المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله - فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة

[ابن سفران القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة

- ‌فتاوى الأئمةفيحكم التفجيرات والتخريب في البلاد الإسلامية وغيرها

- ‌بيان من هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجير الأخيرة

- ‌بيان من هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض

- ‌بيان لهيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب

- ‌بيان هيئة كبار العلماءحول حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا

- ‌بيان هيئة كبار العلماءحول حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر

- ‌أجوبة سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌فتوى سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ -حفظه الله

- ‌كلام سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌بيان فضيلة الشيخ / صالح بن محمد اللحيدان -حفظه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان -حفظه الله

- ‌فتاوى الأئمةفيحقوق الولاة وحكم الخروج عليهم

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌رسالة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌بيان العلماءسعد بن عتيق، محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقري رحمهم الله

- ‌قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله

- ‌أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين الألباني رحمه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله

- ‌جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌فتاوى الأئمة في حكم الشائعات واستماعها

- ‌توجيه سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌فتاوى فضيلة الشيخ/صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

- ‌أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين محمد الألباني رحمه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ/صالح بن علي الغصون رحمه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله

- ‌فتاوى الأئمةفي حكم اختطاف الطائرات وبني الإنسان

- ‌بيان من مجلس هيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب

- ‌أجوبة سماحة/عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌فتاوى الأئمة في حكم الإضرابات والاعتصامات

- ‌أجوبة سماحة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌فتاوى الأئمة في العمليات الانتحارية

- ‌من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌أجوبة سماحة/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌فتاوى الأئمةفيحكم التطرف والتكفيروشيء من صفات الخوارج

- ‌قال الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمه الله

- ‌بيان من هيئة كبار العلماء في التكفير والتفجير

- ‌أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

- ‌جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله

- ‌تعقيب سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله

- ‌تعليق فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين

- ‌مقال فضيلة الشيخ/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله

- ‌جواب معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حفظه الله

- ‌رسالة الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله

- ‌سئلت اللجنة الدائمة:

- ‌فتاوى الأئمة في حكم الطعن في العلماء

- ‌قال عبد الله بن المبارك رحمه الله

- ‌قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله:

- ‌قال العلماء سعد بن عتيق محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقر

- ‌قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله

- ‌مقال فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

- ‌فتاوى الأئمة في بعض أحكام الصلح والجهاد

- ‌قال الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله

- ‌جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌قال الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌أجوبة فضيلة الشيخ/ د. صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله

الفصل: ‌جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله

‌جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله

سؤال: فضيلة الشيخ: لا يخفى عليكم ما احتوته الساحة الأفغانية في ذلك الوقت من الجماعات والفرق الضالة، التي كثرت في ذلك الحين في صفوفها، والتي استطاعت وللأسف أن تبث أفكارها الخارجة عن منهج السلف الصالح في شبابنا السلفي الذي كان يجاهد في أفغانستان، ومن هذه الأفكار تكفير الحكام، وإحياء السنن المهجورة، كالاغتيالات -كما يدعون- والآن وبعد رجوع الشباب السلفي إلى بلادهم بعد الجهاد؛ قام بعضهم ببث هذه الآراء والشبه بين الشباب في مجتمعاتهم، وعلمنا أنه قد حصل بينكم وبين أحد الإخوان مناقشة طويلة في مسألة التكفير، ولرداءة التسجيل لهذه المناقشة نود من فضيلتكم البيان في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا.

