الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب.
السلام على من اتبع الهدى، وعلى عباد الله الصالحين، وبعد:
فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار.
ولكن أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق، واعتقاد أصابتكم أنه لم يصدر منكم. وتذكر أن إخوانك من أهل "النقيع" يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور. وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى.
وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين. وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده (1)
الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها. قالا: ومن لم يصرح
(1) جد ابن فيروز المذكور، هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، ولد سنة 1142هـ بالأحساء وتوفي سنة 1216هـ بالبصرة، ودفن في بلدة الزبير -كان- عفا الله عنه- ألد أعداء الدعوة السلفية، له في محاربتها: رسائل وقصائد، وأجوبة. وأبوه عبد الله يكون ابن عمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
بكفره، فهو كافر لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله.
ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام. فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول. فزعموا أولا أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم.
فكشفت شبهتهم، وأدحضت حجة ضلالتهم بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية.
وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك.
وقد أفرد ابن حجر (1) هذه المسألة بكتاب سماه: "الإعلام بقواطع الإسلام".
وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، ودعا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من
(1) الهيثمي.
مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور.
وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعادات والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب- وفي غيره- لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم في كافيته رحمه الله تعالى
فعليك بالتفصيل والتبيين
…
فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا
…
الأذهان والآراء كل زمان
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب -أمير المؤمنين- ومن معه من الصحابة.
فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا:
حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت " براءة"
وطال بينهما النزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي.
فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار. والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل. هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصوما.
فصل
ولفظ الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها: مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة.
والأول هو الأصل عند الأصوليين.
والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية.
وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقي، يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي.
ألا ترى أن الزاني والسارق والشارب ونحوهم يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .
ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الآية.
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.
وفي الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن "(1)، وقوله:" لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه"(2).
لكن نفي الإيمان هنا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله. وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة، ونحوهم من أهل الأهواء.
فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام.
وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاث.
(1) أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه" منها: كتاب المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه: (5/ 119 - 120)، ومسلم في كتاب الإيمان من "صحيحه" رقم:(57) عن أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الأدب من " صحيحه" باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه: (10/ 443)، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة.
فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد.
وكان عبد الله حمار (1)
يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله) مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه.
وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة (2) وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أن كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله ومسيره لجهادهم؛ ليتخذ بذلك يدا عندهم، تحمي أهله وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ، فكان ذلك، وتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له:(ما هذا؟) فقال: يا رسول، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما
(1) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه": كتاب الحدود: باب ما يكره من لعن شارب الخمور وأنه ليس بخارج من الملة: (8/ 14) ط التركية، عن عمر رضي الله عنه أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا .. إلخ.
(2)
انظرها في "صحيح البخاري" في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين: (12/ 304).
أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي فقال صلى الله عليه وسلم " صدقكم خلوا سبيله".
واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق (1). قال: " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟ ".
وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات.
فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل.
لكن قوله: " صدقكم خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك؛ إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال:" خلوا سبيله".
ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "(2) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو
(1) جاء في بعض الروايات أن عمر قال: يا رسول الله، أمكني منه، فإنه قد كفر" قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 309): وردت بسند صحيح. اهـ.
(2)
رواه أحمد في "المسند"(2/ 295) ومسلم في "الصحيح"(2494) والبخاري في "الصحيح"(2845) والترمذي في "السنن"(3305) وأبو داود في "السنن"(2650) والنسائي في "الكبرى"(8419).
كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، فلا يظن هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقد فسرته السنة وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل الموالاة هي: الحب والنصرة والصداقة ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه، وقسطه من الوعيد والذم.
وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفي غيره، وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني والتبست الأحكام على خَلُوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن.
ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: "من العجمة أُتُوا".
وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده -بشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود، فقال له ابن العلاء: "من العجمة أتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول
الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والعربي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا، وييسرا لصاحب هوى وبدعة.
ونضرب لك مثلا: وهو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي، والآخر مرجئ.
قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها، إذ لا قائل: إنهم من عباد الله المتقين.
قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل منه عمله لقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} يرد ما ذهبت إليه.
قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه لقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها.
قال له المرجئ قوله في آخر الآية {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان.
ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى.
وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله؛ لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب.
وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم.
وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة لبعض الرؤساء الضالين والملوك المشركين (1)، ولم تنظروا لأول الآية، وهي قوله:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} ، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة.
وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم.
(1) هذا الاستدلال الخاطئ، هو نفس استدلال بعض أهل زمننا بهذه الآية وأشباهها على تكفير الدولة المسلمة.
فصل
وهنا أصول:
أحدها:
أن السنة والأحاديث النبوية: هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحد والفاجر، والبر، والظالم، والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود.
كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها. وكذلك الزكاة، فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، معرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته: إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي.
وكل هذا البيان أخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان ومعرفة معاني التنزيل والقرآن.
الأصل الثاني:
أن الإيمان أصل له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين. ومنها ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب.
والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
وكذلك الكفر -أيضا- ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر. والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام.
وفرق بين من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني أو يشرب، أو ينهب أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب.
فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
الأصل الثالث:
أن الإيمان مركب من قول وعمل.
والقول قسمان:
قول القلب وهو: اعتقاده.
وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان:
عمل القلب، وهو قصده، واختياره، ومحبته ورضاه، وتصديقه.
وعمل الجوارح: كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة.
فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه؛ زال الإيمان بالكلية.
وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله؛ فهذا محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة والحج والزكاة والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه من عمل القلب، الذي هو محبته ورضاه وانقياده.
والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا.
والخلاف في أعمال الجوارح، هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج.
والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها.
والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها.
وهذه الأقوال معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه.
هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
الأصل الرابع:
أن الكفر نوعان:
كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحودا وعنادا، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له.
وهذا مضاد للإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"(1)
وقوله: " من أتى كاهنا فصدقه، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2)
فهذا من الكفر العلمي، وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر.
وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية. فأخبر تعالى أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب. وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن من "صحيحه"(13/ 26) ومسلم في الإيمان رقم: (119) عن ابن عمر.
(2)
أخرجه الترمذي في "سننه" بأبواب الطهارة: (1/ 242ص -243)، وابن ماجه:(1/ 209)، بهذا اللفظ وأخرجه أبو داود في سننه (4/ 225 - 226)، بلفظ:"برئ مما أنزل على محمد" كلهم من طريق حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة .. وقد صحح الحديث من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي والشيخ الألباني في "الإرواء (7/ 68).
تركوه منه.
فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي.
والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.
وفي الحديث الصحيح" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"(1)
ففرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي.
وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين:
فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار.
وفريق جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان.
فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل.
فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك وظلم دون
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن من "صحيحه"(13/ 26)، ومسلم رقم (64) عن عبد الله بن مسعود.
ظلم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله -تعالى-:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: "ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان وعبد الرزاق.
وفي رواية أخرى "كفر لا ينقل عن الملة"(1).
وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وهذا بين في القرآن لمن تأمله، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما
(1) هذا الأثر صحيح عن ابن عباس، ورد عنه من طرق عديدة: منها ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 256) عن هناد بن السري قال: حدثنا وكيع بن الجراح-وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي- عن سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله. هناد ووكيع وسفيان ومعمر .. إلخ أئمة ثقات، فالسند صحيح في غاية الصحة.
وقال ابن جرير: حدثني الحسن، قال: ثنا أبو أسامة عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) فمن فعل هذا فقد كفر.
قال ابن عباس: " إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا، أبو أسامة هو: حماد بن أسامة، ثقة إلا أنه رمي بالتدليس.
وأخرج الحاكم في "المستدرك"(2/ 313) من جهة هشام بن حجير عن طاوس قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: " إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " كفر دون كفر" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.
أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وليس الكفران على حد سواء.
وسمى الكافر ظالما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، فقال:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، وقال يونس عليه السلام:{إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقال آدم عليه السلام:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.
وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} ، وقوله:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} ، وسمى العاصي فاسقا في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا} ، وقال في الذين يرمون المحصنات:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، وقال:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وليس الفسوق كالفسوق.
وكذلك الشرك شركان:
شرك لا ينقل عن الملة وهو: الشرك الأصغر، كشرك الربا.
قال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} الآية. وقال تعالى في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .
وفي الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)(1)
وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك)(2)
ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"(3)
فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة.
وكذلك النفاق نفاقان:
نفاق اعتقادي. ونفاق عملي.
والنفاق الاعتقادي مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار
والنفاق العملي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا
(1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند": (5/ 428 - 429) عن محمود بن لبيد. قال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده حسن. اهـ
(2)
أخرجه الإمام أحمد في "المسند": (2/ 34 - 86) وهو صحيح، وقد خرجته في رسالة "الرد على شبهات المستعينين بغير الله " لابن عيسى.
(3)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده": (1/ 60 - 63) عن أبي بكر رضي الله عنه ومداره على ليث بن أبي سليم.
وأخرج نحوه الإمام أحمد: (4/ 403) عن أبي موسى رضي الله عنه وفي إسناده أبو علي -رجل من بني كاهل - ذكره ابن حبان في "الثقات".
وأخرجه الحكيم الترمذي عن ابن عباس.
وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع": رقم (3730 - 3731).
خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان" (1)
قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم، وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. انتهى.
الأصل الخامس:
أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر.
كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما أو طبيبا أو فقيها.
وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: "اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (2)
وحديث: " من حلف بغير الله فقد كفر"(3) ولكنه لا يستحق اسم الكفر على
(1) أخرجه البخاري (1/ 89) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو.
(2)
أخرجه مسلم: (67) عن أبي هريرة.
(3)
رواه ابن حبان في "الصحيح"(4358) والحاكم في المستدرك" (45) وأبو عوانة في "المسند" (5967) والترمذي في "السنن" (1535) وأبو داود في "السنن" (3251).
الإطلاق.
فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم.
قال ابن مسعود: (من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ".
وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر:
إحداهما: الغلو، ومجاوزة الحد والإفراط.
والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط.
قال ابن القيم لما ذكر شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر.
وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم الثابت على الصراط الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وأصحابه. وعد رحمه الله كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة (1)، (2)
(1) انتهى كلام ابن القيم من "إغاثة اللهفان"(1/ 116 - 117)
(2)
رسالة أصول وضوابط في التكفير للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله وكافة الحواشي على هذه الرسالة من صنع الشيخ الدكتور: عبد السلام بن برجس العبد الكريم.