المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث التاسع والعشرونباب صفة الحج ودخول مكة - شرح كتاب الحج من بلوغ المرام

[عبد الله بن مانع الروقي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌نصيحة عامة وفائدة مهمة

- ‌قال المؤلف رحمه الله

- ‌الحديث الأولفضل العمرة والحج

- ‌الحديث الثانيما على النساء من جهاد

- ‌الحديث الثالث، والرابعهل العمرة واجبة كالحج

- ‌الحديث الخامسفي تفسير الزاد

- ‌الحديث السادسفي حج الصبي الذي لم يبلغ

- ‌الحديث السابعالحج عن الغير

- ‌الحديث الثامنمن نذر أن يحج ومات ولم يفعل

- ‌الحديث التاسعحج الصبي والعبد

- ‌الحديث العاشرفي النهي عن سفر المرأة بدون محرم

- ‌الحديث الحادي عشرالحج عن الغير

- ‌الحديث الثاني عشرالحج الواجب في العمر مرة

- ‌الحديث الثالث عشر، والرابع عشربَابُ المَوَاقِيتِ

- ‌الحديث الخامس عشربَابُ وُجُوهِ الإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ

- ‌الحديث السادس عشرمكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث السابع عشررفع الصوت بالإهلال

- ‌الحديث الثامن عشرالاغتسال قبل الإهلال

- ‌الحديث التاسع عشرما لا يصح للمحرم لبسه

- ‌الحديث العشرونالتطيب قبل الإحرام

- ‌الحديث الحادي والعشرونمما نهى عنه المحرم

- ‌الحديث الثاني والعشرون، والثالث والعشرونمما نهي عنه الحاج

- ‌الحديث الرابع والعشرونما أبيح قتله من الدواب

- ‌الحديث الخامس والعشرونمما يُباح للمحرم فعله

- ‌الحديث السادس والعشرونوجوب الفدية على من اضطر لحق الرأس

- ‌الحديث السابع والعشرونمما نهي عنه المحرم

- ‌الحديث الثامن والعشرونمكة والمدينة حرام

- ‌الحديث التاسع والعشرونبَابُ صِفَةِ الحَجِّ وُدُخُولِ مَكَّةَ

- ‌الحديث الثلاثونالذكر بعد التلبية

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثونمكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وخروجه

- ‌الحديث الثالث والثلاثونالمبيت بذي طوى

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون، والسادس والثلائونصفة الطواف بالبيت

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثونالاعتقاد في الله وحده

- ‌الحديث التاسع والثلاثون، والأربعون

- ‌الحديث الحادي والأربعونصفة العودة من منى إلى عرفات

- ‌الحديث الثاني والأربعونإذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء

- ‌الحديث الثالث والأربعونإذن النبي صلى الله عليه وسلم للسودة أن تسبق إلى الرمي

- ‌الحديث الرابع والأربعونالنهي عن الرمي قبل طلوع الشمس

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌الحديث الخمسون

- ‌الحديث الحادي والخمسونصفة الرمي

- ‌الحديث الثاني والخمسونفي أن الحلق أفضل من التقصير

- ‌الحديث الثالث والخمسونتيسير النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة في الحج

- ‌الحديث الرابع والخمسونماذا على من أُحْصِر

- ‌الحديث الخامس والخمسون

- ‌الحديث السادس والخمسون

- ‌الحديث السابع والخمسون

- ‌الحديث الثامن والخمسون

- ‌الحديث التاسع والخمسون

- ‌الحديث الستون

- ‌الحديث الحادي والستون

- ‌الحديث الثاني والستون

- ‌الحديث الثالث والستون

- ‌الحديث الرابع والستون

- ‌الحديث الخامس والستون

- ‌الحديث السادس والستون

- ‌الحديث السابع والستون

- ‌الحديث الثامن والستونفي الاشتراط

- ‌الحديث التاسع والستون

الفصل: ‌الحديث التاسع والعشرونباب صفة الحج ودخول مكة

‌الحديث التاسع والعشرون

بَابُ صِفَةِ الحَجِّ وُدُخُولِ مَكَّةَ

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فَقَالَ:«اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» ، وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ:«لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك» ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَرَقَى الصَّفَا، حَتَّى رَأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ وَقَالَ:«لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» .

ثمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا - وَذَكَرَ الحَدِيثَ - وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الُمشَاةِ بَيْنَ

ص: 116

يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ» ، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالِعَشاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ

الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى البَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا (1).

هذا الحديث هو أطول حديث روي في الحج وسنقف فيه وقفات كثيرة ومتنوعة من نواحي شتى إن شاء الله تعالى.

فمن ناحية الحديث:

هذا الحديث انفرد بإخراجه بطوله الإمام مسلم عن البخاري، وأخرجه كذلك أبو داود (2) وسرده أبو داود نحو رواية مسلم مطوله.

وقد رواه عن جابر نحو سبعه من التابعين، أشهرهم رواية (جعفر بن محمد عن أبيه) وهي التي ساقها مسلم، والبخاري روى قطعة منه من غير طريق جعفر بن محمد، رواه من طريق محمد بن المنكدر عن جابر رواه كذلك (أبو الزبير) ورواه جماعة من أصحاب جابر ومسلم ساقه بطوله.

(1) أخرجه مسلم برقم (1218).

(2)

برقم (1905).

ص: 117

وهذا السياق مختصر يعنى فيه بعض الحذف عن سياق الحديث المطول والمؤلف اجتزى بهذا.

ومن ناحية التفصيل والبحث:

قول صلى الله عليه وسلم: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» : تقدم الكلام عليه وأن الاغتسال سنة، وقد روى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر «من السنة أن يغتسل المحرم» .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ» (1) وفي بعض الألفاظ: «تلجمي» (2) والتلجّم هو التحفظ، وهذا الاغتسال ليس لرفع الحدث وإنما هو للنظافة، وإن كان يتعبد به فيجمع التعبد مع النظافة.

وقوله: «لَبَّيْكَ» التلبية بمعنى الإجابة، وأيضًا تأبي بمعنى الإقامة؛ لأنها مِنْ (ألب بالمكان) أي: أقام به، ومِنْ (لبى الشخص) أي: أجاب نداءه، وثنيت «لَبَّيْكَ» ليس للتثنية بل لمطلق التكرار، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] ليس معنى كرتين أنه تثنية كرة بل لمطلق التكرار، والإنسان في كل طاعة هو ملبي، وإن كان الحج اختص بهذا اللفظ.

وقوله: «اللهُمَّ» يعني يا الله و «لَبَّيْكَ» تأكيدًا ثم قال: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ» هذا تأكيد آخر.

(1) قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: (واستثفري) الاستثفار: هو أن تشد في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها، ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها.

(2)

هذا اللفظ في جامع الترمذي (182).

قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه: (تلجمي) أي: اجعلي ثوبا كاللجام للفرس، أي: اربطي موضع الدم بالثوب.

ص: 118

و «إنَّ الحَمْدَ» هو هكذا بالكسر وهو المشهور في الرواية، وقال بعض أهل اللغة:(أن الحمد) ومن قال هذا فقد خصص أي: ألبيك؛ لأن الحمد لك، فتكون تعليلية، والصواب بالكسر ألبيك تلبية مطلقة.

ثم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ» والحمد: هو الثناء على المحمود، والله عز وجل يستحق الحمد المطلق، فهو يُحمد سبحانه وتعالى على كل شيء، والحمد: هو وصف المحمود بالكمال عل كماله وعلى إنعامه.

و «النِّعْمَةَ» هي العطاء و «المُلْكَ» فاللهُ عز وجل مالك للذوات والأعيان، ومتصرف فيهما سبحانه وتعالى.

بحث في هل ثبتت صيغ أخرى للتلبية:

ولم يثبت على القول الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى تلبية غير هذه، وقد جاء عن أنس أنه كان يقول:«لبيك إله الحق» وجاءت مرفوعة وموقوفة ولكن الموقوف أصح، وروى النسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لبيك إله الحق» (1) ولكن الصحيح أنه لا يثبت بل أعله النسائي بالإرسال في السنن نفسها.

والصحابة لبوا تلبية مثل تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر كان يقول: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل)(2).

وجاءت تلبيات أخرى، فقد أخرج أحمد عن القطان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم وتلبيته وفيه:(والناس يزيدون ذا المعارج)(3)

ونحوه.

(1) رواه النسائي (2752)، وابن ماجه (2920)، وأحمد (2/ 341، 352، 476)، والحاكم (1/ 618)، والمعجم الأوسط (4/ 329)، وقد صححه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار، والعلامة الألباني وغيره في مواضيع شتى.

(2)

رواه مسلم (1184).

(3)

رواه أبو داود (1813)، وأحمد (3/ 320)، وابن خزيمة (4/ 173)، وأبو يعلى (4/ 93)، والبيهقي (5/ 45).

ص: 119

وقد روي إن سعدًا أنكر على من قال ذلك وقال: (إنه ذو المعارج) ولكن ما هكذا كنا نقول مع النبي صلى الله عليه وسلم (1).

