الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الترهيب من تعلم العلم لغير وجه اللّه تعالى]
177 -
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مِمَّا يبتغى بِهِ وَجه اللّه تَعَالَى لا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يجد عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة يَعْنِي رِيحهَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
وَتقدم حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي أول بَاب الرِّيَاء وَفِيه: "رجل تعلم الْعلم وَعلمه وَقَرَأَ الْقُرْآن فَأتي بِهِ فَعرفهُ نعمه فعرفها قَالَ فَمَا عملت فِيهَا قَالَ تعلمت الْعلم وعلمته وقرأت فِيك الْقُرْآن قَالَ كذبت وَلَكِنَّك تعلمت ليقال عَالم وقرأت الْقُرْآن ليقال هُوَ قارئ فقد قيل ثمَّ أَمر بِهِ فسحب على وَجهه حَتَّى ألقِي فِي النَّار" الحَدِيث رَوَاهُ مسلم وَغَيره.
قوله: "عن أبي هريرة، تقدم". قوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه اللّه تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب عرضًا من الدنيا" الحديث، العرض: بفتح العين والراء هو ما يقتنى من المال وغيره.
قوله: "لم يجد عرف الجنة" وعرف الجنة: بفتح العين المهملة وسكون الراء، قال الحافظ: يعني ريحها. قال في النهاية
(2)
: "لم يجد عرف
(1)
أخرجه ابن ماجة (252)، وأبو داود (3664)، وابن حبان (78). وصححه الألباني في "اقتضاء العلم العمل"(102)، "المشكاة"(227)، وصحيح الترغيب (105).
(2)
النهاية (3/ 217).
الجنة" يعني ريحها الطيبة، والعرف: الريح، ومنه حديث عليّ: "أرض الكوفة أرض سواء سهلة معروفة" أي: طيبة العرف، أي الريح، وعرف الجنة يحتمل معنيين:
أحدهما: التهديد والزجر عن طلب الدنيا بعمل الآخرة والمبالغة في ذلك لا القنوط الكلي عن دخول الجنة واليأس الجزمي عن وجدان الرحمة كما ذهب إليه الجهال المبتدعة ولأن النصوص الثابتة المتواترة ناطقة بدخول أهل الإيمان في رياض الجنة والخلاص من النيران وإن مسهم نفحة من العذاب ولفحة من العقاب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"لم يجد عرفها يوم القيامة" وهو اليوم الموصوف بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}
(1)
ولم يقل على الإطلاق، فهذا الذي تعلم العلم للأغراض الفانية ولصاحب الأمراض الحادثة في تضاعيف الدماغ المانعة عن إدراك الروائح الفائحة من الرياض الرائضة ومن الجنة العالية، ولا يهتدى إليها من الأمراض الكائنة في القلب المخلة بالعوامل الإيمانية
(2)
.
والثاني: أنه لا يدخل الجنة قبل العذاب وملابسة العقاب بل يعذب بقدر ذنبه في الدنيا وطلبها بعمل العقبى، انتهى.
فتعلم العلم لغير وجه اللّه كأن يريد به الرياء والسمعة بين الناس وكمن يتعلمه للرئاسة أو للمال أو لتعظيم الناس له فذلك العالم يستحق دخول
(1)
سورة المطففين، الآية:6.
(2)
انظر الميسر (1/ 107)، وشرح المشكاة (2/ 682 - 683).
