الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• اللغة والإِعراب والمعاني
قولها: (توضأ) أي أراد أن يتوضأ وقولها: (فأتي) أي أحضر له ماء للوضوء، والفاء عاطفة مرتبة لذكر الوضوء بالتفصيل على ذكره بالإِجمال، والترتيب ذكرى وهو عطف المفصَّل على المجمل، وهذا أحد معاني الفاء العاطفة، وتحتمل السَّبَبِيَّة أي إرادته للوضوء كانت سبب الإِتيان بالماء، والمعنى: أنها ذكرت أنها رأته توضأ وأرادت أن تُبيَّن كيف فعل عند إرادته للوضوء بالتفصيل، وقدر منصوب على الحال أي: حال كون الماء قدر ثلثي المد، أو مقدرًا بثلثي المد، وقول شعبة:"فاحفظ" إلخ، هذا من تحري شعبة رحمه الله أي حفظت من قول حبيب فيما حكاه. وقوله:(باطنهما) بدل من أذنيه.
• الأحكام والفوائد
في الحديث فوائد ستأتي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معظمها في شرح الآية أول الكتاب وللَّه الحمد والمقصود منه هنا قولها: (بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد) فهو محل مناسبة الترجمة مع الحديث فإنه تحديد للماء الذي توضأ منه بحد غير الحد السابق، وذلك يدل على أن الأمر واسع كما قدمنا والله أعلم، وفيه دليل لمن قال بوجوب الدلك لقوله:(وجعل يدلكهما) وتقدم الخلاف فيه في شرح الآية، وفيه: مسح الأذنين وأكثر الأحاديث التي في صفة الوضوء لم يُذكر فيها وهو متفق عليه في الجملة وسيأتي إن شاء الله.
60 - باب النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ
75 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ عَنْ حَمَّادٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ ح وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
• [رجاله في الطريق الأول 5 إلى مالك وفي الثانية ستة]
• [الجميع 11: تقدم منهم ثمانية]
1 -
يحيى بن حبيب بن عربي الحراني وقيل: الشيباني أبو زكرياء البصري روى عن يزيد بن زريع وحماد بن زيد وخالد بن الحارث وعبد الوهاب الثقفي وبشر بن المفضل وغيرهم، وعنه الجماعة سوى البخاري وأبو بكر بن أبي عاصم وأبو بكر البزار ويوسف بن يعقوب القاضي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وغيرهم. قال أبو حاتم الرازي: صدوق، وقال النسائي: ثقة مأمون قلَّ شيخ رأيته بالبصرة مثله، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: هو والسراج مات سنة 248 وقيل: بعد سنة 50 هـ، قاله ابن حبان قال سلمة بن قاسم: ثقة والله أعلم.
2 -
حماد بن زيد: تقدم 3.
3 -
الحارث بن مسكين: تقدم 9.
4 -
عبد الرحمن بن القاسم العتقي: تقدم 20.
5 -
مالك بن أنس الإِمام تقدم 7.
6 -
سليمان بن منصور البلخي أبو الحسن ويقال أبو هلال بن أبي هلال الدهني البزار وفي التقريب الجرمي لقبه زرغندة، روى عن أبي الأحوص وابن عيينة ومسلم بن خالد وعبد الجبار بن الورد وابن المبارك وغيرهم، وعنه النسائي وأحمد بن علي الأبار ومحمد بن علي الترمذي الحكيم. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: مستقيم الحديث، وقال النسائي: لا بأس به، وقال غيره: مات سنة 240 هـ.
7 -
عبد الله بن المبارك: تقدم 36.
8 -
يحيى بن سعيد الأنصاري: تقدم 23.
9 -
محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي أبو عبد الله المدني كان جده الحارث من المهاجرين الأولين رأى سعد بن أبي وقاص، روى عن أبي سعيد الخدري وعمير مولى أبي اللحم وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وقيس بن عمرو الأنصاري ومحمود بن لبيد وعائشة وعلقمة وجماعة فيهم كثرة من التابعين
وأرسل عن أسيد بن حضير وأسامة وابن عمر وابن عباس فيما قبل، وعنه ابنه موسى وبنو سعيد الأنصاري يحيى وموسى وسعد ومحمد بن عمر وعلقمة وهشام بن عروة ويزيد بن الهاد ومحمد بن إسحاق وأسامة بن زيد الليثي وجماعة غيرهم، قال ابن معين والنسائي وأبو حاتم: ثقة، قال ابن سعد: قال محمد بن عمر وكان محمد بن إبراهيم يكنى أبا عبد الله، توفي سنة 120 هـ، وكان ثقة كثير الحديث، قال العقيلي: عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: في حديثه بعض شيء يروي أحاديث مناكير أو منكرة، وقال أبو حسان الزيادي: كان شريف قومه مات سنة 119 هـ، وقيل 120 هـ.