فالخلاصة: أن الملبي إذا لبى بمعنى صحيح لا بأس، ولكن السنة أن يأبي بالذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن.

التلبية عن الصبيان:

وأما من لم يَبْلُغ من الصحابة ولم يميز، فكما جاء في حديث جابر رضي الله عنه الذي رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي من طريق عبد الله بن نمير، عن أشعث بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر قال:(حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فكنا نلبي عن الصبيان ونرمي عنهم)(2) هكذا إسناده عند أحمد وابن أبي شيبة.

لكن الترمذي رواه من طريق (محمد بن إسماعيل الواسطي البختري) عن عبد الله بن نمير عن أشعث بن سوار عن أبي الزبير عن جابر قال: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فكنا نلبى عن النساء ونرمى عن الصبيان)(3) وهذا اللفظ غير محفوظ.

والحديث فيه (أشعث) وهو ضعيف.

(1) رواه أحمد (1/ 171)، والشافعي (1/ 123)، وأبو يعلى (2/ 77) بسند فيه انقطاع؛ لأن عبد الله بن أبي سلمة (المجاشون) لم يدرك سعدًا ورى عنه ففيه انقطاع، وقد رواه الداروردي بسند متصل كما ذكره البزار (4/ 77)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 125) عن عبد الله بن أبي سلمة عن عامر بن سعد عن أبيه به.

فإن افترضنا أنه ثابت فيكون الرد أن المثبت يقدم على النافي، وكما ذكر ابن خزيمة أنه طالما ثبت عن جابر فيثبت، وإن خفي على من هو أكبر منه سنًا، وعلمًا، ومكانة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه ابن ماجه (3038)، وأحمد (3/ 314)، والطبراني (1/ 274)، وابن أبي شيبة 3/ 242)، والبيهقي (5/ 156).

وذكر الحافظ في التلخيص (2/ 270) نقلًا عن ابن القطان أن هذا اللفظ أقرب إلى الصواب من اللذي يأتي وقال: فإن المرأة لا يلبي عنها غيرها أجمع أهل العلم على ذلك والله أعلم.

(3)

رواه الترمذي (927)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد أجمع أهل العلم على أنه المرأة لا يلبي عنها غيرها بل هي تلبي عن نفسها، ويكره لها رفع الصوت بالتلبية.

ص: 120

لكن هذا اللفظ - أي لفظ الترمذي - قال الذهبي - فيما نقله عنه الحافظ في تهذيب التهذيب (1) -: محمد بن إسماعيل الواسطي البختري (غلط غلطة ضخمة) فقال: (نلبي عن النساء) والمحفوظ سياق أحمد وابن أبي شيبة الذين روياه عن عبد الله بن نمير عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر.

قوله: (وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ)(2) يعنى أشياء كانت موجودة.

وقد تقدم ذكر مواضيع التلبية فيما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن سابط قال: (أدركت الناس - أو قال: السلف - يلبون إذا علو نشزًا، وإذا نزلوا واديًا، ودبر الصلاة، وعند التقاء الرفاق)(3).

وقوله: (حَتَّى إذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) يعني: الحجر الأسود فإليه ينصرف الركن عند الإطلاق، واستلامه: مسحه وتقبيله بالتكبير والتهليل إن أمكنه ذلك من غير إيذاء أحد، وإلا يستلم بالإشارة من بعيد، والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية (4).

وقوله: (فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا) هذه السنة أنه يرمل في الثلاثة أشواط كلها.

وفي عمرة القضية أمر أصحابه أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني، ثم بين الركنين يرفقوا بأنفسهم فيمشوا، وكان المشركون حينئذ عل جبل قعيقعان - هو: مما يلي الشامية الآن - فكانوا لا يرون الصحابة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم (5).

لكنه في حجة الوداع رمل صلى الله عليه وسلم من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود في الثلاثة الأولى ومشى في الأربع (6).

(1)(9/ 48).

(2)

هذا مما اختصره المؤلف ولم يذكره فانظره في أصل الحديث في صحيح مسلم إن شئت.

(3)

تقدم.

(4)

من تعليق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم.

(5)

رواه البخاري (1525، 4009)، ومسلم (1264، 1266).

(6)

رواه مسلم (1263)، ومالك في الموطأ (1/ 365).

ص: 121

أفضلية الرمل وبحث مهم:

فالسنة الرمل، لكن لو كان الإنسان إذا دنا من الكعبة لا يرمل، وإذا ابتعد رمل أيهما أفضل الدنو من البيت مع المشي أو البعد مع الرمل؟

نقول لا شك أن الرمل أفضل؛ لأن هنا قاعدة فقهية: «مراعاة المزية الراجعة إلى ذات العبادة مقدمة عل مراعاة المزية الراجعة إلى مكان العبادة أو زمن العبادة ما دام الزمن والمكان باقيين» .

ومن ذلك هنا فإنه يرمل؛ لأن المطاف لا زال موجودًا كونه يطوف بالبيت قرب أو بعد عارضه مزية أخرى في ذات العبادة وهي الرمل.

ومن ذلك الإبراد بصلاة الظهر، فإن الإبراد لأجل تحصيل الخشوع وهو في ذات العبادة، لكنه يؤخر الصلاة عن أول وقتها، والصلاة في أول وقتها أفضل، ومن ترك أول الوقت مع بقاء الوقت، وصلى بعد ذلك في وقت الإبراد بالظهر من أجل تحصيل الخشوع فهو أفضل.

ومن ذلك ما قاله شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: لو أن إنسانًا يصلي خلف إمام، فإذا صلى بطرف الصف الأول من اليمين أو الشمال لا يسمع صوت الإمام لبعده عنه، فكونه يصلي في الصف الثاني من أجل سماع الصوت الذي يتعلق بالمتابعة أفضل من كونه في طرف الصف، ويخفى عليه حال الإمام من الركوع والسجود، وهذا المتوجه وإن كان الصف الأول أفضل، لكن عارض مكان العبادة وهو في الصف الأول، وشيء آخر هو كيف يعرف حال الإمام؟ وهذا راجع إلى حال العبادة. اهـ.

ومن ذلك مسألة مهمة هي: المقام بمكة عند أهل العلم أهو أفضل إذا كان الإنسان يُحصِّل خيرًا ويطلب علمًا، أم إذا أقام بالثغور أو ببلده الذي هو فيه، ويكون له من طلب العلم والاشتغال به ما يعود عليه عائدًا حسنًا في إيمانه وتقواه وورعه، ولم يحصل

ص: 122

له ذلك بمكة؛ لأنه لو أقام بمكة تشتت ذهنه ولم يجد قلبه مجتمعًا عليه، حينئذ يكون المقام ببلدة أفضل من المقام بمكة في مثل هذه الصورة.

وقوله: (ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيم فَصَلَّى) قرأ صلى الله عليه وسلم: بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) وهذه لم تقع في مسلم ولكنها جاءت في غيره.

وفيه من الفوائد:

أنه جهر بها جهرًا سمعه أصحابه مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في وقت النهار، فحينئذ قد يقال هذا إن دعت الحاجة إلى ذلك كما لو أراد أن يُعَلِّم الناس السنة فلا بأس.

وقوله: (ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ)

فيه من الفوائد:

أن استلام الركن عبادة مستقلة فهو يُسْتَلم لوحده، وفي الطواف وفي العمرة والحج.

ومما يدل عل ذلك: ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله عن نافع قال: (كان ابن عمر يستلم الركن طائفًا، أو غير طائف)(2).

(1) انظر أصل الحديث في صحيح مسلم (1218)، وكلام النووي عليه ومنه قوله: وقد ذكره البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثًا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ورواه أيضًا النسائي (2963)، وغيره.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (3/ 215).

ص: 123

وأيضًا ما رواه عطاء بن أبي رباح قال: (صليت خلف ابن الزبير المغرب فسلم في الركعتين تم قام ليتسلم الحجر فسبحوا به فرجع فأتم ما بقي وسجد سجدتين)(1).

فالخلاصة: أن استلام الحجر الأسود سنة مستقلة، سواء كان في طواف أو في غير طواف، لكن في هذه الصورة وهي استلامه بعد الطواف إذا لم يستطع استلامه فلا يشير بيده ولا يُكَبِّر لعدم النقل.

وإذا حاذى الحجر الأسود يُكَبِّر في أول طوفه وهل يُكَبِّر في آخرها؟

قال بعضهم: إنه يُكَبِّر في ابتداء كل شوط، وعليه لا يُكَبِّر في نهاية الشوط السابع حتى تكون التكبيرات والأشواط سبعة.

وقال بعضهم: بل يُكَبِّر لعموم قوله: «كُلَّمَا حَاذَى الرُّكْن كَبَّر» هذا من ناحية، وكذلك أن المقصود من الطواف والسعي ورمي الجمار؛ إقامة ذكر الله.

وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها في السنن وغيرها: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (2).

(1) رواه أحمد (1/ 351) والطبراني في الكبير (11/ 199)، والأوسط (5/ 53)، وأبو يعلى (4/ 466)، والبيهقي (2/ 360)، والفاكهي (1/ 133).