النار، فهذا الحديث أبلغ زجر وردع عن نية غير صالحة، وسبب هذا واللّه أعلم: أن في الدنيا جنة معجلة وهي معرفة اللّه تعالى ومجبته والأنس به والشوق إلى لقائه وخشيته وطاعته والعلم النافع يدلّ على ذلك، فمن لله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا فاز بالجنة الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة، ولهذا كان أشد الناس عذابا في الآخرة عالم لم ينفعه علمه وهو من أشد الناس حسرة يوم القيامة حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا للتوصل إلى أخس الأمور وأدناها قيمة وأحقرها كمن كانت عنده جواهر نفسية ولها قيمة عظيمة فباعها بشيء مستقذر لا ينتفع به، بل حال من يطلب الدنيا بعلمه أقبح وأقبح، وكذلك من يطلب الدنيا بإظهار الزهد فيها، فإن ذلك خداع قبيح جدًا، قاله ابن رجب الحنبلي
(1)
، قال الإمام أبو حامد
(2)
: فانظر إلى هذه الدرجة العليا كيف رجحت بهذا العالم المسكين إلى أسفل سافلين، قال الإمام مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرِّواية وإنما العلم نور يقذفه اللّه في القلوب، ومن كتاب سير السلف
(3)
: قال إبراهيم الخواص: ليس العلم بكثرة الرِّواية إنما العلم لمن اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم، ثم قال: وهذا البحث كلّه إنما هو إذا سلم طالب العلم من
(1)
مجموع رسائل ابن رجب (1/ 79).
(2)
كذا هو أبو حامد وإنما هذا كلام القرطبى نقله عنه ابن الحاج في المدخل (1/ 16 - 17).
(3)
سير السلف الصالحين (ص 1325) والنقل عن المدخل (1/ 17 - 18).
عوض يأخذه عليه مما هو معلوم في الوقت، فإن كان ثم معلوم يطلبه على علمه فقد زاد ذما على مذمومات تقدم ذكرها، واللّه أعلم.
178 -
وَرُوِيَ عَن كعْب بن مَالك قَالَ سَمِعت رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول من طلب الْعلم ليجاري بِهِ الْعلمَاء أَو ليماري بِهِ السُّفَهَاء وَيصرف بِهِ وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ أدخلهُ اللّه النَّار. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الصمت وَغَيره وَالْحَاكم شَاهدا وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث غَرِيب
(1)
.
قوله: عن كعب بن مالك، هو الأنصاري الشاعر وهو أحد الثلاثة الذين أنزل اللّه فيهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
(2)
روي له عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمانون حديثًا، للبخاري منها أربعة، شهد العقبة مع السبعين، مات بالمدينة سنة خمسين، وسيأتي الكلام على مناقبه في مواضع من هذا التعليق مبسوطًا إن شاء اللّه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليجاري به العُلماء" الحديث، قال ابن الأثير في النهاية
(3)
: ليجري مع العُلماء في المناظرة والجدال ليظهر علمه إلى الناس رياء وسمعة.
(1)
أخرجه الترمذي (2654)، وابن أبي الدنيا في الصمت (141)، وذم الغيبة (3)، وابن عدى (2/ 165)، والحاكم 1/ 86، والبيهقى في الشعب (3/ 269 - 270 رقم 1636).
وصححه الألباني في صحيح الترغيب (106)، والمشكاة (225).
(2)
سورة التوبة، الآية:118.
(3)
النهاية (1/ 264).
قوله صلى الله عليه وسلم: "أو ليماري به السفهاء" والمماراة المجادلة على مذهب الشك
(1)
، فإن كلّ واحد من المتحاجين يشك فيما يقوله صاحبه أو يشككه بما يورد على حجته
(2)
، والمراد بالسفهاء الجهال فإن عقولهم ناقصة
(3)
، والمعنى فيه: أن النية هي ركن العمل أو شرطه الذي لا يعتد به إلا بها فإذا عدمت لم يكن شيئًا وإذا فسدت فسد الهوى
(4)
، فمن يطلب بالعلم الرياسة على الخلق والتعاظم عليهم وأن ينقاد الخلق ويخضعوا له ويصرفوا إليه وجوههم وأن يظهر للناس زيادة علمه على العُلماء أو ليعلوا به عليهم ونحو ذلك فهذا وعيده النار لأن قصد التكبر على الخلق في نفسه محرم، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان
(5)
.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول خلق اللّه تسعر بهم النار ثلاثة منهم: العالم الذي قرأ القرآن ليقال قارئ، وتعلم العلم ليقال عالم وأنه يقال له قد قيل، وأمر به فيسحب على وجهه حتى ألقي في النار" وذكر مثل ذلك المتصدق ليقال: "إنه جواد" وفي المجاهد يقال له:
(1)
النهاية (4/ 322).
