروي عنه: (ق).

كلاهما (قالا: حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن) سليمان (الأعمش) الكاهلي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن رجاء الأنصاري) الكوفي، لم أر من ذكر نسبه. روى عن: عبد الله بن شداد بن الهاد، ويروي عنه: الأعمش، مقبول، من السادسة. يروي عنه:(د ق).

(عن عبد الله بن شداد بن الهاد) واسمه أسامة الليثي أبي الوليد المدني، وثقه النسائي وابن سعد، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي من كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولًا سنة إحدى وثمانين (81 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).

ص: 325

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا صَلَاةً فَأَطَالَ فِيهَا؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ .. قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَطَلْتَ الْيَوْمَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: "إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ؛ سَأَلْتُ اللهَ عز وجل لِأُمَّتِي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَرَدَّ عَلَيَّ وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا،

===

(عن معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي الصحابي المشهور من أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنه، شهد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، مات بالشام سنة ثماني عشرة (18 هـ). يروي عنه:(ع).

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) معاذ: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) من الأيام (صلاة) من النوافل أحسن فيها الركوع والسجود والقيام (فأطال) القراءة (فيها) أي: في تلك الصلاة (فلما انصرف) وفرغ منها .. (قلنا) معاشر الحاضرين (أو قالوا) أي: قال الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم، والشك من الراوي:(يا رسول الله؛ أطلت اليوم الصلاة) على غير عادتك فلِمَ طولتها؟ فـ (قال) لنا في جواب سؤالنا: (إني) إنما طولتها هذا التطويل البالغ النهاية لأني (صليت) أي: لأني صليت (صلاة رغبة) أي: صلاة دعوت فيها راغبًا في إجابة دعوتي (و) صليت صلاة (رهبة) أي: صلاةً راهبًا فيها من رد دعوتي علي؛ إني (سألت الله عز وجل فيها (لأمتي ثلاثًا) من الخصال (فأعطاني) أي: أجابني (اثنتين) أي: دعوتين منها (ورد علي واحدة) من تلك الخصال الثلاثة.

(سألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم) أي: من فرق الكفرة؛ والمراد: ألا يسلط عليهم بحيث يستأصلهم (فأعطانيها) أي: فأجابني عليها

ص: 326

وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ غَرَقًا فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَرَدَّهَا عَلَيَّ".

(109)

- 3896 - (2) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ،

===

(وسألته ألا يهلكهم غرقًا) - بفتحتين - بأن يعمهم بالغرق (فأعطانيها) أي: فأجابني عليها (وسألته ألا يجعل بأسهم) أي: محاربتهم (بينهم، فردها) أي: رد هذه الدعوة (علي) فلم يجبني، وفيه أن الاستجابة بإعطاء عين المدعو له ليست كلية، بل قد تتخلف مع تحقق شرائط الدعاء.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، فدرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.

* * *

ثم استشهد لحديث معاذ بحديث ثوبان رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(109)

- 3896 - (2)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي، صدوق، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ) على الصحيح. يروي عنه:(خ عم).

(حدثنا محمد بن شعيب بن شابور) - بالمعجمة والموحدة - الأموي مولاهم الدمشقي نزيل بيروت، صدوق صحيح الكتاب، من كبار التاسعة، مات سنة مئتين (200 هـ)، وله أربع وثمانون سنة. يروي عنه:(عم).

(حدثنا سعيد بن بشير) - مكبرًا - الأزدي مولاهم، أبو عبد الرحمن الشامي، أصله من البصرة أو واسط، ضعيف، من الثامنة، مات سنة ثمان أو تسع وستين ومئة (169 هـ). يروي عنه:(عم). انتهى من "التقريب"، وفي "التهذيب": روى عن: قتادة، والزهري، وعمرو بن دينار، ويروي عنه:

ص: 327

عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

===

محمد بن شعيب بن شابور، وقال مروان بن محمد: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا سعيد بن بشير وكان حافظًا، وقال عثمان الدارمي: سمعت دحيمًا يوثقه، وقال أبو زرعة: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم عن قول من أدرك فيه، فقال: كانوا يوثقونه، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: محله الصدق عندنا. انتهى منه؛ فتحصل لنا مما ذكرنا أنه مختلف فيه، إلا أن هذا الاختلاف لا يقدح في السند.

(عن قتادة) بن دعامة السدوسي، ثقة، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومئة. يروي عنه:(ع).

(أنه) أي: أن قتادة (حدثهم) أي: حدث لسعيد بن بشير ومن معه.

(عن أبي قلابة الجرمي عبد الله بن زيد) بن عمرو البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، من الثالثة، مات بالشام هاربًا من القضاء سنة مئة وأربع (104 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).

(عن أبي أسماء الرحبي) - بفتح المهملتين - نسبة إلى رحبة دمشق؛ قرية بينها وبين دمشق ميل، عمرو بن مَرْثَدٍ الدمشقي، ويقال: اسمه عبد الله، ثقة، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك. يروي عنه:(م عم).

(عن) أبي عبد الله (ثوبان) بن بجدد الهاشمي (مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه رضي الله تعالى عنه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (54 هـ) يروي عنه: (م عم).

وهذا السند من سباعياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه سعيد بن بشير، وهو مختلف فيه، ولكن الحديث صحيح؛ لأنه شاركه فيه مسلم؛ كما سيأتي.

ص: 328

أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَصْفَرَ، أَوِ الْأَحْمَرَ

===

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: زويت) - بالبناء للمفعول - من زوى؛ من باب رمى؛ أي: جمعت (لي الأرض) وضم بعضها إلى بعض وطويت؛ والمراد من الأرض: ما سيبلغها ملك أمته لا كلها، يدل عليه ما بعده.

ويحتمل أن يكون المراد: زيها حقيقةً، ويحتمل أن المراد به: إدراكها، فيكون مجازًا؛ فإنه لما أدرك جميعها .. صار كأنها جمعت له حتى رآها.

(حتى رأيت مشارقها ومغاربها) أي: البلاد المشرقة والبلاد المغربة منها؛ أي: طويت لي الأرض كلها؛ مشارقها ومغاربها حتى كان أبعدها أقرب إلي من أقربها، قال التوربشتي: يقال: زويت الشيء: جمعته وقبضته؛ يريد: تقريب البعيد منها إليه حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب منها؛ كهيئة مرآة في كف ناظرها، فلذا قال: فرأيت مشارقها ومغاربها؛ أي: جميعها. انتهى من "المرقاة"(11/ 50). انتهى من "الكوكب".

قال النووي: فيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتدادها في جهتي المشرق والمغرب، وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال .. فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. انتهى.

أي: زوى الله لي الأرض مشارقها ومغاربها.

(وأعطيت) أي: بالبناء للمفعول؛ أي: وأعطاني الله عز وجل (الكنزين) اللذين أعطيتهما الأمم من قبلي (الأصفر) بالنصب بدل من الكنزين، بدل تفصيل من مجمل.

