الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس:
مكايد الشيطان
لن يتقاصر الشيطان الذي يجري منك مجرى الدم، عن قذف المكايد والحيل الماكرة في نفسك، بقاذفات تدمر صفاء القلب، وتقضي على رونقه وبهائه ونصاعته، كي يفسد عليك عملك، بل لن ينفك عنك بحال، والميدان طويل، والصراع شديد، فيأتيك بصور خفية منها:
الصورة الأولى: حديثك عن نفسك، وثناؤك على تلاوتك وصلاتك ولو كان على سبيل الإخبار ربما كان مزلقًا من المزالق، والأمرُ في حقيقته (مدح مبطن)، فانتبه لهذه المكيدة الشيطانية، والموفق هو من يتحاشى الحديث عن النفس ما أمكن، ويستحضر دائمًا ضرورة التجرد لله، ومحاذرة التزكية للنفس:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
قال ابن حزم رحمه الله: «وإياك والامتداحَ، فإن كل من يسمعك لا يصدقك وإن كنت صادقًا، بل يجعل ما سمع منك من ذلك في أول
معايبك»
(1)
.
«كم رأينا مَنْ فاخَرَ بما عنده
…
فكان ذلك سببًا لهلاكه، فإياك وهذا الباب الذي هو ضر محض، لا منفعة فيه أصلًا، كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه، ولم نَرَ قط أحدًا ولا بلغنا أنه أهلكه سكوته، فلا تتكلم إلا ما بما يقربك من خالقك»
(2)
.
الصورة الثانية: من أحابيل الشيطان: سب النفس ومقتها، وقديمًا قال أهل العلم:(سب نفسه ليمدحها)، فحاذر هذا السبيل، فهذا خيط دقيق من خيوط الشيطان.
الصورة الثالثة: المكاثرة بجموع الناس والفرح بذلك بدعوى أن اجتماع الناس على الخير خير، وهذا حق، وربما كان خيرًا للناس، وشرًا لك فيه عطبك وفساد قلبك، وقد كان السلف يخافون أن تكون هذه الجماهير من باب الاستدراج، ويكرهون ضجيج الناس وراءهم وينفرون منه أشد النفور، ويخافون أن يلقي ذلك بظلاله على صفاء العمل.
قال أبو بكر المَرُّوذِي رحمه الله: قلتُ لأَبي عبد الله: ما أَكثر الداعي لك! قال: «أَخافُ أَن يكون هذا استدراجًا»
(3)
.
(1)
الأخلاق والسير ص (87).
(2)
المرجع السابق ص (82).
(3)
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (201).
وكان طلحة بن مصرف قارئ أهل الكوفة يقرؤون عليه القرآن، فلما رأى كثرتهم عليه كأنه كره ذلك لنفسه فمشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة
(1)
.
الله أكبر، ما أرفع هاتيك النفوس!
كيف قَدَرَ على قهر نفسه بهذا التواضع الجم، وكيف تَخَلَّى عن حظوظ نفسه، واستطاع أن يلجمها بلجام العدل، وينصفها في هذا الموقف الرهيب؟
أَلَا ما أحوجنا لمثل هذه النفوس الطاهرة، والقلوب المليئة بالصفاء، والمُتْرَعة بالنقاء!!
هكذا كانوا وهم مَنْ هم في الجلالة والمجاهدة للنفس، فكيف بنا في عصر كثرت فيه أدواء القلوب وعللها!!
هذه أهم صور المكايد الشيطانية التي قد نغفل عنها، وهي كثيرة ينبغي التفطن لها، عصمنا الله جميعًا من كيد الشيطان وحبائله.
(1)
الطبقات الكبرى (6/ 308)، والمعارف لابن قتيبة (1/ 529).