(2)
مشكاة المصابيح (2/ 681)، ومرقاة المفاتيح (1/ 304).
(3)
مشكاة المصابيح (2/ 681).
(4)
عارضة الأحوذي (10/ 122).
(5)
مجموع رسائل ابن رجب (1/ 80).
"شجاع"
(1)
وعن علي رضي الله عنه قال: يا حملة العلم، اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف علمهم عملهم ويخالف سريرتهم علانيتهم يجلسون حلقًا حلقًا فيباهي بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللّه عز وجل
(2)
.
قوله: رواه الحاكم شاهدًا، اعلم أن لأهل الحديث ألفاظًا يعرف بها حال الحديت هل تفرد به راويه أم لا منها الشاهد ومثاله ما رواه مسلم والنسائي من رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ " فلم يذكر أحد من أصحاب عمرو بن دينار "فدبغوه" إلا ابن عيينة، فوجد له شاهد وهو ما رواه مسلم من رواية عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس، "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
179 -
وَعَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم لا تعلمُوا الْعلم لتباهوا بِهِ الْعلمَاء وَلا تماروا بِهِ السُّفَهَاء وَلا تخَيرُوا بِهِ الْمجَالِس فَمن فعل ذَلِك فَالنَّار النَّار. رَوَاهُ ابْن مَاجَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ كلهم من رِوَايَة يحيى بن أَيُّوب الغافقي عَن ابْن جريح عَن أبي الزبير عَنهُ وَيحيى هَذا ثِقة احْتج بِهِ
(1)
أخرجه مسلم (152 - 1905).
(2)
مجموع رسائل ابن رجب (1/ 81).
الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا وَلا يلْتَفت إِلَى من شَذَّ فِيهِ
(1)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا بِنَحْوِهِ من حَدِيث حُذَيْفَة
(2)
.
قوله: عن جابر، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العُلماء ولا تمار به السفهاء" المباهاة هي المفاخرة، وتقدم الكلام على المماراة، والسفهاء في الحديث قبله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحبروا به المجالس" أي: تحسنوا به المجالس وتزينوا من التحبير وهو التزيين والتحسين، قال الأصمعي: كان يقال لطفيل الغنوي بفتح الغين المعجمة في الجاهلية محبر لأنه كان يحسن الشعر
(3)
، والحبر أيضًا الحبور وهو السرور ومنه قوله تعالى:{فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)}
(4)
ينعمون ويكرمون ويسرون
(5)
، وقال يحيى بن أبي كثير: الحبرة اللذة والسماع
(6)
، انتهى.
قوله: رووه كلهم من رواية يحيى بن أيوب الغافقي.
(1)
أخرجه ابن ماجة (254)، وابن حبان (77)، والحاكم 1/ 86، والبيهقي في المدخل (479 و 480) والشعب (3/ 269 رقم 1635). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (107).
(2)
أخرجه ابن ماجة (259)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (108) تخريج اقتضاء العلم العمل (100 - 102).
(3)
تهذيب اللغة (5/ 22)، والصحاح (2/ 620).
(4)
سورة الروم، الآية:15.
(5)
الصحاح (2/ 625).
(6)
تفسير عبد الرزاق (2786)، وتفسير الطبرى (18/ 472).
180 -
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من طلب الْعلم ليباهي بِهِ الْعلمَاء ويماري بِهِ السُّفَهَاء أَو ليصرف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ فَهُوَ في النَّار رَوَاهُ ابْن مَاجَة
(1)
.
