الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
في حج الصبي الذي لم يبلغ
وَعَنٍ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقَى رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» قَالُوا: المُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ» فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ](1).
فائدة حديثية:
هذا الحديث يروى من طرق عن إبراهيم ومحمد وموسى بني عقبة ثلاثتهم عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس مرفوعًا:
فرواه عن إبراهيم: مالك، والثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، وزهير بن معاوية، ومعمر ابن الماجشون، وابن إسحاق كلهم متصلًا سوى رواية مالك، والثوري، وزهير بن معاوية؛ فمالك اختلف عليه في وصل هذا الحديث، فرواه جماعًة مرسلًا وآخرون متصلًا، وممن وصله عن مالك ابن وهب في الرواية المحفوظة عنه، وأبو مصعب، والشافعي، وابن عثمة، وعبد الله بن يونس.
وأما الثوري فوصله عنه أبو نعيم الفضل بن دكين، وأرسله وكيع والقطان وابن مهدي.
وأما رواية محمد بن عقبة فرواه عن الثوري واختلف عليه، فرواه محمد بن كثير العبدي ويحيى القطان وابن مهدي موصولًا، وأرسله وكيع، فرواية القطان وابن مهدي عن الثوري موصولة بطريق محمد ومرسلة بطريقة إبراهيم، وطريقا ابن مهدي كلاهما عند مسلم، ورواية الثوري في مسلم الغالب أن مسلمًا بينه وبين الثوري واسطتان وابن عيينه واسطة واحدة، وكذا كتب السنن.
(1) أخرجه مسلم (1336). انظر تحفة الأشراف (5/ 199).
وأما رواية موسى بن عقبة فقد رواه عنه ابن جريح مرسلًا.
وأما رواية حاتم بن إسماعيل عنه عن أخيه إبراهيم متصلًا.
وقد سأل الأثرم أحمد رحمه الله عن هذا الحديث هل هذا عن كريب مرسلًا أم متصلًا عن ابن عباس فقال: هو عن ابن عباس صحيح.
قيل لأبي عبد الله أن الثوري ومالكًا يرسلانه، فقال: معمر وابن عيينة وغيرهما قد أسندوه.
وقال البخاري في تاريخه: (1/ 198 - 199) بعدما تطرقه إلى من أرسله ومن أسنده قال: أخشى أن يكون مرسلًا في الأصل.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (13/ 329): هو حديث مسند صحيح؛ لأنه حديث قد أسنده ثقات ليسوا بدون من قطعه.
وقال في التمهيد (1/ 100): والحديث مسند ثابت الاتصال لا يضره تقصير من قصر به؛ لأن الذين أسندوه حفاظا ثقات.
قلت: لا ريب في أن الحديث محفوظًا مسندًا والبخاري شك فيه، فأعرض عن إخراجه في صحيحه فكان ماذا؟.
شرح الحديث:
الروحاء اسم محل بين مكة والمدينة، والركب جمع راكب وأقله ثلاثة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنِ القَوْمُ؟» يعني حتى يتبين أمرهم خشية أن يكونوا من العدو.
(قَالوا: المُسْلِمُونَ)
فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟
فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ»
لما أخبرهم أنه هو الرسول رَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» .
وفي الحديث من الفوائد:
1 -
أن صوت المرأة ليس بعورة، فإن هذه المرأة قد حادثت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث كثيرة جدًّا فيها محادثة النسوة للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وهذا أمر مشهور في السنة يخلص الإنسان ببضع مئات من الأحاديث فيها ذكر النساء وأنهن يتكلمن بحضرة الرجال.
ولكن إنما نُهِيَت عن الخضوع بالقول: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] والأصل جواز محادثة الرجال للنساء إذا دعت الحاجة.
وقد روى أحمد (34/ 395) من حديث أم عطية: «أنه أخذ عليهن في البيعة وألا يحادثن من الرجال إلا من كان محرمًا» .
