الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
51 - سُؤْرِ الْكَلْبِ
63 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدّم 1.
2 -
مالك بن أنس الإِمام: تقدّم 7.
3 -
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان: تقدّم 7.
4 -
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: تقدّم 7.
5 -
أبو هريرة رضي الله عنه: تقدّم 1.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك في الموطأ وابن ماجه وابن الجارود والبزار والدارقطني، وأخرج الدارقطني بإسناد صحيح عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة:"إذا ولغ الكلب في الإِناء فاغسله ثلاث مرات"، وأعلّه الدارقطني وغيره، قال البيهقي:(تفرّد به عبد الملك عن أصحاب عطاء، وعطاء عن أصحاب أبي هريرة، والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هريرة يروونه سبع مرات) اهـ. وفي ذلك دليل على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة "ثلاث مرات" وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه ولمخالفته أهل الحفظ والثقة تركه شعبة بن الحجاج ولم يحتج به البخاري، وأخرج ابن عدي في الكامل عن حسين بن علي الكرابيسي قال: حدثنا إسحاق بن الأزرق قال: حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله ثلاث مرات".
وأخرجه من رواية عمر بن شبة موقوفًا ولم يرفعه غير الكرابيسي.
قُلت: فتبين بذلك أن المروي عن أبي هريرة من الطرق الصحيحة هو الثابت المعول عليه المروي عن غيره من الصحابة، وأن الثلاث إنما رويت
موقوفة، ولعلها من رأيه واعتقاده أن الغسل سبعًا مستحب وليس بواجب كما أشار ابن حجر إلى احتماله، وقد حاول العيني رحمه الله تقوية هذه الرواية والاحتجاج بها لرأي إمامه فتكلّف في ذلك بما لا يرضاه المنصف.
• اللغة والإِعراب والمعاني
تقدّم الكلام على لفظة (إذا). وقوله: (شرب) هذه رواية مالك رحمه الله في الموطأ والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه "إذا ولغ"، والمعروف في اللغة التعبير عن شرب الكلب ونحوه بالولوغ. ورواه ابن سيرين عن أبي هريرة:"إذا شرب" كرواية مالك، وروى ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عنه مثله. ورواية مسلم عن هشام بن حسان بلفظ:"إذا ولغ" وهي المشهورة عنه. وقد رواه ورقاء بن عمر عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ: "إذا شرب". أخرجه الجوزقي، ومثله لأبي يعلى عن المغيرة بن عبد الرحمن. وقد رُوِيَ عن مالك أيضًا:"إذا ولغ"، كرواية الجمهور، فلذلك قال ابن حجر رحمه الله: كأن أبا الزناد حدّث باللفظين لتقاربهما في المعنى. قال: وهذا يدل على أن قول ابن عبد البر: "لم يروه بلفظ شرب غير مالك" غيرُ مُسَلَّمٍ به. وقوله: (شرب وولغ) هنا بمعنى، لأن شرب الكلب هو الولوغ وكذا غيره من السباع، ولغ الكلب في الإِناء يلغ فيه ولوغًا شرب بطرف لسانه، وقيل: إذا أدخل لسانه في الشراب وحرّكه، فإن أدخله وليس في الإناء شراب يقال لحسه. فإن كان فيه شيء غير مائع يقال: لعقه، وقيل: الولوغ أعم من الشراب لأنه إذا أدخل لسانه في المائع وحركه ولغ ولو لم يشرب.
وفي اللسان: الولغ شرب السباع بألسنتها، ولغ السبع والكلب وكل ذي خطم وولغ يلغ فيهما ولغًا شرب ماء أو دمًا، وأنشد ابن بري لحاجز الأسدي اللص:
بغزْوِ مثل ولغ الذئب حتى
…
يثوب بصاحبي ثأر منيم
وقال آخر:
بغزوٍ كولغ الذئب غاد ورائح
…
وسير كنصل السيف لا يتعوَّج
وفي التهذيب بعض العرب يقول يالغ، أرادوا بيان الواو فجعلوا ألفًا مكانها قال الشاعر:
مرضع شبلين في مغارهما
…
قد نهزا الفطام أو فطما
ما مر يوم إلا وعندهما
…
لحم رجال أو يالغان دما
وذكر اللحياني أن بعض العرب يقول: ولغ يولغ مثل وجل يوجل قلت: وهذا هو الأصل ولكنهم حذفوا الواو لأنه مثالي جاء على يفعل مفتوح العين كوقع يقع ووهب يهب فعومل معاملة مكسور العين فإنه تحذف فاؤه كما قال ابن مالك رحمه الله:
فاء أمر أو مضارع من كوعد .... احذف وفي كعدة ذاك اطّرد
وقد ذكر القاعدة الأشموني في شرح هذا البيت.
