الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِك فِي «الْمُسْتَصْفَى» حَيْثُ قَالَ (لما) سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة فَقَالَ: خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلَاّ مَا غيَّر طعمه أَو لَونه أَو رِيحه» .
وَوَقع فِي «الْكِفَايَة» لِابْنِ الرّفْعَة، عزو الِاسْتِثْنَاء إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد، (فَقَالَ: وَرِوَايَة أبي دَاوُد) : «خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلَاّ مَا غير طعمه أَو رِيحه» وَهَذَا لَيْسَ فِي أبي دَاوُد فاعلمه.
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا بَلَغَ (الماءُ) قُلَّتَين، لم يَحْمِلْ خَبَثًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، ثَابت، من رِوَايَة عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، عَن أَبِيه رضي الله عنهما، «أنَّ رَسُول الله سُئِلَ عَن المَاء يكون بِأَرْض الفَلَاة، وَمَا يَنُوبُه من السبَاع وَالدَّوَاب، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ، لم يحملِ الخَبَث» .
أخرجه (الْأَئِمَّة) الْأَعْلَام: الشَّافِعِي، وَأحمد، والدارمي فِي «مسانيدهم» . وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحهمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة:«السّنَن الْكَبِير» ، و «الْمعرفَة» ، و «الخلافيات» .
قَالَ يَحْيَى بن معِين: إِسْنَاد جيد.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، فقد احتجا جَمِيعًا بِجَمِيعِ رُوَاته، وَلم يخرجَاهُ، وأظنهما - وَالله أعلم - لم يخرجَاهُ لخلاف عَلَى أبي أُسَامَة عَلَى الْوَلِيد بن كثير حَيْثُ رَوَاهُ تَارَة: عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، وَتارَة: عَن مُحَمَّد بن (عبَّاد) بن جَعْفَر.
قَالَ: وَهَذَا خلاف لَا يُوهن الحَدِيث، فقد احتجَّ الشَّيْخَانِ جَمِيعًا بالوليد بن كثير، وَمُحَمّد بن (عباد) بن جَعْفَر، وإنَّما قرنه (أَبُو أُسَامَة) إِلَى مُحَمَّد بن جَعْفَر، ثمَّ حدَّث بِهِ مرّة عَن هَذَا وَمرَّة عَن ذَاك.
ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي أُسَامَة نَا الْوَلِيد بن كثير، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير؛ وَمُحَمّد بن عباد بن جَعْفَر، عَن عبد الله بن عمر بِهِ.
قَالَ: فقد صحَّ وَثَبت بِهَذِهِ الرِّوَايَة صِحَة الحَدِيث، وَظهر أَن أَبَا أُسَامَة سَاق الحَدِيث عَن الْوَلِيد بن كثير، عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَقد تَابع الْوَلِيد بن كثير عَلَى رِوَايَته، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط مُسلم فِي عبيد الله بن عبد الله، وَمُحَمّد بن جَعْفَر، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق، والوليد بن كثير.
قَالَ: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر، (عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عَن أَبِيه. [و] رَوَاهُ إِسْمَاعِيل ابْن علية، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر) ، عَن رجل، عَن ابْن عمر.
فَهَذَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَافق عِيسَى بن يُونُس، عَن الْوَلِيد بن كثير فِي ذكر مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، وَعبيد الله (بن عبد الله) بن عمر. وروايتهما توَافق رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة وَغَيره، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر، (فِي ذكر عبيد الله بن عبد الله) .
فَثَبت هَذَا الحَدِيث بِاتِّفَاق أهل الْمَدِينَة والكوفة وَالْبَصْرَة عَلَى حَدِيث عبيد الله بن عبد الله، وباتفاق مُحَمَّد بن إِسْحَاق، والوليد بن كثير، عَلَى روايتهما عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير. فعبيد الله، وَعبد
الله ابْنا عبد الله بن عمر مقبولان بإجماعٍ من الْجَمَاعَة فِي كتبهمْ. وَكَذَلِكَ مُحَمَّد (بن جَعْفَر) بن الزبير، وَمُحَمّد بن عَبَّاد بن جَعْفَر، والوليد بن (كثير) : فِي كتاب مُسلم بن الْحجَّاج، وَأبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ. وَعَاصِم بن الْمُنْذر يُعْتَبر بحَديثه. وَابْن إِسْحَاق أخرج عَنهُ (مُسلم و) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
وَعَاصِم بن الْمُنْذر اسْتشْهد (بِهِ) البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، وَقَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج: مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: هُوَ ثِقَة ثِقَة ثِقَة. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ ابْن مَنْدَه.