قوله: عن ابن عمر، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليباهي به العُلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه" تقدم الكلام على المباهاة والمماراة، ومعنى "يصرف به وجوه الناس إليه" أي: يقلبهم إليه مأخوذ من قوله صرفت الصبيان:
قلبتهم
(2)
، وخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه:"ولكن تعلموه لوجه اللّه والدار الآخرة"
(3)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا تعلموا العلم لثلاث لتماروا به السفهاء أو لتجادلوا به الفقهاء أو تصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بعلمكم ما عند اللّه فإنه يبقى ويذهب ما سواه، انتهى، قاله ابن رجب
(4)
، وقال عيسى ابن مريم: كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به ولا يطلبه ليعمل به
(5)
، وقال الحسن: ما رأيتُ فقيها يداري ولا يماري إنما ينشر حكمة اللّه عز وجل فإن قبلت حمد اللّه عز وجل وإن ردت حمد اللّه عز وجل
(6)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة (253) وحسنه الألباني في المشكاة (225 و 226) وصحيح الترغيب (109).
(2)
الصحاح (4/ 1386).
(3)
الكامل (7/ 216).
(4)
مجموع رسائل ابن رجب (1/ 81).
(5)
مجموع رسائل ابن رجب (1/ 81).
(6)
أخلاق العُلماء للآجري (ص 58).
181 -
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم من تعلم الْعلم ليباهي بِهِ الْعلمَاء ويماري بهِ السُّفَهَاء وَيصرف بهِ وُجُوه النَّاس أدخلهُ اللّه جَهَنَّم. رَوَاهُ ابْن مَاجَة أَيْضًا
(1)
.
182 -
وَعَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من تعلم علما لغير اللّه أَو أَرَادَ بِهِ غير اللّه فَليَتبَوَّأ مَقْعَده من النَّار رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَة كِلَاهُمَا عَن خَالِد بن دريك عَن ابْن عمر وَلم يسمع مِنْهُ وَرِجَال إسنادهما ثِقَات
(2)
.
قوله: عن ابن عمر، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما لغير اللّه أو أراد به غير اللّه فليتبوأ مقعده من النار" الحديث، قوله "فليتبوأ" بكسر اللام هو الأصل وبالسكون هو المشهور، والتبوء: إتخاذ المبأة أي المنزل، يقال: تبوأ الرجل المكان إذا تأخذه موضعا لمقامه، قال أبو سليمان الخطابي: وهو أمر يشبه التهديد والوعيد، ومعناه: لينزلن منزلة منها، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطًا في الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قوله: عن خالد بن دريك (بضم أوله وفتح الراء عن ابن عمر وعائشة مرسلا وعن عبد اللّه بن محيريز وعنه قتادة وأيوب وثقه النسائي وابن مَعين وابن حبان).
(1)
أخرجه ابن ماجة (260). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (110).
(2)
أخرجه الترمذي (2655)، وابن ماجة (258). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أيوب إلا من هذا الوجه. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (85).
183 -
وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن نَاسًا من أمتِي سيتفقهون فِي الدّين يقرؤون الْقُرْآن يَقُولُونَ نأتي الأُمَرَاء فنصيب من دنياهم ونعتز لَهُم بديننا وَلا يكون ذَلِك كَمَا لَا يجتنى من القتاد إِلَّا الشوك كذَلِك لَا يجتنى من قربهم إِلَّا" قَالَ ابْن الصَّباح كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا. رَوَاهُ ابْن مَاجَة وَرُوَاته ثِقَات
(1)
.
قوله: عن ابن عباس، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ناسًا من أمتي سيتفقهون في الدين يقرؤون القرآن يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتز لهم بديننا ولا يكون ذلك كلما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك" الحديث، القتاد: شجر كثير الشوك ينبت بنجد وتهامة وهو أعظم وأصغر، فالأعظم الذي له شوك، والأصغر التي التي ثمرها نفاخة كنفاخة العشر، والمراد هنا: التقاد الأعظم، قاله في الصحاح.
قوله: "كذلك لا يجتنى من قربهم إلا" قال ابن الصلاح: كأنه يعني الخطايا؛ ابن الصباح: اسمه محمد بن الصباح البغدادي.