وقوله: (الكلب) قال ابن سيِّده: كل سبع عقور.
قُلت: ويدل عليه ما في حديث الدعاء على عتبه بن أبي لهب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك، فأكله الأسد". وفي حديث المناسك في بيان ما يقتله المحرم قال: والكلب العقور، قال ابن سيِّده: وقد غلب على هذا النوع من الحيوان، قال: والجمع في القلة أكلب وفي الكثرة كلاب، وجمع أكلب أكاليب، فهو جمع الجمع، وقد سمّت العرب كلبًا وكلابًا، قال الشاعر:
وإن كلابًا هذه عشر أبطن
…
وأنت بريء من قبائلها العشر
وقد يقال في جمع كلاب كلابات.
وقوله: (في إناء أحدكم)، في بمعنى الظرف والإِناء معروف مشتق عندهم من أنا الشيء: إذا جاء وقته، وأنا نُضْجٌ في الطعام والثمر، قال تعالى:{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ومنه قول الشاعر:
وكسرى إذ تقاسمه بنوه
…
بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخّضت المنون له بيوم
…
أنا ولكل حاملة تمام
والإِضافة لا مفهوم لها، وفي رواية ابن مغفل وغيره في الإِناء، ولعل الإِضافة من أجل أن غاسل الإِناء إنما يغسله ليستعمله، فهو في تلك الحالة إناؤه، فيكون خُرِّجَ مخرج الغالب وما كان كذلك لا يعتبر مفهومه. وجملة (شرب الكلب) في محل جر بإضافة إذا إليها، وهي جملة الشرط وقد تقدّم أنه غير جازم. وقوله:(فليغسله) الفاء واقعة في جواب الشرط. والغسل تعميم
الشيء بالماء، وهل يشترط الدلك مع ذلك أم لا؟ تقدّم البحث في شرح الآية والأصل في اللغة: التعميم بالماء فقط. وقوله: (سبع) منصوب على أنه نائب عن المصدر عند من لا يعتبره مصدرًا في نفسه، مبين للعدد، أو هو مصدر ومرات تمييز، وهو جمع مرة الواحدة من الفعل.
وفي رواية علي بن مسهر عند مسلم: (فليرقه) وكذا للمصنف كما يأتي قريبًا إن شاء الله لكن قال النسائي: لا أعلم أحدًا تابع علي بن مسهر على زيادة "فليرقه".
وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة. وقال حمزة الكناني: إنها غير محفوظة. وقال ابن مندة: لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإِسناد، وذكر ابن حجر أنه ورد من طريق عطاء عن أبي هريرة الأمر بالإراقة ذكره ابن عدي وقال: في رفعه نظر والصحيح أنه موقوف. وكذا ما ذكره الدارقطني من طريق حمَّاد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفًا. قلت: وقد تقدّمت الإشارة إلى الرواية الموقوفة عن أبي هريرة في غسل الإِناء ثلاثًا، فتبين بذلك أن الرواية المرفوعة في الأمر بالإِراقة وإن صح سندها شاذة لانفراد ابن مسهر بها وإن كانت زيادة الثقة مقبولة على شرطها، لكن علتها الشذوذ عند من لم يقبلها وسيأتي ذلك إن شاء الله.