وَقد ذكرت فصلا فِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق قبيل الْأَذَان، وَذكرت أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فَرَاجعه.
وأعَلَّ قومٌ الحديثَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: الِاضْطِرَاب، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي الإِسناد، وَالثَّانِي فِي الْمَتْن.
(أما الأول) : فَحَيْثُ رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير تَارَة عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر، وَتارَة عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير. وَحَيْثُ رُوِيَ تَارَة عَن (عبيد الله) بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَتارَة عَن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن هَذَا لَيْسَ اضطرابًا، بل رَوَاهُ مُحَمَّد بن عباد، وَمُحَمّد بن جَعْفَر، وهما ثقتان معروفان. (وَرَوَاهُ) - أَيْضا - عبيد الله، وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر بن الْخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم) ، وهما - أَيْضا - ثقتان، وَلَيْسَ هَذَا من الِاضْطِرَاب.
وَقد جمع اليبهقي طرقه، وبيَّن رِوَايَة المُحَمَّدَيْن، وَعبد الله، وَعبيد الله، وَذكر (طرق) ذَلِك كلهَا، وبيَّنها أحسن بَيَان، ثمَّ قَالَ: والْحَدِيث مَحْفُوظ عَن عبد الله وَعبيد الله.
قَالَ: وَكَذَا كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ الْحَاكِم يَقُول: الحَدِيث مَحْفُوظ عَنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه. قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب كثير من أهل الرِّوَايَة، وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول: غلط أَبُو أُسَامَة فِي عبد الله بن عبد الله، إِنَّمَا هُوَ عبيد الله بن عبد الله، بِالتَّصْغِيرِ.
وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيّ فِي تَصْحِيح الحَدِيث بدلائله، فَحصل أنَّه غير مُضْطَرب. وَقد قَدَّمنا - قبل هَذَا - كَلَام الْحَاكِم أبي عبد الله فِي ذَلِك.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، و «علله» : رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير عَن المُحَمَّدَيْن. فصحَّ الْقَوْلَانِ عَن أبي أُسَامَة، وصحَّ أَن الْوَلِيد بن كثير رَوَاهُ عَن هَذَا مرّة، وَعَن الآخر أُخْرَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : الظَّاهِر عِنْد الْأَكْثَرين صِحَة الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ فِي «التذنيب» : الْأَكْثَرُونَ صححوا الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالُوا إِن عبد الله، وَعبيد الله روياه عَن أَبِيهِمَا.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : لأجل هَذَا الِاخْتِلَاف تَركه البُخَارِيّ وَمُسلم، لِأَنَّهُ عَلَى خلاف شَرطهمَا، لَا لطعن فِي متن الحَدِيث، فإنَّه فِي نَفسه حَدِيث مَشْهُور مَعْمُول بِهِ، وَرِجَاله ثِقَات معدلون، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَاف مِمَّا يوهنه. ثمَّ ذكر مقَالَة الْحَاكِم الْمُتَقَدّمَة.
وَقَالَ الْخطابِيّ: يَكْفِي شَاهدا عَلَى صِحَة هَذَا الحَدِيث: أَن نُجُوم أهل الحَدِيث صحَّحوه، وَقَالُوا بِهِ، واعتمدوه فِي تَحْدِيد المَاء، وهم الْقدْوَة، وَعَلَيْهِم الْمعول فِي هَذَا الْبَاب.
فَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْر، وَأَبُو عبيد، وَابْن خُزَيْمَة، وَغَيرهم.
وَقَالَ عبد الْحق: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : هَذَا الحَدِيث حَسَّنه الحفَّاظ وصحَّحوه، وَلَا تُقبل دَعْوَى من ادَّعى اضطرابه.
(وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فَهُوَ أَنه قد رُوي فِيهِ) : «إِذا كَانَ المَاء قدر قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاث، لم يُنجسهُ شَيْء» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد.
وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، لم يُنجسهُ
شَيْء» .