الجواب: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:

فالحقيقة أن مسالة التكفير -ليس فقط للحكام بل وللمحكومين أيضا- هي فتنة قديمة تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة، وهي المعروفة " بالخوارج" والخوارج، طوائف مذكورة في كتب الفرق، وبعضها لا تزال موجودة الآن باسم آخر وهي:" الإباضية"، وهؤلاء الإباضية كانوا

ص: 204

إلى عهد قريب منطوين على أنفسهم، ليس لهم نشاط دعوي كما يقال اليوم، ولكن منذ بضع سنين بدءوا ينشطون وينشرون بعض الرسائل وبعض العقائد التي هي عين عقائد الخوارج القدامى، إلا أنهم يتسترون بخصلة من خصال الشيعة ألا وهي التقية، فهم يقولون نحن لسنا بالخوارج، وأنتم تعلمون جميعا أن الاسم لا يغير من حقائق المسميات إطلاقا، وهؤلاء يلتقون في جملة ما يلتقون مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر؛ فالآن يوجد في بعض الجماعات الذين يلتقون مع دعوة الحق في اتباع الكتاب والسنة، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين في فهمي ونقدي:

أحدهما: هو ضحالة العلم وقلة التفقه في الدين.

والأمر الآخر -وهو مهم جدا-: أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة التي يعد كل من خرج عنها من تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، بل والتي ذكرها ربنا عز وجل، وبين أن من خرج عنها يكون قد شاق الله ورسوله أعني بذلك قوله عز وجل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: آية 115]، فإن الله عز وجل -لأمر واضح جدا عند أهل العلم- لم يقتصر على قوله:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ، وإنما أضاف إلى مشاقة الرسول اتباع غير سبيل المؤمنين فقال:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .

ص: 205

إذا فاتباع سبيل المؤمنين أو عدم اتباع سبيل المؤمنين أمر هام جدا إيجابا وسلبا، فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو الناجي عند رب العالمين، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جهنم وبئس المصير، من هنا ضلت طوائف كثيرة جدا قديما وحديثا؛ لأنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة جدا، وخرجوا بها عما عليه سلفنا الصالح، وهذه الفقرة من الآية الكريمة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، أكدها عليه الصلاة والسلام تأكيدا بالغا في غير ما حديث نبوي صحيح، وهذه الأحاديث التي أشير إليها الآن وسأذكر بعضا منها مما تساعدني عليه ذاكرتي، ليست مجهولة عند عامة المسلمين، فضلا عن خاصتهم، لكن المجهول فيها هو أنها تدل على ضرورة التزام سبيل المؤمنين في فهم الكتاب والسنة، ووجوب ذلك وتأكيده. وهذه النقطة يسهو عنها كثير من الخاصة فضلا عن هؤلاء الذين عرفوا بجماعة:(التكفير)، أو بعض أنواع الجماعات التي تنسب نفسها للجهاد، وهي في حقيقتها من فلول التكفير. فهؤلاء وأولئك قد يكونون في قرارة أنفسهم صالحين، ومخلصين، ولكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من الناجين المفلحين، إذ لا بد للمسلم أن يجمع بين أمرين: الإخلاص وحسن الاتباع لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكفي إذا أن يكون المسلم مخلصا وجادا في ما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة والدعوة إليهما، بل لا بد -بالإضافة إلى ذلك- من أن يكون منهجه منهجا سويا سليما، فمن تلك الأحاديث المعروفة التي أشرت إليها حديث الفرق الثلاث والسبعين، وهو قوله

ص: 206

عليه الصلاة والسلام: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة"(1) وفي رواية: " ما أنا عليه وأصحابي "(2)

فنجد أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي تماما مع الآية السابقة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فأول ما يدخل في عموم الآية هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله:"ما أنا عليه .. " وقد يكون ذلك كافيا في الواقع للمسلم الذي يفهم حقا الكتاب والسنة، ولكنه عليه الصلاة والسلام كتحقيق عملي لقوله عز وجل، في حقه أنه:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: آية 128]، فمن تمام رأفته وكمال رحمته بأصحابه وأتباعه:

أن أوضح لهم أن علامة الفرقة الناجية أن تكون على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى ما كان عليه أصحابه من بعده، فإذا لا يجوز أن يقتصر المسلمون عامة والدعاة خاصة في فهم الكتاب والسنة

(1) أخرجه ابن ماجه برقم: (3992)، وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم:(203).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند" حديث رقم (11798)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم حديث رقم (3993)، ونحوه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث رقم (2641).