وقوله: (الكلب) ظاهره العموم في سائر الكلاب فيشمل المأذون في اتخاذه وغير المأذون فيه، والكلب الأسود وغيره، وكلب البادية والحاضرة وسيأتي قول بعض المالكية أنه خاص بغير المأذون فيه، لأن الرخصة فيه تنافي الأمر بغسل الإِناء منه لما فيه من مزيد المشقة، وقول ابن الماجشون في الفرق بين كلب البادية وغيره، وتقدّم أن الإِناء ليس مخصوصًا فيشمل سائر الأواني التي يصح فيها الولوغ ويحصل بالفعل، وظاهر الأمر الوجوب. وسيأتي الكلام عليه وأكثر الروايات الصحيحة انتهت عند ذكر السبع بدون ذكر الإِراقة أو ما يُفْهِمُ الزيادة عليها، إلا في رواية ابن مسهر المتقدّم ذكرها، ورواية ابن مغفل الآتية، وفيها:"عفّروه الثامنة بالتراب" كما يأتي إن شاء الله. وفي الترمذي: "أولاهن أو أخراهن بالتراب". ومثله للبزار، ورواية عن الشافعي، وصحح إسنادها. ولأبي عبيد في كتاب الطهور له مثل ذلك.
قُلت: وكذا لأبي داود من رواية ابن سيرين عن أبي هريرة "السابعة بالتراب"، وعند الدارقطني "إحداهن" لكنها في إسنادها الجارود بن يزيد وهو متروك. ولمسلم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة "أولاهن بالتراب". وسيأتي الكلام على ذلك في حديث ابن مغفل، وأن الأولى الجمع بحديث أبي هريرة عند أبي داود وسيأتي ذلك.
• الأحكام والفوائد
وهذا الحديث من الأحاديث التي يطول الكلام عليها، وتتشعّب مسائلها وفروعها، وقد تداوله العلماء مطوّلًا ومختصرًا.
والمهم فيه يتلخّص في اثنتي عشرة مسألة:
الأولى: هل الأمر بالغسل للوجوب أو الندب؟ .
الثانية: هل هو معقول العلة أو للتعبد؟ .
الثالثة: إذا قلنا هو معلل هل يدل على نجاسة الكلب أم لا؟ .
الرابعة: هل هذا الحكم خاص بالولوغ أو يتعدّى لغيره كاللحس واللعق وإدخال عضو من الأعضاء وغير ذلك من ملابسة الكلب؟ .
الخامسة: هل يلحق بالكلب غيره كالخنزير وسائر السباع أم لا؟ .
السادسة: هل المراد بالكلب نوع من الكلاب فأل فيه للعهد، أو المراد العموم فهي للجنس أو للحقيقة؟ .
السابعة: هل الولوغ في غير الإِناء -كالبركة أو المستنقع الصغير- مثل الإِناء أم لا؟ .
الثامنة: هل تجب إراقة ما في الإناء أم لا تجب، أو تجب في غير الطعام دون الطعام؟ .
التاسعة: هل تجب السبع أو يكفي أقل منها، أو تجب الثمان؟ .
العاشرة: هل يتعين التتْريبُ أم لا، وهل ينوب عن التراب غيره كالصابون والأشنان وسائر المنقّيات؟ .
الحادية عشرة: على القول بالتتريب ففي أي غسلة يكون؟ .
الثانية عشرة: هل يحكم بنجاسة ما في الإِناء أم لا، أو يفرّق بين القليل والكثير.
فهذا ملخّص ما اقتضى النظر الكلام عليه، وفيه مسائل محلها في كتاب الصيد تأتي إن شاء الله، وإليك التفصيل مُستَمِدًّا من الملك الجليل العون والهداية لسواء السبيل:
المسألة الأولى:
هل الأمر للوجوب؟ فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه للوجوب وإن اختلفوا هل هو على الفور أو على التراخي؟ وذهب مالك وأتباعه في المشهور من مذهبه إلى أنه للندب ووجه ذلك: أن الأمر وإن كان الأصل فيه عند الأكثرين أنه يقتضي الوجوب لكن محل ذلك ما لم يدلَّ دليل، أو تقوم قرينة على عدم الوجوب، قالوا: والدليل والقرينة موجودان؛ أما الدليل فظاهر الآية الكريمة: آية المائدة في الصيد {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، ولم يأمر بغسل محل فم الكلب، وحديث عدي بن حاتم في الصحيح: وإذا أرسلت كلبك المُعلَّم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك". وجاء في بعض الروايات غير رواية عدي: "وإن أكل" كما يأتي في الصيد. قالوا فظاهر القرآن والسنة دلَّا على عدم وجوب الغسل، وأما القرينة فذكر العدد، فإنه غير معهود في غسل النجاسة ولا يتوقف عليه التطهير، فذكره دليل على أن الأمر للتعبّد.