(أو) قال النبي صلى الله عليه وسلم أو الراوي: (الأحمر) بدل (الأصفر)

ص: 329

وَالْأَبْيَضَ - يَعْنِي: الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ - وَقِيلَ لِي: إِنَّ مُلْكَكَ إِلَى حَيْثُ زُوِيَ لَكَ،

===

يعني بهما على كلا الروايتين: الذهب؛ كما سيفسره، والشك من الراوي أو ممن دونه، وقوله:(والأبيض) أي: الفضة؛ معطوف على (الأصفر).

(يعني) النبي صلى الله عليه وسلم بالأصفر أو الأحمر: (الذهب، و) بالأبيض: (الفضة) والعناية تفسير من بعض الرواة.

وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح الخزائن المفتوحة على الأمم الماضية، قال النووي: المراد بالكنزين: الذهب والفضة؛ والمراد: كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام، وفي "النهاية": فالأحمر ملك الشام، والأبيض ملك فارس.

وإنما قال لفارس: (الأبيض) لبياض ألوانهم، ولأن الغالب على أموالهم الفضة؛ كما أن الغالب على ألوان أهل الشام (الحمرة) وعلى أموالهم الذهب. انتهى من "العون".

(وقيل لي) أي: قال لي ربي: (إن ملكك) يصل (إلى حيث) ومكان (زوي) - بالبناء للمفعول - أي: طوي وكشف (لك) من الأرض من مشارقها ومغاربها، وقد ظهر ذلك، ووجد كذلك في زمان الفتوح في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه؛ فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده. انتهى من "المفهم".

وقوله: "إلى حيث زوي لك" وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه؛ كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه، ويحتمل أن يكون مثلها الله له فرآها، والأولى أولى.

ص: 330

وَإِنِّي سَأَلْتُ اللهَ عز وجل ثَلَاثًا: أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي جُوعًا فَيُهْلِكَهُمْ بِهِ عَامَّةَّ، وَأَلَّا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَإِنَّهُ قِيلَ لِي:

===

وهذا الخبرُ قد وَقَع مُخْبَرهُ كما قال صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من دلائلِ نبوته؛ وذلك أنَّ مُلْكَ أمته اتَّسع إلى أن بلغ أقصَى بَحْرِ طَنْجَةَ الذي هو منتهى عِمارة المغرب إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهرِ وكثيرٍ من بلاد الهندِ والسندِ والصُّغْد، ولم يَتَّسِع ذلك الاتساع مِن جهةِ الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه أُرِيَهُ، ولا أُخْبِرَ أن ملك أمته يبلغه. انتهى من "المفهم".

(وإني سألت الله عز وجل لأمتي؛ كما هو مصرح به في رواية مسلم: (ثلاثًا) من الخصال؛ أحدها: (ألا يسلط على أمتي جوعًا) وقحطًا (فيهلكهم به) أي: بذلك الجوع (عامة) أي: حالة كون ذلك الجوع سنةً عامةً؛ أي: شاملةً لكل الأمة؛ أي: عامة لجميع بلدان المسلمين في وقت واحد، وهكذا وقع، فلم يصب المسلمين قحط عام حتى الآن، بل إذا وقع بأرض .. اقتصر بها ولم يعم بلاد المسلمين قاطبةً، قال القرطبي: أراد بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك.

ويسمى الجدب والقحط: سنةً، ويجمع على سنين؛ كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (1)؛ أي: بالجدب المتوالي.

وثانيها: ما ذكره بقوله: (و) سألته أيضًا: (ألا يلبسهم) أي: ألا يلبس أمتي ويخلطهم ويجعلهم (شيعًا) أي: فرقًا مختلفة المذاهب والعقائد (ويذيق) الله (بعضهم بأس بعض) آخر؛ أي: ضررَهُ بالمحاربة؛ أي: سألته ألا يجمعهم متحاربين فيما بينهم (وإنه) لم يجب لي ذلك؛ لأنه (قيل لي) أي: لأن

(1) سورة الأعراف: (130).

ص: 331

إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً .. فَلَا مَرَدَّ لَهُ، وَإنِّي لَنْ أُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِكَ جُوعًا فَيُهْلِكَهُمْ فِيه، وَلَنْ أَجْمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يُفْنِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

===

ربي قال لي في ذلك: يا محمد (إذا قضيت قضاءً) في أمتك بالمخالفة والمحاربة فيما بينهم .. (فلا مردَّ له) أي: لا راد لذلك القضاء ولا محالة من وقوعه (و) لكن استجيب لي السؤال الأول؛ حيث قال لي ربي: (إني لن أسلط على أمتك جوعًا فيهلكهم) الله تعالى (فيه) أي: بسبب ذلك الجوع ويستأصلهم، ولفظ:(في) بمعنى الباء السببية.

وترك المؤلف السؤال الثالث، وذكره في مسلم بقوله:(و) سألته: (ألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم) الجار والمجرور صفة (عدوًّا) أي: عدوًّا كائنًا من غير أنفسهم.

وإنما قيده بهذا القيد؛ لما ذكر في حديث سعد المذكور في "مسلم": أنه صلى الله عليه وسلم كان قد دعا الله تعالى ألا يجعل بأس أمته فيما بينهم، فمُنع من ذلك فلم يستجب له، وكما ذكره المؤلف آنفًا بقوله:(وإنه قيل لي: إذا قضيت قضاءً .. فلا مَردَّ له)، وذكر المؤلف إجابة هذا الثالث بقوله:(ولن أجمع عليهم) أي: على أمتك أعداءهم (من بين أقطارها) أي: من بين أقطار الأرض ونواحيها فيستبيحَ ذلك العدوُّ بَيْضَتَهم وجماعتَهم، قال القرطبي: وبيضةُ المسلمين: معظمهم وجماعتهم ودولتهم.

والمعنى: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح ذلك العدو ويأخُذَ جميعَ ما حازُوهُ من البلاد والأرض، ولو اجتمع وتوافق عليهم - أي: على أمتك - كل من في أقطار الأرض وجوانبها من أعدائهم.

وقوله: (حتى يُفْنِي) - بضم الياء - من الإِفناء؛ أي: حتى يعدم ويهلك (بعضهم) أي: بعض أمتك (بعضًا) آخر منهم؛ غاية لقوله: (ولن أجمع

ص: 332

وَيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،

===

عليهم) أي: ولن أجمع على استئصال أمتك مَن سِواهم من الأعداء، حتى يُفْنِي ويُهلِك بعضُ أمتك بعضًا آخر منهم.

وقوله: (و) حتى (يقتل بعضهم) أي: بعض أمتك (بعضًا) آخر منهم عطف تفسير لقوله: (حتى يفني بعضهم بعضًا) والمعنى: لَنْ أُسلِّط على أمتك عدوًا مِن سواهم، ولكن يتعَادى بعضُهم بعضًا، فيتَقَاتَلُون فيما بينهم؛ لكونهم شِيَعًا متفرقةً.