ص: 207

على الوسائل التي لا بد منها: كمعرفة اللغة العربية، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، بل لا بد أن يرجع قبل كل ذلك إلى ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كما تبين من آثارهم، ومن سيرتهم أنهم كانوا أخلص لله عز وجل، في العبادة، وأفقه منا في الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي تخلقوا بها، ويشبه هذا الحديث تماما، من حيث ثمرته وفائدته- حديث الخلفاء الراشدين الذي ذكر في السنن من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه، حيث قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع، فأوصنا يا رسول الله فقال:" عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة"(1) وذكر الحديث.

والشاهد من هذا الحديث، هو الشاهد من جوابه عليه الصلاة والسلام عن السؤال السابق، حيث حض أمته في أشخاص أصحابه أن يتمسكوا بسنته، ثم لم يقتصر على ذلك بل قال:" وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، إذا لا بد لنا من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا، وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا، ولا محيد عن العودة إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه الأمور التي لا بد

(1) رواه مسلم في "الصحيح"(1838). والبخاري في "الصحيح"(2796) وأبو داود في "السنن"(4604) وابن ماجه في "السنن"(42).

ص: 208

منها للمسلم، ليتحقق فيه أنه من الفرقة الناجية.

ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حينما لم يلتفتوا إلى مدلول الآية السابقة، وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين، فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح، ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارج قديما وحديثا، فإن أصل التكفير الذي ذكرناه في هذا الزمان هو آية يدندنون حولها، ألا وهي قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: آية 44]، ونعلم جميعا أن هذه الآية قد تكررت وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، فمن تمام جهل الذين يحتجون بهذه الآية في اللفظ الأول منها {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص التي جاء فيها ذكر لفظة الكفر، فأخذوها على أنها تعني الخروج من الدين، وأنه لا فرق بين الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام، بينما لفظة الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني-دائما- هذا الذي يدندنون حوله، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ على كثيرين وهم بريئون منه، فشأن لفظة "الكافرون" من حيث إنها لا تدل على معنى واحد شأن اللفظين الآخرين " الظالمون" و"الفاسقون" فكما أن من وصف أنه ظالم أو فاسق لا يعني بالضرورة أنه مرتد عن دينه، فكذلك من وصف بأنه كافر سواء

ص: 209

بسواء. وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب: لغة القرآن الكريم، فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين -سواء كانوا حكاما أو محكومين- أن يكون: على علم بالكتاب والسنة على ضوء منهج السلف الصالح، والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما -وكذلك ما ضم إليهما- إلا بطريق اللغة العربية وآدابها، فإن مما يساعده في استدراك ذلك الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء، خاصة إذا كانوا من أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية.

نعود الآن إلى هذه الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة أو غير ذلك؟

هنا الدقة في فهم هذه الآية، فإنها قد تعني الكفر العملي، وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام، ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن ألا وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لأنه من الصحابة الذين اعترف المسلمون جميعا إلا من كان من تلك الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير، وكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما، أن هناك أناسا يفهمون الآية على ظاهرها دون تفصيل، فقال رضي الله عنه:" ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، هو كفر دون كفر"(1) ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على

(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 313)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

ص: 210

أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال ليس الأمر كما قالوا أو ظنوا، وإنما هو كفر دون كفر، هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي ألمحت إليها آنفا في مطلع كلمتي هذه (1).

(1) قال الشيخ ابن العثيمين في تعليقه على كلمة العلامة الألباني:

احتج الشيخ الألباني بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك غيره من العلماء الذين تلقوه بالقبول .. لصدق حقيقته على كثير من النصوص، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" ومع ذلك فإن قتاله لا يخرج الإنسان من الملة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لكن لما كان هذا لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتفكير، صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول، ولا يصح عن ابن عباس.