(2)

رواه مرفوعًا أبو داود (1888)، والترمذي (902)، وأحمد (6/ 64، 75، 138)، وابن خزيمة (4/ 222، 279، 317)، والحاكم (1/ 630)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 467)، وسننه الكبرى (5/ 145).

وموقوفًا رواه الدارمي (2/ 71)، وعبد الرزاق (5/ 49)، وابن أبي شيبة (3/ 399).

وقال البيهقي في سننه الكبرى: رواه أبو قتيبة عن سفيان فلم يرفعه، ورواه يحيى القطان عن عبيد الله فلم يرفعه، وقال: قد سمعته يرفعه ولكني أهابه، وواه عبد الله بن داود وأبو عاصم عن عبيد الله فرفعاه، ورواه بن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فلم يرفعه، ورواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة فلم يرفعه.

ص: 124

ولكن هذا الحديث الصحيح أنه موقوف على عائشة وفيه (عبيد الله بن زياد القداح) رفعه ورواه عنه سفيان، قال البيهقي نقلًا عن يحيى القطان أنه كان يتهيب رفع هذا الحديث، ثم المحفوظ عنها من رواية عطاء، وجاء من طريق عبيد الله القداح عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها من قولها، وهذا يوافق رواية الثقات عن عائشة في أن هذا الحديث من كلام عائشة.

والذي يظهر لي في مسألة التكبير في آخر الشوط السابع أنها مسألة اجتهادية من كبر فله ظاهر الحديث، ومن ترك فلا شيء عليه.

تنبيه:

وقع في مسند الإمام أحمد في هذا الوضع من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر وصل ركعتين، ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب عل رأسه، ثم رجع فاستلم الركن، ثم رجع إلى الصفا

الحديث.

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 294): حدثنا موسى بن داود حدثنا سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به، وهذا الزيادة في ذكر شرب ماء زمزم وصب الماء عل رأسه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع غريبة، تفرد بها موسى بن داود الضبي روى له مسلم حديثًا واحدًا، وهو ثقة وثقة ابن نمير وابن سعد وابن عمار الموصلي والعجلي، وأثنى عليه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ في حديثه اضطراب.

والحديث كالمتواتر عن جعفر بن محمد ليس فيه هذا الحرف، نعم شربه من ماء زمزم ثابت بعد طواف الإفاضة، والأكل والشرب أثناء الطواف مباح، وقد نقل أبو العباس اتفاق العلماء عل ذلك في مجموع الفتاوى (26/ 125) وإن كان قد يكره إذا لم يكن حاجة كما قال رحمه الله (26/ 198 - 199).

ص: 125

فائدة:

حديث: «ماء زمزم طعام طعم» أخرجه مسلم عن أبي ذر وفيه قصة (1).

زاد الطيالسي والبيهقي وغيرهما «وشفاء سقم» (2) وهي زيادة ثابتة.

فائدة أخرى:

حديث: «ماء زمزم لما شُرب له» (3) أخرجه ابن ماجة من طريق عبد الله بن المؤمل عن ابن الزبير عن جابر مرفوعًا، وعبد الله بن المؤمل ضعيف.

وجاء في معناه حديث ابن عباس عند الدارقطني لكنه لا يثبت (4).

(1) رواه مسلم (2473)، وغيره والقصة هي قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

وقال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: (طعام طعم) أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.

(2)

رواها الطيالسي (1/ 61)، والطبراني في الصغير (1/ 186)، والبيهقي في السنن (5/ 147).

(3)

رواه ابن ماجه (3062)، وأحمد (3/ 357، 372)، والطبراني في الأوسط (1/ 259)، (4/ 139)، (9/ 26)، وابن أبي شيبة (3/ 274)، البيهقي في الشعب (3/ 481)، والسنن (5/ 148، 202)، وعدد طرقه وشواهده الحافظ في التلخيص (2/ 268) وانظر بحث العلامة الألباني في الإرواء (4/ 320 - 325 حديث رقم 1123).

(4)

رواه الدارقطني (2/ 289)، والحاكم في المستدرك (1/ 646)، وقال: صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، وقال الذهبي في الميزان (3/ 508): غمزه الحاكم؛ لأنه أتى بخبر باطل اتهم بسنده، وقال الحافظ في التلخيص (2/ 268) عقب هذه الرواية: والجارود صدوق إلا أن روايته شاذة.

ص: 126

وأحسن ما جاء في هذا الباب ما أخرجه الفاكهاني في أخبار مكة (2/ 37) قال حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا يعقوب عن أبيه قال: لما حج معاوية رضي الله عنه حججنا معه .... وفيه: ومن ثم مر بزمزم وهو خارج إلى الصفا فقال: انزع لي منها دلوًا يا غلام قال: فنزع له منها دلوًا فأتى به فشرب منه وصب عل وجهه ورأسه وهو يقول: زمزم شفاء هي لما شُرب له.

وهذا إسناد صحيح والفاكهي عده ابن حجر من الحفاظ الذين رووا عن البخاري، وقد روى الفاكهي واسمه محمد بن إسحاق عن جماعة من الحفاظ المشاهير كـ: مسلم، وأبي حاتم

وجماعة آخرين، فهو مشهور بالطلب وقد روى عنه الحافظ العقيلي فلا شك في توثيقه، أما شيخه في كتابه فهو محمد بن إسحاق الصاغاني الصيني.

وذكر الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة عن شيخه الحافظ ابن حجر أنه حسن هذا الطريق بقوله: هذا إسناد حسن مع كونه موقوفًا وهو أحسن من كل إسناد وقفت عليه لهذا الحديث.

وابن إسحاق صرح بالتحديث، وبقية الإسناد ثقات، فهذا إسناد ثابت موقوف على معاوية الخليفة المشهور يجهر به بين بقية أصحاب محمد وجمهرة التابعين، ومثله لا يقال بالرأي، فلا شك في صحته ونقل معاوية رضي الله عنه من شربه وصبه على رأسه ووجهه هو ما وقع في رواية موسى بن داود ....

فائدة أُخرى:

جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم ثم مّج في الدلو ثم صب في زمزم (1).

رواه أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمه عن قيس بن سعد عن مجاهد عن ابن عباس وهو غريب من هذا الوجه، وهو أقوى ما في الباب.

(1) رواه أحمد (4/ 315)، والطبراني في الكبير (11/ 97)، (22/ 51)، وقال العلامة أحمد شاكر في تحقيق المسند (18740): إسناده صحيح وإن لم يصرح عبد الجبار - وهو من ثقات التابعين - بالراوي عن أبيه إلا أن أهله يدل على الكثرة لا على الجهالة فليس منقطعًا كما قال البوصيري، والحديث رواه ابن ماجه (1/ 216 رقم 659)، والحميدي (2/ 393 رقم 886).

ص: 127

وروى أحمد أيضًا والفاكهي في أخبار مكة من طريق مسعر عن عبد الجبار بن وائل قال: حدثني بعض أهل العلم عن أبي قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم فشرب منه ثم مج في الدلو ثم صب في البئر ....) إسناده ضعيف عبد الجبار لم يسمع من أبيه ولا أدركه مات أبوه وهو حمل.

وروى الفاكهي في أخبار مكة من طريق يوسف بن عبده البصري عن ثابت عن أنس قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزع دلوًا فشرب منه ثم مج من ثم صبه في زمزم.

وإسناده ضعيف قال أحمد: يوسف بن عبده له أحاديث مناكير عن حميد وثابت. قلت: وهذا منها.

قوله: (.. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» ....)

يدل هذا على أن الإنسان إذا صعد الصفا يقرأ أول الآية فقط ولا يُتِم الآية ولم أر في خبر صحيح مسند أنه صلى الله عليه وسلم أتم الآية.

ثم يقول: «نَبْدَأ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ» كما هو أصح الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد وردت هذه الجملة بصيغ:

1 -

بصيغة الجمع بلفظ (نبدأ)(1) وهي أصح الروايات.

(1) أخرجه هذه اللفظة: مالك في الموطأ (829)، وأبو داود (1905)، والنسائي (2961، 2969، 2970، 2974)، وابن ماجه (3074)، وأحمد (14480)، وابن حبان (3943)، والطيالسي (1668)، والطبراني في الصغير (1/ 126)، وأبو يعلى (4/ 23، 93، 12/ 105)، والبيهقي في الكبرى (1/ 85، 3/ 315، 5/ 93)، والنسائي في الكبرى (2/ 409، 411، 412) ـ والحميدي (2/ 533)، وابن الجارود (1/ 121).

قال الحافظ في التلخيص (2/ 250): قال أبو الفتح القشيري: مخرج الحديث عندهم واحد، وقد اجتمع: مالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد القطان، على رواية «نبدأ» بالنون التي للجمع. قلت: وهم أحفظ من الباقين.

وانظر بحث العلامة الألباني - للألفاظ الثلاثة - كما في الإرواء (4/ 316 - 319) ففيه فوائد.

ص: 128

2 -

وبصيغة الخبر (أبدأ)(1).

3 -

وبصيغة الأمر بلفظ (ابدءوا)(2).

أما رواية (ابدأوا) فهذه شاذة، والصحيح (نبدأ) وأما رواية (أبدأ) فهي وإن كانت لا خلاف كبير فيها لكن المحفوظ بالجمع (نبدأ).