قال الحافظ ابن حجر: له رواية عن أبيه في المعرفة لابن منده فزعم أبو نعيم أنه أراد عن أبيه جده وعلى هذا فيكون أرسل عنه لأن أباه ولد بأرض الحبشة وتبعه ابن حبَّان في الثقات، وقال: سمع من ابن عمر، وقال يعقوب ابن شيبة: كان ثقة، وعن أبي حاتم: لم يسمع من جابر ولا من أبي سعيد اهـ.
وحديثه عند مالك والترمذي عن عائشة وصححه الترمذي، وعائشة ماتت قبل أبي سعيد وجابر، والله أعلم.
قال ابن حجر: ولهم شيخ آخر يقال له محمد بن إبراهيم التيمي الصنعاني ضعيف ذكره الترمذي في الضعفاء.
10 -
علقمة بن وقاص بن محصن بن كلدة بن عبد ياليل بن طريف بن عتوارة بن عامر بن مالك بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الليثي العتواري المدني، روى عن عمر وابن عمر وبلال بن الحارث ومعاوية وعمرو بن العاص وعائشة، وعنه ابناه عبد الله وعمرو والزهري ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وعمرو بن يحيى المازني وغيرهم، قال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: توفي بالمدينة في خلافة عبد الملك بن مروان، ذكره مسلم في طبقة الذين ولدوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولد في عهده عليه السلام، ذكره ابن مندة في الصحابة وذكره القاضي أبو أحمد والناس في التابعين وأنه توفي في خلافة عبد الملك. وذكر ابن حبان في ثقات التابعين أنه توفي في خلافة عبد الملك. وذكر ابن حجر رواية ابن مندة بإسنادها وحسَّنه وفيه أنه شهد الخندق وكان في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت:
وهذا عندي بعيد والله أعلم، أن يكون شهد الخندق في السنة الخامسة ويحكم عليه أكثر أهل العلم بأنَّه تابعي، ومن رفع في حاله قال: ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله. قيل: إنه كان يكنى أبا يحيى.
11 -
عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي أبو حفص أمير المؤمنين، أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقيل: حنتمة بنت هشام والأول أصح، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه وعن أبيِّ بن كعب، وعنه: أولاده عبد الله وعاصم وحفصة وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وشيبة بن عثمان الحجبي، وجماعة من الصحابة يطول ذكرهم وعمرو بن ميمون الأودي وأسلم مولى عمر وسعيد بن المسيب وسويد بن غفلة وشريح القاضي وعبيد بن عمير وعلقمة بن وقاص في خلق من التابعين، ولد قبل الفجار بأربع سنين وقيل بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، قال الزبير بن بكار: كان عمر من أشراف قريش وإليه كانت السفارة في الجاهلية وذلك أن قريشًا كانت إذا وقعت بينهم حرب بعثوه سفيرًا وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرًا ورضوا به، أسلم رضي الله عنه بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة وكان إسلامه صبيحة إسلام حمزة وكان إسلامه عزًا للمسلمين وظهر به الإِسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وظهر المسلمون بعدما كانوا مختفين من قريش فلما أسلم هو وحمزة رأوا أنهم عزوا في أنفسهم، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها وبويع بالخلافة يوم مات أبو بكر بعهد منه -رضي الله عن الجميع- وذلك في جمادي سنة 13 هـ.