وفي رواية مسلم زيادة: (و) حتى (يسبي بعضهم) أي: بعض المسلمين ويأسر (بعضًا) آخر منهم.

وهذه الجملة - أعني: جملة الغاية - تحتمل معنيين؛ الأول: أن يكون الضمير في (بعضهم) عائدًا على المسلمين؛ والمعنى حينئذ: أن أعداء المسلمين لا يستطيعون أن يستبيحوا بيضتهم، ولكن قد يكون المسلمون أنفسهم يتقاتلون فيما بينهم فيهلك بعضهم بعضًا ويأسر بعضهم، وبهذا التفسير جزم الطيبي.

والاحتمال الثاني: أن يكون الضمير في قوله: (بعضهم) عائدًا على أعداء المسلمين؛ فيكون المراد: أنهم كلما اجتمعوا لاستئصال المسلمين .. لم يتمكنوا من ذلك حتى تصير عاقبتهم إلى المقاتلة فيما بينهم، ويهلك بعضهم بعضًا

إلى آخره.

فظاهرُ (حتى) الغايةُ، فيقتضي ظاهرُ الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسَبي بعضهم لبعض.

وحاصل هذا: أنه إذا كان ذلك من المسلمين .. تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضم ببعض عن جهاد العدو، فقويت شوكة العدو، واستولى عليهم؛ كما شاهدناه في أزماننا هذه في المشرق والمغرب؛ وذلك أنه لما اختلف ملوك

ص: 333

وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي .. فَلَنْ يُرْفَعَ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة، وَإِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي أَئِمَّةً مُضِلِّينَ، وَسَتَعْبُدُ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَسَتَلْحَقُ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ،

===

الشرق وتجادلوا .. استولى كفار الترك على جميع عراق العجم.

ولما اختلف ملوك الغرب وتجادلوا .. استولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها، وها هم قد طمعوا في جميع بلاد الإسلام، فنسأل الله أن يتدارك المسلمين بالعفو والنصر واللطف.

ولا يصح أن تكون (حتى) هنا بمعنى (كي) لفساد المعنى، فتدبره. انتهى من "المفهم".

(وإذا وضع السيف) أي: وقع القتل به (في أمتي) أي: من بعضهم لبعض، وهذا من كلامه صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ أي: إذا ظهرت الحروب بينهم بالسيف .. (فلن يرفع) ذلك السيف (عنهم إلى يوم القيامة) وقد وضع السيف فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه، فلم يزل ذلك إلى الآن، ويبقى فيهم إلى يوم القيامة، فإن لم يكن في بلد .. يكون في بلد آخر، وقد ابتدئ في زمن معاوية، وهلم جرًا، لا يخلو عنه طائفة من الأمة، والحديث مقتبس من قوله تعالى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (1). انتهى من "العون".

(وإن مما أتخوف على أمتي) شر (أئمة مضلين) للناس عن السنة يدعون الخلق إلى البدع والخرافات (وستعبد قبائل من أمتي الأوثان) والأصنام مِن بَعْدِ وفاتي حقيقةً، ولعله يكون فيما سيأتي، أو معنىً، ومنه:(تَعِسَ عبدُ الدينار وعبدُ الدرهم). انتهى من "العون".

(وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين) منها: ما وقع بعد وفاته

(1) سورة الأنعام: (65).

ص: 334

وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ دَجَّالِينَ كَذَّابِينَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَنْ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ

===

صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه.

(وإن بين يدي الساعة) أي: قدامها (دجالين كذابين قريبًا من ثلاثين) نفرًا (كلهم يزعم) ويدعي (أنه نبي) ولا نبي بعدي وأنا خاتم النبيين؛ كما في رواية أبي داوود.

قوله: (دجالين) قال الحافظ: من الدجل؛ وهو التغطية والتمويه، ويطلق على الكذب أيضًا، وعلى هذا فقوله:(كذابين) تأكيد لما قبله. انتهى.

ووقع في حديث حذيفة عِنْدَ أحمدَ بسندٍ ضعيفٍ: (سيكون في أمتي دجالون كذابون سبعة وعشرون؛ منهم: أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي) وهذا يدل: على أن رواية (الثلاثين) بالجزم على طريقِ جَبْرِ الكَسْر، ويؤيده قوله في حديث الباب:(قريبًا من ثلاثين) وقوله: (قريبًا) بالنصب صفة لما قبله، وقوله:(كلهم يزعم أنه نبي) هذا ظاهر في أن كلًّا منهم يدعى النبوةَ، وهذا هو السر في قوله في آخر الحديث:(وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي).

ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذَّابًا فقط، لكن يَدْعُو إلى الضلالة كغُلاة الرافضة والباطنية. انتهى من "تحفة الأحوذي" باختصار.

(ولن تزال طائفة) وجماعة (من أمتي) مستمرين (على الحق) والسنة مواظبين عليه (منصورين) على ذلك الباطل (لا يضرهم من خالفهم) من أهل البدع.

وقوله: (على الحق) خبر (لن تزال) أي: ثابتين على الحق علمًا وعملًا ظاهرين منصورين على من خالفهم من العدو؛ لثباتهم على دينهم.

ص: 335

حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عز وجل"، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: لَمَّا فَرَغَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ .. قَالَ: مَا أَهْوَلَهُ!

(110)

- 3897 - (3) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،

===

وقوله: (حتى يأتي أمر الله عز وجل متعلق بقوله: (لن تزال).

قال في "فتح الودود": أي: الريحُ التي يُقبض عندها روحُ كل مؤمن ومؤمنة.

(قال أبو الحسن) تلميذ المؤلف علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطان القزويني: (لما فرغ) المؤلف (أبو عبد الله) ابن ماجه (من) رواية (هذا الحديث .. قال: ما أهوله! ) أيْ: شيءٌ جَعلَ هذا الحديث مُخوِّفًا مُفْزِعًا مُزْعِجًا.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الفتن، وأبو داوود في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، والترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا في أمته، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

فدرجته: أنه صحيح؛ للمشاركة فيه وإن كان سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث معاذ بن جبل.

* * *

ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث معاذ بحديث زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(110)

- 3897 - (3)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).

ص: 336

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ

===

(حدثنا سفيان بن عيينة) بن أبي عمران ميمونٍ الهلاليُّ أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة حافظ إمام فقيه حجة متقن إلا أنه تغير حفظه بأخرةٍ، من رؤوس الطبقة الثامنة، مات سنة ثمان وتسعين ومئة (198 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن) محمد بن مسلم (الزهري) المدني، ثقة إمام، من الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ومئة، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين. يروي عنه: (ع).

(عن عروة) بن الزبير، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين (94 هـ) على الصحيح. يروي عنه:(ع).