ولكن هذا الحديث لا يصح؛ لأن في إسناده غسان بن الربيع، والحديث جاء من مراسيل الحسن أيضًا ولا يصح.
2 -
أن الصبي يصح إحرامه ولو في المهد، ويُحرم به وليه ويلزمه ما يلزم البالغ وينهاه عن ما يُنْهى عنه البالغون.
ولكن هناك مسألة شهيرة وهي مهمة جدًّا في حج الصبي.
هل إذا دخل في النسك - حجًّا كان أو عمرة - يُلزم التكميل أم لا؟
الجمهور على أنه يلزم ولابد من إتمام النسك، وقالوا: يجب إتمام الحج من البالغين وغير البالغين، وذهب بعض أهل العلم - وهو مشهور عن أبي حنيفة رحمه الله أن النسك لا يلزم الصبي إكماله؛ لأنه نفل في حقه، وإتمامه واجبًا
على البالغ سواء أكان فرضًا أو نفلًا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأما الصبي فلمَّا لم يجب عليه أصلًا لم يجب عليه تكميله.
والعجيب أن جمهور أهل العلم يقولون أن الصبي لو نذر لا يلزمه أن يفي بالنذر، وإن دخل في النذر لا يلزمه تكميله.
فيلزمهم أن يقولوا هنا كما قالوا هناك هذا هو القول الصحيح، وهو أن الحج لا يجب تكميله على الصبي؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة
…
» (1) وذكر منهم الصبي، فإنه أحيانًا قد يتعسر عليه إكمال النسك فقد يتضايق، ثم كذلك لو وقع في محذورات فليس على وليِّه فدية يخرجها سوى إتلاف الصيد، فإن هذا يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه من باب الضمان، وقد أفتى ابن عباس في غلام ذبح حمامة في الحرم أن عليه شاة (2).
فينبغي إفتاء الناس بمثل هذا القول الذي فيه سهولة للناس.
أفعال الصبي تنقسم إلى أقسام:
1 -
شيء يفعله بنفسه كالوقوف والمبيت.
2 -
شيء يفعله وليُّه وله كعقد الإحرام.
3 -
شيء يفعله وليُّه به مثل حمله أثناء الطواف.
وقوله في الحديث: «نَعَمْ
…
» أي: له حج «
…
وَلَك أَجْرٌ».
وله حج مثل صلاة، وذلك إذا كان مميزًا وليست الصلاة واجبًا عليه، فإذا بلغ خوطب به.
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4398) ومواضع، والترمذي (1423)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041).
(2)
رواه البيهقي (5/ 106) بإسناد صحيح.
ولهذا عامة أهل العلم على أن الصبي لا يجزئ أن يحج عن ميت حجة الإسلام.
وقد ذكر الطحاوي (2/ 257) أن حج الصبي قبل بلوغه مثل صلاته ثم بلوغه في الوقت بعد ذلك، وأن عليه أن يعيدها، وأنه في حكم من لم يصليها، ونقل الإجماع على هذه الصور الأخيرة، وهذا غريب فخلاف الشافعي في المسألة مشهور وأنه يجزيه، ولا يلزمه الإعادة؛ لأن الصلاة وظيفة الوقت وقد أداها، ومذهب الجمهور (1) في هذه المسألة وجوب الإعادة، والصبي يكتب له حسنات ولا يكتب عليه سيئات حتى يبلغ ولهذا أمر بالصلاة لسبع (2)، فوضوءه إذا ميّز وصلاته صحيحة، وقبل التمييز لا يصح.