وَفِي رِوَايَة: لِابْنِ عدي، والعقيلي، وَالدَّارَقُطْنِيّ:«إِذا بلغ المَاء أَرْبَعِينَ قلَّة، فإنَّه لَا يحمل الْخبث» .
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: أما الرِّوَايَتَيْنِ (الأولتين، فهما شاذتان، غير ثابتتين، فوجودهما كعدمهما. قَالَه النَّوَوِيّ) فِي «شرح الْمُهَذّب» .
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : رَوَاهُمَا حَمَّاد، واختُلف عَلَيْهِ:
فروَى عَنهُ: إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج، وهدبة، وكامل بن طَلْحَة، فَقَالُوا:«قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» .
وَرَوَى عَنهُ: عفَّان، وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ، وَبشر بن السّري، والْعَلَاء بن عبد الجَبَّار، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَعبيد الله بن مُوسَى العيشي:«إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ» . وَلم يَقُولُوا: «أَو ثَلَاثًا» .
وَاخْتلفُوا عَن يزِيد بن هَارُون، فروَى عَنهُ ابْن الصَبَّاح بِالشَّكِّ، وَأَبُو مَسْعُود بِغَيْر شكّ. فَوَجَبَ الْعَمَل عَلَى قَول من لم يشك.
وَأما الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، فَلَيْسَتْ (من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ) فِي شَيْء، (ذَاك) من طَرِيق ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر مَرْفُوعا، تفرد بِهِ الْقَاسِم الْعمريّ، عَن ابْن الْمُنْكَدر، وَهِي مَرْدُودَة بالقاسم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: غلط فِيهِ، وَكَانَ ضَعِيفا فِي (الحَدِيث) ، (جَرَّحه) أَحْمد، (وَيَحْيَى) ، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم من الْحفاظ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ ضَعِيفا، كثير الْخَطَأ، (وَوهم) فِي إِسْنَاده، وَخَالفهُ روح بن الْقَاسِم، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَمعمر، (فَرَوَوْه) عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن عبد الله بن [عَمْرو] مَوْقُوفا. وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، من قَوْله لم (يُجَاوِزهُ) .
وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة، عَن أَبِيه، قَالَ: إِذا كَانَ المَاء قدر أَرْبَعِينَ قلَّة، لم يحمل خبثًا.
وَخَالفهُ غير وَاحِد، فَرَوَوْه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالُوا: أَرْبَعِينَ غَرْبًا، وَمِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعِينَ دلوًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَول من يوافقُ قَوْله من الصَّحَابَة قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْقلَّتَيْنِ، أولَى أَن يُتَّبع.
قلت: لَا جرم أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر فِي «مَوْضُوعَاته» هَذِه الرِّوَايَة الثَّالِثَة، وَقَالَ: إنَّها لَا تصح، (وأنَّ) الْمُتَّهم بالتخليط فِيهَا:
الْقَاسِم بن [عبد الله] الْعمريّ، قَالَ عبد الله بن أَحْمد: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ، لَيْسَ بِشَيْء، وسمعته مرّة يَقُول: كَانَ يكذب، وَفِي رِوَايَة: يضع الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّانِي: مِمَّا أُعِلَّ بِهِ هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ: أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى (عبد الله) بن عمر (كَذَلِك رَوَاهُ ابْن عُلَيَّة) .
وَالْجَوَاب: أَنه (قد سبق رِوَايَته) مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم من طَرِيق الثِّقَات، فَلَا يضر تفرد وَاحِد لم (يحفظ) بوقفه.
وَقد رَوَى الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، بالإِسناد الصَّحِيح، عَن يَحْيَى بن معِين - إِمَام (أهل) هَذَا الشَّأْن - أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: جيد الْإِسْنَاد، قيل لَهُ: فَابْن علية لَمْ يرفعهُ؟ قَالَ يَحْيَى: وإنْ لم يحفظ ابْن علية، فَالْحَدِيث جيد الْإِسْنَاد.
(وَأَنا أتعجب) من قَول أبي عمر بن عبد الْبر فِي «تمهيده» : مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر، غير ثَابت من جِهَة الْأَثر؛ لِأَنَّهُ حَدِيث تَكَلَّم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم؛ وَلِأَن الْقلَّتَيْنِ لَمْ يُوقَف عَلَى حَقِيقَة (مبلغهما) فِي أثر ثَابت، وَلَا إِجْمَاع.