فيقال لهم: كيف لا يصح؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم وأفضل وأعلم بالحديث، وتقولون لا نقبل؟

فيكفينا أن علماء جهابذة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -وغيرهما- تلقوه بالقبول ويتكلمون به وينقلونه، فالأثر صحيح.

ثم هب أن الأمر كما قلتم أنه لا يصح عن ابن عباس فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق، ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة، كما في الآية المذكورة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال، لكن كما قال الشيخ الألباني -وفقه الله- في أول كلامه: قلة البضاعة من العلم، وقلة فهم القواعد الشرعية العامة، هي التي توجب هذا الضلال.

ثم شيء آخر نضيفه إلى ذلك: وهو سوء الإرادة التي تستلزم سوء الفهم؛ لأن الإنسان إذا كان يريد شيئا؛ لزم من ذلك أن ينتقل فهمه إلى ما يريد، ثم يحرف النصوص على ذلك، وكان من القواعد المعروفة عند العلماء أنهم يقولون:(استدل ثم اعتقد)، لا تعتقد ثم تستدل فتضل فالمهم أن الأسباب الثلاثة هي:

الأول: قلة البضاعة من العلم الشرعي.

الثاني: قلة الفقه في القواعد الشرعية العامة.

الثالث: سوء الفهم المبني على سوء الإرادة.

ص: 211

ثم إن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية ولا يمكن أن تفسر على أنها تساوي الخروج من الملة، ومن ذلك مثلا الحديث المعروف في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(1)

فالكفر هنا هو المعصية، وهو الخروج عن الطاعة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه أفصح من نطق بالضاد تفنن في التعبير بقصد المبالغة في الزجر فقال:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(2).

ومن ناحية أخرى فهل يمكن أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث " سباب المسلم فسوق" بالفسق المذكور في اللفظ الثالث في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]؟

الجواب: قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي بمعنى الخروج عن الملة، وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن أنه كفر دون كفر، وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى، لماذا؟

(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر حديث رقم (48)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق .. حديث رقم (64).

(2)

رواه البخاري في "الصحيح"(48) ومسلم في "الصحيح"(64).

ص: 212

لأن الله عز وجل، ذكر في القرآن الكريم الآية:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: آية 9] إذ قد ذكر هنا ربنا عز وجل، الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك فما حكم عليها بالكفر مع أن الحديث يقول: "

قتاله كفر ".

إذا فقتاله كفر دون كفر كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة، فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء، وفسق وكفر، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا، وقد يكون كفرا اعتقاديا، من هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام بحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية، حيث لهما الفضل في الدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة، فابن تيمية رحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا.

فإذا قوله صلى الله عليه وسلم: " فقتاله كفر" لا يعني -مطلقا- الخروج عن الملة. والأحاديث في هذا كثيرة جدا لو جمعها المتتبع لخرج منها برسالة نافعة في الحقيقة، فيها حجة دامغة على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة، ويلتزمون بتفسيرها بالكفر الاعتقادي، فحسبنا الآن هذا

ص: 213

الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي، وليس الكفر الاعتقادي.

فإذا عدنا إلى جماعة التكفير، أو من تفرع عنهم -وإطلاقهم على الحكام وعلى من يعيشون تحت إمرتهم- بالأولى- وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم، فوجهة نظرهم هي أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك.

ومن جملة الأمور التي يذكرني بها السائل آنفا أنني التقيت ببعض أولئك الذين كانوا من جماعة التكفير ثم هداهم الله عز وجل، فقلت لهم: ها أنتم كفرتم بعض الحكام، فما بالكم مثلا تكفرون أئمة المساجد، وخطباء المساجد، ومؤذني المساجد وخدمة المساجد؟ وما بالكم تكفرون أساتذة العلم الشرعي في المدارس وغيرها؟

قالوا: لأن هؤلاء رضوا بحكم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله.