سؤال: (إذا كان الحج فرض في العام التاسع من الهجرة ألا يكون هذا قولًا بكونه على التراخي)؟
جواب: قد ذكرنا أنه كان في العام التاسع وذكرنا عن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجوبة، وقد كان هناك أناس يحجون بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن ابن عباس: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي انطلقت حاجة وإني اكُتتبت في غزوة كذا وكذا! قال: «ارجع فحج مع امرأتك» (3). وهذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قطعًا ليس في السنة العاشرة إذْ لم يكن فيها غزو فقد دانت له الجزيرة صلى الله عليه وسلم فهذا كان قبل السنة العاشرة في التاسعة ومحتمل قبل ذلك:
وفي العام الثامن لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة لم يكن يستطيع أن يحج، لأنه قد فتح مكة في رمضان ومكث أشهرًا بعده يوطئ الأمن لدولة الإسلام الجديدة - أو المتوسعة حتى افتُتِحت مكة، لذلك ذكر أهل السيرة أنه استعمل عتاب بن أسيد على الحج.
(1) انظر: «المغنى» (2/ 50).
(2)
وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» .
(3)
أخرجه البخاري (2844، 4935)، ومسلم (1341)، وغيرهما.
وكان يُحَج في العام الثامن من الهجرة فحج المسلمون والمشركون فاستعمل على الحج واحدًا من أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ولي المسلمين فحينئذ أخذ يولي على الحج لكنه ما بادر صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحج ما فُرض إلا في العام التاسع في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} .
الأمر الثاني: أن في سنة ثماني للهجرة كان هناك مشركون كثير يحجون وكانت الأمور فيها شيء من الاختلاط بالكفار، وفي سنة تسع للهجرة دانت الجزيرة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما جاءت سنة عشر للهجرة علم الناس أنه سيحج صلى الله عليه وسلم هذه السنة، حتى وافى المدينة خلق كثير كما في حديث جابر - وسيأتي إن شاء الله -، ثم بعد ذلك حج حجة الوداع السنة التي ودع فيها الناس صلى الله عليه وسلم، وإلا فالحج كان سنة ست وسبع وثمان، وقبل ذلك كان هناك من يحج بعضه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنة ثمان وتسع، وبعضه لم يكن بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه إن وافق الحق فهو مقبول وإلا فهو مردود.
وأما العمرة فكان مأذونًا لهم قديمًا فيها، ففي صحيح البخاري في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يُقتل في بدر، من أبواب كتاب المغازي، أن سعد بن معاذ اعتمر قبل غزوة بدر وأخبر بمقتل أمية بن خلف
…
الخ.
سؤال: (ما الحكمة من إرسال معاذ إلى اليمن وعدم إيراد الصوم والحج مع أنهما من أركان الإسلام)؟
الجواب: هذا الحديث (1) اقتصر على جزء من أركان الإسلام، والمشهور أن بَعْث معاذ إلى اليمن كان متأخرًا سنة عشر قبل حجة الوداع، ونحن نعلم أن السُّنَّة ما جاءت في حديثين أو ثلاثة، وإنما يؤخذ الدين من مجموع الأحاديث، فقد يذكر بعض الأحاديث الصلاة والصيام، ولا يذكر مثلًا الحج،
(1) هذا الحديث هو حديث إرسال معاذ إلى اليمن وهو مشهور، وقد أخرجه البخاري في صحيحه (1331، 1389، 1425، ومواضع)، ومسلم (19)، وغيرهما من أنهل السنن والمعاجم والمسانيد.
كما في حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن، فذكر الصلاة والزكاة ولم يذكر الصوم والحج، على أن بعض أهل العلم قال: إن عدم ذكر الصوم والحج من تقصير بعض الرواة واختصاره وهذا ضعيف.
وقال آخرون: إن عادة الشارع ذكر التوجيه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاقتصار على ذلك، ففي سورة التوبة {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
…
} [التوبة: 5]، في موضعين من السورة والسورة قد نزلت بعض فرض الصوم والحج على خلاف في الثاني.
وفي حديث ابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك
…
» (1)، والصلاة عمل بدني والزكاة عمل مالي ومن أذعن لهذين أذعن لما سواها.
ذكره الحافظ في شرح البخاري وهو قوي (2).
(1) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) وغيرهما.
(2)
انظر لمزيد بيان «فتح الباري» (باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة)(3/ 361).