(عن زينب ابنة أم سلمة) رضي الله تعالى عنهما بنت أبي سلمة أمية ابن عبد الأسد المخزومية، ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة ثلاث وسبعين (73 هـ) وحضر ابن عمر جنازتها قبل أن يحج ويموت بمكة. يروي عنها:(ع).

(عن حبيبة) بنت عبيد الله بن جحش الأسدية، أمها أم حبيبة بنت أبي سفيان، لها صحبة، وهاجرت إلى الحبشة مع أبويها، ويقال: إنها ولدت في أرض الحبشة رضي الله تعالى عنها. يروي عنها: (م ت س ق).

(عن) والدتها (أم حبيبة) بنت أبي سفيان، اسمها رملة الأموية، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، مشهورة بكنيتها، ماتت سنة اثنتين أو أربع، وقيل: سنة تسع وأربعين (49 هـ) وقيل: وخمسين. يروي عنها: (ع).

(عن زينب بنت جحش) بن رباب بن يعمر الأسدية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أمها أميمة بنت عبد المطلب، يقال: ماتت سنة عشرين في

ص: 337

أَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ،

===

خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. يروي عنها: (ع).

وهذا السند من ثمانياته، ومن لطائفه: أنه اجتمع فيه أربع صحابيات يروي بعضُهن عن بعض، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(أنها) أي: أن زينب بنت جحش (قالت: استيقظ) أي: انتبه (رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا (من نومه وهو) أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (محمر وجهه) أي: متغير لونه إلى حمرةٍ؛ لفزعه في منامه (وهو) أي: والحال أنه (يقول) بلسانه: (لا إله إلا الله، ويل للعرب) أي: هلاك لهم (من شر قد اقترب) أي: قرب وقوعه عليهم، هذا الكلام ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن شر وفتنة اقترب إصابتها للعرب ولم يبين صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، ولا عيَّن تلك الفتنةَ.

وقد اختلف شراح هذا الحديث في تعيينها: فمنهم: من ذهب إلى أنه إشارة إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه حيث تتابعت بعد ذلك الفتن.

وقال القرطبي: هذا تنبيه على الاختلاف والفتن والهرج الواقع في العرب، وأول ذلك قتل عثمان رضي الله تعالى عنه وما جرى بعده بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، ولذلك أخبر عنه بالقرب، ثم لم يزل كذلك إلى أن صارت العرب بين الأمم كالقصعة الواقعة بين الأكلة؛ كما قال في الحديث الآخر:"يوشك أن تداعى عليكم الأمم؛ كما تتداعى الأكلة على قصعتها" رواه أحمد وأبو داوود عن ثوبان.

قال ذلك مخاطبًا للعرب؛ كما خاطبهم بقوله أيضًا: "إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر" كما سيأتي. انتهى من "المفهم".

ص: 338

فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ"، وَعَقَدَ بِيَدِهِ عَشَرَةً،

===

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خص العرب بذلك؛ لأنهم كانوا حينئذٍ معظم من أسلم.

(فتح) أي: فرج (اليوم) أي: الآن (من ردم) أي: من سد (يأجوج ومأجوج) وفي "مسلم" زيادة: (مثل هذه الفرجة) أي: الفتحة التي ترونها بين إبهامي وسبابتي (وعقد) سفيان بن عيينة (بيده) بالإفراد؛ كما في نسخة مسلم؛ أي: عَدَّ سفيانُ وحَسَبَ بعقد أصابعه الأربعة غير السبابة (عشرة) لبيان تلك الفرجة؛ أي: أشار بها إلى عشرة من العدد؛ لأنه جعل طرف السبابة على باطن نصف الإبهام؛ فالأصابع الثلاثة: الخنصر والبنصر والوسطى .. لكل منها ثلاث عقد، فتكون إشارةً إلى تسعة، ويحسب من الإبهام العقدة العليا، لأن السفلى مقبوضة مع السبابة، فلا تحسب، فإذا ضممت العقدة العليا من الإبهام إلى عقد الأصابع الثلاثة .. تكون جملة العقد عشرة، فتكون كل واحدة منها إشارةً إلى واحد.

وقول المؤلف: وعقد النبي صلى الله عليه وسلم بأصابع (يديه عشرة)؛ أي: عقد بالأصابع العشر عشرة .. تحريف، والصواب ما في النسخة القديمة:(بيده) بالإفراد؛ كما في حلنا، ويشهد له ما في رواية مسلم:(بيده) بالإفراد في جميع نسخه.

قوله: (من ردم يأجوج) هو السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج؛ سدًّا لطريق خروجهم إلى ما وراء الجبلين؛ والردم: سد الثلمة بالحجر، والردم بمعنى المردوم.

ويأجوج ومأجوج - يهمزان ولا يهمزان -: قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام، والصحيح أنهم أمة من بني آدم، وما روي من خلاف هذا .. فإنه

ص: 339

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لا أصل له في الروايات الصحيحة، وإنما هو منقول من بعض أهل الكتاب، فمن همزهما .. جعلهما من أجيج النار؛ وهو ضوءها وحرارتها، وقيل: من الأجاج؛ وهو الماء الشديد الملوحة، وسموا بذلك؛ لكثرتهم وشدتهم، وقيل: هما اسمان أعجميان غير مشتقين.

أما كثرتهم .. فقد ذكر القزويني في كتابه المسمى بـ"عيون المعاني" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأجوج أمة لها أربع مئة أمير، لا يموت أحدهم حتى ينظر ألف فارس من ولده، وكذلك مأجوج، وإذا خرجوا .. فمقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ويأكلون كل فيل وخنزير، ومن مات منهم .. أكلوه".

وأما شدتهم .. فصنف منهم كالأَرْز، طولُ أحدهم مئة وعشرون ذراعًا، وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب كأنياب السباع، ولهم تَداعِي الحَمَام، وتسافُدُ البهائم، وعُواءُ الذئاب، وشعورٌ تَقِيهم الحرَّ والبرد، وآذان عظام؛ أحدهما وبرة يُشَتُّونَ فيها، وأخرى جلدةٌ يُصيِّفُون فيها، فيمنعهم الله تعالى من دخول مكة والمدينة وبيت المقدس، يحفرون السد حتى كادوا ينقبونه، فيعيده الله تعالى كما كان، حتى يقولوا ننقبه غدًا إن سْاء الله تعالى، فينقبون فيخرجون، ويتحصن الناس منهم بالحصون، فيرمون السهام إلى السماء، فتُرَدُّ إليهم مُلطَّخة بالدماء، حتى يهلكهم اللهُ بالنَّغَفِ في رقابهم؛ وهو الدود، قاله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. انتهى من "المفهم"، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون قوله: "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج

" إلى آخره .. محمولًا على الحقيقة؛ على أن سد ذي القرنين كان سالمًا إلى ذلك اليوم، فحدثت فيه ثلمة يومئذ.

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ويحتمل أن يكون محمولًا على المجاز، فيكون كناية عن ظهور علامات الفتن.

ويحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام ذلك السد بعينه، ورأى أنه قد انكسر بمقدار حلقةٍ، وكان تعبير تلك الرؤيا أن العرب تصيبهم مصيبة.

ويشكل على الاحتمال الأول ما رواه الترمذي في تفسير سورة الكهف رقم (3153) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في السد، قال: "يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه .. قال الذي عليهم: ارجعوا، فستخرقونه غدًا، فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس .. قال الذي عليهم: ارجعوا، فستخرقونه غدًا إن شاء الله تعالى، واستثنى، قال: فيرجعون، فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس

" الحديث، وهذا يدل على أن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم، ولا يزالون يفعلون ذلك، إلى حين خروجهم بقرب القيامة.

ويمكن الجواب عنه: بأن هذه الرواية وإن حسنها الترمذي، ولكنه قال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه مثل هذا.

وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(3/ 105): وإسناده جيد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه؛ لإحكام بنائه وصلابته وشدته، ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار: (أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه - اللحس باللسان، يقال: لحسه، من باب فهم، لحسةً بفتح اللام وضمها. انتهى "مختار" - ويقولون: غدًا نفتحه،

ص: 341

قَالَتْ زَيْنَبُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ ! قَالَ: "إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".

===

ويلهمون أن يقولوا: إن شاء الله، فيصبحون، وهو كما فارقوه، فيفتحونه)، وهذا متجه، والله أعلم. انتهى من "الكوكب".

(قالت زينب) بنت جحش رضي الله تعالى عنها: (قلت: يا رسول الله؛ أنهلك وفينا الصالحون؟ ! ) - بفتح النون وكسر اللام - على البناء للفاعل، وكأن زينب رضي الله تعالى عنها فهمت من فتح القدر المذكور من الردم أن الأمر إن تمادى على ذلك .. اتسع الخرق؛ بحيث يخرجون، فكان عندها علم بأن في خروجهم على الناس إهلاكًا عامًا لهم، فسألت عن ذلك، فـ (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، تهلكون (إذا كثر الخبث) - بفتحتين وبالخاء المعجمة وبالموحدة - وفسروه بالزنا وبأولاد الزنا، وبالفسوق وبالفجور؛ وهو أولى؛ لأنه قابله بالصلاح.

قال ابن العربي: فيه الدلالة على أن الخيِّرَ يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه، لكن حيث لا يجدي ذلك، ويصر الشرير على عمله السيئ، ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد، فيهلك حينئذ القليل والكثير.

نعم؛ يحشر كل أحد على نيته. انتهى "فتح الباري"(109/ 13).

وهو في معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1). انتهى.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في مواضع؛ منها: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، ومنها: كتاب الفتن، باب ويل للعرب من شر قد اقترب، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب

(1) سورة الأنفال: (25).

ص: 342

(111)

- 3898 - (4) حَدَّثَنَا رَاشِدُ بْنُ سَعِيدٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي السَّائِب، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ،

===

اقتراب الفتن، وأبو داوود في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، والترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في خروج يأجوج ومأجوج، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وعبد الرزاق في "مصنفه"، وأحمد في "مسنده"، وابن أبي شيبة في "مصنفه".

وهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث معاذ بن جبل.

* * *

ثم استأنس المؤلف للترجمة بحديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، فقال:

(111)

- 3898 - (4)(حدثنا راشد بن سعيد) بن راشد القرشي أبو بكر (الرملي) صدوق، من العاشرة، مات سنة ثلاث وأربعين ومئتين (243 هـ). يروي عنه:(ق).

(حدثنا الوليد بن مسلم) القرشي الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية، من الثامنة، مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن الوليد بن سليمان بن أبي السائب) ثقة، من السادسة. يروي عنه:(س ق).

(عن علي بن يزيد) بن أبي زياد الألهاني أبي عبد الملك الدمشقي صاحب القاسم بن عبد الرحمن، ضعيف منكر الحديث، من السادسة، مات سنة بضع عشرة ومئة. يروي عنه:(ت ق).

ص: 343

عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا؛ إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللهُ بِالْعِلْمِ".

(112)

- 3899 - (5) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ،

===

(عن القاسم أبي عبد الرحمن) صاحب أبي أمامة، صدوق يغرب كثيرًا، من الثالثة، مات سنة اثنتي عشرة ومئة (112 هـ). يروي عنه:(عم).

(عن أبي أمامة) صدي بن عجلان الباهلي الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، سكن الشام، ومات بها سنة ست وثمانين (86 هـ). يروي عنه:(ع).

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف منكر الحديث.

(قال) أبو أمامة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون) قرب الساعة (فتن) كثيرة (يصبح الرجل فيها) أي: في تلك الفتن حالة كونه (مؤمنًا) أي: يدخل في أول النهار حالة كونه مؤمنًا في تلك الفتن (ويمسي) أي: ويدخل في آخر النهار حالة كونه (كافرًا) فيها؛ أي: بسبب تلك الفتن (إلا من أحياه الله) تعالى أي: أحيا الله قلبه (بـ) نور (العلم) والإيمان وثبته عليه.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه ضعيف جدًّا (10)(399)؛ لضعف سنده جدًّا، وغرضه: الاستئناس به للترجمة.

* * *

ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث معاذ بن جبل بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(112)

- 3899 - (5)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني

ص: 344

حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبِي، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ،

===

الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).

(و) حدثنا (أبي) أيضًا عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، ثقة ثبت، من التاسعة، مات سنة تسع وتسعين ومئة (199 هـ). يروي عنه:(ع).

كلاهما رويا (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن شقيق) بن سلمة الأسدي أبي وائل الكوفي، ثقة مخضرم، من الثانية.

يروي عنه: (ع)، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.

(عن حذيفة) بن اليمان حُسَيْلٍ - مصغرًا - العبسي - بموحدة - حليف الأنصار الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) حذيفة: (كنا) معاشر الأصحاب (جلوسًا) أي: جالسين (عند عمر) بن الخطاب في زمن خلافته (فقال) لنا عمر: (أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصته (في الفتنة) التي تأتي في آخر الزمان وقبله، (قال حذيفة: فقلت) لعمر: (أنا) أحفظها (قال) عمر لحذيفة: (إنك لجريء) إذًا وشجاع على حفظه وإخباره وقوي عليه؛ أي: قال له:

ص: 345

قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ .. تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ"،

===

إنك إذًا لجريء بوزن فعيل؛ من الجرأة؛ أي: جسور مقدام، قاله على جهة الإنكار كأنه أنكر عليه هذا الادعاء؛ فإن ذاكرة المرء تتعرض للذهول عن بعض الأشياء، فالاحتياط أن يقول: إني أذكر جوهر اللفظ، ولا أدعي أني أذكر كله بلفظه، كذا في "القسطلاني".

وقيل: إن عمر مدحه على جرأته في ادعاء أنه يحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الفتن كما سمعه منه؛ لأن ذلك يدل على اهتمامه وشدة اعتنائه بحفظ الحديث.