فسار في الناس أحسن سيرة وفي عهده فتحت الأمصار من الشام والعراق وغير ذلك مما تم فتحه في عهده، وهو أول من دوَّن الدواوين ومصَّر الأمصار ورتّب الأجناد وعرّف العرفاء، إلى غير ذلك من سياسته الميمونة التي لم يسبق إليها، وكتب التاريخ الهجري وكان نقش خاتمه كفى بالموت واعظًا ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة، مكث في الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر أو ستة، وقتل يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة وقيل: لثلاث بقين من سنة 23 وسنه على
الصحيح 63 سنة، وقد رجح ابن حجر خلافه لما ورد عن ابن عمر عن عمر قال: قبل أن يموت بعام أنه ابن سبع وخمسين أو ثمان وخمسين وإنما أتاه الشيب من قبل أخواله، وذكر أن الخبر بذلك على شرط الصحيح، فالله أعلم. ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعدما استأذن عائشة فأذنت له، رضي الله عن الجميع.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني وابن حبان والبيهقي وغيرهم ولم يبق أحد من أهل الكتب المعتمد عليها سوى مالك في الموطأ إلَّا أخرجه.
• اللغة والإِعراب والمعنى
قوله: (سمعت عمر) سمعت الشيء أسمعه سمعًا وسماعًا وسماعة. واختلفوا في فعله هل يتعدى لمفعول واحد أو إلى مفعولين، فذهب الفارسي إلى أنه يتعدى لمفعولين الثاني منها يكون مما يسمع كسمعت زيدًا يتكلم أو يقول. وقال غيره: الصحيح أنه يتعدى إلى واحد وما بعده يكون حالًا فتقدير الكلام: سمعت عمر حال كونه على المنبر وحال كونه يقول: و (المنبر) بكسر الميم مشتق من النبر وهو الارتفاع، نبرت الشيء أنبره مثل: كسرته أكسره رفعته، من باب ضرب لأنه يرتفع عليه ويرفع صوته، وهذا يقتضي أنه قياسي وقد قيل إنه غير قياسي لأن الوزن وزن اسم الآلة وهو ليس اسمًا للآلة، لأن اسم الآلة ما يستعان به على فعل الشيء ويعالج به، وقال الكرماني: هو بلفظ الآلة وأل فيه للعهد أي منبر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه آلة الارتفاع وقد علم أن أوزان الآلة ثلاثة أوزان مفعل كمحلب مفعال كمفتاح مفعلة كمكنسة.
قوله: (إنما) هذه أداة حصر، ومعناه إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، قال الكرماني: هذا التركيب يفيد الحصر باتفاق من المحققين واختلفوا في إفادتها للحصر قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، ووجهه أنَّ إِنْ للإِثبات وما للنفي فالإثبات متوجه للمذكور والنفي متوجه لغيره.
قال العيني: إنما تقتضي الحصر المطلق، وهو الأغلب الأكثر وتارة
تقتضي حصرًا مخصوصًا كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} وكقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} وقد تقدم أن الحصر المطلق وهو الذي يقال له حقيقي حصر الصفة على الموصوف وهو حصر المسند على المسند إليه، وهو الأكثر، وأما الثاني وهو عكسه قصر الموصوف على صفته ويقال: قصر المسند إليه على المسند، فهو لا يقع عندهم إلَّا اعتباريًا أي باعتبار دون غيره ويسمى مجازًا لأن الغالب أن الموصوف لا يكون له صفة واحدة وتقدم في شرح الحديث 9 حديث الفطرة.
قوله: (الأعمال) جمع عمل، وأصله مصدر سمي به فعومل معاملة الأسماء، وهو إحداث أمر قولًا كان أو فعلًا بالجارحة أو بالقلب لكن الأسبق إلى الفهم الاختصاص بفعل الجارحة. وأل فيه للجنس أو للعهد الذهني. والصيغة تفيد العموم على كل من الوجهين. وإن كان الجمع على وزن القلة الذي هو أفعال فاقترانه بأل يفيد العموم إما مطلقًا وإما باعتبار العهد كما قدمنا. لأن المعهود في الذهن في مثل هذا المقام الأعمال الشرعية التي يتقرب بها إلى الله تعالى فيشمل سائر الأعمال الفعلية والقولية لأن الكلام عمل اللسان، قال ابن دقيق العيد:(ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص العمل بما لا يكون قولًا. قال: وفيه عندي بعد وينبغي أن يكون لفظ العمل يعم جميع أفعال الجوارح، نعم لو كان خصص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب لأنهم جعلوهما متقابلين فقالوا الأفعال والأقوال، قال: ولا تردد عندي في أن الحديث تناول الأقوال) اهـ. قال ابن حجر رحمه الله: والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازًا وكذا الفعل لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} بعد قوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قلت: وفيه نظر والله أعلم، لأن السنة الصحيحة وردت بإطلاق العمل على القول حقيقة ولا داعي لحمله على المجاز وذلك كقول المهاجرين:"سمع إخواننا بما فعلنا ففعلوا مثلنا" أي من الذكر .. الحديث، وقوله:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم. ." الحديث، وفيه قال:"ذكر الله تعالى" وفي حديث معاذ: "قلت: أي الأعمال أحب إلى الله، قال: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله" أخرجه الطبراني وابن حبان في صحيحه والبزار ولفظه: بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله قاله المنذري. وفي
حديث أم هانئ: مرني بعمل أعلمه، وأنا جالسة. الحديث وفيه "سبِّحي الله مائة تسبيحة إلخ". وفي رواية دلني على عمل يدخلني الجنة وهو عند أحمد وجماعة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما عمل آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله". وقوله في حديث البطاقة: "احضر وزنك وفيه فإنك لن ينقص من عملك" الحديث وقوله لمن قال له: "دلني على عمل يدخلني الجنة". قال: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله. .".