وهذه صارت قاعدة عند أهل العلم أنه يبدأ الإنسان بما بدأ الله به ففي الوضوء {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].

وهنا فما قدم الله يقدم وما أخره الله يؤخر هذا هو الأصل.

قوله: (.. فَرَقَى الصَّفَا، حَتَّى رَأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ....).

في هذا أن الذكر ثلاث مرات، فهل الدعاء أيضًا ثلاث مرات؟!

قال بعضهم: الدعاء بين الأذكار، والأذكار ثلاثة وما يتخللها اثنان؛ ما بين الأول والثاني وما بين الثاني والثالث، فلا يكون دعا إلا مرتين، وهذا اختيار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

(1) أخرج هذه اللفظة: مسلم (1218)، والدارمي (1850)، وابن خزيمة (2757)، وابن حبان (3944)، وابن أبي شيبة (3/ 335)، والبيهقي في الكبرى (5/ 93)، وعبد ابن حميد (1/ 341).

(2)

أخرج هذه اللفظة: النسائي (2962)، والدارقطني (2/ 254)، والنسائي في الكبرى (2/ 413)، وابن الجارود (1/ 123).

قال العلامة الألباني في بحثه الألفاظ الثلاثة في الإرواء (4/ 316 - 319): وجملة القول: إن هذا اللفظ: «ابدؤوا» شاذ لا يثبت لتفرد الثوري، وسليمان به مخالفين فيه سائر الثقات الذين سبق ذكرهم، وهم سبعة وقد قالوا:(نبدأ). فهو الصواب، ولا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد وتكلم به صلى الله عليه وسلم مرة واحدة عند صعوده على الصفا، فلابد من الترجيح وهو ما ذكرنا.

ص: 129

وقال بعضهم: بل يدعو ثلاثًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثًا، وهذه الرواية لا تدل عل أنه اقتصر على الدعاء بين ذلك، بل ربما زاد وإنما نقل جابر رضي الله عنه ما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالسنة أن الإنسان إذا رقى على الصفا يرفع يديه ويستقبل الكعبة ثم يجهر بالذكر ويقول:«لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثم يسر الدعاء، ثم يعود فيجهر بالذكر ثم يسر الدعاء، ثم يرجع ويجهر بالذكر ثم يسر الدعاء، هذا هو الأفضل.

قوله: (

ثُمَّ نَزَلَ إلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَرْوَةَ

)

فمن هنا يستفاد أن العجلة تكون في الوادي ما بين العلمين، وقد روى النسائي عن طريق صفية بنت شيبة في رواية أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخرى أنها تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة امرأة أنه قال:«لا يقطع الأبطح إلا شدًّا» (1) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا سعى تدور به إزاره (2) وذلك في خبر لا يثبت.

فالسنة الإسراع مع عدم المشقة هذا في حق الرجال، أما في حق النساء فلا يشرع، وقد صح عن ابن عمر وغيره من الصحابة أنه قال:«أليس على النساء رمل» (3) ونقل ابن المنذر الاتفاق عل هذا.

أما سعي هاجر فإنه قد يقال لم يكن بحضرتها أحد من الرجال البتة، ثم نقول ثانيًا أن الشريعة استقرت عل عدم رمل النساء، أما الآن إذا رملت ففيه من المحاذير ما لا يخفى.

(1) روايتها المباشرة: رواها النسائي (2980)، وأما روايتها عنه صلى الله عليه وسلم باسطة: رواها النسائي في الكبرى (2/ 414)، وابن ماجه (2987)، وأحمد (6/ 404)، والبيهقي (5/ 98).

(2)

رواه أحمد (6/ 421)، والحاكم (4/ 79)، والطبراني في الكبرى (24/ 226)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (5/ 195)، وفيه عبد الله بن مؤمل.

(3)

انظر مسند الشافعي (1/ 129)، والدارقطني (2/ 295)، وابن أبي شيبة (3/ 151)، والبيهقي في سننه الكبرى (5/ 48، 84)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 36).

ص: 130

قوله: (.. فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا - وَذَكَرَ الحَدِيثَ -

)

لكن لا يكرر ذكر الآية إذا أتى المروة ولا يقول: «نبدأ بما بدأ الله به» لكنه يدعو نحو الدعاء الذي تقدم ويستقبل القبلة ويرفع يديه، وقوله:(وذكر الحديث) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأنهم يجلوا ويجعلوها عمرة، وقال:«افعلوا ما آمركم به» ثم ترددوا ثم فعلوا ما أمرهم به صلى الله عليه وسلم وي، ثم اقتطع المؤلف هذا الجزء من الحديث ثم قال:

وَفِيهِ:

(.. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ

).

يصليها صلى الله عليه وسلم قصرًا بلا جمع، الرباعية ثنتين الظهر والعصر والعشاء؛ لأنه قار وهذا هو السنة، أن الإنسان المسافر إذا كان قارًّا يقصر بلا جمع، وإذا جد في السير فإنه يُسَن له الجمع، ولكن على القول الراجح يجوز للمسافر المستقر أن يجمع لاسيما إذا دعت الحاجة، وأما إذا لم تدع حاجة فتركه أفضل.

قوله: (.. فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ

).

هذا الوادي هو وادي عُرنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل يوم عرفة ثلاثة منازل المنزل الأول بنمرة، وهذا قبل الوادي ونزل به للارتفاق والراحة، ثم لما زالت الشمس أتى بطن الوادي، ثم خطب ثم صلى الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، ثم دخل عرفة.

وقوله: (.. ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا

).

ص: 131

وكان هذا يوم جمعة في وقفته صلى الله عليه وسلم ولم يُصَلِّ الجمعة؛ لأن المسافر لا يصلي الجمعة، وهذا باتفاق العلماء، بل لو صلى الإنسان الجمعة وهو مسافر فإنها لا تصح منه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) لكن إذا كان المسافر نازلًا ببلد وسمع أذان الجمعة فهل يلزمه أم لا؟

وقبل الشروع في هذه المسألة أقول أن المسافر له حالتان:

الأولى: حال استقلال بجماعة المسافرين وانفصاله عن البلد.

الثانية: حال استقرار في بلد لا يقطع حكم السفر.

ففي الصورة الأولى:

هل تجب الجمعة على المسافرين وحدهم؟

والجواب: يقال إن الجمعة لا تجب عل المسافرين بل لوصلوها جمعة لا تصح منهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر أسفارًا كثيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه حرف واحد أنه جمع بأصحابه، وقد صادفته الجمعة في أسفاره كثيرًا، ولو صلى الجمعة في أسفاره لكانت الهمم متوافرة على نقل ذلك.

ولا أدل على ذلك من سفره لحجه صلى الله عليه وسلم فقد وافق يوم عرفه يوم الجمعة، ومع ذلك فقد صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، وقد سماها جابر الظهر كما في صحيح مسلم (1218)، ولم يجهر بالقراءة، وأيضًا خطب قبل الأذان خطبة واحدة، ثم أذن وصلى وهذا العلم به ظاهر لأهل العلم لا يكادون يختلفون في ذلك (2).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» .

(1) رواه مسلم (1718).

(2)

انظر الموطأ (1/ 107) ومجموع الفتاوى (17/ 480) و (24/ 177) ما بعدها (مهم جدًّا) و (ج/16) من فتاوى ابن عثيمين.

ص: 132

وإنما محل البحث في الصورة الثانية:

وهي إذا كان المسافر مستقرًّا في بلد استقرارًا لا يقطع أحكام السفر فهل يجب عليه حضور الجمعة أم لا؟

قد وردت آثار في نفي وجوب الجمعة عن المسافر لا بأس بذكرها مع الكلام عل أسانيدها، ثم نذكر - إن شاء الله - كلام أهل العلم.

أولاً: حديث تميم الداري:

أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق محمد بن طلحة عن الحكم عن ضرار بن عمرو عن أبي عبد الله الشامي عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر» .

وهذا الحديث واه جدًّا.

فضرار بن عمرو منكر الحديث كما قال البخاري، وأورد له العقيلي هذا الحديث في ضعفائه (2/ 222) وقال: لا يتابع عليه، وأبو عبد الله الشامي لا يعرف كما قال الذهبي في الميزان.

والحديث قال عنه أبو زرعه الرازي - عبيد الله طه بن عبد الكريم -: هذا حديث منكر (انظر علل ابن أبي حاتم (2/ 212)).

ثانيًا: حديث جابر:

أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 3) والبيهقي (3/ 174) وابن عدي في كاملة (2425) وابن الجوزي في التحقيق (788) من طريق ابن لهيعه عن معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غنى حميد» .

ص: 133

وهذا الحديث كسابقه واه جدًّا.

فيه أن لهيعة ضعيف ومعاذ بن محمد قال العقيلي: في حديثه وهم، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وذكر حديثه هذا وضعفه الحافظ في التلخيص (2/ 65)، وقال ابن عبد الهادي: لا يصح، وكذا قال الذهبي.

انظر التحقيق لابن الجوزي (4/ 121).