وَقَوله فِي «استذكاره» : حديثٌ مَعْلُول، رَدَّه إِسْمَاعِيل القَاضِي، وَتَكلَّم فِيهِ.
وَقد حكم الإِمام الْحَافِظ، أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، الْحَنَفِيّ، بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث، كَمَا ذكرنَا، لكنه اعتلَّ بِجَهَالَة قدر الْقلَّتَيْنِ.
وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك: الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : هَذَا الحَدِيث قد صحَّح بَعضهم إِسْنَاد بعض طرقه، وَهُوَ - أَيْضا - صَحِيح عَلَى طَريقَة الْفُقَهَاء؛ لِأَنَّهُ وإنْ كَانَ حَدِيثا مُضْطَرب الإِسناد، مُخْتَلَفًا فِيهِ فِي (بعض) أَلْفَاظه - وَهِي علَّة عِنْد الْمُحدثين، إلَاّ أَن يُجاب عَنْهَا بِجَوَاب صَحِيح - فإنَّه يُمكن أَن يُجمع بَين الرِّوَايَات، ويُجاب عَن بَعْضهَا بطرِيق أصولي، ويُنسب إِلَى التَّصْحِيح، وَلَكِن تركته - (يَعْنِي) فِي «الإِلمام» - لِأَنَّهُ لم يثبت عندنَا - الْآن - بطرِيق اسْتِقْلَال يجب الرُّجُوع إِلَيْهِ شرعا تعْيين لمقدار الْقلَّتَيْنِ.
وَالْجَوَاب عَمَّا اعتذرا بِهِ: أنَّ المُرَاد قُلَّتَيْنِ بقلال هجر، كَمَا رَوَاهُ الإِمام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، و «الْمُخْتَصر» : عَن مُسلم بن خَالِد الزِّنجيّ، عَن ابْن جريج، بإسنادٍ لَا يحضرني ذكره، أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحملْ خبثًا» ، وَقَالَ فِي الحَدِيث:«بقلال هَجَر» .
قَالَ ابْن جريج: وَقد رَأَيْت قلال هجر، فالقلَّة تسعُ قربتين، أَو قربتين وشيئًا.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
وَمُسلم بن خَالِد، وإنْ تُكُلِّم فِيهِ، فقد وثَّقه: يَحْيَى بن معِين، وَابْن حِبَّان، وَالْحَاكِم، وَأَخْرَجَا لَهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، أَعنِي ابْن حبَان وَالْحَاكِم. وَقَالَ ابْن عدي: حسنُ الحَدِيث. وَمن ضَعَّفه لَمْ يَبَيِّن سَببه، وَالْقَاعِدَة المقررة: أنَّ الضعْف لَا يُقْبَلُ إلَاّ مُبَيَّنًا.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : (الإِسناد) الَّذِي لم يحضر الشَّافِعِي ذكره - عَلَى مَا ذكر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ - أنَّ ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي محمدٌ (أنَّ) يَحْيَى بن عقيل أخبرهُ، أَن يَحْيَى بن يعمر أخبرهُ، أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ، لم يحمل خبثًا، وَلَا بَأْسا» . قَالَ مُحَمَّد: فَقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ فقَالَ: قلال هجر.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» أَيْضا.
قَالَ: وَمُحَمّد هَذَا الَّذِي حَدَّث (عَنهُ) ابْن جريج هُوَ: مُحَمَّد
بن يَحْيَى، يحدث عَن يَحْيَى بن أبي كثير، وَيَحْيَى بن عقيل.
وَهَذَا الحَدِيث مُرْسل، فإنَّ يَحْيَى بن يعمر (تَابِعِيّ مَشْهُور) ، رَوَى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ من الحَدِيث الْمَشْهُور، وَيكون ابْن يعمر قد رَوَاهُ عَن ابْن عمر، وَيجوز أَن يكون غَيره؛ لِأَنَّهُ يكون قد رَوَاهُ عَن غير ابْن عمر.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَمَا ذكرالإِمامان: الرَّافِعِيّ، وَابْن الْأَثِير.
قلت: وَإِذا كَانَ مُرْسلا، فيعتضد بِمَا رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر، لم يُنجسهُ شَيْء» .
لَيْسَ فِي إِسْنَاده سُوَى: الْمُغيرَة بن [سقلاب]، قَالَ ابْن أبي حَاتِم [عَن أَبِيه] : صَالح الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: (جزري) لَا بَأْس بِهِ.