المسألة الثانية:
هل العلة فيه معقولة أم هو تعبّدي غير مُعلَّل، فقد تقدّم أن مالكًا ومن وافقه يقولون إن الأمر بالغسل للتعبّد، واستدلّوا لذلك بأمور منها: ما تقدّم من أنه أَمَرَ فيه بعدد معيَّن، وهذا يمنع أن يكون للنجاسة لعدم وجود نظير لذلك في شيء منها، ودعوى أنه للتغليظ بعيدة لأن فيه ما هو أغلظ وأقذر منه، وإذا لم يكن للنجاسة لا تُتَعقَّلُ علته، فصار تعبّديًا. ثانيًا: أنه ذكر فيه كما سيأتي التتريب، فهو وإن لم يكن في رواية مالك فقد ثبت في رواية غيره ممن يقول بالتعليل بالنجاسة. قالوا وليس للتراب دخل في تطهير النجاسة. ثالثًا: ما يأتي في الكلام على طهارة عين الكلب، مما تقدّم ذكره من دليل الآية والحديث على عدم النجاسة إلا على احتمال ما يأتي من كونه للاستقذار لتعاطيه النجاسة في الغالب، وهذا له بحث آخر، وذهب الجمهور إلى أنه مُعَلل وأن علَّته النجاسة، واستدلوا لذلك بأمور أيضًا، أولًا: ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، "طهور إناء
أحدكم إذا ولغ فيه الكلب. ." الحديث، ووجهه: أن الطهور لا يستعمل إلا في إزالة خبث، أو رفع حدث، ولا حدث هنا فتعين الخبث وهو النجاسة، وأجيب بأن الحصر في الأمرين غير مُسَلَّم لوجوده في غير ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم"، وقوله: "الصعيد الطيب طهور المسلم"، وقوله: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وقوله في صدقة الفطر: "إنها طهرة للصائم". وقوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وتعقَّب بأن الغالب في اللفظ عند الإطلاق أحد الأمرين: إزالة الخبث، أو رفع الحدث، فهو أقرب إلى حقيقة اللفظ وهو غير مُسلَّم لأنه لا يكفي في إثبات نجاسة الأعيان والأصل خلافها. ثانيًا: الأمر بالإِراقة كما سيأتي وهي إفساد فلو لم يكن ما في الإِناء نجسًا لما أمر بإراقته، ويجاب عنه بأمرين: أحدهما القَدْحُ في ثبوتها كما تقدّم أنها انفرد بها ابن مسهر وسيأتي ذلك، الثاني: أنه على فرض التسليم فانحصار علة الإِراقة فيها غير مُسَلَّم لاحتمال أن يكون في لعاب الكلب ما يسبّب ضررًا كما في جناح الذباب فيكون الأمر بالإِراقة من أجل ذلك والله أعلم. ولا ينافي ذلك التعبّد لأنه غير معقول لنا فهو بمثابة ما لا علة له.
المسألة الثالثة:
إذا علّل بالنجاسة فهل يدل على نجاسة عين الكلب أم لا؟ فذهب الجمهور القائلون بالتعليل بالنجاسة إلى أنه دليل على نجاسة عين الكلب وهو قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي ثور ونسبه القاضي عبد الوهاب إلى سحنون من المالكية على ما ذكر ابن العربي، وذكر أن أبا الهيثم الخراساني من أئمة الحنفية نقل عن أبي حنيفة القول بطهارته.