ثم (قال) عمر لحذيفة: و (كيف) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإخبار عن الفتن؟ - وهو جزء من كلام عمر - (قال) حذيفة في جواب استفهام عمر: قلت له (سمعته) صلى الله عليه وسلم (يقول) في الإخبار عن الفتنة: (فتنة الرجل) مبتدأ؛ أي: افتتان المرء (في) شؤون (أهله) وزوجته (و) في شؤون (ولده و) في شؤون (جاره) بانهماكه فيها؛ بحيث يؤدي ذلك إلى الإخلال بطاعات الله تعالى أو بتقصيره في أداء حقوقهم، ثم ذكر خبر المبتدأ بقوله:(تكفرها) أي: تكفر ما صدر منه من الصغائر في حال افتتانه بهذه الأمور (الصلاة) أي: الصلوات الخمس وغيرها (والصيام) أي: صيام رمضان وغيره (والصدقة) أي: الصدقة المفروضة، كالزكاة وغيرها (والأمر بالمعروف) أي: أمر الناس بفعل مأمورات الشرع (والنهي) أي: نهي الناس (عن المنكر) أي: عن منكرات الشرع؛ أي: يكفر ثوابُ هذه العبادات صغائرَ ذلك الافتتان؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.

وهذا الحديث وإن كان ظاهره عامًّا في الصغائر والكبائر جميعًا، ولكنه

ص: 346

فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ،

===

مخصوص بالصغائر؛ بدليل الآيات والأحاديث الأخرى التي تدل على أن الحسنات إنما تكفر الصغائر.

(فقال عمر) لحذيفة رضي الله تعالى عنهما: (ليس هذا) الحديث الذي ذكرته من افتتان الرجل في أهله وولده وجاره، واسم الإشارة مفعول مقدم لقوله (أريد) وأقصد؛ أي: لم أرد بالفتنة التي ذكرته لكم هذه الفتنة التي ذكرتها لنا (إنما أريد) وأقصد بالفتنة التي ذكرتها لكم الفتنة الكبرى العامة (التي تموج) وتضطرب وتتحرك اضطرابًا منتشرًا عامًا لجميع الناس وتتموج تموجًا (كموج البحر) أي: ترتفع كارتفاع موج البحر عند هيجانه بالريح العاصفة إذا عصفته الريح؛ من ماج البحر؛ إذا اضطرب وتحرك وارتفع.

قوله: (فتنة الرجل في أهله) قالوا: فتنته فيهم: أن يأتي من أجلهم بما لا يحل له من القول أو الفعل مما لم يبلغ الكبائر؛ أو المراد: كل ما يعرض له معهم من شر أو حزن أو شبهة، وفتنته في ماله: أن يأخذه من غير مأخذه، أو يصرفه في غير مصرفه، وفتنته في نفسه وولده: فرط محبته له، وشغله بهم عن كثير من الخير.

وفتنته في جاره: أن يتمنى أن يكون حاله مثل حاله إن كان متسعًا؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} (1). انتهى "نووي".

قوله: (إنما أريد التي تموج كموج البحر) أي: إنما أريد الفتنة العامة التي تموج وتتحرك وتنتشر موجًا واضطرابًا؛ كموج البحر واضطرابه وتحركه، يقال: ماج البحر؛ إذا تحرك ماؤه وارتفع، شبهها بموج البحر في شدتها

(1) سورة الفرقان: (20).

ص: 347

فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ، قَالَ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَلَّا يُغْلَقَ، قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ؛

===

وتواليها وتدافعها، كنى بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة، وما ينشأ من ذلك من المشاتمة والمضاربة والمقاتلة والمسايفة.

(فقال) حذيفة لعمر: (ما لك ولها) أي: ولتلك الفتنة العامة المنتشرة علاقة (يا أمير المؤمنين؟ ) أي: ما بينك وبينها علاقة؛ لأنها لا تظهر في حياتك؛ أي: ليس لها علاقة بك ولا لك بها علاقة (إن بينك) يا عمر (وبينها) أي: وبين تلك الفتنة التي تموج كموج البحر (بابًا مغلقًا) أي: بابًا مقفلًا؛ لأنها لا تظهر في حياتك؛ أي: بابًا سد بالغلق؛ يعني: أن بينها وبين حياتك بابًا مغلقًا، فلا تقع وأنت حي، وكان حذيفة يعلم أن عمر هو الباب نفسه، ولكن لم يصرح بذلك تأدبًا معه، ولكن فهم عمر ذلك؛ أي: كونه نفس ذلك الباب.

(قال) عمر لحذيفة: أ (فيكسر) ذلك (الباب) الذي بيني وبينها (أو يفتح) بالمفتاح؟ (قال) حذيفة: قلت لعمر: (لا) يفتح الباب (بل يكسر) وكأنه كنى بالكسر عن قتل عمر، وبالفتح عن موته الطبيعي (قال) عمر:(ذاك) الكسر (أجدر) وأحق وأولى وأقرب إلى (ألا يغلق) ذلك الباب بعد ذلك الكسر (أبدًا) كما هو مصرح به في رواية مسلم.

قال شقيق بن سلمة: (قلنا) معاشر الحاضرين عند حذيفة (لحذيفة) عندما روى هذا الحديث: (أكان عمر يعلم من) هو ذلك (الباب؟ قال) حذيفة: (نعم) يعلم عمر من هو ذلك الباب علمًا يقينيًا (كما يعلم) عمر (أن دون غدٍ) وقبله (الليلة) المستقبلة؛ أي: مجيئها قبل غدٍ؛ وإنما علم عمر ذلك

ص: 348

إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيط، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمَرُ.

===

الباب؛ لـ (أني حدثته حديثًا) صحيحًا (ليس بالأغاليط) والأكاذيب، ومثل هذا الحديث لا يخفى.

قال ابن بطال: قوله: (ذلك أجدر ألا يغلق أبدًا) إنما قال ذلك؛ لأن العادة أن الغلق إنما يمكن في الصحيح، أما إذا انكسر .. فلا يتصور غلقه حتى يجبر ويصلح، وقال الحافظ في "الفتح" (6/ 606): وقد وافق حذيفة أبو ذر على رواية معنى هذه المقالة فيما روى الطبراني بإسناد رجاله ثقات: (أنه لقي عمر، فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذر: أرسل يدي يا قفل الفتنة

) الحديث، وفيه: أن أبا ذر قال: (لا تصيبكم فتنة ما دام فيكم، وأشار إلى عمر).

وروى البزار من حديث قدامة بن مظعون عن أخيه عثمان أنه قال لعمر: (يا غلق الفتنة، فسأله عن ذلك، فقال: مررت ونحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش). انتهى.

قال شقيق بن سلمة: (فهبنا) نحن معاشر الحاضرين عند حذيفة؛ أي: خفنا خوف إجلال واستحياء (أن نسأله) أي: أن نسأل حذيفة (من) هو ذلك (الباب) الذي بينهم وبين الفتنة.