وَهَذَا يُقَدَّم عَلَى قَول ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث، وَعَلَى قَول (عليّ بن) مَيْمُون الرَّقي: إنَّه لَا يُسَوِّي بَعرَة، لجلالة الْأَوَّلين.
وَمن الْمَعْلُوم: أَن قِلال هجر كَانَت مَعْرُوفَة عِنْدهم، مَشْهُورَة، يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي ذَر رضي الله عنه، الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أخْبرهُم) لَيْلَة الإِسراء (فَقَالَ) :«رُفِعَتْ إليَّ سِدرْة الْمُنْتَهَى، فَإِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة، وَإِذا نَبِقُها مثل قِلال هَجَر» .
فعُلِم بِهَذَا: أنَّ القلال عِنْدهم مَعْلُومَة، مَشْهُورَة، وَكَيف يُظن أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم (يُحدد) لَهُم، أَو يمثل لَهُم بِمَا لَا يعلمونه، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ؟
قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ مُسلم - يَعْنِي ابْن خَالِد الزنْجِي - يذهب إِلَى (أنَّ) ذَلِك الشَّيْء الْمَذْكُور فِي قَول ابْن جريج أقل (من نصف قربَة، أَو نصف الْقرْبَة، فَيَقُول: خمس قرب هُوَ أَكثر مَا يسع قُلَّتَيْنِ، وَقد تكون)
القلتان أقل من خمس.
قَالَ الشَّافِعِي: فالاحتياط أَن تكون [الْقلَّة] قربتين وَنصفا، فَإِذا كَانَ المَاء خمس قرب لم يحملْ خبثًا، فِي (جَرَيَان) ، أَو غَيره.
إلَاّ أَن يظْهر فِي المَاء ريح أَو طعم أَو لون.
قَالَ: وَقِرَب الْحجاز كبار، فَلَا يكون المَاء الَّذِي لَا يحمل النَّجَاسَة إلَاّ بِقِرَبٍ كبار.
قلت: لِأَن الْقلَّة فِي اللُّغَة: الجرة الْعَظِيمَة، الَّتِي يُقلها الْقوي من الرِّجَال، أَي: يحملهَا و (يرفعها) . قَالَ الْخطابِيّ: قلال هجر مَشْهُورَة الصَّنْعَة، مَعْلُومَة الْمِقْدَار، لَا تخْتَلف كَمَا لَا تخْتَلف المكاييل والصيعان المنسوبة إِلَى الْبلدَانِ، قَالَ: وقلال هجر أكبرها وأشهرها؛ لأنَّ الْحَد لَا يَقع بِالْمَجْهُولِ.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي «تَعْلِيقه» : قَالَ أَبُو إِسْحَاق، إِبْرَاهِيم بن جَابر، صَاحب «الْخلاف» : سَأَلت قوما من ثِقَات هجر، فَذكرُوا أنَّ القلال بهَا لَا تخْتَلف، وَقَالُوا: قايسنا الْقلَّتَيْنِ، فوجدناهما خَمْسمِائَة رَطْل.
فَإِذا تقرر عنْدك مَا قَرَّرْنَاهُ، ظهر لَك أنَّ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور مُتَعَيّن، وَلَا جَهَالَة فِي مِقْدَار الْقلَّتَيْنِ.
فإنْ قُلْتَ: قد جَاءَ فِي آخر حَدِيث ابْن عمر، الَّذِي ذكرته من طَرِيق
ابْن عدي، بعد قَوْله:«إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر لَمْ يُنجِّسه شَيْء» .: «وَذكر (أَنَّهُمَا) فرقان» . فَلَا يَصح مَا قَرّرته؛ لِأَن الْفرق: سِتَّة عشر رطلا، فَيكون مَجْمُوع الْقلَّتَيْنِ: اثْنَان وَثَلَاثُونَ رطلا، وَلَا تَقولُونَ بِهِ؟
فَالْجَوَاب: أنَّ هَذِه اللَّفْظَة مدرجة فِي الحَدِيث، جمعا بَينه وَبَين مَا قَرَّرْنَاهُ: من أَن قلال هجر لن تخْتَلف، وأنهما خَمْسمِائَة رَطْل.
