الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجوبة فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
-
سؤال: هناك شبهة عند كثير من الشباب، استحكمت في عقولهم، أثارت عندهم مسألة الخروج، وهي: أن هؤلاء الحكام المبدلون وضعوا قوانين وضعية من عندهم، ولم يحكموا بما أنزل الله فحكم هؤلاء الشباب بردتهم وكفرهم، وبنوا على ذلك: أن هؤلاء ما داموا كفارا فيجب قتالهم، ولا ينظر إلى حالة الضعف؛ لأن حالة الضعف قد نسخت - كما يقولون - بآية السيف (1) فما عاد هناك مجال للعمل بمرحلة الاستضعاف، التي كان المسلمون عليها في مكة.
الجواب: لا بد أن نعلم أولا: هل انطبق عليهم وصف الردة أم لا؟
وهذا يحتاج إلى معرفة الأدلة الدالة على أن هذا القول أو الفعل ردة، ثم تطبيقها على شخص بعينه، وهل له شبهة أم لا؟
يعني: قد يكون النص قد دل على أن الفعل كفر، وهذا القول كفر، لكن هناك مانع يمنع من تطبيق حكم الكفر على هذا الشخص المعين، والموانع كثيرة، منها: الظن - وهو جهل - ومنها: الغلبة.
(1) آية السيف هي قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) سورة التوبة، الآية:(5).
فالرجل الذي قال لأهله: إذا مت فحرقوني واسحقوني في اليم، فإن الله لو قدر علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين (1) هذا الرجل ظاهر عقيدته الكفر والشك في قدرة الله، لكن الله لما جمعه وخاطبه قال: يا رب إني خشيت منك أو كلمة نحوها، فغفر له، فصار هذا الفعل منه تأويلا (2).
ومثل ذلك الرجل الذي غلبه الفرح، وأخذ بناقته قائلا: اللهم أنت عبدي وأنا ربك (3) كلمة كفر، لكن هذا القائل لا يكفر؛ لأنه مغلوب عليه، فمن شدة الفرح أخطأ، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!
والمكره يكره على الكفر فيقول كلمة الكفر، أو يفعل فعل الكفر، ولكن لا يكفر بنص القرآن (4) لأنه غير مريد، وغير مختار.
وهؤلاء الحكام، نحن نعرف أنهم في المسائل الشخصية - كالنكاح والفرائض وما أشبهها - يحكمون بما دل عليه القرآن على اختلاف المذاهب، وأما في الحكم بين الناس فيختلفون .. ولهم شبهة يوردها لهم بعض علماء السوء، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم أعلم بأمور
(1) أخرجه البخاري رقم (3291)، ومسلم برقم (2754) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
أي غير مقصود له، ولا مراد منه.
(3)
أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
وذلك في قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)[سورة النحل، الآية: 106].
دنياكم " (1) وهذا عام، فكل ما تصلح به الدنيا فلنا الحرية فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم "!!
وهذه - لا شك - شبهة؛ لكن هل هو مسوغ لهم في أن يخرجوا عن قوانين الإسلام في إقامة الحدود، ومنع الخمور وما شابه ذلك؟
وعلى فرض أن يكون لهم في بعض النواحي الاقتصادية شبهة، فإن هذا ليس فيه شبهة.
وأما تمام الإشكال المطروح فيقال فيه: إذا كان الله تعالى بعد أن فرض القتال قد قال: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (2)؛ فكم هؤلاء؟! واحد بعشرة، ثم قال:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (3).
وقد قال بعض العلماء: إن ذلك في وقت الضعف، والحكم يدور مع علته، فبعد أن أوجب الله عليهم مصابرة العشرة قال:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا}
ثم نقول: إن عندنا نصوصا محكمة تبين هذا الأمر، وتوضحه؛ منها
(1) أخرجه مسلم برقم (2362) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
(2)
سورة الأنفال، الآية:(65).
(3)
سورة الأنفال، الآية:(66).
قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (1) فالله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وقدرتها.
والله سبحانه يقول - أيضا -: {فاتقوا الله ما استطعتم} (2).
فلو فرضنا أن الخروج المشار إليه على هذا الحاكم واجب، فإنه لا يجب علينا ونحن لا نستطيع إزاحته، فالأمر واضح، ولكنه الهوى يهوي بصاحبه (3).
وقال رحمه الله عن حال الناس بالنسبة لولاتهم:
"
…
فإن بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه؛ الكلام في ولاة الأمور، والوقوع في أعراضهم، ونشر مساوئهم وأخطائهم، معرضا بذلك عما لهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلا ولا يرفع مظلمة، وإنما يزيد البلاء بلاء، ويوجب بغض الولاة وكراهتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها، ولا نشك أن ولاة الأمر قد يسئيون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم؛ فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضا أنه لا يجوز لنا أن نسكت على أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا كان كذلك؛ فإن الواجب علينا إذا رأينا خطأ من
(1) سورة البقرة، الآية (286).