ومثاله في السنة كثير فهو إما حقيقة لغوية وهو الظاهر أو شرعية ولا داعي لحمله فيما ذكرنا على المجاز والله أعلم. أما الاعتراض بكون من حلف لا يعمل عملًا فقال قولًا فهو لا يحنث فهو مدفوع بأن الأيمان تجري على العرف وعلى بساط اليمين وهو السبب الباعث عليه كما يأتي إن شاء الله. وقد تقرر في علم العربية أن اتصال ما بإن وأخواتها مبطل لاختصاصها بالأسماء فيصح دخولها على الأفعال ويبطل عملها لكن قد يراعى فيها أصل الاختصاص فتبقى على عملها كما قال ابن مالك:
ووصل ما بذي الحروف مبطل
…
أعمالها وقد يبقى العمل
وأنشدوا عليه بيت النابغة المشهور وهو يروى بالإعمال والإِهمال وهو قوله:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وهي هنا مكفوفة عن العمل ولهذا ارتفع الاسم وهو الأعمال. وقوله: (بالنية) هذه رواية المصنف وفي رواية للبخاري وغيره وهي الرواية الأولى عنده (بالنيات) بلفظ الجمع والمعنى في الروايتين واحد لأنها هنا تكون اسم جنس وهو في قوة الجمع. والنية: عقد القلب على الشيء وقيل: هو العزم عليه وأنشد قول الشاعر:
صرمَتْ أميمة خلتي وصلاتي
…
ونوت ولما تنتوى كنواتى
يقول: لم تنو فيَّ كما نويت فيها.
ومنه قول الشاعر أيضًا:
إذا ما نظرنا في مناكح خالد
…
علمنا الذي ينوي وكيف يريد
أي الذي يعزم عليه.
والنيّة بالتشديد وحكى النووي فيها التخفيف والمعروف فيها التشديد لأنها من نوى ينوي إذا قصد فأصلها نوْية فقلبت الواو ياء على القاعدة المعروفة المشار إليها بقول ابن مالك رحمه الله:
إن يسكن السابق من واو ويا
…
واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما
…
وشذ معطى غير ما تقدما
وأما دعوى بعضهم أنها من وَنى فبعيد لأن مصدر ونى يني يكون ونيًا كوعْدٍ ونظائره من المثالي والله أعلم.
فوجه التخفيف إنما هو حذف إحدى الياءين بعد الإِبدال والله أعلم.
وحقيقتها عند الأكثرين: قصد بالقلب وتوجهه إلى الفعل والعزيمة عليه، وبعض أهل العلم فرق بين القصد والنية بما حاصله تراخي الفعل عن العزم ومقارنته للقصد ولهذا قال القسطلاني في تعريفها وشرعًا أي: والنية شرعًا: قصد الشيء مقرونًا بفعله فإن تراخى عنه كان عزمًا.
والباء في قوله (بالنية) للمصاحبة فيقتضي ذلك اقترانها بالفعل كأنها من نفسه فيجب ألا تتخلف عن أوله وقيل سببية فكأنها سبب لإِيجاد الفعل على هذا الوجه ومقومة له. واستبعد العيني السببية وجوز الاستعانة ولم يبين وجه ذلك. وأل الأعمال تحتمل العهد الذهني كما تقدم وتحتمل الاستغراق وتخصيص ذلك بأعمال المكلفين من أهل الإِسلام من أجل الأدلة الدالة على أن أعمال الكفار غير مقبولة على كل حال وأل في النية يحتمل أن تكون عوضًا عن الضمير كما ذكر ابن حجر أي بنيتها ويحتمل أن تكون للعهد الذهني أي نية القربة.
