الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع:
إياك والتكلف
التكلف هو: المغالاة ومجاوزة الحد في القول والفعل، والتكلف مذموم في كل الأمور لا سيما في أمور الشرع، يقول تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. وقد فسر العلماء التكلف بالتصنع، وعن عمر رضي الله عنه قال:«نُهِينَا عَن التَّكَلُّفِ»
(1)
.
وأئمة المساجد أولى الناس بترك التكلف، وعدم الخروج عن المشروع.
ومن التكلف المذموم: ترك جوامع الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثَرَه - وتَقَصُّد غرائب الأدعية المسجوعة والمُتكَلَّفة، ويقصد بها أحيانًا إبكاء المصلين.
ومن ذلك ما يقع فيه بعض الأئمة من عبارات تُعد اعتداء في الدعاء، كقول بعضهم:(يا من لا تراه العيون، ولا يصفه الواصفون)،
(1)
أخرجه البخاري (6/ 2659) رقم (6863).
وإن كان هذا اللفظ قد ورد عند الطبراني في الأوسط
(1)
، إلا أن إسناده ضعيف، وهو مخالف لما أجمعت عليه الأمة من وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يا من لا تراه العيون) هذا إطلاق يحتاج تقييد، فإن الله لا يُرَى في الدنيا، ولكن الرؤية في الآخرة للمؤمنين ثابتة بالكتاب، والسنة المتواترة.
وكذلك المبالغة في الوصف حين الدعاء، كوصف حال الموت، واليوم الآخر؛ لتحريك قلوب الناس.
فينبغي الاقتصار على الدعاء الجامع المأثور من أدعية القرآن والسنة، أو ما في معناها، مع اجتناب السجع المتكلف، فقد كان السلف ينهون عنه.
ومن التكلف: إطالة القنوت إطالة مملة، ورفع الصوت في الدعاء، حتى يصل أحيانًا إلى حد الصياح والصراخ، وقد قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] فسمَّى الله سبحانه وتعالى رفع الصوت في الدعاء اعتداء، ويقول سبحانه:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110].
(1)
المعجم الأوسط (9/ 172) رقم (9448).
وفي الحديث الذي رواه أبو موسى مرفوعًا: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا»
(1)
، والإفراط في رفع الصوت بالدعاء، بالإضافة إلى مخالفته للسنة، هو مجلبةٌ للرياء، وينافي لب الصلاة من الانكسار لله والذل بين يديه.
ومن التكلف أيضًا: المبالغة في رفع الصوت بالبكاء
(2)
، وتكلف ذلك أحيانًا، والمشروع للإمام إذا تأثر بالقرآن أو بالدعاء أن يدافع البكاء، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبكي في الصلاة بصوت عالٍ ليبكي من خلفه، كما قد يكون من بعضهم، فيستدعون ببكائهم بكاء غيرهم، ناهيك أن بعضهم يبكون بنحيب وعويل، بل كان صلى الله عليه وسلم يكتم بكاءه في صدره حتى يصبح له أزيز كأزيز المرجل
(3)
؛ أي: كغلي القدر.
قال ابن القيم رحمه الله عن هديه صلى الله عليه وسلم في البكاء: «وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (3/ 1091) رقم (2830)، ومسلم (4/ 2076) رقم (2704).
(2)
والفرق بين هذه الصورة وسابقتها أن تلك في رفع الصوت بالدعاء، وهذه في رفع الصوت بالبكاء.
(3)
أخرجه أبو داود (1/ 300) رقم (904)، والنسائي (3/ 13) رقم (1214)، واللفظ له، وفي رواية أبي داود:«كَأَزِيزِ الرَّحَى» ، وإسناده صحيح.
(4)
زاد المعاد (1/ 175).
ومن التكلف أيضًا: المبالغة في الترتيل مبالغة تخرج عن الحد الطبيعي، والأَوْلَى أن يكون الترتيل على السَّجِيَّة التي فطر الله الإنسان عليها، وأن يُحَسِّن القارئ صوته بالقرآن، ويتغنى به من غير مبالغة وتكلف، بل على الطبيعة؛ لأن هذا أقرب لاستمتاع أذن السامع بكلام الله، وأبعد عن الإملال للغير، والإجهاد للنفس؛ لأن المتكلف يكون ثقيلًا على نفسه، مملًّا لغيره، وكلما كان الإمام بعيدًا عن التكلف كان أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء والسمعة.