وقوله: "إلا" من الاكتفاء، فحديث ابن عباس حديث حسن، وهو علم من أعلام النبوة، فإن كثيرًا من العُلماء الذي يقرؤون القرآن وهم كما قال اللّه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
(1)
أخرجه ابن ماجة (255)، والطبراني في الأوسط (8/ 150 رقم 8236) والشاميين (2556). قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به: هشام بن عمار. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (86) و (1357)، المشكاة (262)، الضعيفة (1250).
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}
(1)
الآية، قاله في الديباجة
(2)
، وخرجه الطبراني ولفظه:"أن ناسًا من أمتي يقرؤون القرآن ويتعمقون في الدين يأتيهم الشيطان يقول: لو أتيتم الملوك فأصبتم من دنياهم واعتزلتموهم بدينكم إلا، ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا".
لطيفة: روى البيهقي في الشعب عن مالك بن دينار قال: مثل قراء هذا الزمان مثل رجل نصسب فخًا فجاء عصفور فوقع في فخه فقال: ما لي أراك متغيبًا في التراب، قال: للتواضع، قال: فمم خببت؟ قال: من طول العبادة، قال: فما هذه الحبة فيك؟ قال: أعددتها للطائعين، فلما أمسى تناول الحبة فوقع الفخ في عنقه فخنقه، فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العبادة اليوم، قاله في حياة الحيوان
(3)
.
184 -
وَعَن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من تعلم صرف الْكَلَام لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوب الرِّجَال أَو النَّاس لم يقبل اللّه مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرفا وَلَا عدلَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(4)
قَالَ الْحَافِظ: يشبه أَن يكون فِيهِ انْقِطَاع فَإِن الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل ذكره البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَلم يذكرُوا لَهُ رِوَايَة عَن الصَّحَابَة وَاللّه أعلم.
(1)
سورة الكهف، الآيتان: 103 - 104.
(2)
الديباجة (ص 257/ رسالة علمية).
(3)
الشعب (9/ 214 - 215 رقم 6556) وحياة الحيوان (2/ 161 - 162).
(4)
أخرجه أبو داود (5006) ومن طريقه البيهقي في الشعب (7/ 44 - 45 رقم 4620)، وفي الأداب (391). وضعفه الألباني في المشكاة (4802)، وضعيف الترغيب (87).
قوله: "وعن أبي هريرة"، تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال" الحديث، صرف الكلام: هو بفتح الصاد أي: من تعلم فصاحة الكلام وأنواع البلاغة من أنواع الشعر وغيره من العلوم ليجعل قلوب الناس مائلة إليه لم يقبل اللّه منه صرفًا ولا عدلًا
(1)
، والمراد من صرف الكلام هو فضله وما يتكلفه الإنسان فوق الحاجة فيه، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد
(2)
، يقال: فلان لا يحسن صرف الكلام أي فضل بعضه على بعض وهو من صرف الدراهم وتفاضلها
(3)
، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قصدًا بقدر الحاجة غير زائد عليها ليوافق ظاهره باطنه وسره علنه
(4)
، وحينئذ: ففي الحديث من أنواع الجناس التام بين صرف وصرف، وهو أشرف أنواع الجناس كقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}
(5)
.
قوله: "لم يقبل اللّه منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" يعني: فريضة ولا نافلة على أحد التفاسير
(6)
، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطًا فيمن أخاف أهل المدينة أو أرادهم بسوء.
(1)
المفاتيح (5/ 168).
(2)
معالم السنن (4/ 136).
(3)
النهاية (3/ 24).
(4)
معالم السنن (4/ 136).
(5)
سورة الروم، الآية:55.
(6)
المفاتيح (5/ 168).
185 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: "كيف بكم إذا لبستْكم فتنةٌ، يَربو فيها الصغيرُ، ويَهرَمُ فيها الكبيرُ، وتُتَّخَذُ سنةً، فإن غُيّرتْ يومًا قيلَ: هذا منكرٌ! قيل: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلَّت أُمناؤكم، وكثُرتْ أُمراؤُكُم، وقَلَّتْ فقهاؤكُم، وكَثُرتْ قراؤكم، وتُفُقِّهَ لِغيرِ الدين، والتُمست الدنيا بعملِ الآخرةِ". رواه عبد الرزاق في "كتابه" موقوفًا
(1)
.
