الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقيب سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله
-
الحمد لله، الصلاة السلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم، الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفقه الله، المنشور في صحيفة المسلمون، الذي أجاب به فضيلته من سأله عن "تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل" فألفيتها كلمة قيمة أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح -وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من سلف الأمة.
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: آية 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: آية 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: آية 47]، هو الصواب، وقد أوضح -وفقه الله- أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان، أكبر وأصغر.
فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنى أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرا أكبر، وظلم ظلما أكبر،
وفسق فسقا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر، وظلمه ظلما أصغر، وهكذا فسقه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(1)، أراد بهذا صلى الله عليه وسلم الفسق الأصغر والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرا من هذا العمل المنكر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة للميت" أخرجه مسلم في "صحيحه"(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"(3) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور والحكمة فيها على ضوء الكتاب والسنة وطريق سلف الأمة، والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل، وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله سبحانه بالتفصيل، وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه، والتواصي والنصح في ذلك، مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام، وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي صلى الله عليه وسلم ومسلك خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق والإرشاد إليه والتحذير مما يخالفه عملا بقول الله سبحانه:
(1) رواه البخاري في "الصحيح"(48) ومسلم في "الصحيح"(64).
(2)
في كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب، حديث رقم (67).
(3)
رواه البخاري في كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، حديث رقم (121).
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: آية 33] وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: آية 108] وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: آية125] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله "(1) وقوله صلى الله عليه وسلم: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "، أخرجه مسلم في "صحيحه"(2).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى اليهود في خيبر: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"، متفق على صحته (3).
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يد أصحابه من سبقت له السعادة، ثم هاجر إلى المدينة عليه
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، حديث رقم (1893).
(2)
في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، حديث رقم (2574).
(3)
رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، حديث رقم (3009) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، حديث رقم (2406).
الصلاة والسلام، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه هو وأصحابه رضي الله عنهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه رضي الله عنهم أكمل قيام؛ فأيدهم الله ونصرهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم القيامة.
والله المسؤول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة، والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (1).
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز (9/ 124).