الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان فضيلة الشيخ / صالح بن محمد اللحيدان -حفظه الله
- (1)
أيها المشاهدون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي كل شيء بقضائه وقدره، في خضم هذه الأحداث التي طرأت، وفي مجالات اضطرابات الرأي والفكر، وفي أمر ما حدث من كارثة على الولايات المتحدة الأمريكية، كثر السؤال والتساؤل عن حكم مثل هذه الأحداث في شريعة الإسلام؟.
لا شك أن شريعة الإسلام الشريعة الكاملة التي تستوعب كل حدث، وفيها حل كل مشكلة، وفيها بيان حكم كل نازلة، فما من نازلة تنزل على البشر إلا وفي شريعة الإسلام حكمها، وبيان أبعادها، ومن ذلك هذه الأحداث التي طرأت، ومما كثر السؤال عنه من خاصة وعامة: ما هو حكم الشريعة في مثل هذه الأحداث؟ هل في ذلك جواز في شريعة الإسلام؟ وهل مثل هذا العمل يقره علماء الإسلام؟.
فيقال عن بيان حكم الإسلام في ذلك ما ينبغي أن يقال؟
ولأن علماء الإسلام لا بد أن يتحدثوا عن الأحداث، ويبينوا أحكام الشريعة الإسلامية فيما يطرأ من نوازل، وما يلم في المسلمين أو في غيرهم من ملمات:
(1) نص كلمة ارتجلها في التلفزيون السعودي عند اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمي بأمريكا.
لا شك أن كل أمر فبقضاء الله جل وعلا قدره، ومع ذلك فأحكام الشريعة تستوعب كل حدث، والله جل وعلا أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وهو الحكم العدل، حرم الظلم على نفسه وجعله بينه وبين العباد محرما، وقد ثبت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا أنه قال سبحانه:«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1).
إن من الظلم أن يُعتدى على غير جان، وأن يقتل غير مجرم، والنبي عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة نبي الشفقة نبي الإحسان المبعوث إلى البشرية بل إلى الثقلين الجن والإنس أوضح المعالم، وكان في الغزو والجهاد والقتال إذا جهز السرية أوصاهم:"ألا يقتلوا وليدا ولا امرأة ولا هرما ولا متعبدا في صومعته"(2).
أي أن الإسلام لا يبيح قتل إلا من يقتل ويقاتل ويعتدي على المسلمين.
ولهذا فإن مثل هذه الجرائم التي تقع ولا تفرق بين رضيع وامرأة ومسن ومسنة ومريض وصحيح وتأتي على المال وأهل المال؛ أن هذا العمل يعد من الجرائم العظام، والفواحش الخطيرة، لأن هذا ينظر إليه في شريعة الإسلام بأنه من الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، وهذا
(1) رواه مسلم في "صحيحه"(6572).
(2)
الشطر الأول من الوصية أخرجها مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث .. حديث رقم (4522).
أمر حرمه الإسلام، حرمه الله، وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، والنبي لما رأى امرأة مقتولة في الغزو فقال:«ما كانت هذه لتقاتل» (1) أي أن قتلها أمر ممنوع منعا باتا.
ولهذا فإن ما حدث مما شاهدته في العرض الذي عرضته وكالات البث العام مما حدث على تلك العمارات من الضرب التي تداعت له العمارة فصار الناس إثر ذلك كأنما القيامة قامت، وكأن الفزع فزع قيام الساعة، وظهر على وجوه الذين يركضون هنا وهناك الذهول -إن من يحدث مثل هذه الجرائم يعد في النظر الإسلامي من أخطر الناس جرما، وأسوأهم عملا، ومن يظن أن أحدا من علماء الإسلام العارفين بمقاصد شريعة الإسلام، المطلعين على مقاصد القرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يظن أنه يجيز مثل هذه الأعمال فإنما يظن سوءا.
إن المسلم لا يليق به أن يشمت حتى بالعدو إذا ظلم، فالظلم غير مقبول، والعدوان الانفرادي أمر محرم فظيع على من ليس مستحقا للعقاب، فكيف إذا وقع الجرم بالذي شوهد، وتردد صداه وأفزع النظر إليه من نظر، كيف يقال عن ذلك أن أهل الإسلام يقرون مثل هذا العمل.
إنهم ومهما ادعوا من مسوغ مثل هذه الحوادث لا يصح أن تقبل، وأن تسوغ في ميزان الإسلام، إن الله جل وعلا يقول في القرآن الكريم في خطابه للمسلمين:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: آية 8]. ولذلك: العدل قامت به السماوات
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، حديث رقم (2669).