ثالثًا: حديث أبي هريرة:

أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 196) من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم المديني ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمسة لا جمعة عليهم المرأة والسافر والعبد والصبي وأهل البادية» .

قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا إبراهيم.

والحديث أخرجه الدارقطني في غرائب مالك، كما ذكره الحافظ في لسان الميزان (1/ 268) قال الدارقطني: تفرد به إبراهيم وكان ضعيفًا.

رابعًا: حديث ابن عمر:

أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 4) والطبراني في الأوسط (882) من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس عل المسافر جمعة» .

وهذا إسناده ضعيف جدًّا كذلك.

فعبد الله بن نافع قال أبو حاتم فيه: منكر الحديث، وهو أضعف ولد نافع، وقال البخاري: منكر الحديث.

والمحفوظ في هذا الحديث الوقف على ابن عمر.

ص: 134

أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «لا جمعة على مسافر» .

قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف ورواه عبد الله بن نافع عن أبيه فرفعه. اهـ. وقد رواه ابن المنذر (4/ 19) وعبد الرزاق (5198)(3/ 172) موقوفًا.

خامسًا: مرسل الحسن:

روى عبد الرزاق (3/ 174) عن ابن عيينة عن عمرو (هو ابن دينار) عن الحسن قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسافر جمعة» .

وهو ضعيف لإرساله.

والحسن هو: ابن محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي مدني تابعي ثقة، وأبوه هو ابن الحنفية.

وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فمنها:

أولاً: أثر ابن عمر المتقدم وهو صحيح ثابت.

ثانيًا: أثر علي.

أخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/ 19) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: «ليس على المسافر جمعة» .

والحارث واه.

وروى عبد الرزاق (3/ 168) وابن أبي شيبة (2/ 101) وغيرهما من طريق سعد بن عبيده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» .

إسناده صحيح.

ص: 135

ثالثًا: أثر عبد الرحمن بن سمرة:

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4352) وابن المنذر في الأوسط (4/ 360) من طريق هشام بن حسان عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلاد فارس سنتين وكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين.

وإسناده صحيح.

وأخرجه البيهقي (3/ 185) من طريق يونس بن عبيدة عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بخراسان نقصر الصلاة ولا نجمع.

قال البيهقي: هكذا وجدته في كتابي ولا نجمع بالتشديد ورفع النون.

رابعًا: أثر أنس:

وأخرج ابن المنذر (4/ 20) من طريق يونس عن الحسن أن أنسًا أقام بنيسابور سنه أو سنتين وكان يصلي ركعتين ولا يجمع.

إسناده صحيح.

خامسًا: أثر عمر بن عبد العزيز:

أخرجه ابن أبي شيبه من طريق رجاء بن أبي سلمه عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك قال: خرج عمر بن عبد العزيز من دبق وهو يومئذ أمير المؤمنين فمر بحلب يوم الجمعة فقال الأمير؟: «جمع فإنا سفر» .

وإسناده لا بأس به.

سادسًا: أثر مسروق وعروة بن المغيرة وجماعة من أصحاب ابن مسعود:

ص: 136

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 104) عن أبي أسامة عن أبي العميس عن علي بن الأقمر قال: خرج مسروق وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله فحضرت صلاة الجمعة فلم يجمعوا وحضروا الفطر ولم يفطروا.

إسناده ثابت.

وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم (وهو النخعي) قال: كانوا لا يجمعون في سفر ولا يصلون إلا ركعتين.

صحيح.

ورواه ابن أبي شيبه عن أبي الاحوص عن المغيرة به بلفظ: (كان أصحابنا يغزون فيقيمون السُّنة) أو نحو ذلك: (يقصرون الصلاة ولا يجمعون).

سابعًا: أثر طاووس:

أخرجه عبد الرزاق (3/ 172) عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: (ليس على المسافر جمعة).

ثامنًا: أثر الزهري:

وأخرج عبد الرزاق (3/ 174) برقم (5205) عن عمر عن الزهري قال: سألته عن المسافر يمر بقرية فينزل يوم الجمعة؟ قال: (إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة).

صحيح.

وعلقه البخاري في صحيحة من رواية إبراهيم بن سعد عنه، ويأتي الكلام عليه، وله سياق آخر عند عبد الرزاق برقم (5188) بالإسناد نفسه.

ص: 137

أقوال أهل العلم:

قال الشافعي رحمه الله في الأم (1/ 327): (وليس على المسافر أن يمر ببلد جمعة إلا أن يجمع فيه مقام أربع، فتلزمه الجمعة إن كانت في مقامه) اهـ.

وقال ابن المنذر رحمه الله في الأوسط (4/ 20): (ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر به في أسفاره جمع لا محالة فلم يبلغنا أنه جمع (1)

وهو مسافر، بل أنه ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة، وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعه على المسافر؛ لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد بكتابه فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالًا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ لأن الزهري مختلف في هذا الباب حكي الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه قال: لا جمعة على المسافر، وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد فليحضر معهم، يحتمل أن يكون أراد استحبابًا ولو أراد غير ذلك كان قولًا شاذًّا خلاف قول أهل العلم وخلاف ما دلت عليه السنة). اهـ.

(1) قلت: ذكر ابن الهمام فتح القدير (2/ 33) ما نصه: «وفي الكافي صح أنه صلى الله عليه وسلم أقام الجمعة بمكة مسافرًا» اهـ.

وفي بدائع الصنائع (1/ 430) مثله.

قلت: فإن كان انتزعه من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة كما ثبت في البخاري عن ابن عباس، فقد أطلق جماعة من أهل العلم عدم إقامته الجمعة في سفره، ولو قدر أنه أقام الجمعة فغاية ما في الأمر أنه إمام فيها، وإلا فهي قائمة مفروضة على أهل مكة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم شاهدًا لها فمن الذي سيتقدم بين يديه في إقامتها، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين.

ولهذا قال السرخسي في المبسوط (2/ 130) ما نصه: «ولو أن أمير الموسم جمع بمكة وهو مسافر جاز، لأنه فوض إليه أمر المسلمين» اهـ.

ومراده في (الموسم): الحج، والجهاد مثله، ومعلوم أن شهود المسافر المستقر للجمعة أفضل وأعظم أجرًا، حيث لا مشقة لكن الكلام في الوجوب.

وقد عقد عبد الرزاق (3/ 360) باب الإمام يجمع حيث كان، وذكر آثارًا عن السلف.

والصحيح في هذا المسألة أن الإمام له أن يتولى إقامة الجمعة في البلد الذي يمر به أو ينيب غيره لا أنه تلزمه الجمعة حيث كان إذا كان مسافرًا.

ص: 138

قلت: وقول الزهري علقة البخاري في صحيحه تحت باب (المشي إلى الجمعة وقول الله - جل ذكره -: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]).

وعلق أثارًا ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: «إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد» .

قال الحافظ (2/ 391) ما نصه: «لم أره من رواية إبراهيم، وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري، وقال: إنه أختلف عليه فقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على المسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري.

قال ابن المنذر: «وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك؛ لأن الزهري أختلف عليه فيه» . اهـ.

ويمكن حمل كلام الزهري على حالتين:

فحيث قال: «لا جمعة على المسافر» أراد على طريق الوجوب.

وحيث قال: «فعليه أن يشهد» أرد على طريق الاستحباب (1).

ويمكن أن تحمل رواية سعد بن إبراهيم هذه على صورة مخصوصة، وهو: إذا أتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء (2) لها، لا إنها تلزم المسافر مطلقًا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازًا مثلًا، وكأن ذلك رَجَحَ عند

(1) هذا الحمل من الحافظ ضعيف غريب، وكلام الزهري واضح من نقله عن ابن المنذر، فالمسافر عند الزهري له حالتان:

(أ) أن يكون حاضرًا فيسمع النداء فعليه الحضور (وهو محل البحث) ونُقُول الأئمة عن الزهري إنما في هذه الصورة.

(ب) ألا يكون كذلك فليس على المسافر جمعة.

وقد فطن ابن المنذر وحمل قول الزهري فليحضر معهم، يعني إذا كان في بلد على الاستحباب، حتى لا يخالف قول أهل العلم في إسقاط الجمعة عن المسافر. فافهم.

(2)

قلت: هذا صريح فتوى الزهري لمعمر عند عبد الرازق والحافظ لم ينسبه له وتقدم.

ص: 139

البخاري، ويتأكد عنده بعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

فلم يخص مقيمًا من المسافر، وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعًا بعرفة وكان يوم الجمعة، فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر فهو عمل صحيح إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. أهـ.

وقال الموفق (3/ 216): «وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك قال مالك في أهل المدينة، والثوري في العراق، والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وروى ذلك عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والشعبي، وحُكِي عن الزهري، والنخعي أنها تجب عليه؛ لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر وجمع بينها ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصلِ أحدًا منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.

وقد قال إبراهيم: كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين لا يجمعون ولا يشرقون - ثم ذكر أثر أنس وعبد الرحمن بن سمرة وتقدما -.

ثم قال: وهذا إجماع من السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته

إلى أن قال (3/ 220): والأفضل للمسافر حضور الجمعة؛ لأنها أفضل».

