الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الترغيب في بناء المساجد في الأمكنة المحتاجة إليها]
قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}
(1)
أي: تبنى
(2)
كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ}
(3)
فالرفع هنا إما حقيقي أو مجازي كالتطهر في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}
(4)
قال العلماء: والمراد بالبيوت هنا المساجد، وقيل: المساجد بيوت الله تضيء لأهل المساجد كما تضيء النجوم لأهل الأرض
(5)
.
414 -
وَعَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه أَنه قَالَ: عِنْد قَول النَّاس فِيهِ حِين بنى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّكُم أَكثرْتُم عَليّ وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من بنى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله بنى الله لَهُ بَيْتًا فِي الْجنَّة وَفِي رِوَايَة بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا
(6)
.
قوله: عن عثمان بن عفان، يجوز في عفان الصرف وعدمه، وتقدم الكلام على مناقب عثمان مبسوطا والله أعلم.
(1)
سورة النور، الآية:36.
(2)
قاله مجاهد كما في تفسيره (1/ 493) وتفسير الطبري (17/ 316).
(3)
سورة البقرة، الآية:127.
(4)
سورة الحج، الآية:26.
(5)
إعلام الساجد (ص 36).
(6)
أخرجه البخاري (450)، ومسلم (24 و 25 و 43 و 44 - 533)، وابن ماجه (736)، والترمذي (318).
قوله رضي الله عنه: أنه قال عند قول الناس فيه حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة".
وفي صحيح مسلم عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه على هيئته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة" قال الواقدي: وفي السنة التاسعة والعشرين وسع عثمان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتدأ في بنيانه في شهر ربيع الأول، وبناه بالحجارة المنقوشة وزخرفه بالقصة وسقفه بالساج وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل له ستة أبواب، قال: وإنما وسعه لأنه ضاق بالناس، قاله ابن الجوزي
(1)
، وفي سنة ثمان وثمانين كان تجديد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، روى أبو داود عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللبن وسقفه بالجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وتخرب في عهد عمر فبناه على حاله وبناه عثمان وزاد فيه وبناه بالحجارة المنقوشة وجعل أعدمته من حجارة منقوشة وسقمه بالساج
(3)
.
(1)
المنتظم (5/ 5).
(2)
المنتظم (6/ 283).
(3)
إعلام الساجد (ص 224 - 225).
وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هده أي أصلحه، فقال: عريش كعريش موسى
(1)
ثم إن الوليد هدمه في هذه السنة وزاد فيه وأدخل حجرات أمهات المؤمنين فيه وكان يتولى المدينة يومئذ عمر بن عبد العزيز واستعمل على هدمه وبنائه صالح بن كيسان، فبدأ في عمله في شهر صفر من هذه السنة حتى كمل على [أفخم هيّة وأحسن بنية وأتمّ إتقان] ثم وسعه المهدي سنة ستين ومائة وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه وعلى موضع زيادته مكتوب: أمر عبد الله المأمون بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة اثنتين ومائتين، طلب ثواب الله وطلب كرماة الله تعالى فإن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعًا بصيرًا، أمر عبدُ الله عبدَ الله بتقوى الله ومراقبته وصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله وتعظيم ما صغرته الجبابرة من حقوق الله وإحياء ما أماتوه من العدل وتصغير ما عظموه من الهوان والجور وأن تطيعوا الله وتعصوا من عصى الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، انتهى، قاله في تاريخ كنز الدرر
(2)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
(1)
روي مرسلًا عن الحسن البصري وسالم بن عطية والزهري وراشد بن سعد وموصولًا عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وصححه الألباني في الصحيحة (616) وحسنه من طريق الحسن في صحيح الترغيب (1876).
(2)
كنز الدرر (4/ 260 - 261).
عارض لبنة على بطنه فظننت أنها شقت عليه فقلت ناولنيها يا رسول الله قال: "خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة"
(1)
ومعنى أن العيش عيش الآخرة أن الحياة المطلوبة الهنيئة الدائمة هي الدار الآخرة
(2)
وهذا كقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}
(3)
أي دار الحياة التي لا تزول ولا موت فيها
(4)
.
