الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطعن في فتاوى كبار العلماء
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه /
الفتوى والإفتاء
التاريخ 14/2/1425هـ
السؤال
دار الحديث في إحدى المنتديات حول قيادة المرأة وعرضت فتوى الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين والشيخ ابن باز - رحمهما الله تعالى- رد عليها من يدعي العلم بلا علم، وقال العلماء يصيبون ويخطئون، وكم من فتوى اكتشفوا أنها خاطئة فيما بعد ثم استشهد لي بأن امرأة أتت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت عليه في مسألة، فقال عمر رضي الله عنه أخطأ عمر وصدقت المرأة.
سؤالي: هل هذه الرواية صحيحة؟ وهل نجعلها قاعدة في الدين نقيس عليها؟ وهل كل من هب ودب يأتي ويستشهد بهذه الرواية نتبعه في عدم الأخذ من العلماء؟ وهل رد فتوى العلماء بلا علم جائز؟ ألا يصح أن نقول على هؤلاء بأنهم خالفوا أمراً إلهياً وهو: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
ملحوظة أولية: للأسف اتصلت ببعض الدعاة ولم يتحمس للموضوع، وكان الأمر سهلاً وأنا أرى أن الأمر خطير جداً لأن الناس سيبدؤون في التشكيك بالعلماء فيصبح كل عالم فيه شبهة، وبالتالي سيكون علماؤهم ومشايخهم ومفتوهم هم الأسماء المستعارة في المنتديات التي خلفها ربما يكون يهودي أو نصراني أو منافق أو جاهل لا يعي ما يقول أو إمعة، لكن عندما نقارعهم بالحجة، ونبين لهم الحق بوضوح وجلاء، وبالأدلة الشرعية فإن ذلك بمشيئة الله سيكون سبباً في إنقاذ الكثير من أخواتك نساء المسلمين.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: روى أبو داود (2106) والترمذي (1114) والنسائي (3349) عن أبي العجفاء السلمي قال: خطبنا عمر رضي الله عنه يوماً فقال: "ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية".
وقال القرطبي في تفسيره: وخطب عمر رضي الله عنه فقال:"ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر: يعطينا الله وتحرمنا؟ أليس الله سبحانه وتعالى يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" [النساء:20] ، قال عمر رضي الله عنه: "أصابت امرأة وأخطأ عمر" وفي رواية فأطرق عمر رضي الله عنه ثم قال: "كل الناس أفقه منك يا عمر"، وفي أخرى: "امرأة أصابت ورجل أخطأ والله المستعان"،وروى الحافظ أبو يعلي هذا الأثر فقال: "حدثنا أبو خيثمة حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن عن خالد بن سعيد عن الشعبي، عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب رضي الله عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أيها الناس: ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لا تعدو الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم فما دون ذلك، قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش، فقالت يا أمير المؤمنين: نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال وأي ذلك؟ قالت أما سمعت الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" [النساء:20] ؟ فقال عمر رضي الله عنه: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال أيها الناس: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب".
قال أبو يعلي: وأظنه قال: "فمن طابت نفسه فليفعل"، إسناد جيد وقوي، ومن طرق هذا الأثر: قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن قيس بن ربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته".
ومن طرقه كذلك وفيه انقطاع قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تزيدوا في مهور النساء، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال ولم؟ قالت: إن الله قال: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) [النساء:20] ، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ".
من خلال هذا العرض السريع لمجريات هذه الواقعة كما وردت في الطرق المختلفة يتضح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل الواجب في هذه المسألة، حيث رجع إلى الحق لما بُيِّن له، ولم يمتنع من ذلك لمنصبه ومكانه بين الصحابة رضي الله عنهم لأنه كان يبحث عن الحق، وهو هنا لم يرجع إلى مجرد قول المرأة، لأنه لا حجة في قولها ولا في قول غيرها من الناس، وإنما رجع إلى الآية التي ذكرتها المرأة.
ثانياً: الواجب على الإنسان عموماً أن يكون باحثاً عن الحق متلمساً له في كل أحواله، وإذا قال شيئاً أو حكم بشيء ثم تبين له أن الحق بخلافه فإن الواجب عليه الرجوع إلى الحق ولا غضاضة في ذلك، وهو خير من التمادي في الباطل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل"، وذلك بغض النظر عمّن أرشدك إليه سواء أكان امرأة أو رجلاً عالماً أو عامياً، صغيراً أو كبيراً، لأن الحكمة والحق ضالة المؤمن بغض النظر عن قائلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه:"صدقك وهو كذوب" يعني: إبليس لما ذكر لأبي هريرة رضي الله عنه فضل آية الكرسي، والحديث رواه البخاري (3275) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
ثالثاً: هذه القصة الواردة عن عمر رضي الله عنه تعد قاعدة من قواعد الإفتاء والاجتهاد، والعلماء متفقون على مضمونها، ولم يقل أحد من أهل العلم بأن الإنسان يجوز له البقاء على قوله مع تبين خطئه ومجانبته للصواب، لكن العالم إذا اجتهد في أي مسألة من المسائل وتبين له الحق فيها وجب عليه العمل بما ظهر له من الحق وإفتاء من سأله عن حسب ما يراه حقاً في المسألة، ولا يرجع عما توصل إليه لقول أي إنسان كائناً من كان، ولكن إذا تبين له دليل يخالف ما توصل إليه سواء أذكره هو أم ذكره غيره به وجب عليه العمل بما يقتضيه هذا الدليل.
رابعاً: ينقسم الناس بحسب علمهم بالأدلة الشرعية إلى قسمين: علماء، وعامة؛ فالعلماء: هم أهل النظر في الأدلة الشرعية واستنباط ما اشتملت عليه من الأحكام، وهم الذين يجوز لهم مناقشة بعضهم البعض فيما ذهب إليه كل منهم في المسائل المختلف فيها، ولا يلزم أحد بما ذهب إليه غيره من العلماء، بل الواجب على كل منهم العمل بما أداه إليه اجتهاده.
أما العامة: فالواجب عليهم سؤال العلماء فيما يعرض لهم من أمور دينهم امتثالاً لقوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"[النحل:43] ، وليس من شأن العامي رد فتاوى أهل العلم أو عدم الأخذ بها أو تخير ما شاء منها، لأنه إن فعل ذلك فإنه لا يفعله عن علم ومعرفة، وإنما منطلقه في ذلك الهوى والتشهي، كما أنه لا يجوز للعامي أن يترك الأخذ بفتاوى أهل العلم بحجة أنهم ربما يكونوا مخطئين، لأننا لو أجزنا له ذلك لبقي العامي بغير تكليف، لأن كثيراً من المسائل اجتهادية والعلماء مختلفون فيها واحتمال الخطأ قائم في حق كل فريق، وإنما الواجب على العامي أن يقلّد العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى، ولا يتجاوز أقوالهم إلا إذا تبين له خطؤها بدليل صحيح واضح، وإذا كان ليس من حق العامي رد كلام العلماء، فإن من حقه أن يسأل العالم عن دليل المسألة ومستندها الذي اعتمده العالم في فتواه، لأن العامي ليس متعبداً باتباع أشخاص العلماء، وإنما هو متعبد باتباع الأدلة التي يعرفها العلماء ويبينونها للعامة.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.