ونقل ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 76) الإجماع على أنه ليس على المسافر جمعة.

قال ابن حزم في «المحلى» (5/ 49): «وسواء فيما ذكرنا في وجوب الجمعة للمسافر في سفره والعبد والحر والمقيم

إلى قوله (ص 51): قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

ص: 140

نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال على: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم». اهـ.

وقال البغوي في شرح السنة (4/ 226): «ولا تجب على المسافر وذهب ألنخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء (1) فعليه حضور الجمعة» .

وقال النووي في المجموع (4/ 351): «لا تجب الجمعة على المسافر هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وحكاه ابن المنذر وغيره عن أكثر العلماء وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء لزمه قال أصحابنا: ويستحب له الجمعة للخروج من الخلاف ولأنها أكمل هذا إذا أمكنه

» اهـ.

قال العمراني في البيان (2/ 543): «ولا تجب الجمعة على المسافر وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري والنخعي إذا سمع النداء وجبت عليه، دليلنا حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها» .

وقال ابن هبيره في الإفصاح (2/ 93): «واتفقوا على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا عبد ولا مسافر ولا امرأة إلا رواية عن أحمد رواها في العبد خاصة» . اهـ.

ونقل الاتفاق صديق حسن خان عن صاحب المسوي

انظر الروضة الندية (1/ 341).

(1) سماع النداء محله:

(أ) إذا كان المؤذن صيتًا.

(ب) والأصوات هادئة.

(جـ) والرياح ساكنة.

(د) والموانع منتفية. اهـ. من الإنصاف (5/ 66) زاد في المغني. (3/ 244 - 245).

(هـ) والمستمع غير ساه ولا غافل.

(و) وفي موضع عال، ولم يذكر الموفق الموانع فحاصل ما ذكر ستة وحَدُّوه بفرسخ.

قلت: الفرسخ خمسة كيلو مترات.

ص: 141

وقال المجد في المحرر (1/ 142): «ولا تجب على مسافر له القصر» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (24/ 184): «وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعًا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين؛ لأن قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ

} ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر، ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من عاجز عنها؛ كـ: المريض، والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها.

لكن المسافرون لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم». اهـ.

ونقله عنه في الاختيارات ملخصًا (ص 119).

وقال في الفروع (2/ 74): «ويحتمل أن يلزمه تبعًا للمقيمين خلافًا لهم قاله شيخنا وهو متجه» . اهـ.

يعني بشيخنا شيخ الإسلام ونقله ابن قاسم عن الشيخ وصاحب الفروع قال وهو من المفردات.

وقال الحافظ ابن رجب في شرحه على البخاري المسمى فتح الباري (1/ 403): على قول البخاري: «باب من أين تؤتي الجمعة وعلى من تجب» لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.

وكان أنس بن مالك في قصره، أحيانًا يجمع، وأحيانًا لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.

ص: 142

قال: «تضمن الذي ذكره مسألتين:

المسألة الأولى: أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن عطاء.

وهذا الذي في القرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواء سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه.

وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافرًا يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعة عليه.

وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعًا لأهل القرية.

وروى عن عطاء - أيضًا - أنه يلزمه.

وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب

الخ».

وقال الصنعاني في سبل السلام (2/ 157): في شرح حديث ابن عمر «ليس على مسافر جمعة» ما نصه:

«والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به: مُبَاشِر السفر وأما النازل فتجب عليه، ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا جماعة من الآل وغيرهم، وقيل لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضًا وغيرهم وهو الأقرب؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه، ولذا لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلي الجمعة بعرفات في حجة الوداع؛ لأنه كان مسافرًا، وكذلك العيد تسقط صلاته على للمسافر، ولذا لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد في حجته، وقد وهم ابن حزم رحمه الله فقال إنه صلاها في حجته، وغَلَّطَهُ العلماء» . اهـ.

ص: 143

وقال في مطالب النهي في شرح غاية المنتهى (1/ 758): «ولا تجب على مسافر أبيح له القصر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير، وكما لا تجب عليه لا تلزمه بغيره نص عليه، فلو أقام المسافر ما يمنع القصر لشغل أو علم أو نحوه، ولم ينوِ استيطانًا لزمه بغيره لعموم الآية والأخبار» اهـ.

وفي الدرر السنية (5/ 6): سُئِل الشيخ عبد الله بن محمد عن المسافر إذا أدركته الجمعة. فأجاب المسافر إذا قدم ولم ينوِ إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان فهذا لا جمعة عليه بحال، فإذا صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع، فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره، فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. اهـ.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين: في الشرح الممتع (5/ 15): بعدما قرر عدم وجوب الجمعة على المسافر بل بعدم صحتها من المسافرين قال ما نصه: «أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة كما لو مر إنسان في السفر ببلد ودخل فيه ليقيل ويستمر في سيره يعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وهذا عام ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى الجمعة يتركون صلاة الجمعة بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم» . اهـ. وقرر في فتاويه مثله (16/ 74).

وحاصل ما قيل في هذه المسألة:

1 -

وجوب حضور الجمعة وأدائها، وقال به: النخعي، والزهري، وعطاء، والأوزاعي، والبخاري، وابن حزم، وشيخ الإسلام، وابن حجر، وصاحب الفروع، وابن عثيمين

وغيرهم.

ص: 144

2 -

عدم وجوب حضور الجمعة، وقال به جماهير الأمة كما نقله: ابن المنذر، وابن رجب

وغيرهم.

3 -

استحباب حضور الجمعة، لأنه أولى وأكمل وخروجًا من الخلاف، ومما قال به: الموفق (3/ 220) ونقله النووي عن بعض أصحابه من الشافعية وقال في الإنصاف (5/ 175):

فائدة:

كل ما لا تجب عليه الجمعة لمرض أو سفر أو اختلف في وجوبها عليه كالعبد ونحوه فصلاة الجمعة أفضل في حقه، وذكره ابن عقيل وهذا القول لا ينافي ما قبله.

وخلاصة حجج الموجبين:

- عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ

} الآية، وهذا في البلد يسمع النداء، فهذا العموم يتناوله وليس له عذر في التخلف.

- أن الصحابة في المدينة كانوا يَفِدُون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها

وبينوا ذلك فقالوا: لما كان مسافرًا جادًّا به السير كان له الترخص بكامل رخص السفر من القصر والجمع والفطر والتنفل على الدابة، وإذا نزل في مكان فإن جماعة من أهل العلم يقولون يقصر مع التوقيت إما وجوبًا وإما استحبابًا، ويمنعونه من التنفل على الدابة، ومع ترخيصهم له بالفطر والقصر، ويقولون: إن الفطر والقصر مشروع له في الإقامات التي تتخلل في السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حالة السير، ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ عام بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقًا.

ص: 145

وقالوا أيضًا: إن نزول المسافر في مصر ومكثه مدة لا تمنع القصر، فما الذي يخرجه من عموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وهو من الذين آمنوا وهو شاهد يسمع النداء معافى، فما الذي يحجزه عن شهود هذا الخير وامتناعه من السعي إلى ذكر الله؟.

قالوا: وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد بخروج العواتق وذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأيضًا والجمعة عيد المسلمين في الأسبوع، وهي عيد بالنص والإجماع، فلابد أن يخرج لها من كان بالمصر من الذكور البالغين غير المعذورين والمسافر المستقر غير معذور، وكيف يأمر النساء بالخروج من خدورهن والحيض ليشهدن العيد ويدع المسافرين فلا يأمرهم بشهود الجمعة؟ بل أمرهم بشهود الجمعة أولى، وأيضًا: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخلفون عن الجمعة معه، وقد أخرج مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: «انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم أخرها» ومسلم أخرجه في أبواب الجمعة (1)

وهذا هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وقالوا: إن من القواعد المقررة عند علماء الملة «أنه يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالًا» ، وهذه قاعدة صحيحة عند جماهير علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم وقد اختلفت تعبيراتهم عنها، فعند الحنابلة ما قدمناه من لفظ القاعدة وعند الشافعية يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، وعند الأحناف الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعًا وحكمًا وإن كان قد يبطل قصدًا، وقد ضرب العلماء لهذه القاعدة أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات، وقد دلت عليها الأدلة الشرعية وجاءت

(1) برقم (876) ..

ص: 146

بتقريرها ومسألتنا فرد من أفراد تلك القاعدة: فلما كان المسافر قارًّا في البلد، كان حكمه في إجابة نداء الجمعة حكم المقيمين كما لو صلى المسافر خلف من يُتِم كان عليه أن يُتِم تبعًا للإمام، كذلك يجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين، بل شهودهم الجمعة أولى من إتمامهم الصلاة خلف المقيم (1).