والأرض، وإيقاع عقوبة جماعية لا تتفق بأي وجه من الوجوه مع ميزان العدل، ولا توضع إلا في كفة الظلم والعدوان الفاحش، لأن قتل فرد بريء لا ذنب له جرم عظيم، فكيف إذا كان الجرم واقعا على فئات عظيمة، وأعداد كبيرة، ورضع وأطفال ونساء حبالى، حتى ربما وضعت المرأة حملها من هول الفزع، كأنما قامت قيامة الساعة.
إن هذه المناظر المرعبة التي شوهدت من آثار ذلك الإجرام مناظر لا يقرها عقل مسلم، ولا يعتد بفعل من فعلها ولو كان نابتا منبتا إسلاميا في بلد إسلامي، العبرة بما يقوله أهل العلم، والعبرة بما تقرر في أحكام الشريعة الإسلامية في أمثال هذه الجرائم من الجرائم الخطيرة.
والمملكة العربية السعودية عندما نظرت في يوم من الأيام أمر اختطاف الطائرات قبل أن يختطف للسعودية أي طائرة، قرر علماؤها تحريم هذا العمل، ولم يفرقوا بين اختطاف طائرة ركابها مسلمون وبين طائرة ركابها غير مسلمين (1)، بل رأوا أن الظلم أمر محرم، وأن العدوان على الناس وإرهابهم بغير حق من أعظم الفواحش في الأرض والفساد فيها.
في مثل هذه الأمور لا غرابة أن تعلن المملكة العربية السعودية استنكارها وعدم رضاها عن ما حدث، وعن من أحدث، لأن المملكة العربية السعودية مملكة إسلامية ولله الحمد، وبحق يحكمها نظام الإسلام، وتحكم شريعة الإسلام، وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بأن لا تخالف
(1) إشارة إلى قرار هيئة كبار العلماء السابق، ص8.
الإسلام، فإذا استنكرت مثل هذا العمل فإنما تفعل ما تفعله من واقع دينها، ومن موقفها الإسلامي الذي تقف فيه، لأنها دولة الحرمين، وبلاد منبع الرسالة، فلا غرو أن تستنكر الفواحش، وأن تستهجن إجرام المجرمين، وأن تندد بإيواء كل مرتكب للإجرام، أو يرضى بجرمه.
إن الإنسان المسلم العارف مقاصد الشرع، العالم بما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية من الشفقة والرحمة لعباد الله، يرى أن هذه الأعمال من أخبث الأعمال وأشدها ضررا على بني الإنسان.
ومما طرح علي من الأسئلة وهي كثيرة، قبل أن أقبل بأن أتكلم، ولكن تحت ضغط كثرة الأسئلة والرغبات في أن أتحدث، ويعرف موقف القضاء في المملكة العربية السعودية، ولأن يتكلم من هو في قمة مسئولية القضاء؛ رأيت أن أبدأ وأبين: أن هذا العمل هو عمل منكر، ولكن الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«لا يجني جان إلا على نفسه» (1) أي أن إجرام المجرم أو عبث عابث لا يصح أن يشغل غيره، ومما قيل لي وقد سألتني إحدى الصحف قبل هذا الموقف أمام هذه الكاميرا وبينت أن هذا العمل الفظيع عمل لا يقر، كما أن هذا العمل الفظيع لا يمكن أن يولد إلا بغضا أو حقدا وانتقاما على المسلمين؛ الذين لم يرضوا ولم يقروا هذا العمل أو يحمدوه، لأن مقتضى العدل ونواميس العقل تستلزم أن لا يؤخذ أحد إلا بذنبه، وأن لا يحاسب إنسان أو جماعة على ذنوب غيرها، لأنه كما
(1) رواه الترمذي في كتاب الفتن، باب تحريم الدماء والأموال، حديث رقم (2159)، وابن ماجه في كتاب الديات، باب لا يجني أحد على أحد، حديث رقم (3659).
هو مقرر في شريعة الإسلام وكما هو قول نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: «لا يجني جان إلا على نفسه» (1). ولأن القرآن يقول: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم: آية 38] أي لا تتحمل وازرة وزر أخرى، ولا يحمل بريء ذنب مسيء، ولا يعاقب مسالم كافا الأذى بسبب إجرام مرتكب جريمة.
ومما أثير عما قد يقال أو تردد في بعض وسائل الإعلام عن الشعب الأمريكي، وما قد يكون ينظر للمسلمين المتواجدين في أمريكا من أصل أمريكي أو من وافدين إليها من العرب أو غيرهم، وهل هذا مما يقبل عقلا؟.