فأقول: إذا كان هذا الرضى رضى قلبيا بالحكم بغير ما أنزل الله فحينئذ ينقلب الكفر العملي إلى كفر اعتقادي، فأي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أن هذا الحكم هو الحكم اللائق بتبنيه في هذا العصر، وأنه لا يليق تبنيه للحكم الشرعي المنصوص في الكتاب والسنة، لا شك أن هذا الحاكم يكون كفره كفرا اعتقاديا وليس كفرا عمليا، ومن رضي مثله أيضا فيلحق به، فأنتم أولا لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم

ص: 214

بالقوانين الغربية الكافرة أو بكثير منها أنه لو سئل عن الحكم بغير ما أنزل الله؟! لأجاب: بأن الحكم بهذه القوانين هو الحق والصالح في هذا العصر، وأنه لا يجوز الحكم بالإسلام؛ لأنهم لو قالوا ذلك لصاروا كفارا دون شك ولا ريب، فإذا انتقلنا إلى المحكومين وفيهم العلماء، وفيهم الصالحون .. إلخ، فكيف تحكمون عليهم بالكفر بمجرد أن تروهم يعيشون تحت حكم يشملهم كما يشملكم أنتم تماما؟ ولكنكم تعلنون أن هؤلاء كفار بمعنى مرتدين، والحكم بما أنزل الله هو الواجب، ثم تقولون معتذرين لأنفسكم: إن مخالفة الحكم الشرعي بمجرد العمل لا يستلزم الحكم على هذا العامل بأنه مرتد عن دينه. وهذا عين ما يقوله غيركم، سوى أنكم تزيدون عليهم -بغير حق- الحكم بالتكفير والردة.

ومن جملة المناقشات التي توضح خطأهم وضلالهم قلنا لهم: متى يحكم على المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقد يصلي كثيرا أو قليلا، متى يحكم عليه بأنه ارتد عن دينه؟ أيكفي مرة واحدة، أو أنه يجب أن يعلن بلسان حاله أو بلسان مقاله أنه مرتد عن الدين؟

كانوا كما يقال لا يحيرون جوابا، فأضطر لأن أضرب لهم المثل التالي:

أقول: قاض يحكم بالشرع، هكذا عادته ونظامه، لكنه في حكومة واحدة زلت به القدم فحكم بما يخالف الشرع، هل هذا حكم بغير ما أنزل الله أو لا؟

قالوا: لا.

قلنا: لم؟ قالوا: لأن هذا صدر منه مرة واحدة، قلنا:

ص: 215

حسن، صدر نفس الحكم مرة ثانية، أو حكم آخر لكنه خالف الشرع أيضا، فهل كفر؟ أخذت أكرر عليهم ثلاث مرات، أربع مرات، متى تقولون أنه كفر؟ لن يستطيعوا أن يضعوا حدا بتعداد أحكامه التي خالف فيها الشرع، ثم لا يكفرونه بها. في حين يستطيعون عكس ذلك تماما إذا علم منه أنه في الحكم الأول استحسن الحكم بغير ما أنزل الله -مستحلا له- واستقبح الحكم الشرعي، فساعتئذ يكون الحكم عليه بالردة صحيحا ومن المرة الأولى.

وعلى العكس من ذلك لو رأيت منه عشرات الحكومات في القضايا المتعددة خالف فيها الشرع، وإذا سألته لماذا حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل؟ فرد قائلا: خفت وخشيت على نفسي، أو ارتشيت مثلا، وهذا أسوأ من الأول بكثير، فلا تستطيع أن تقول بكفره حتى يعرب عما في قلبه بأنه لا يرى الحكم بما أنزل الله عز وجل، وحينئذ فقط تستطيع أن تقول إنه كافر كفر ردة.

وخلاصة الكلام الآن أنه لا بد من معرفة أن الكفر كالفسق والظلم ينقسم إلى قسمين:

كفر وفسق وظلم يخرج عن الملة، وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي.

وخلاف ذلك يعود إلى الاستحلال العملي.

فكل المعاصي -بخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنا وشرب الخمر وغيرها- كل هذا كفر عملي.