فَائِدَة: هَجَر: بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم، قَرْيَة بِقرب الْمَدِينَة، لَيست هجر الْبَحْرين. كَذَا قَالَه ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ.
وَحَكَى الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» قولا آخر: أَنَّهَا تُنسب إِلَى هجر الَّتِي بِالْيمن، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي كتاب «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : هجَر - بِفَتْح الْجِيم - الْبَلَد، قَصَبَة بِبِلَاد الْبَحْرين، بَينه إِلَى (سِرَّين) سَبْعَة أَيَّام، والهجر: بلد بِالْيمن، بَينه وَبَين (عثر) يَوْم وَلَيْلَة.
وَقَالَ أَبُو عبيد فِي «مُعْجَمه» : هَجَر - بِفَتْح أَوله وثانيه - مَدِينَة الْبَحْرين، مَعْرُوفَة، وَهِي مُعَرَّفة لَا يدخلهَا الْألف وَاللَّام، وَهُوَ اسْم فَارسي، مُعرب (أَصله)«هكر» ، وَقيل: إنَّما سمي (بهجر) بنت
مِكْنَف من العماليق.
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» : هجر - وَيُقَال: الهجر بِالْألف وَاللَّام -: مَدِينَة جليلة، قَاعِدَة الْبَحْرين، بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل.
وَقَالَ مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد: هِيَ عَلَى ثَمَان لَيَال من مَكَّة إِلَى الْيمن، مِمَّا يَلِي الْبَحْر. قَالَه فِي «مغازيه» .
وَمَا ذكره ابْن دحْيَة - أَولا - تبع فِيهِ صَاحب «الْمطَالع» ، (فَإِنَّهُ قَالَ) : وهجر مَدِينَة بِالْيمن، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين، بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم، وَيُقَال فِيهِ: الهجر بِالْألف وَاللَّام بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل.
فَائِدَة أُخرى:
قَوْله عليه السلام: «لم يحمل الْخبث» ، مَعْنَاهُ: لَمْ ينجس بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ. كَمَا فَسَّره فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، الَّتِي (رَوَاهَا) أَبُو دَاوُد، وَابْن حبَان، وَغَيرهمَا:«إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ، لم ينجس» .
وَهَذِه الرِّوَايَة: ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الْآتِي، وَهِي صَحِيحَة من غير شكّ وَلَا مرية، لَا مطْعن لأحد فِي اتصالها، وثقة رجالها. قَالَ يَحْيَى بن معِين: إسنادها جيد، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مَوْصُول. وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: لَا غُبَار عَلَيْهِ.
وتقديرها: لَا يقبل النَّجَاسَة، بل يَدْفَعهَا عَن نَفسه، كَمَا يُقال: فلَان لايحمل الضَّيْم، أَي: لَا يقبله، وَلَا يصبر عَلَيْهِ، (بل) يأباه.
وقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما قَول بعض المانعين للْعَمَل بالقلتين: إِن مَعْنَاهُ أَنه يَضْعُف عَن حمله. (فخطأ) فَاحش من أوجه:
أَحدهَا: أَن الرِّوَايَة الْأُخْرَى مصرحة بغلطه، وَهِي قَوْله:«لم ينجس» .
الثَّانِي: أَن الضعْف عَن الْحمل إِنَّمَا يكون فِي الْأَجْسَام، كَقَوْلِك: فلانٌ لايحمل الْخَشَبَة، أَي: يعجز عَنْهَا لثقلها. وَأما فِي الْمعَانِي فَمَعْنَاه: لَا يقبله، كَمَا ذكرنَا.
ثَالِثهَا: أنَّ سِيَاق الْكَلَام يُفْسِدهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد: أَنه يضعف عَن حمله، لم يكن للتَّقْيِيد بالقلتين مَعْنَى، فإنَّ مَا دونهَا أولَى بذلك.
فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بالإِجماع فِي الْمُتَغَيّر بِنَجَاسَة؟
فَالْجَوَاب: أَنه عَام، خص مِنْهُ الْمُتَغَيّر بِالنَّجَاسَةِ، فَيَبْقَى الْبَاقِي (عَلَى) عُمُومه، كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ.
فإنْ قيل: هَذَا الحَدِيث (يحمل) عَلَى الْجَارِي.
فَالْجَوَاب: أَن الحَدِيث يتَنَاوَل الْجَارِي والراكد، فَلَا يَصح