تتمة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار وكان فيه نخل ومقابر المشركين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"ثامنوني به" أي: بايعوني، قالوا: لا نأخذ له ثمنًا أبدًا، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبنيه وهم يناولونه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أن إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبني المسجد حيث أدركته الصلاة، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
(5)
، وبنو النجار: قبيلة من
(1)
أخرجه أحمد 2/ 381 (8951). قال البخاري في التاريخ الأوسط 1/ 17: لا يعرف للمطلب سماع من أبي هريرة، وقال أبو حاتم الرازي كما في المراسيل ص 209: عن أبي هريرة مرسل. قال الهيثمي في المجمع 2/ 9: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. قال الصالحي في سبل الهدى (3/ 337): وهذا كان في بنائه المرّة الثانية، لأن أبا هريرة لم يسلم في الأولى. وضعفه الألباني في الثمر المستطاب (1/ 458).
(2)
المجموع (7/ 244) وتحرير ألفاظ التنبيه (ص 141) وكفاية النبيه (7/ 174).
(3)
سورة العنكبوت، الآية:64.
(4)
تفسير الثعلبي (7/ 289)، وتفسير القرطبي (13/ 362).
(5)
أخرجه البخاري (428) و (3932)، ومسلم (9 - 524)، وأبو داود (453 و 454)، والنسائي في المجتبى 2/ 181 (714) والكبرى (869).
الأنصار وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن هاشما تزوج امرأة من بني النجار تسمى سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار فولدت له عبد المطلب بن هاشم فمن هنا كانوا أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن سعد في الطبقات عن الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه له من [بني عفراء] بدنانير دفعها عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
(1)
، فإن صح هذا فلم يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالثمن لأنه كان ليتيمين، ولما كان ثمنه عشرة ضاعف الله فيه الصلاة إلى ألف حسنة لأن الحسنة بعشر أمثالها وضاعف الله المائة المضاعفة إلى ألف، ولما كان داود عليه الصلاة والسلام اشترى موضع المسجد الأقصى بخمسة قناطير من الذهب جعل الله له الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، ومال نبينا صلى الله عليه وسلم الذي صرفه في المسجد قناطير داود الخمسة مرتين، وهذا المعنى ملحوظ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"سبق درهم مائة ألف درهم" وهذا الحديث ذكره الحافظ المنذري في ترغيبه في الصلاة وفسر معناه والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة" وفي رواية: "بنى الله له بيتا في الجنة مثله" قال الإمام القرطبي: هذه المثلية ليست على ظاهرها ولا من كل الوجوه وإنما معناه: أن الله بنى له بثوابه بناء أشرف وأعظم وأرفع
(2)
، انتهى.
وقال السهيلي: جزاء الفعل يذكر بلفظ الفعل وإن كان أشرف
(1)
الطبقات (1/ 239)، وتاريخ مكة المشرفة (1/ 266).
(2)
المفهم (5/ 61).
منه كما جاء في قوله: "بنى الله مثله في الجنة" لم يرد مثله في كونه مسجدا ولا في صفته ولكن قابل البنيان بالبنيان، أي: كما بنى بني له فهاهنا وقعت المماثلة لا في ذات المبني
(1)
، انتهى.
وهذا البيت هو والله أعلم مثل بيت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "إنه من قصب لا صخب فيه ولا نصب" يريد من قصب الزمرد والياقوت (وسيأتي الكلام على بيت خديجة مبسوطًا)، ويعضد هذا بأن أجور الأعمال متضاعفة وأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذا كما قال في القوة إنها تزداد حتى تكون مثل الجبل، ولكن هذا التضعيف إنما هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص والإتقان والإحسان، ولما فهم عثمان رضي الله عنه هذا المعنى تأتي في بناء المسجد وحسنه وأتقنه واخلف الله فيه رجاء أن يبنى له في الجنة قصر متقن، وقد فعل الله له ذلك وزيادة
(2)
والله أعلم، قاله في الديباجة.
فائدة: قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: يدخل في هذا الحديث من عمَّر مسجدًا قد استهدم، ويدخل فيه من أنشأ مسجدًا ولو اشترك جماعة في عمارة مسجد فهل يحصل لكل منهم بيت في الجنة كما لو أعتق جماعة عبدًا مشتركا بينهم فإنهم يعتقون من النار ويجوزون العقبة لقول الله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فك الرقبة بعتق البعض، والقياس إلحاق المساجد بالعتق لأن فيه ترغيب وحملًا للناس على إنشاء
(1)
الروض الأنف (2/ 277).
(2)
المفهم (5/ 61).
المساجد وعمارتها
(1)
، انتهى.