قال شقيق: (فقلنا لمسروق) بن الأجدع: (سله) أي: اسأل حذيفة من هو ذلك الباب الذي كان بينهم وبين الفتنة (فسأله) أي: فسأل مسروق من هو ذلك الباب الذي كان بينهم وبين الفتنة؟ (فقال) حذيفة في جوابه: ذلك الباب هو (عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في مواضع منها في كتاب

ص: 349

(113)

- 3900 - (6) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش،

===

الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، ومسلم في كتاب الفتن أيضًا، وفي كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، باب رقم (71)، وقال: هذا حديث صحيح.

فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث معاذ بن جبل.

* * *

ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث معاذ بن جبل بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، فقال:

(113)

- 3900 - (6)(حدثنا أبو كريب) محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة سبع وأربعين ومئتين (247 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).

(وعبد الرحمن) بن محمد بن زياد (المحاربي) أبو محمد الكوفي، لا بأس به، وكان يدلس، قاله أحمد، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).

(ووكيع) بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).

كلهم رووا (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة مقرئ، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).

ص: 350

عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَّنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْه، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ .. إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُ خِبَاءَهُ،

===

(عن زيد بن وهب) الجهني أبي سليمان الكوفي، ثقة مخضرم فاضل، لم يصب من قال: في حديثه خلل، من الثالثة، مات بعد الثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين (96 هـ). يروي عنه: (ع).

(عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة) العائذي - بعين مهملة وتحتية - وقيل: الصائدي الكوفي، ثقة، من الثانية. روى عن: عبد الله بن عمرو، ويروي عنه: زيد بن وهب الجهني، له في الكتب الستة حديث واحد في الفتن، وفيه الحث على طاعة الأمير في طاعة الله، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: تابعي ثقة كوفي. يروي عنه: (م د س ق).

(قال) عبد الرحمن: (انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص) القرشي رضي الله تعالى عنهما.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

أي: وصلت إلى عبد الله بن عمرو (وهو) أي: والحال أن عبد الله (جالس في ظل الكعبة والناس) أي: والحال أن الناس أيضًا (مجتمعون عليه) محيطون به واقفون عليه (فسمعته) أي: فسمعت عبد الله بن عمرو حالة كونه (يقول: بينا نحن) أي: بينا أوقات نحن ماشون (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) من أسفاره، ولم أر من عين هذا السفر من شراح الأصول .. (إذ نزل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (منزلًا) في الطريق للاستراحة من تعب السفر (فمنا) معاشر الماشين معه (من يضرب) ويبني ويصلح (خباءه) أي:

ص: 351

وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ؛ إِذْ نَادَى مُنَادِيهِ (الصَّلَاةَ جَامِعَةً)

===

خيمته؛ والخباء: بيت من صوف أو وبر لا من الشعر. انتهى "سندي".

(ومنا من ينتضل) أي: يرمي بالسهام تدربًا وتجارب قدر تعلمه وفروسيته؛ والمناضلة: المراماة بالسهام، يقال: انتضلوا وتناضلوا؛ إذا تراموا بالسهام تدربًا ومسابقةً، ويقال: انتضلوا بالكلام والأشعار (ومنا من هو في) رعي (جشره) ودوابه.

وفي "المنجد": الجشر - بفتحتين - والجشار - بضم الجيم -: هي الدواب التي ترعى في مكانها، ولا ترجع إلى أهلها بالليل، بل تبيت مكانها، وقال أبو عبيد: الجشر: القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم، لا يأوون إلى البيوت، يقال: جشر الدواب يجشرها؛ من باب نصر، جشرًا - بسكون الشين المعجمة - إذا خرج الرجل بدوابه يرعاها أمام بيته؛ كما في "تاج العروس".

والمعنى: ومنا من كان مع دوابه ليرعاها حول ذلك المنزل.

و(إذ) في قوله: (إذ نادى مناديه) بمعنى (إذا) الفجائية مع تقدير الفاء العاطفة على (نزل) والتقدير: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلًا، فافترق القوم في حوائجهم، ففاجأنا نداء مناديه صلى الله عليه وسلم ينادي بقوله:(الصلاة جامعة) بنصب الجزأين: الأول: على الإغراء، والثاني: على الحال؛ أي: أدركوا الصلاةَ حالة كونها جامعةً للناس.

قال القرطبي: وكأنه حضر وقت صلاة مفروضة، فلما جاؤوا وصلوا معه .. خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسكت الراوي عن ذلك، وإلا .. فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة ولا صلاة. انتهى.

ص: 352

فَاجْتَمَعْنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَنَا فَقَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا،

===

قال الأبي: والأظهر أن المراد بالصلاة: الصلاة لغةً؛ أي: الدعوة جامعة، وهو كلام جرى العرف به في نداء القوم لأمر مهم.

وكان الشيخ ابن عرفة يحملها على أنها صلاة الفرض، فأخذ منه جواز ما يفعله المؤذنون اليوم من التحضير عند فراغهم من الأذان، وأنه ليس ببدعة، خلافًا لما ذهب إليه بعض متأخري التونسيين؛ من أنه بدعة، وكان الشيخ يستحسن هذا الأخذ، وفيه نظر؛ لأنه وإن سلم أنها صلاة الفرض .. فإنه لم يتكرر ذلك، وإنما يستعمل في الدعاء لأمر مهم. انتهى من "الأبي".

ويمكن أيضًا أن يكون هذا قبل مشروعية الأذان، وقد ثبت أن المسلمين قبل مشروعية الأذان كانوا ينادون:(الصلاة جامعة). انتهى منه.

(فاجتمعنا) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبنا فقال) في خطبته: (إنه) أي: إن الشأن والحال (لم يكن نبي) من الأنبياء (قبلي إلا كان حقًّا) أي: واجبًا (عليه) أي: على ذلك النبي (أن يدل) ويرشد (أمته على) جميع (ما يعلمه) كونه (خيرًا لهم، وينذرهم) أي: يخوفهم عن جميع (ما يعلمه) كونه (شرًّا لهم) وإنما كان ذلك حقًّا واجبًا عليه؛ لأنه من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان لهم (وإن أمتكم هذه) التي هي أنتم منها؛ يعني: المحمدية (جعلت عافيتها) أي: سلامتها من الفتن واستقامتها واجتماع كلمتها (في أولها) يعني بأول الأمة: زمانه وزمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان، فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة، واستقامة أمرها، وعافية دينها، فلما قتل عثمان .. هاجت الفتن؛

ص: 353

وَإِنَّ آخِرَهُمْ يُصِيبُهُمْ بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، ثُمَّ تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، ثُمَّ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ

===

كموج البحر، وتتابعت؛ كقطع الليل المظلم، ثم لم تزل ولن تزال متوالية إلى يوم القيامة (وإن آخرهم) أي: آخر هذه الأمة المحمدية (يصيبهم بلاء) أي: فتن واختلاف (وأمور تنكرونها) من البدع والخرافات.