قلت: التقدير الأول أولى فتكون عوضًا عن المضاف إليه، والله أعلم.
ولابد من تقدير مضاف محذوف يكون هو المخبر عنه به واختلفوا في تقديره فقدّره بعضهم صحة الأعمال، وقدّره بعضهم اعتبار الأعمال الشرعية، وبعضهم ثواب الأعمال، وبعضهم كمالها لأن ظاهر الحديث مطرح وهو اشتراط النية لإِيجاد العمل وهذا غير مراد قطعًا لأنه من المعلوم ضرورة وجود ذوات الأعمال دون النية وانفكاكها عنها فعلم أن المراد معنى زائد على وجودها ورجح كثير، أو الأكثرون أن تقديره: صحة الأعمال؛ لأن الصحة
أكثر لزومًا للحقيقة. قلت: والذي يظهر لي والله أعلم أن تقديره اعتبار الأعمال الشرعية أو حصول ثواب الأعمال الشرعية أولى لأنه قد يصح بعض الأعمال بدون نية كقضاء الدين أو أداء النفقة وهي أعمال شرعية تصح بدون النية لكن قد يتوقف اعتبار القربة وحصولها على النية، والله أعلم.
وقد اتفقوا على اشتراط النية في العبادات التي هي مقاصد، ولكن اختلفوا في التي هي وسائل، فقال بعضهم بعدم وجوبها فيها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن مالك، وقال قوم إنها تجب لها. وهذا سبب الاختلاف في اشتراط النية في الوضوء والطهارة فمذهب الجمهور الوجوب وهو ظاهر صنيع المصنف ومثله البخاري، رحمة الله على الجميع.
وقوله: (إنما) من حصر المسند أو حصر الصفة لأن المقصور عليه بإنما المؤخر وقوله: (لامرئ ما نوى) بكسر الراء اتباعًا للكسرة في الهمزة فإن هذا اللفظ إذا دخلت عليه همزة الوصل يعربونه من حرفين، الراء والهمزة تقول: هذا امرؤ، ورأيت أمرًا، ومررت بامرِئ.
وهي إحدى لغات ثلاث، والثانية: فتح الراء دائمًا كأصبع رفعًا ونصبًا وجرًا. والثالثة: ضمها دائمًا.
والمرء بدون همز الوصل مثلث الميم ولكن الفتح أقيس وسمع في لغة هذيل كسرها، قال أبو خراش:
جمعت أمورًا ينفد المرء بعضها
…
من الحلم والمعروف والحسب الضخم
الرواية فيه بكسر الميم وهو لفظ لا يجمع جمع سلامة، وقيل: إنه سمع فيه مرؤن ولكنه يُثنَّى ويُصغَّر، والمرأة داخلة في اللفظ هنا إما على أنه يتناولها في الأصل على ما تقدم من أنه يشمل الذكر والأنثى، وإما بالتبع وكثيرًا ما ورد الخطاب بلفظ المذكر فيعم الإِناث إما لمكان كون الرجال قوامين عليهن أو للتغليب، والله أعلم، وقد تقدم في تفسير الآية الكلام على مثل هذا.
وقوله: (ما نوى) ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر مقدم وهو قوله (لامرئ).
وقد اختلفوا في هذه الجملة فقيل: إنها محققة لمعنى الأولى فهي مؤكدة لها، وقيل: أفادت معنى آخر وهو أن الثواب على قدر النية لأن من الأعمال
ما يكون فيه الأجر من وجهين أو وجوه فيتوقف حصول ذلك على النية كمن خرج يريد الصلاة يكتب له ثوابها، فإن قصد مع ذلك طلب العلم حصل له أجره، وإن جلس في المسجد ينتظر الصلاة ونوى الاعتكاف حصل له الأجر عند من لا يشترط الصيام، وهكذا في الصدقة على القريب كما في الحديث بل في بعض الأعمال الدنيوية يحصل للمرء الثواب على حسب النية كمن نوى بالبيع والشراء أنه يعفُّ نفسه ويتصدق وله نظائر كثيرة، وإن كان الفعل في الأصل ليس بقربة كالنكاح والشرب والأكل فإنه إن نوى عفة الزوجة وعفة نفسه وطلب تكثير سواد الأمة أُجِرَ من وجوه، وإن لم تكن له نية إلَّا بلوغ شهوته فلا أجر له وهكذا في غيره.