(2)
سورة التغابن، الآية (16).
(3)
فتنة التكفير ص (37).
ولاة الأمور أن نتصل بهم شفويا أو كتابيا ونناصحهم، سالكين بذلك أقرب الطرق في بيان الحق لهم وشرح خطئهم، ثم نعظهم ونذكرهم فيما يجب عليهم من النصح لمن تحت أيديهم ورعاية مصالحهم ورفع الظلم عنهم، ونذكرهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:" اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه "(1)، وقوله:" ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة "(2)، ثم إن اتعظ بواعظ القرآن والحديث فذلك هو المطلوب، وإن لم يتعظ بواعظ الحديث والقرآن وعظناه بواعظ السلطان؛ بأن نرفع الأمر إلى من فوقه ليصلح من حاله، فإذا بلغنا الأمر إلى أهله الذين ليس فوقهم ولي من المخلوقين فقد برئت بذلك الذمة، ولم يبق إلا أن نرفع الأمر إلى رب العالمين، ونسأله إصلاح أحوال المسلمين وأئمتهم.
وقال رحمه الله:
" ومن حقوق الولاة على رعيتهم: السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه، ما لم يكن في ذلك مخالفة لشريعة الله، فإن كان في ذلك مخالفة لشريعة الله؛ فلا سمع لهم ولا طاعة "(3) " لا طاعة لمخلوق
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق، حديث رقم (1828).
(2)
رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، حديث رقم (142)، ونحوه البخاري في كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، حديث رقم (7151).
(3)
أي فيما خالفوا فيه دون غيره؛ لأن ولايتهم لا تسقط نهائيا بتلك المخالفة. (من تعليق، الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -).
في معصية الخالق " (1).
وقال أيضا رحمه الله:
" إن من طاعة ولاة الأمر التي أمر الله بها: أن يمشي المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة، فمتى تمشى على ذلك كان مطيعا لله ورسوله، ومثابا على عمله، ومن خالف ذلك؛ كان عاصيا لله ورسوله، وآثما بذلك.
وأما حقوق الرعية على ولاتهم فالمسئولية كبيرة، والأمر خطير، فليس المقصود بالولاية بسط السلطة ونيل المرتبة، إنما المقصود بها تحمل مسئولية عظيمة تتركز على إقامة الحق بين الخلق بنصر دين الله، وإصلاح عباد الله دينيا ودنيويا " (2).
وقال رحمه الله:
" وقد بين الله أن من تمام الاجتماع: السمع والطاعة لمن تأمر علينا؛ بيانا شافيا كافيا شرعا وقدرا.
وأما بيانه قدرا: فإنه لا يخفى حالة الأمة الإسلامية حين كانت متمسكة بدينها، مجتمعة عليها، معظمة لولاة أمورها، منقادة لهم بالمعروف كانت لها السيادة والظهور في الأرض كما قال تعالى:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (3)،
(1) بوب عليه الترمذي قبل (1707) في كتاب الجهاد باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(2)
" رسالة حقوق الراعي والرعية ".
(3)
سورة النور، الآية:(55).
وقال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (1).
ولما أحدثت الأمة الإسلامية ما أحدثت، وفرقوا دينهم، وتمردوا على أئمتهم، وخرجوا عليهم، وكانوا شيعا، نزعت المهابة من قلوب أعدائهم، وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وتداعت عليهم الأمم، وصاروا غثاء كغثاء السيل.
وصار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم والغيرة على دين الله وترك العمل به، ورأى كل فرد من أفراد الرعية نفسه أميرا، أو بمنزلة الأمير المنابذ للأمير.
فالواجب علينا جميعا - رعاة ورعية أن نقوم بما أوجب الله علينا؛ من التحاب والتعاون على البر والتقوى، والاجتماع على المصالح لنكون من الفائزين، وعلينا أن نجتمع على الحق ونتعاون عليه، وأن نخلص في جميع أعمالنا، وأن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحا دينيا ودنيويا بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننا والمعارضات التي لا تحقق هدفا، بل ربما تفوت مقصودا، وتعدم
(1) سورة الحج، الآيتان:(40 - 41).
موجودا.
إن الكلمة إذا تفرقت، والرعية إذا تمردت؛ دخلت الأهواء والضغائن، وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته، وأن تبين أن الحق والعدل في خلافها وخرجنا عن توجيهات الله تعالى حيث يقول:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمة إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (1).
فإذا عرف كل واحد منا ما له وما عليه، وقام به على وفق الحكمة؛ فإن الأمور العامة والخاصة تسير على أحسن نظام وأكمله (2).
…
(1) سورة آل عمران الآيتان (102 - 103).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (7/ 127).