قال ابن دقيق العيد: ولهم في ذلك أي للقائلين بالنجاسة في الاستدلال بالحديث على نجاسة الكلب طريقان، أحدهما:(أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة لعابه فإنه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى). الثاني: (إذا كان لعابه نجسًا وهو عرق فمه ففمه نجس، والعرق جزء متحلّب من البدن، فجميع عرقه نجس فجميع بدنه نجس، فتبيّن بهذا أن الحديث إنما دل على النجاسة فيما يتعلق بالفم، وأن نجاسة بقية البدن بطريق الاستنباط) اهـ.
قُلت: تَعقَّبه الصنعاني في حاشيته على العمدة رحمه الله فقال: (قوله: "فإنه
جزء من فمه" فيه تسامح لأنه عرق فمه والعرق ليس بجزء من البدن، نعم متحلّب منه كسائر فضلاته، قال: وقوله: "فمه أشرف ما فيه" يحتاج إلى دليل؛ بل لو قيل: إنه أخبثه لأنه محل استعمال النجاسات لكان ظاهرًا) اهـ. قال ابن دقيق العيد بعد ذكر التقرير للتدليل على النجاسة بالاستنباط: (وفيه بحث وهو أن يقال: إن الحديث إنما دل على نجاسة الإِناء بسبب الولوغ وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين الفم وعين اللعاب أو تنجّسهما باستعمال النجاسات غالبًا، والدال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين، فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم أو عين اللعاب) اهـ. قلت: وتوضيح ذلك أنه إذا كان الحديث دل على احتمال كون نجاسة الإِناء بسبب كون اللعاب والفم نجسين واحتمال كونهما ليسا نجسين، ولكن الغالب عليهما تعاطي النجاسة فهما متنجسان لا نجسان، صار الحكم بأحد الأمرين لا يتم لتساويهما في الاحتمال، ثم ذكر رحمه الله أنه يمكن الاعتراض على أن العلة التنجيس بأنه يستلزم أحد أمرين: إما ثبوت الحكم بدون علته، وإما تخصيص بدون مخصّص، وتوضيح ذلك أنه لو قلنا: أمر بغسل الإِناء من ولوغ جميع الكلاب والعلة التنجيس، ثم فرضنا أن كلبًا علمنا طهارة فمه بالغسل والحبس عن القذر أو غير ذلك، ثم ولغ في إناء فما حكمه؟ إن قلنا نغسل الإِناء أثبتنا الحكم بدون العلة التي هي تعاطي القذر، وإن قلنا: نترك غسله خصّصنا عموم الكلب بدون مخصّص، فهذا معنى عبارته رحمه الله.
ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال: الحكم منوط بالغالب وما ذكرتموه من الصورة نادر، ثم قال: وهذا البحث إذا انتهى إلى هذا يُقوِّي قول من يرى أن الغسل لأجل قذارة الكلب.
قال الصنعاني: مراده فيه بحث، لأنه ظهر ضعف كون العلة التنجيس على أحد الثلاثة التقادير، وإن لم يكن ذلك قَوِيَ أنه أمر تعبّدي لا للاستقذار.
تنبيه:
قال ابن دقيق العيد بعد ذكر قول المالكية بأن الأمر للتعبّد: (والحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبّدًا أو معقول المعنى كان حمله على كونه معقول المعنى أولى لندرة التعبّد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى) اهـ.
قال الصنعاني: دعوى كثرة ذلك ممنوع فإن الأحكام التعبّدية أكثر، ثم مثَّلَ لكثرتها بأحكام الصلاة في عدد الركعات والسجدات، وخصوص كل وقت بعدد معين إلى غير ذلك، ومثَّلَهُ في الزكاة في اختلاف النصب والوقت، وفي الحج أكثر لأن أعماله كلها تعبّدية، ثم قال: والعبودية بامتثال التعبّدية أظهر منها في المعقولة العلة، انتهى المراد منه والله الموفق للصواب.
وذهب مالك وشيخه ابن شهاب إلى طهارة عين الكلب وأنه كسائر الحيوان، وهو مروي عن عكرمة والبخاري، وقد استدلَّ له بما أخرج في صحيحه عن ابن عمر:"كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد". وبما تقدّمت الإِشارة إليه من حديث عدي في الصيد والآية الكريمة فيه.