قوله: عن ابن مسعود، فهو: عبد اللّه بن مسعود، يقال له: ابن أم عبد، أم عبد اللّه بن مسعود وهي بنت عبد ود من هذيل بن مدركة، أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر مصعب بن سعد أن عمر صلى الله عليه وسلم فرض الأعطية ففرض لأم عبد ألف درهم، حكاه ابن سعد في الطبقات الصغري، انتهى.
قوله: "كيف بكم إذا ألبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير" الحديث، وهذ يدلّ على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا التفات إليه، فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس، وهذه هي الفتنة العظمى.
186 -
وَعَن عَليّ رضي الله عنه: أَنه ذكر فتنا تكون فِي آخر الزَّمَان فَقَالَ لَهُ عمر مَتى ذَلِك يَا عَليّ قَالَ إِذا تفقه لغير الدّين وَتعلم الْعلم لغير الْعَمَل والتمست الدُّنْيَا بِعَمَل الآخِرَة رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق أَيْضًا فِي كلتَابه مَوْقُوفًا
(2)
وَتقدم حَدِيث ابْن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في الجامع (20742)، وابن أبي شيبة في المُصَنِّف (37156)، والدارمى (191) و (192)، والحاكم 4/ 514 - 515. وصححه الحاكم. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (111).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في الجامع (20743). وضعفه الألباني جدًّا في ضعيف الترغيب (88).
عَبَّاس الْمَرْفُوع وَفِيه وَرجل آتَاهُ اللّه علمًا فبخل بِهِ عَن عباد اللّه وَأخذ عَلَيْهِ طَمَعا وشرى بِهِ ثمنا فَذَلِك يلجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار وينادي مُنَاد هَذَا الَّذِي آتَاهُ اللّه علما فبخل بِهِ عَن عباد اللّه وَأخذ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْترى بِهِ ثمنًا وَكَذَلِكَ حَتَّى يفرغ الْحساب.
قوله: عن عليّ، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله: أن عليًّا ذكر فتنًا تكون في آخر الزمان، فقال عمر: متى ذلك أي علي؟ قال: إذا تفقه لغير اللّه وتعلم العلم لغير العمل، الحديث، وقال علي أيضًا رضي الله عنه: إذا كان الفقه لغير الدين وطلب العلم لغير العمل به وطلبت الدنيا بأعمال الآخرة فحينئذ تدفهم الفتن دف الرحى تفالها، وقال: جلس ابن مسعود يومًا فنظر إلى قوم قد اجتمعوا حوله يطلبون الحديث فالتفت إلى حارثة وقال: يا حارثة ألم تر إلى هؤلاء قد اجتمعوا ليتعلموا، فقال حارثة: قد اجتمعوا ليتعلموا ثم يتركوا، فقال ابن مسعود: صدقت واللّه الذي لا إله إلا هو، واجتمع أصحاب الحديث على باب الفضيل فاطلع عليهم من كومة وهو يبكي ولحيته ترجف، فقال: عليكم بالقرآن عليكم بالطواف عليكم بالعبادة، ويحكم، ليس هذا زمان حديث إنما زمان بكاء وتضرع واستكانة ودعاء كدعاء الغريق، وإنما هذا زمان السوء، احفظ لسانك وأخف بكائك وعالج قلبك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر
(1)
.
(1)
خرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (159)، وانظر الآثار السابقة في مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (1/ 81).
قوله: فاطلع من كومة، بفاح الكاف على اللغة المشهورة، قال صاحب المطالع، وحكي فيها الضم
(1)
، وقال الحسن: لا يكون حظ أحدكم من العلم أن يقول له الناس عالمًا، وفي بعض الآثار: أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: كيف يكون من أهل العلم من يطلب العلم ليحدّث به ولا يطلبه ليعمل به، وقال بعض السلف: بلغنا أن الذي يطلب الأحاديث ليحدّث بها لا يجد ريح الجنة، يعني: من ليس له غرض في طلبها إلا الحديث بها دون العمل بها.