وعلى هذا المعنى الذي ذكرناه آنفًا؛ فأول آخر هذه الأمة المعنى في هذا الحديث مقتل عثمان، وهو الآخر بالنسبة إلى ما قبله من زمان الاستقامة والعافية، وقد دل على هذا قوله:"وأمور تنكرونها" والخطاب لأصحابه، فدل: على أن منهم من يدرك أول ما سماه آخر، وكذلك كان. انتهى من "المفهم".

(ثم) بعد أول هذا الآخر (تجيء فتن) كثيرة فيهم (يرقق) - بضم الياء وبالقافين أولاهما مشددة مكسورة - من الترقيق؛ أي: يصير (بعضها بعضًا) آخر رقيقًا؛ أي: خفيفًا سهلًا بالنسبة إلى ما سيقع بعدها؛ لعظم ما بعده؛ أي: فالثاني يجعل الأول خفيفًا، قال القاضي: هذه رواية الجمهور.

وفي رواية: (يرفق) - بفاء ثم قاف، على وزن ينصر - أي: يَمُدُّ بعضُها بعضًا؛ من قولهم: رفقه؛ إذا نفعه وأعانه.

وفي رواية الطبري عن الفارسي: (فيَدْفِق) - بدال ثم فاء ثم قاف، على وزن يضرب - أي: يَدْفَع ويصُبُّ من الدَّفْق؛ وهو الدفع، ومنه: الماء الدافق؛ يعني: أنها كموج البحر الذي يَدْفَعُ بعضُه بعضًا.

(فيقول المؤمن: هذه) الفتنةُ الحالَّةُ بِي الآن (مُهْلِكتي) أي: معدمتي (ثم تنكشف) وتنفرج عنه، وتزول تلك الفتنة التي خاف منها الهلاك (ثم تجيء فتنة) أخرى غير الأولى التي سلم منها (فيقول المؤمن: هذه) الثانية

ص: 354

مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ .. فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْه،

===

هي (مهلكتي) أي: معدمتي (ثم تنكشف) وتنفرج عنه هذه الثانية ويسلم منها.

والحاصل: أن المتأخرة من الفتن المتوالية أعظم من المتقدمة وأشد، فتصير المتقدمة عندها سهلة رقيقة، قاله السندي.

قال القرطبي: شبه المؤمن في هذه الفتن بالعائم الغريق بين الأمواج، فإذا أقبلت عليه موجة .. قال: هذه مهلكتي، ثم تروح عنه تلك، فتأتيه أخرى، فيقول: هذه الأخيرة هي مهلكتي إلى أن يغرق بالكلية، وهذا تشبيه واقع حسًّا.

(فمن سره) وبشره (أن يزحزح) - بالبناء للمجهول - أي: أن يبعد وينحى (عن النار) الأخروية ويؤخر منها (ويدخل الجنة) - بالبناء للمجهول أيضًا - من الإدخال .. (فلتدركه) - بفتح الفاء وسكون اللام وضم التاء وكسر الراء وسكون الكاف - لأنه مجزوم بلام الأمر، فهو من الإدراك؛ أي: فلتلحقه (موتته) وفي رواية: (منيته) والمعنى واحد، أي: فلتأخذه منيته (وهو) أي: والحال أنه (يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس) أي: وليبذل إلى الناس وليفعل بهم الأمر (الذي يحب أن يأتوا) أي: يحب أن يفعل الناس معه ويبذلوا (إليه) أي: إلى نفسه من النصيحة والإحسان إليه.

قال القرطبي: وليجئ إلى الناس بحقوقهم؛ من النصح والنية الحسنة بمثل الذي يحب أن يجاء إليه به، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

و(الناس) هنا: الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم السمع والطاعة

ص: 355

وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ .. فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ .. فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ"،

===

والنصرة والنصيحة؛ مثل ما لو كان هو الأمير .. لكان يحب أن يجاء له به. انتهى.

قال النووي: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزمه ألا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه. انتهى منه.

(ومن بايع إمامًا) أي: عاهده على الإمامة له (فأعطاه) في بيعته (صفقة يمينه) أي: صفحة كفه في معاهدته والتزام طاعته (وثمرة قلبه) أي: صدق نيته في بيعته؛ يعني: بايعه بيده، وأحبه بقلبه .. (فليطعه ما استطاع) وقدر على طاعته فيه؛ والمعنى: فيما استطاع فيه حسًّا وشرعًا.

قال القرطبي: وهذا الحديث يدل على أن البيعة لا يكتفى فيها بمجرد عقد اللسان فقط، بل لا بد فيها من الضرب باليد؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1).

ولكن ذلك للرجال فقط؛ على ما يأتي، ولا بد من التزام البيعة بالقلب وترك الغش والخديعة؛ فإنها من أعظم العبادات، فلا بد فيها من النية والنصيحة، والصفقة في الأصل: الضرب بالكف على الكف؛ وهو التصفيق، وقد تقدم في كتاب الصلاة.

(فإن جاء) وظهر رجل (آخر ينازعه) أي: ينازع الأول ويخاصمه ويعارضه في الإمامة .. (فاضربوا عنق) ذلك (الآخر) ومعناه: ادفعوا الثاني؛ فإنه خارج

(1) سورة الفتح: (10).

ص: 356

قَالَ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي مِنْ بَيْنِ النَّاس، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أُذُنَيْه، فَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي.

===

على الإمام، فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال .. فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله .. جاز قتله ولا ضمان فيه؛ لأنه ظالم متعد في قتاله، كذا في "شرح النووي".

(قال) عبد الرحمن: (فأدخلت رأسي من بين الناس) فدنوت؛ أي: قربت منه أي: من عبد الله بن عمرو (فقلت) له أي: لعبد الله: (أنشدك الله) أي: أسألك حالفًا بالله (آنت سمعت هذا) أي: هل أنت سمعت هذا الحديث (من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) واستحلاف عبد الرحمن لعبد الله بن عمرو زيادة في الاستيثاق لا أنه كذبه ولا اتهمه (قال) عبد الرحمن: (فأشار) عبد الله (بيده إلى أذنيه، فقال: سمعته أذناي) هاتان، وأنث الفعل؛ لأن الأذن مؤنث معنوي؛ أي: سمعت أذناي هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم به (ووعاه) أي: وعى هذا الحديث وحفظه (قلبي) من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد رواه المؤلف مختصرًا؛ كما اختصره أبو داوود؛ وقد رواه مسلم بتمامه مطولًا.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول مطولًا؛ كما مر آنفًا، وأبو داوود مختصرًا أيضًا في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، والنسائي في كتاب البيعة، باب ذكر ما على من بايع الإمام وأعطاه صفقة يده.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ص: 357

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ستة أحاديث:

الأول للاستدلال، والرابع للاستئناس، وأربعة للاستشهاد.

والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 358