وقد قيل إن هذه الجملة أفادت أن الترك خاصة لا يثاب عليه إلَّا مع النية وهذا موقوف على دخول الترك مسمى الفعل وهو الراجح بل المتعين فمن ترك شرب الخمر أو الزنا خشية العقوبة الدنيوية لا يثاب وإن سلم من الإِثم، وإن ترك ذلك لخوف الله عز وجل أجر.
قلت: وقد يقال إنها محمولة على ما تقدم من كون الفعل فيه مجال للنية من وجوه فلا يحصل منها شيء إلَّا على قدر النية على ما تقدم، فمن نوى شيئًا دون غيره حصل له المنوي فقط وقد تقرر في علم العربية أن اللفظ إذا دار بين التوكيد والتأسيس كان حمله على التأسيس أولى، والله أعلم.
والفاء قيل عاطفة لتفصيل ما أجمل في قوله "الأعمال بالنيات" ويحتمل أن يكون المذكور للتمثيل لا للتفصيل. (والهجرة)، بكسر الهاء والهجران بكسرها والهجر بفتحها كلها بمعنى الترك للشيء.
قلت: وذلك إذا تعدى الفعل بنفسه أو بعن أو بمن وأما إن عُدِّيَ بإلى فهي بمعنى الانتقال إلى الشيء وقصده عند ترك غيره كما في قولك: "هاجر إلى الله ورسوله".
وهي في عرف الشرع ترد لمعنيين: أحدهما: ترك ما نهى الله عنه قولًا وعملًا، كما في الحديث:"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وهو أعمُّها، والثاني: وهو الغالب فيها عند الإطلاق: الخروج من دار الكفر إلى دار الإِسلام أو الخروج من مكان على سبيل الهرب بالدين لقصد سلامته.
وأول من سنَّها على الإطلاق: الخليل عليه السلام كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وأول من هاجر في الإِسلام "عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم". واقتدى بهما المهاجرون وهي أول هجرة في الإِسلام كانت إلى الحبشة حين اشتد أذى المشركين على المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: "إن بالحبشة ملكًا لا يُظْلَمُ أحد عنده فلو خرجتم إليه فخرجوا إليه" فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبِّه عثمان بالخليل عليه السلام.
(ومن): هاهنا شرطية. وقوله: (هجرته إلى الله) أي: الحامل عليها والباعث طلب ثواب الله وقصد صحبة رسوله والجهاد معه، فعبَّر عن قصد التقرب بالهجرة بأنها إلى الله كما قال الخليل {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وقد تقدم معنى -إلى- في شرح الآية في المقدمة، والفاء في قوله:(فهجرته إلى الله) واقعة في جواب الشرط وقد اتحد الشرط والجزاء في اللفظ. والأصل فيهما التغاير، والجواب عن ذلك، أن التغاير يكون في اللفظ، وهو الأكثر ويكون في المعنى كما هنا لأن المعنى المراد في قوله:(من كانت هجرته إلى الله) أي: بالقصد فهجرته ثابتة له عند الله يُجْزَى بها يوم القيامة.
وقوله: (إلى دنيا) صفة لموصوف محذوف مشتق من الدنوِّ الذي هو القرب وفيه محذوف مقدر مضاف إلى الدنيا، أي نيل دنيا أو حصول دنيا، قال الكرماني:(في الدنيا مقصورة غير منونة لأنها فعلى من الدنو وموصوفها محذوف أي الحياة الدنيا) اهـ.
قال ابن مالك في كتاب الشواهد: في استعمال الدنيا منكرًا إشكال، لأنها أفعل تفضيل فكان حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى إلَّا أنها خلعت عنها الوصفية رأسًا أي تنوسي فيها معنى الوصفية وأجريت مجرى ما لم يكن وصفًا ومثله قول الشاعر:
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
…
يوما سراة كرام الناس فادعينا
فإن الجلى تأنيث الأجل فخلعت عنها الوصفية وجعلت اسمًا للحادثة العظيمة، قال الكرماني: والدليل على جعلها اسمًا قلب الواو ياء لأنه لا يجوز القلب إلَّا في فعلى الإِسمية.
