الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع:
ليكن لك خبيئة
صلاة التراويح من العبادات الجماعية التي شُرِعَت لمصالحَ كثيرة تختص بالهدي التعبدي العام، لكنها لا تُغْنِي عن خبايا العبادات التي تتوافر فيها دوافع تحقيق الإخلاص لله أكثر من العبادات الجماعية.
والخبيئة هي عبادة السر التي تكون بين العبد وربه، في عملٍ من الأعمال الصالحة، وهذا الصنف من العبادة مقامه عظيمٌ؛ لصدق العبد وإخلاصه لله فيه، ولبعده عن الرياء ومطامع السمعة والشهرة.
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»
(1)
.
فهذه الصدقة ارتفع مقامها، وعظم أجرها؛ حتى صار صاحبها من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة؛ لأنها صدقة خفية خالصة
(1)
أخرجه البخاري (2/ 111) رقم (1423)، ومسلم (2/ 715) رقم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لوجه الله، وانظر إلى دقة التعبير النبوي:«فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» مبالغة في إسرارها وإخفائها، فعَبَّرَ بقوله:«لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ» أي: أن يده اليسرى لم تعلم بما أنفقته اليمنى لقوة إخلاصه.
عجيبٌ أمر هذه الخبيئة التي يتمثل فيها الصدق مع الله في أرقى درجاته، وأسمى غاياته إذ لا يرجو المرء غير الله، لا يرائي أحدًا، ولا يطلب سوى الله.
وقوله: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا» : «يعنى صدقة التطوع؛ لأن صدقة الفرض إعلانها أفضل من إخفائها؛ لِيُقْتَدَى به في ذلك، ويُظْهِر دعائم الإسلام»
(1)
.
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: «أيكم استطاع أن يكون له خبيئة مِن عملٍ صالحٍ فليفعل»
(2)
.
والخبيئة من أسباب نور القلب وسعادته:
قال الشافعي رحمه الله: «من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوره، فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي، ويكون له خبيئة فيما بينه
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 428).
(2)
أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (1/ 392) رقم (1109)، وابن الجعد في مسنده ص (113) رقم (682)، وأحمد بن حنبل في الزهد ص (119) رقم (778)، وأبو داود في الزهد ص (122) رقم (112).
وبين الله تعالى من عمل»
(1)
.
والخبيئة من أرجى ما ينجي العبد يوم تبلى السرائر:
(2)
.
(3)
.
والقارئ في سير سلف الأمة تلوح له هذه العبادة في سيرة كل قدوة من أولئك الكبار.
قال ابن رجب رحمه الله: «قال بعضهم: كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح؛ ليكون أهون عليه عند نزول الموت»
(4)
.
«كان عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل الداخل نام على فراشه»
(5)
، ولعل ذلك في قيام الليل حرصًا منه على إخفاء العبادة.
(1)
نقله عنه النووي في المجموع شرح المهذب (1/ 13).
(2)
تفسير القرطبي (15/ 127).
(3)
مفيد العلوم للخوارزمي ص (169، 170).
(4)
مجموع رسائل ابن رجب (3/ 118).
(5)
أخرجه أحمد في الزهد ص (294) رقم (2111)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 351).
ومن غرائب الأخبار عن عبد الله بن المبارك أنه كان يضع اللثام على وجهه عند القتال في سبيل الله
(1)
، حرصًا على التخفي وعدم الظهور.
يعلق الإمام أحمد رحمه الله، ويقول:«ما رفع اللهُ ابنَ المبارك إلا بخَبِيئةٍ كانت له»
(2)
.
ومن الذين كانت لهم خبيئة مع الله عز وجل وجاء ذكرهم في نصوص الكتاب والسُّنة:
يونس عليه السلام: قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:139 - 146].
فكان ليونس عليه السلام خبيئة من عمل صالح أنجاه الله بها من بطن الحوت.
(1)
ينظر: صفة الصفوة (4/ 141)، وسير أعلام النبلاء (8/ 386).
(2)
صفة الصفوة (4/ 146).
قال أبو العالية في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} : «كان له عمل صالح فيما خلا»
(1)
.
ومن أولئك: الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة:
كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ المَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا الله بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى، ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحْلُبُ فَأَجِيءُ بِالحِلَابِ، فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ فَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي، فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً، فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ، قَالَ: فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا، حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَفُرِجَ عَنْهُمْ
…
» الحديث
(2)
.
وهكذا الثاني والثالث منهم، كان لكلٍّ منهم خبيئة.
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 109).
(2)
أخرجه البخاري (3/ 80) رقم (2215)، ومسلم (4/ 2099) رقم (2743).
وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث: «ادْعُوا الله بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ»
(1)
.
(2)
.
وفي رواية: «إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا الله بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ»
(3)
.
(4)
.
وهؤلاء الثلاثة كانت لهم خبايا بينهم وبين الله كانت سببًا لخلاصهم ونجاتهم من هذا الكرب الذي حَلَّ بهم، وهذه بركة من بركاتٍ كثيرة لعمل الخبيئة.
وأولى الناس بالخبيئة وأحوجهم إليها من كان إمامًا وقدوة للناس.
(1)
صحيح البخاري (3/ 79، 80) رقم (2215).
(2)
صحيح البخاري (3/ 105) رقم (2333)، وصحيح مسلم (4/ 2099) رقم (2743).
(3)
صحيح البخاري (3/ 91) رقم (2272).
(4)
صحيح البخاري (4/ 172) رقم (3465).