المسألة الرابعة:
هل هذا الحكم خاص بالولوغ أو يعم سائر ملابسات الكلاب؟ ، قال ابن حجر رحمه الله:(ومفهوم الشرط في قوله: "إذا ولغ" يقتضي حصر الحكم على ذلك، ولكن إذا قلنا إن الأمر للتنجيس يتعدّى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلًا، ويكون ذكر الولوغ للغالب، وأما باقي أعضائه كيده ورجله فالمذاهب المنصوص أنه كذلك) اهـ. يعني مذهب الشافعي. قال النووي رحمه الله: (اعلم أنه لا فرق عندنا بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئًا طاهرًا في حال رطوبة أحدهما وجب غسله سبعًا إحداهن بالتراب) اهـ.
قُلت: وهذا مبني على ما تقدّم لابن دقيق العيد من أنهم يجعلون الحكم بالنجاسة في علة الغسل يستلزم نجاسة عين الكلب وتقدّم البحث في ذلك.
المسألة الخامسة:
هل يُلحَق بالكلب غيره من السباع؟ ذهب الشافعي إلى أن الخنزير كالكلب في هذه الأحكام، وهو المعمول به عند أصحابه وكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما، وهو مذهب أحمد في المشهور عنه، وذكر الشوكاني في باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل لحمه في شرح حديث النهي عن لحوم الحمر:(وقال أحمد في أشهر الروايتين عنه: إنه يجب التسبيع يعني في سؤر ما لا يؤكل لحمه. قال: ولا أدري ما دليله، فإن كان القياس على لعاب الكلب فلا يخفى ما فيه، وإن كان غيره فما هو؟ ) اهـ.
وللشافعي قول آخر قوّاه النووي من حيث الدليل، وهو عدم الإِلحاق المذكور، ولأصحاب أحمد قول بعدم جواز الوضوء بسؤر ما لا يؤكل لحمه إلا الهر فما دونه في الخلقة، ولم يوافق الشافعي في هذه المسألة والتي قبلها من الفقهاء إلا أحمد، وظاهر كلام ابن قدامة نسبة القول بالنجاسة في الخنزير كالكلب إلى أبي عبيد.
المسألة السادسة:
هل يكون الكلب هنا عامًّا وهو قول سائر الفقهاء وال فيه للجنس أو للحقيقة؟ أو يكون خاصًا؟ وهو مروي كما تقدّم عن بعض المالكية فجعله خاصًا بالكلب الذي نُهِيَ عن اتخاذه بناء على ما يحصل من المشقة لصاحبه، وهي عنده منافية للرخصة فيه، والمشهور في مذهب مالك أنه لا فرق في الكلاب في هذا الحكم، وروي عن ابن الماجشون تخصيصه بكلب البادية ولا وجه له؛ بل لو كان بالعكس لكان أولى لأن غسل الإِناء في البادية على الدوام أصعب منه في المدن.
المسألة السابعة:
هل يلحق بالإِناء ما ولغ فيه الكلب من غير الأواني؟ تقدّم كلام النووي، ونقله لمذهب الشافعية في التسوية، ونحوه لابن حجر وتعميمه للحكم في كل ما لابسه الكلب في المسألة الرابعة.
المسألة الثامنة:
هل تجب إراقة ما في الإِناء الذي ولغ فيه الكلب؟ الكلام عليها في الحديث الثالث.
المسألة التاسعة:
هل تتعين السبع أو يكفي أقل منها أو تجب الثمان؟ أما اعتبار السبع فقد قال به جمهور العلماء حتى من يقول إن الأمر للتعبّد لا للنجاسة وذلك لثبوته في أكثر الروايات بل في جميع الروايات الصحيحة في الصحيحين وغيرهما. وذهب الإِمام أبو حنيفة رحمه الله إلى عدم وجوب السبع، وقال: إنه يكفيه أن يغسله ثلاثًا وإنه كسائر النجاسات التي لا يطلب فيها أكثر من الغسل حتى تزول، واحتجوا بأن أبا هريرة روى السبع، وروى الثلاث، وذلك يقتضي نسخ
السبع بالثلاث. وقد تقدّم الكلام على هذه الرواية في تخريج الحديث وأنها لا تصلح للاستدلال بها. قالوا: وقياسًا على ما ورد في غسل يد القائم من النوم، وقد تقدّم ما فيه وردت رواية الثلاث باحتمال كونه أفتى بذلك لاعتقاده أن الغسل سبعًا غير واجب؛ بل هو مندوب إليه، وبأنه قد رُوِيَ عنه الغسل سبعًا، ودعوى النسخ عريضة لا برهان عليها ورواية الحديث الذي رُوِيَ عنه بالسبع أصح وأولى من جهة النظر، فإنها من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا في غاية الصحة، ورواية الثلاث تقدّم أنها موقوفة ويحتمل أن تكون فتيا، والرواية مقدّمة عليها. وتقدّم أن العيني احتج بأنه ليس بأغلظ من العذرة.