قال المسقطون: مهلًا فقد أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم، وقد قلتم فأكثرتم وأحسنتم، فأنصفونا فإنا نقول إن الله قد علَّق أحكامًا كثيرة بمسمى السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثًا عن الخفين، والعفو عن الجمعة والاستعاضة عنها بالظهر مقصورة رحمة من الله وتخفيفًا، وكل ذلك صدقة من الله على عباده فاقبلوا صدقته واكلفوا من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا

وهذه المسامحة والعفو والتخفيف لا يحل رفعها عن عباد الله والاشتقاق عليهم إلا بحجه بينه من كتاب الله وسنة نبيه أو إجماع متيقن أو قياس صحيح يجب المصير إليه، وأين هذا في مسألتنا؟

فأما قولكم: عموم الآية وشمولها للمسافر القار فنحن نمنع ذلك.

فكما لم يجب عليه الصوم ولم يدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، كذلك لم يدخل في عموم آية الجمعة، وسبب سقوط الصوم عنه السفر بنص الآية قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فكذا في مسألتنا ونحن معنا فهم السلف وجمهورهم، فهذا ابن عمر يقول:«لا جمعة على مسافر» فهذا عذرهم الذي عذرهم به السلف، وأنتم أبيتم ذلك .. !!

وأما قولكم: إن المسافر إن مكث بمكان لا يقطع حكم السفر فإنه لا ينتفل على الدابة ما دام نازلًا، وتتوصلون بهذا إلى أن أحكام المسافر القار تتعبض! فنعم. فلا حاجة له إلى ركوب دابته والتنقل عليها ما دام نازلًا، وإنما رخص له في حال السير وهكذا ثبتت به السنة. فكان ماذا؟!!

(1) انظر كلام شيخ الإسلام المتقدم.

ص: 147

وأما قولكم: فكيف يأمر الحيض وذوات الخدور بالخروج للعيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، فكيف لا يشهد المسافر القار الخير في الجمعة ودعوة المسلمين وذكر الله؟

فالجواب: أننا نحاكمكم إلى أنفسكم فالعيد إنما هو مرتان في السنة ومجمعه أكبر مجامع المسلمين بعد مشهد عرفة، فشرع لعامة المسلمين شهوده ومنهم المذكورات لقلة دورانه في الحول، أما الجمعة فإنها تتكرر في السنة نحوًا من خمسين مرة، وأيضًا العيد لو لم تشهد المرأة فإنه لا بدل له، والجمعة لها بدل مفروض فلم يستويا.

وأما قولكم: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ويفدون إليه أنهم كانوا يتخلفون عن التجميع معه، فنعم فلعمر والله لقد كانوا يشهدونها ويحرصون عليها، فلقد كان نظرهم إليه وسماع كلامه أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم والناس أجمعين، ونحن نشهد الله على ذلك فإنه أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا والناس أجمعين، ولو خيرنا بين لقياه صلى الله عليه وسلم مع ذهاب الأهل والأولاد والأموال وأهل الأرض كلهم لاخترنا لقياه صلى الله عليه وسلم على ذلك بأبي هو وأمي، على أن الصحابة رضي الله عنهم كان لزامًا عليهم إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].

وقد فسر الأمر الجامع بشهود الجمعة أو كانوا في زحف، صح التفسير بذلك عن الزهري وابن جريج كما رواه ابن جرير عنهما واختاره، وهذا يعلم أصحابه المقيمين والوافدين إليه وقد التزم نظير ذلك بعض أهل العلم في مسألتنا فقالوا: إذا حضر المسافر المسجد الجامع لزمته صلاة الجمعة.

ص: 148

وقد لام النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد ولم يصل، وقال:«ما منعكما أن تصليا معنا» (1). مع أنهما قد صليا في رحالهما

وهذه المسألة أخص من المسألة المتنازع فيها.

وأما قولكم: «إنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا» ، وأن المسافر يأخذ حكم المقيم إن كان ماكثًا نازلًا في وجوب إجابة النداء، فنحن نسلم بصحة هذه القاعدة، ولكننا نقول: إن محلها ما لم يكن استقل التبع بحكم آخر يمنع إلحاقه بالمتبوع، واعتبر هذا بالبهيمة المذكاة إن وجد جنين في بطنها أنه إذا خرج ميتًا فهو كجزء من أجزائها، وإن خرج حيًّا فلا بد من تذكيته ولا يتبع أمه، وفي مسألتنا فإن المسافر مستقل بأحكام خاصة تناسب حاله فلا يخرج عنها إلا بدليل، وإنما يثبت تبعًا هنا أهل مصر ممن لا يسمع النداء ومن كان حوله وحده كثير منهم بفرسخ.

فهذا نهاية إقدام الفرقين وغاية سجال الطائفتين.

وأنا على مذهب جماهير الأمة (2) من عدم الوجوب والإلزام، نعم يستحب شهودها من غير حرج وانحتام.

قال الشاطبي في الموافقات (1/ 443): وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الانحتام بمعنى: أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلًا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره وتركه الجمعة وما أشبه ذلك.

وبهذا ننهي هذا البحث في مسألة صلاة المسافر.

وقوله: (.. ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَافَتِهِ القَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ،

(1) رواه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (858)، وأحمد (4/ 160، 161)، وغيرهم.

(2)

قال القرافي في الفروق (2/ 557): والحق لا يفوت الجمهور غالبًا.

ص: 149

وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ» ، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ

)

ومما ينبغي أنْ يعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف ذلك اليوم مفطرًا كما ثبت عنه في الصحيح أنه شرب شيئًا من اللبن (1)، وجاء عنه في السنن «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» (2)

لكن في إسناده إبراهيم بن مهدي الهجري وضعفه غير واحد وذكر العقيلي هذا في منكراته، فالحديث لا يثبت لكن الصيام مكروه.

وروى مالك في موطئه عن عائشة رضي الله عنها بإسناد صحيح (أنها كانت تصوم يوم عرفة بعرفة)(3) والسنة خلاف هذا، فهذا من اجتهادها.

وهذا اليوم هو أعظم الأيام وينبغي للإنسان أن يهتبل (4) هذه الفرصة العظيمة وهذا اليوم وهذه العشية فلا تذهب عليه سُدى.

(1) رواه البخاري (1575، 1578، ومواضع) ومسلم (123)، من حديث أم الفضل رضي الله عنها:«أن ناسا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه» .

(2)

رواه أبو داود (2440)، وابن ماجه (1732)، وأحمد (2/ 304، رقم 8081)، وابن خزيمة (2/ 292)، والحاكم (1/ 600)، والطبراني في الكبير (3/ 81 رقم 2556)، والبيهقي في الكبرى (4/ 284 رقم 8172، 8173، 5/ 117 رقم 9255)، وقال: كذا رواه أبو داود الطيالسي عن حوشب وفي حديث أم الفضل كفاية، والنسائي في الكبرى (2/ 155 رقم 2830)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 348)، وقال: هذا حديث غريب من حديث عكرمة تفرد به عنه مهدي وعنه حوشب، وانظر التلخيص (2/ 213 رقم 929).

قال العلامة الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: إسناده ضعيف لجهالة العبدي واسمه مهدي بن حرب قال ابن معين وأبو حاتم: لا أعرفه.

ومما ورد في هذا الباب:

- ما رواه النسائي في السنن الكبرى (2/ 156 رقم 2832) قال: أنبأ إسحاق بن منصور قال أنبأ عبد الرحمن قال حدثنا سفيان وشعبة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: كان عمر ينهى عن صوم يوم عرفة.

- وما رواه الترمذي (751)، وقال حديث حسن، وأحمد (2/ 47 رقم 5080)، والدرامي (1765)، وابن حبان (8/ 369 رقم 3604)، وأبو يعلى (9/ 445 رقم 5595)، وعبد الرازق (4/ 285 رقم 7829)، وابن شيبة (3/ 195 رقم 13380) أن ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عن صوم يوم عرفه فقال:«حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه، وحججت مع عمر فلم يصمه، وحججت مع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا أمر به ولا أنهى عنه» ، وإسناده صحيح كما ذكر العلماء.

(3)

رواه مالك في الموطأ (1/ 375 رقم 836)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 157 رقم 7310)، وابن أبي شيبة (2/ 341 رقم 9715).

(4)

يهتبل: يغتنم.

ص: 150

قوله: (.. حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا

)

فيه ثلاث مباحث:

الأول: في قوله: (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وهذا هو السنة، وهو أصح ما جاء في صفة الأذان والإقامة يعني: في عدد الأذان، فالأذان لا يؤذن مرتين، إنما يؤذن أذانًا واحدًا ويقيم أقامتين، وما سوى ذلك فهو وهم، وإن وقع في الصحيح شيء منه عن ابن مسعود (1) فهو من اجتهاده، وأما عن ابن عمر فوقع اضطراب كثير.

فالسنة للمسافر أنه إذا صلى صلاة مجموعة يؤذن للأولى ويقيم للأولى والثانية.

وهو ما جاء في حديث جابر؛ لأن الأذان دعوة غائبين وقد حضروا به، فلم يحتج إلى تكراره، وأما الإقامة تأهب للدخول في الصلاة، فهو دعوة حاضرين فاحتيج إلى ذلك. فافهم.

الثاني: في قوله: (فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ) وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، فبادر بصلاة المغرب ثم بعد ذلك صلى العشاء صلى الله عليه وسلم.