فرع: هل يمكن الكافر من بناء المساجد، قال البغوي في تفسيره: ذهب جماعات إلى أنه يمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لم تنفذ وصيته
(2)
، والصحيح جوازه لقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" وكما لو تصدق أو وقف على الفقراء والمساكين فإنه يصح ولا يصير ببناء المسجد مسلمًا وإن عظمه حتى يأتي بالشهادتين بخلاف المسلم إذا بنى كنيسة واعتقد تعظيمها فإنه يكفر لأن الكفر يحصل بمجرد النية والإسلام لا يحصل إلا بالتلفظ بالشهادتين والله أعلم، قاله ابن العماد في شرح العمدة
(3)
.
فرع آخر: لو اتخذ مسجدًا في مقبرة غير منبوشة كرهت الصلاة فيه استصحابًا لحكمها حتى نبش الموتى وتخرج، ولو اتخذ مسجدا في الوادي الذي نام فيه رسول الله عن صلاة الصبح كرهت الصلاة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم:"اخرجوا من هذا الوادي فإن فيه شيطانا"
(4)
ويكره أيضًا اتخاذ المسجد بأرض بابل إن صح ما رواه أبو داود أن عليا مر بأرض بابل فأسرع الخروج منها ولم يصل فيها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها أرض ملعونة"
(1)
تسهيل المقاصد (لوحة 66).
(2)
تفسير البغوي (4/ 19).
(3)
ذكره أيضا في تسهيل المقاصد (لوحة 66).
(4)
أخرجه مالك (26) عن زيد بن أسلم مرسلًا. وصححه الألباني في المشكاة (687).
والحديث سكت أبو داود عن تضعيفه وضعفه الخطابي
(1)
، وقال البخاري في الصحيح: ويذكر أن عليا كره الصلاة بخسف بابل، ولو اتخذ المسجد في الأماكن التي ندب الشرع إلى إسراع الخروج منها فالوجه الكراهة، ومن ذلك وادي محسر بأرض ثمود وقوم لوط وعاد، وقد بوب البخاري رحمه الله كذلك بباب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، وأورد حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين"
(2)
الحديث، وسيأتي هذا الحديث بتمامه والكلام عليه مبسوطا في كتاب الجنائز، ولو اتخذ الحمام مسجدا فالمتجه بقاء الكراهة استصحابا للحكم ولأن الشيطان قد ألفه وصار كالوداي ويحتمل خلافه لأن الشيطان إنما ألفه لما كان يكشف فيه من العورات ويفعل من المحرمات
(3)
قاله ابن العماد.
415 -
وَعَن أبي ذَر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بنى لله مَسْجِدا قدر مفحص قطاة بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة" رَوَاهُ الْبَزَّار وَاللَّفْظ لَهُ وَالطَّبْرَانِيّ فِي الصَّغِير وَابْن حبَان فِي صَحِيحه
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (490). وضعفه الخطابى في معالم السنن (1/ 148)، والألباني في ضعيف أبي داود (76).
(2)
أخرجه البخاري (433) و (3380) و (3381) و (4419) و (4420) و (4702)، ومسلم (38 و 39 - 2980) عن ابن عمر.
(3)
تسهيل المقاصد (لوحة 67).
(4)
أخرجه البزار (4017)، وابن المنذر في الأوسط (2492)، وابن حبان (1610 و 1611)، =
قوله: عن أبي ذر، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم "من بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة" الحديث ولم يقل عشر بيوت تنبيها على أن هذا البيت يفوق سائر بيوت الدنيا فكذلك هذا البيت الذي يبنى له في الجنة يفوق سائر بيوت الجنة ولهذا ذكره لتعظيمه
(1)
ويأتي الكلام على مفحص القطاة في الحديث بعده.
416 -
وَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من بنى لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة" رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي صَحِيحه
(2)
.
417 -
وَعَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من حفر بِئْر مَاء لم يشرب مِنْهُ كبد حرى من جن وَلا إنس وَلا طَائِر إِلَا آجره الله يَوْم الْقِيَامَة وَمن بنى لله مَسْجِدا كمفحص قطاة أَو أَصْغَر بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة رَوَاهُ ابْن
= والطبراني في الصغير (2/ 246 رقم 1105). وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه عن سفيان مرفوعا إلا سلم بن جنادة، عن وكيع، ولا نعلم أن سلم بن جنادة توبع على هذا الحديث. وإنما يعرف هذا الحديث مرفوعا من حديث أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش ورواه يحيى بن آدم، عن يزيد بن عبد العزيز. وقال الهيثمي في المجمع 2/ 7: رواه البزار والطبراني في الصغير ورجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (269).