قُلت: وهو يرجع إلى قياس مصادم للنص وهو فاسد الاعتبار، فقول الجمهور في هذا واضح لا غبار عليه والله أعلم. وليست دعوى نسخ السبع بالثلاث بأولى من العكس وهو نسخ الثلاث بالسبع. أما الخلاف في الثامنة فسيأتي بإذن الله عند الكلام على التتريب بعد حديثين.
المسألة العاشرة:
هل يتعين التراب؟ ستأتي في بابها كذلك.
المسألة الحادية عشرة:
في أي غسلة يكون التراب؟ .
المسألة الثانية عشرة:
هل يحكم بنجاسة ما في الإِناء؟ ستأتي أيضًا عند ذكر الإِراقة. والله أعلم.
64 -
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".
• [رجاله: 6]
1 -
إبراهيم بن الحسن بن الهيثم الخثعمي أبو إسحاق المصيصي المقسمي، روى عن حجاج بن محمَّد والحارث بن عطية ومحمد بن يزيد وغيرهم، وعنه أبو داود والنسائي وموسى الحمَّال وابن أبي داود وغيرهم،
وكتب عنه أبو حاتم وقال: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وفي موضع آخر ليس به بأس. قال ابن حجر: وذكره ابن حبان في الثقات والله أعلم.
2 -
الحجاج بن محمد المصيصي: تقدم 32.
2 -
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: تقدم 32.
4 -
زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخراساني أبو عبد الرحمن، سكن مكة ثم تحول منها إلى اليمن، وكان شريك ابن جريج، وروى عن ثابت بن عياض الأحنف وأبي الزناد وعبد الله بن الفضل والزهري وعمرو بن مسلم الجندي وابن عجلان وأبي الزبير المكي وحميد الطويل وهلال بن أسامة وغيرهم، وعنه مالك وابن جريج وابن عيينة وهمام وأبو معاوية وزمعة بن صالح وعِدَّةٌ، قال ابن عيينة: كان عالمًا بحديث الزهري، وقال أيضًا: كان أثبت أصحاب الزهري. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال مالك: "حدثنا زياد بن سعد وكان ثقة من أهل خراسان سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيئة وصلاح"، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ المتقنين. وقال الخليلي: ثقة يحتج به. وقال ابن المديني: كان من أهل الثبت والعلم. قال العجلي: مكي ثقة والله أعلم.
5 -
ثابت بن عياض الأعرج العدوي مولاهم وهو مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. وقال ابن سعد: ثابت بن الأحنف بن عياض روى عن ابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وأنس بن مالك وأبي هريرة، وعنه زياد بن سعد وسليمان والأحول وعمرو بن دينار وفليح بن سليمان ومالك بن أنس وغيرهم. قال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائي: ثقة، وقال زياد بن سعد قيل لثابت: أين سمعت من أبي هريرة؟ قال: كان مواليَّ يبعثونني يوم الجمعة آخذ مكانًا، فكان أبو هريرة يجيء يحدث الناس قبل الصلاة. قال ابن المديني: معروف. ووثقه أحمد بن صالح، وذكره ابن حبان في الثقات في موضعين. والله أعلم.
6 -
أبو هريرة تقدم.
تقدم الكلام على الحديث في الرواية الأولى.
65 -
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هِلَالُ بْنُ أُسَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُخْبِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.