ذكرت وأذكر هنا أنه لا يتوقع أن الشعب الأمريكي الذي يقول عن نفسه أنه من أبرز حماة الديمقراطية، وحامل لواء العدل، لا يعقل أن ينظروا إلى مواطنيهم أو ضيوفهم من العرب والمسلمين، ومن غير المسلمين من العرب أيضا، لا يمكن أن ينظر إليهم الشعب الأمريكي مع ما هو فيه من مناعة، وما يفترض فيهم العقل ومعرفة التجانس، وتذكر ما قد حدث في أيام المحن، لا يمكن أن ينظر إلى غير المسيء بنظرته للمسيء، فإنه لا يستوي المجرم مع غير المجرم، ولا يحمل مسالم ذنب وجريرة معتد ظالم.
إنني أؤكد أن مثل العمل غير مقبول في الإسلام، وألمحت إلى أن الناس في القتال -في الغالب- لا يفكرون في أيام الحروب فيما يصيب من لم يشارك آثار في الحرب من أضرار وسفك للدماء، ما عدا أن الإسلام
(1) رواه الترمذي في "السنن"(2159) وابن ماجه (3659).
يمنع من قتل من لم يشارك في الحرب، ويمنع قتل الوليد، أي الأطفال الذين لم يكونوا مقاتلين، ويمنع قتل النساء، ويمنع قتل الشيوخ، ويمنع قتل من تفرغوا للعبادة من الرهبان في صوامعهم، فدين ينظر الرسول المبعوث به لهذه الشعوب والأفراد والجماعات هذه النظرة لا يمكن أن يقر أتباع هذا الدين مثل هذا العمل الفاحش، إنه عمل خطير، وإنه عمل من النوازل النادرة التي لم تكن معروفة في الزمن القديم، وطرقها يحتاج إلى أن يعالج من جميع النواحي؛ معالجة المجرم ومن رضي بإجرامه وأقره عليه وأيده وأمده، والنظر في الأخذ بالأسباب الواقية من تكرر مثل هذا الإجرام، والأسباب يعرفها العقلاء، والباحثون عن الحلول، وتوقي الأخطار، والأخذ بأسباب منع الحوادث، ولا يعوزهم الوصول إلى الحل السليم والوقاية التامة.
ولا شك أن الشريعة الإسلامية جاءت بالوقاية وأنها خير من العلاج، ولا يختص هذا بمرض الأبدان؛ بل يعم مرض الأبدان والمجتمعات والشعوب، فالوقاية من الأخطار، والأخذ بالأسباب التي لا تعرض للأخطار أيضا من مقاصد الشريعة الكاملة، ومن متطلبات أهل سداد الرأي والفكر السليم والعقول الراجحة.
لا أحب أن أطيل في حديثي ولكني أؤكد أن الأمة الإسلامية بقياداتها العلمية، وقياداتها السياسية، وأذكر القيادة العلمية قبل السياسية، لأن الأمر أمر بيان حكم الشريعة: لا يمكن أن تقر مثل هذه الأعمال. كما أنني أعتقد أن المجتمع الأمريكي والغربي أجمع لا يمكن أن ينظر إلى مثل هذه
الأحداث بأن من ينتسبوا إلى أي دولة وهو خارج عن إرادة دولته في تصرفه أن تؤاخذ دولته، وتعادى لأجل عمل قام به من لم يستشرها، ولم يعلمها ولم يخبرها، لأنني لا أتوقع أن أحدا من مرتكبي هذه الجريمة الفاحشة الشنعاء أنه يمكن أن يكون أطلع أحدا من رجال دولته على أي قصد من هذه المقاصد .. وإنني أقول: إن على المسئولين في كل مكان أن يحسنوا الظن بمن يواطنوهم الآن، لا سيما وأن المواطنة في الولايات المتحدة وفي غيرها صارت لكثير من المسلمين ممن أصولهم من تلك البلاد وممن وفدوا إليها، والإسلام لا يفرق في أخوته بين جنس وجنس، ولا لسان ولسان، ولا لون ولون في هذه العقيدة.
أكرر مرة أخرى أن هذا العمل الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الفظاعة والوحشية المتناهية التي هي أبعد من عمل الوحوش، وأبعد من عمل ما قد يسمى جماعات إرهاب أو فصائل إجرام، بل هو عمل بالغ الخطورة، أقول: إنه في غاية الفحش والسوء.
وأسال الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يقينا في دنيانا كل سوء، وأن يهدي كل ضال إلى الصواب، وأن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وأهله، وأن يجعل أعمالنا كلها في مرضاته سبحانه وتعالى، وأن يلطف بنا، لأن من لم يلطف به الله فلا معين له.
وصلى الله وسلم على رسول الله وجميع إخوانه من الأنبياء ورسله وجميع المتبعين للحق الصادقين في اتباعه، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.