فلا يجوز أن نكفر العصاة لمجرد ارتكابهم معصية واستحلالهم إياها

ص: 216

عمليا إلا إذا بدا لنا منهم ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله "عقيدة"، فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة، أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم لأننا نخشى أن نقع في وعيد قوله عليه الصلاة والسلام:" أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه"(1)، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة جدا، ونذكر بهذه المناسبة بقصة ذلك الصحابي الذي قاتل أحد المشركين فلما رأى المشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي قال:"أشهد أن لا إله إلا الله"، فما بالاها الصحابي فقتله، فلما بلغ خبره النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك أشد الإنكار، فاعتذر الصحابي بأنه ما قالها إلا خوفا من القتل، وكان جوابه صلى الله عليه وسلم:" هلا شققت عن قلبه"(2).

إذا الكفر الاعتقادي ليس له علاقة بالعمل، له علاقة بالقلب، ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الفاسق والفاجر والسارق والزاني والمرابي

إلخ، إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه، أما عمله فينبئ أنه خالف الشرع مخالفة عملية، فنحن نقول: إنك خالفت، وإنك فسقت وفجرت، لكن لا نقول: إنك كفرت وارتددت عن دينك، حتى يظهر منه شيء يكون لنا عذرا عند الله عز وجل، في الحكم بردته، وبالتالي الحكم المعروف

(1) رواه مسلم في "الصحيح (60) والبخاري في "الصحيح" (5752) وأبو عوانة في "المسند" (2211).

(2)

رواه أحمد في "المسند"(5/ 207) ومسلم (96) وأبو داود في "السنن"(1694) والبيهقي في "السنن"(5/ 176) وابن ماجه (3930) نحوه.

ص: 217

في الإسلام ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه"(1).

ثم قلت -وما أزال أقول- لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين: هبوا أن هؤلاء كفار كفر ردة، وأنهم لو كان هناك حاكم أعلى عليهم واكتشف منهم أن كفرهم كفر ردة لوجب على ذلك الحاكم أن يطبق فيهم الحد؛ فالآن ما تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلمنا جدلا أن كل هؤلاء الحكام كفار كفر ردة؟ ماذا يمكن أن تعملوه؟ هؤلاء الكفار احتلوا من بلاد الإسلام، ونحن هنا مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين؛ فماذا نستطيع نحن وأنتم أن نعمل مع هؤلاء حتى تقفوا أنتم -وحدكم- ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار؟ (2).

(1) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد، حديث رقم (6922).

(2)

قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:

هذا الكلام جيد، يعني أن هؤلاء الذين يحكمون على الولاة المسلمين بأنهم كفار، ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم؟ أيستطيعون إزالتهم؟

لا يستطيعون، وإذا كان اليهود قد احتلوا فلسطين قبل نحو خمسين عاما، ومع ذلك ما استطاعت الأمة الإسلامية كلها، عربها وعجمها أن يزيحوها عن مكانها، فكيف نذهب ونسلط ألسنتنا على ولاة يحكموننا؟ ونعلم أننا لا نستطيع إزالتهم، وأنه سوف تراق دماء، وتستباح أموال، وربما أعراض أيضا، ولن نصل إلى نتيجة.

وإذا ما الفائدة؟ حتى لو كان الإنسان يعتقد فيما بينه وبين ربه أن من هؤلاء الحكام من هو كافر كفرا مخرجا عن الملة حقا، فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن؟ كلام الشيخ الألباني هذا جيد جدا.

لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حل ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا نقول: من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر -وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة، لكن كلامنا على العمل، وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه عباد الله إلا وهو يستحله، ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر. وإلا فما الذي حمله على ذلك؟

قد يكون الذي حمله على ذلك خوفا من أناس أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون هنا مداهنا لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي. وأهم شيء في هذا الباب هو مسألة التكفير الذي ينتج عن العمل، وهو الخروج على هؤلاء الأئمة، هذا هو المشكل.