تنبيه: ومن هذا القبيل كراهة السلف الصالح الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها والإكثار منها، وروى ابن لهيعة عن عبد اللّه بن أبي جعفر مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار"
(2)
وقال علقمة: أجرأكم على الفتيا أقلكم علمًا، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من الأنصار ومن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه، وفي رواية: فيؤدها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول
(3)
وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الذي يفتي الناس في كلّ ما يستفتونه لمجنون
(4)
، وسئل عمر بن عبد
(1)
مطالع الأنوار على صحاح الآثار (3/ 393).
(2)
أخرجه الدارمي (157).
(3)
رواه ابن المبارك في الزهد ص 19، والدارمي (135) 1/ 65، وابن سعد في الطبقات 6/ 110، وأبو خيثمة في العلم 21 ص 10، والخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 12 - 13.
(4)
رواه الدارمي 1171/ 73، وأبو خيثمة في العلم 10 ص 8، والخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 197 - 198 و 2/ 202 - 203.
العزيز عن مسألة فقال: ما أنا على الفتيا بجريء، وكتب إلى بعض عماله: إني واللّه ما إني بحريص على الفتيا ما وجدت منه بدًا، وليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه، إنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه، وعنه رضي الله عنه أنه قال: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم وأجهلهم بها أنطقهم، وقال سفيان الثوري: أدركنا الفقهاء وكانوا يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدون بدًا، وإذا أعفوا منها كان أحب إليهم، وقال الإمام أحمد بن حنبل: من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد كانت للضرورة، قيل له: فأيهما أفضل، الكلام أو السكوت؟ قال: الإمساك أحب إليّ، قيل له: فإذا كانت الضرورة فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم؛ وليعلم المفتي أنه يرفع عن اللّه أمره ونهيه وأنه موقف ومسؤول عن ذلك، قال الربيع بن خثيم: أيها المفتون، انظروا كيف تفتون عن اللّه، وعن ابن المنكدر قال: إن العالم بين اللّه وبين خلقه فلينظر كيف يدخل عليهم، وكان ابن سيرين: إذا سئل عن شيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدًا تسأل غيري، وقال: قد تكلمت لو وجدت بك ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء، وعن محمد بن واسمع قال: أول من يدعى للحساب الفقهاء، وعن مالك أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وقال بعض العُلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص المسائل وليكن تخليص نفسك أولا، وقال آخر: إذا سئلت عن شيء فتفكر إن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت،
وكلام السلف في هذا يطول، وفيما ذكرنا كفاية لمن تدبر، واللّه أعلم
(1)
.
خاتمة: وتقدم في حديث ابن عباس المرفوع: "ورجل أتاه اللّه علما فبخل به عن عباد اللّه وأخذ عليه مطمعا وشرى به ثمنًا" الحديث
(2)
، قال الإمام أبو عبد اللّه القرطبي
(3)
: وإذا تعين على العالم نشر العلم وتعليمه وكانت عنده كفايته ثم ضن بعلمه أي يبخل حتى يأخذ عليه أجرًا فهو المراد بالآية وهي: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
(4)
والحديث، وأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللّه" أخرجه البخاري
(5)
، وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم، وله أن يقبل على صنعته وحرفته لأن إحياء نفسه أوجب، ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه. لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له: في ذلك، فقال: ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته، واللّه أعلم.
(1)
انظر الآثار السابقة في مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (1/ 81 - 84).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم 7187) قال المنذرى (1/ 56): في إسناده عبد اللّه بن خراش وثقه ابن حبان وحده. وقال الهيثمي (1/ 124): فيه عبد اللّه بن خراش ضعفه البخارى وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدى ووثقه ابن حبان.
(3)
تفسير القرطبي (1/ 336).
(4)
سورة البقرة، الآية:41.
(5)
أخرجه البخاري (5737).