الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب العاشر:
الداء الدفين
إنَّ من أشدِّ الآفات فتكًا في القلوب وإفسادًا للأعمال، آفة خفية تسري في النفوس فتؤثر في مسارها، وتفسد سيرها، إنها آفة التعالي والعجب.
وما أجملَ قولَ ضيغم بن مالك عندما قال: «احذر نفسك على نفسك»
(1)
، وكلما أرادت نفسك التعالي فذكرها بقول ربك سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235].
ونظر مطرِّف بن الشِّخِّير إلى المهلَّب بن أبي صُفْرة وعليه حلة يسحبها ويمشي الخيلاء، فقال: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهلب: أما تعرفني؟ قال: بلى أعرفك، أَوَّلُكَ نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرَة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعَذِرَة»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس ص (108).
(2)
ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 340)، وصفة الصفوة (3/ 277).
ونظم بعضهم ذلك فقال:
عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِه
…
وَكَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً مَذِرَهْ
وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِه
…
يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرَهْ
وَهْوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِه
…
مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ
وإذا كان الله قد حباك أيها الإمام نعمة الصوت الحسن، فاشكر الله عليها بالتواضع، وكثرة حمده، وشكره، والثناء عليه، فهو من حباك الصوت الحسن، ويسر لك حفظ القرآن، وهو قادر على أن يسلبك هذه النعمة في طرفة عين.
و «من امتُحِن بالعُجْب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصًا، وأعظمهم عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا، وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل، ولا عيب أشد من هذين؛ لأن العاقل هو من مَيَّز عيوب نفسه فغالَبَها وسعى في قَمْعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدِّر أن عيوبه خصال،
وهذا أشد عيب في الأرض»
(1)
، فعليك باستحضار عيوبك.
(2)
.
(3)
.
وقد كان سلف الأمة أكثر الناس إزراءً بأنفسهم واتهامًا لها:
قال محمد بن واسع رحمه الله: «لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني؛ من نَتَنِ ريحي»
(4)
.
(1)
الأخلاق والسير ص (66).
(2)
المرجع السابق ص (66).
(3)
المرجع السابق ص (68).
(4)
أخرجه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (1/ 475) رقم (157)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 349)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 158)، واللفظ لأبي نعيم.
وقال خلف بن تميم رحمه الله: «رأيت الثوري في مكة وقد كَثَّرُوا عليه، فقال: إنا لله، أخاف أن تكون قد ضُيِّعَت الأمة؛ حيث احتاج الناس إلى مثلي!»
(1)
.
(2)
.
وقيل مرةً «لعمر بن عبد العزيز: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، قال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا!»
(3)
.
وقال أبو جعفر محمد بن زهير: «أتيت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - في شيء أسأله عنه، فأتاه رجل، فسأله عن شيء أو كلمه في شيء، فقال: له جزاك الله عن الإسلام خيرًا، فغضب أبو عبد الله وقال له: من أنا حتى يجزيني الله عن الإسلام خيرًا؟! بل جزى الله الإسلام عني خيرًا»
(4)
.
(1)
تاريخ الإسلام (4/ 387)، وسير أعلام النبلاء (7/ 275).
(2)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 307)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (334) رقم (541)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (31/ 156).
(3)
أخرجه أحمد بن حنبل في الزهد ص (241) رقم (1716)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 331).
(4)
طبقات الحنابلة (1/ 298)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (368).
و «جاء قوم إلى أبي معاوية الأسود فقالوا: ادع الله لنا، فقال: اللهم ارحمني بهم، ولا تحرمهم بي»
(1)
.
وقال أبو الوازع: «سمعت ابن عمر، وقال له رجل: لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك، وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه؟!»
(2)
.
وقال رجلٌ لميمون بن مهران: يا أبا أيوب، ما يزال الناس بخيرٍ ما أبقاك الله لهم. فقال له ميمون:«أقبل على شأنك أيها الرجل؛ فما يزال الناس بخيرٍ ما اتقوا ربهم»
(3)
.
وقال أحمد بن حنبل: «كان سفيان الثوري إذا قيل له إنه رُئِيَ في المنام، قال: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات»
(4)
.
قال المَرُّوذِي: «أدخلت نصرانيًّا على أبي عبد الله يعالجه، فقال: يا أبا عبد الله، إني أشتهي أن أراك منذ سنين، وليس بقاؤك صلاح أهل
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (67/ 244).
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 161)، وابن المبارك في الزهد (2/ 14) وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس ص (83) رقم (40)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (334) رقم (542)
(3)
أخرجه محمد بن سعيد القشيري في تاريخ الرقة ص (48) رقم (39)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 360).
(4)
تاريخ الإسلام (4/ 387)، وسير أعلام النبلاء (6/ 635).
الإسلام وحدهم، بل هو للخلق جميعًا، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك.
قال المروذي: فقلت لأبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار، فقال: يا أبا بكر، إذا عَرَفَ الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس!»
(1)
.
غفر الله لهؤلاء القدوات، ورزقنا قلوبًا سليمة، ووقانا شر العجب والغرور والتعالي.
(1)
مناقب الإمام أحمد ص (203)، وتاريخ الإسلام (5/ 1020)، وسير أعلام النبلاء (11/ 211).