ص: 218

هلا تركتم هذه الناحية جانبا وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة، وذلك باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ربى أصحابه عليها ونشأهم على نظامها وأساسها، وذلك ما نعبر عنه في كثير من مثل هذه المناسبة بأنه لا بد لكل جماعة مسلمة من العمل بحق لإعادة حكم الإسلام ليس فقط على أرض الإسلام بل على الأرض كلها تحقيقا لقوله تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: آية 9].

وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن هذه الآية ستحقق فيما بعد؛ فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني هل يكون الطريق بإعلان ثورة على هؤلاء الحكام الذين يظنون أن كفرهم كفر ردة.

ثم مع ظنهم هذا -وهو ظن خاطئ- لا يستطيعون أن يعملوا شيئا، ما هو المنهج؟ وما هو الطريق؟ لا شك أن الطريق هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدندن حوله ويذكر أصحابه به في كل خطبة:" وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم "(1).

فعلى المسلمين كافة وبخاصة منهم من يهتم بإعادة الحكم الإسلامي

(1) رواه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم (867).

ص: 219

أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما نكني نحن عنه بكلمتين خفيفتين: " التصفية والتربية" ذلك لأننا نحن نعلم حقيقة يغفل عنها أو يتغافل عنها في الأصح أولئك "الغلاة" الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام، ثم لا شيء وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ثم لا يصدر منهم إلا "الفتن" والواقع في هذه السنوات الأخيرة التي تعلمونها بدءا من فتنة الحرم المكي إلى فتنة مصر وقتل السادات وذهاب دماء كثيرة من المسلمين الأبرياء بسبب هذه الفتنة ثم أخيرا في سوريا ثم الآن في مصر، والجزائر مع الأسف، كل هذا بسبب أنهم خالفوا كثيرا من نصوص الكتاب والسنة وأهمها:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: آية 21].

إذا أردنا أن نقيم حكم الله في الأرض هل نبدأ بقتال الحكام ونحن لا نستطيع أن نقاتلهم؟ أم نبدأ بما بدأ به الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا شك أن الجواب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

ولكن؛ بماذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تعلمون أنه بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية إلى آخر ما هنالك، حتى وطد الله عز وجل، الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هناك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين والكفار من جهة، ثم اليهود من جهة أخرى، إذا لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول عليه

ص: 220

الصلاة والسلام؛ لكن نحن الآن لا نقتصر على مجرد التعليم فقط، لأنه دخل الإسلام ما ليس منه، وما لا يمت إليه بصلة من البدع والمحدثات، مما كان سببا في تهدم الصرح الإسلامي، فلذلك كان من الواجب على الدعاة أن يبدءوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه، والشيء الثاني أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى.

ونحن إذا درسنا الجماعات الإسلامية القائمة الآن منذ نحو قرابة قرن من الزمان أفكارها وممارساتها، لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا ولم يفيدوا شيئا يذكر، رغم صياحهم ورغم ضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية، فسفكوا دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة الواهية دون أن يحققوا من ذلك شيئا، فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة، والأعمال المنافية للكتاب والسنة.

وبهذه المناسبة نقول: هنالك كلمة لأحد الدعاة كنت أتمنى من أتباعه أن يلتزموها وأن يحققوها، وهي " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"؛ لأن المسلم إذا صحح عقيدته بناء على الكتاب والسنة فلا شك أنه من وراء ذلك ستصلح عبادته وستصلح أخلاقه وسلوكه .. إلخ، لكن هذه الكلمة الطيبة مع الأسف لم يعمل بها هؤلاء الناس، فظلوا يصيحون بإقامة الدولة المسلمة دون جدوى، وصدق فيهم قول ذلك الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

لعل في هذا الذي ذكرته كفاية جوابا على هذا السؤال (1).

(1) فتنة التكفير إعداد علي بن حسين أبو لوز ص44.

ص: 221