الثالث: في قوله: (وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) وفيه أنه لم ينتقل لمغرب ولا لعشاء، وثبت في الصحيح أنهم أناخوا دوابهم بين المغرب والعشاء (ولم يسبح بينهما) (2) يعني: لم يصل بينهما صلاة النافلة (فالسبحة) هنا النافلة.

وفي البخاري عن ابن مسعود أنه صلى بعد المغرب ركعتين، وكذلك أذن للعشاء (3)، وهذا من اجتهاده والسنة خلافه.

(1) سيأتي قريبًا.

(2)

رواه البخاري (139، 1588)، ومسلم (1280).

(3)

رواه البخاري (1591).

ص: 151

وجاء عن ابن عمر عند البخاري (ولا على إثر كل واحده منهما)(1).

فلم يصلي بعد المغرب ولا بعد العشاء شيء، لكنه أوتر صلى الله عليه وسلم لعمومات الأحاديث؛ ولأنه الأصل.

وقوله: (ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ) هذا ليس معناه أنه لم يستيقظ صلى الله عليه وسلم حتى الفجر، فكيف وقد أَذِنَ صلى الله عليه وسلم للظعن أن يسيروا، فالظاهر أنه استيقظ صلى الله عليه وسلم في آخر الليل بعض الوقت، وَأَذِنَ لبعض أزواجه كسودة (2) وأم حبيبه (3)، وكذلك بعث ابن عباس في ضعفة أهله (4)، فليس فيه دليل على ترك صلاة الوتر في تلك الليلة، لكنه يأتي بأصل الوتر ولا يطيل حتى يرتاح، ويستعد لأعمال يوم العاشر يوم العيد يوم الحج الأكبر يوم النحر.

(1) رواه البخاري (1589).

وهنا فائدة حديثية مهمة:

أن زيادة «ولا على إثر كل واحدة منهما» تفرد بها ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، فالحفاظ من أصحاب الزهري كمالك ويونس ومعمر ليس أحد منهم يذكر هذه الزيادة، وأيضًا أصحاب سالم لا يذكرونها، وكذا أصحاب ابن عمر لا يذكرونها كسعيد بن جبير ونافع، ولا يذكروها سليم والد الأشعث.

فالقدر المحفوظ في الخبر: «ولم يسبح بينهما» وهو المذكور في حديث جابر حيث قال: «حتى أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع» ، وأيضًا في رواية ابن أبي ذئب عن الزهري كلام يقع فيها اضطراب وقد قيل إنها عرض.

(2)

روى البخاري (1596، 1597)، ومسلم (1290) عن عائشة رضي الله عنها قالت:«نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس - وكانت امرأة بطيئة - فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به» ، وحطمة الناس أي: زحمتهم.

(3)

روى مسلم (1292) عن عطاء أن ابن شوال أخبره أنه دخل على أم حبيبة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل.

(4)

روى البخاري (1594)، ومسلم (1293) عن ابن عباس قال:«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل (أو قال: في الضعفة) من جمع بليل» ، وفي لفظ:«أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله» .

ص: 152

وهو أفضل الأيام كما في حديث عبد الله بن قرط: «أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» (1) يعني يوم الحادي عشر يوم الاستقرار بمني.

والخلاصة: أن الوتر مشروع في كل السَنَة ومن خالف ذلك فإنما هو شيء زاده من عنده.

قوله: (.. ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ (2)، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا

).

هذا هو السنة أنه يدفع قبل طلوع الشمس، كما أن السُّنَّة أنه يدفع في عرفة بعد غروب الشمس واختفاء القرص، فلا يدفع قبل غروب الشمس فيشابه بالمشركين، ولا يدفع من مزدلفة بعد طلوع الشمس فيتشبه بالمشركين، فالنبي صلى الله عليه وسلم خالفهم في هذين الموقفين.

وهكذا استقر الحج على مخالفة المشركين؛ لأن المشركون كانوا لا يخرجون إلى عرفة وهو خَرَجَ صلى الله عليه وسلم، ودفع بعد ما غربت الشمس وكانوا يدفعون قبل ذلك، وأفاض من مزدلفة قبل طلوع الشمس وكانوا يفيضون بعد طلوع الشمس.

وقوله: (حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ) ومحسر من مني كما ثبت في حديث الفضل بن عباس عند مسلم قوله: «ومحسر من منى» (3).

(1) رواه أبو داود (1765)، وأحمد (4/ 350 رقم 19098)، وابن خزيمة (2917)، والحاكم في المستدرك (4/ 246 رقم 7522)، وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط (3/ 44 رقم 2421)، ومسند الشاميين (1/ 272 رقم 475)، والبيهقي في الكبرى (5/ 237 رقم 9994) مطولًا، ورواه ابن حبان (7/ 51 رقم 2811)، وابن خزيمة (2866، 2966) مختصرًا.

(2)

وفي رواية غير التي أوردها المؤلف: (حتى أتى المشعر الحرام فرقِي عليه).

(3)

رواه مسلم (1282).

ص: 153

وقال ابن القيم في الهدي: ومحسر حرم وليس بمشعر وهو برزخ بين مزدلفة ومنى.

ورحم الله الإمام ابن القيم فليس هذا بصواب فهو من منى، وإذا قلنا هو من منى فهو مشعر يعني: مكان للنسك، فالمشعر هو المكان للنسك.

قوله: (.. ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي

)

فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق من مزدلفة إلى منى راكبًا.

وفي حديث كريب أنه سأل أسامة بن زيد كيف صنعتم حين ردف رسول الله؟ فذكر الحديث، فكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس، وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي (1).

وبعض أصحابه رموا راكبين وبعضهم رموا على أقدامهم.

والحصيات أخذها صلى الله عليه وسلم من الطريق، فلم يثبت أنه أخذها من مزدلفة، فالظاهر أنه أخذها قُبَيْل رمي الجمرة، ولكن إن أخذها الحاج من مزدلفة على وجهٍ لا يقصد به التسنين بل يقصد التهيؤ، حتى يكون مستعد فأول ما يأتي منى يرمي؛ ولأنه قد لا يجد مكانًا يأخذ منه فلا يأس.

أما جمع السبعين حصاة لمن يتأخر فيمكث ثلاثة أيام وَصرُّها معه هذا كله خلاف السنة.

قوله: (.. ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى المَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى البَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا).

(1) رواه مسلم (1280).

ص: 154

لما أتى منى صلى الله عليه وسلم كانت تحية منى رمي الجمار وكان يبلي حتى شرع في رمي الحصاة الأولى.

وجاء عند ابن خزيمة: فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة ولم يقطع التلبية حتى آخر حصاه (1).

ولكن هذه الرواية شاذة، والصحيح أنه قطع التلبية مع أول جمرة فكان يكبر وقطع التلبية؛ لأنه شرع في أسباب التحلل، ولما رمى صلى الله عليه وسلم ذهب ونحر ثلاثًا وستين بدنه، وكان قد أهدي مائة بدنه فنحر ثلاثًا وستين بيده صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حبان: وفيه إشارة إلى سني عمره (2).

وكمل الباقي علي رضي الله عنه.

ثم بعد ذلك حلق رأسه، ثم طيبته عائشة رضي الله عنها، ثم ذهب إلى البيت فطاف صلى الله عليه وسلم ولم يَسْعَ؛ لأنه قد تقدم سعيه بعد طواف القدوم.

وفي حديث جابر هنا (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّة).

وحديث ابن عمر في مسلم من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى» (3).

(1) رواه ابن خزيمة (4/ 281 رقم 2885).

والثابت رواية مسلم (1281) وغيره، عن الفضل رضي الله عنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة.

قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: (الجمرة) المراد جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى فعندها يقطع التلبية بأول حصاة ترمى.

(2)

ذكره ابن حبان (9/ 250 رقم 3943) من قول أبي حاتم.

(3)

رواه مسلم (1308).

ص: 155

ولم يروه البخاري وإنما علقه عن ابن عمر موقوفًا فقال: وقال لنا أبو نعيم: حدثنا سفيان (وهو الثوري) عن عبد الله به موقوفًا، وليس فيه ذكر الصلاة، ثم قال البخاري: ورفعه عبد الرزاق عن عبيد الله (1).

مشيرًا إلى رواية مسلم فلا يصح أن يقال عن الحديث متفق عليه.

وطريق الجمع على كل حال ممكن لعل أصحابه رضي الله عنهم انتظروه صلى الله عليه وسلم فجاء فصلى بهم، وإلا بعض أهل العلم رجح لفظ حديث جابر؛ لأنه ضبط الحج وحفظه.

وكل يوم من أيام الحج له اسم:

- فاليوم العاشر يسمى يوم النحر.

- والحادي عشر يوم القر.

- والثاني عشر يسمى يوم النفر الأول عند أهل العلم.

- والثالث عشر يسمى يوم النفر الثاني.

- ويوم الثامن يسمى يوم التروية.

- ويوم التاسع يسمى يوم عرفة.

والفوائد في هذا الحديث كثيرة، ولكن سياقه وما تقدم من فوائد فيها الكفاية إن شاء الله.

(1) انظر صحيح البخاري (1645).

ص: 156