وهو مؤنث الأدنى لا ينصرف، قيل: لوجود علتين فيه: الوصفية،
والتأنيث. ورجح الكرماني: أن علة المنع ألف التأنيث، وهي صفة للحياة وحقيقتها ما يحصل به النفع قبل الموت من المال والأهل والولد واللذة وهي إحدى الحياتين والأخرى هي الحياة الثانية، وكان في قوله:(فمن كانت) يحتمل أن تكون ناقصة فالجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لكان ولك أن تقدره اسمًا أي: واقعة أو حاصلة، أو فعلًا وقعت أو حصلت كما هو معلوم على حد قول ابن مالك رحمه الله:
وأخبروا بظرف أو بحرف جر
…
ناوين معنى كائن أو استقر
وهذا هو الظاهر ويجوز أن تكون تامة والجار والمجرور متعلق. بهجرته وقوله: (يصيبها) ينالها وتحصل له بسبب الهجرة، والجملة صفة لدنيا. وقوله:(أو امرأة) تقدم الكلام على لفظ المرأة و (ينكحها) أي: يتزوجها كما في بعض الروايات وسيأتي الكلام على لفظ النكاح والتزوج إن شاء الله.
وقوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي مقصورة على ما طلب لا ثواب لها ولا تأثير إلَّا في الذي قصده بها حصل له ذلك أم لم يحصل.
• الأحكام والفوائد
اشتهر عند العلماء أن سبب هذا الحديث ما رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر وتزوجها فكنَّا نسميه مهاجر أم قيس. ورجال إسناده ثقات.
قال ابن حجر رحمه الله رواها سعيد بن منصور في سننه قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: من هاجر يبتغي شيئًا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس وساق الحديث، ثم ذكر رواية الطبراني المتقدمة، قلت: وهذا إسناد بيَّن، واحتج الأئمة مالك والشافعي وأحمد، وهو قول الجمهور من أهل الحديث وغيرهم به على وجوب النية في الوضوء والغسل وسائر الأعمال الشرعية، وقالوا: التقدير فيه -صحة الأعمال، أو ثواب الأعمال أو اعتبار الأعمال على ما تقدم- بالنيات، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس فيدخل فيه جميع الأعمال من الصوم والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما تطلب فيه النية عملًا بالعموم فتدخل فيه الطهارة
وسائر العبادات.
قال الخطابي رحمه الله: لم يرد به أعيان الأعمال لأنها حاصلة حسًا وعينًا بغير نية وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما تقع بالنية وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وكلمة إنما عاملة بركنيها إيجابًا ونفيًا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية صحت وإذا لم تصحبها لم تصح ومقتضى حق العموم فيها موجب ألا يصح عمل من الأعمال الدينية فرضًا كان أو نفلًا إلَّا بالنية.
قال البيضاوي: الحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، والمراد به نفي أحكامها كالصحة والفضيلة والحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ولأن اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات، وبالتبع على نفي جميع الصفات فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقيت دلالته على نفي جميع الصفات.
والأعمال والنيات كل واحد منهما على بأداة الاستغراق فحمله إما على عرف اللغة فيكون حقيقًا أو على عرف الشرع فيكون المراد الواجبات والمندوبات على ما تقدم وتكون النية الإِخلاص والبعد عن الرياء والتعرض بالعمل لأي غرض غير وجه الله.
وذهب الإِمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر إلى أن الوضوء والغسل لا يشترط فيهما النية ووافقهما الثوري والحسن بن حي، ورُوِيَ عن مالك في رواية له أنه قال بعدم اشتراط النية في الطهارتين، وكذلك الأوزاعي إلَّا أنه زاد التيمم وكذلك الحسن بن حي، وقال عطاء ومجاهد لا يحتاج صيام رمضان إلى نية إلَّا أن يكون مسافرًا، أو مريضًا.
قلت: وهذه الأقوال مبناها على أن الطهارة وسيلة وليست مقصدًا يقصد به التعبد، ويرده: ما ثبت في السنة الصحيحة من أن الوضوء عبادة تُكفَّر بها السيئات كما سيأتي إن شاء الله، وأما إسقاط النية في صيام رمضان فالظاهر أن المراد تخصيص الصيام بتعيينه لزمان أي أنه لا يحتاج عند نية الصيام أن يعين أنه رمضان فإذا كان كذلك فيكون وجهه أن الظرف غير قابل لصوم غير رمضان والله أعلم.