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (5/ 14 - 15).
(2)
أخرجه أحمد 1/ 20 (126)، وابن ماجه (735)، وأبو يعلى (253)، وابن حبان (1608) و (4628). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (270).
خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وروى ابْن مَاجَه مِنْهُ ذكر الْمَسْجِد فَقَط بِإِسْنَاد صَحِيح
(1)
.
وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّهُمَا قَالا كمفحص قطاة لبيضها
(2)
مفحص القطاة بِفَتْح الْمِيم والحاء الْمُهْملَة وَهُوَ مجثمها.
قوله: عن جابر تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم "من حفر بئرا لم يشرب منه كبد حري ولا إنس ولا طائر إلا أجاره الله يوم القيامة" سيأتي الكلام على ذلك في الصدقات.
قوله صلى الله عليه وسلم "ومن بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة" الحديث، وفي رواية الإمام أحمد "كمفحص قطاة لبيضها" ومفحص القطاة بفتح الميم والحاء المهملة هو مجثمها قاله الحافظ وقال بعضهم: وجثم الطائر جثوما وهو بمنزلة البروك للإبل قاله في النهاية
(3)
، والمفحص
(1)
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 331)، وابن ماجه (738)، وابن خزيمة (1292). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (271).
(2)
أخرجه الطيالسي (2739)، وأحمد 1/ 241 (2157)، والبزار (5079)، والطحاوي في مشكل الآثار (1555).
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن عباس، إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد، وجابر قد تقدم ذكرنا له بأنه قد تكلم فيه جماعة، وروى عنه أهل العلم، ولا نعلم أحدا ممن هو قدوة ترك حديثه، وعمار الذي روى عنه جابر، هو عمار الدهني. وقال الهيثمي في المجمع 2/ 7: رواه أحمد والبزار وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (272).
(3)
النهاية (1/ 239).
مفعل من الفحص وجمعه مفاحص وهو موضعها الذي يجثم فيه وتبيض كأنها مفحص عنه التراب أي تكشفه والفحص الطلب والبحث والكشف وفحص رجليه ضرب بهما وتصير في موضع مطمئن مستو
(1)
، وخص القطاة بهذا لأن كل طير يجعل عشه ووكره في أعلى شجرة أو قمة جبل بخلاف القطاة فإنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل وإنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير فلذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم به المسجد ولأنها توصف بالصدق فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي: خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهوة ولا إرادة وهذا شأن هذا الطائر وقيل إنما شبه بذلك لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه
(2)
.
ومقدار مفحص القطاة لبيضها لا يمكن أن يتخذ مسجدا وإنما ذكره صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في الكلام
(3)
وأن الشارع صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يقع كقوله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا" وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "الأئمة من قريش" وقيل للوالي طاعة من ولاه الإمام عليكم ولو كان عبدا حبشيا
(4)
.
(1)
غريب الحديث (3/ 132)، والمجموع المغيث (2/ 598)، والنهاية (2/ 415).
(2)
حياة الحيوان (2/ 347 - 348).
(3)
الميسر (2/ 444)، وشرح المشكاة (5/ 1544).
(4)
معالم السنن (4/ 300)، وعارضة الأحوذي (1/ 151)، وحياة الحيوان (2/ 348).
تنبيه: والقطاة طائر معروف قدر الحمام وتشبهه ثم سميت بحكاية صوتها لأنها تقول قطاة قطاة لذلك تصفها العرب بالصدق فقالوا فلان أصدق من القطاة ويقال لها أم ثلاث لأنها أكثر ما تبيض ثلاث بيضات، والقطاة أنواع ولا تضع بيضها إلا أفرادا وفي طبعها أنها إذا أرادت الماء ارتفعت من أفاحيصها الثرايا لا متفرقة عند طلوع الفجر فتطلع إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل فحينئذ تقع على الماء وتشرب نهلًا والنهل شرب الإبل والغنم أول مرة فإذا شربت أقامت حول الماء متشاغلة إلى مقدار ساعتين أو ثلاث ثم تعود إلى الماء ثانية قال أبو زياد الكلابي: وإن القطاة تطلب الماء مسيرة عشرين ليلة وفوقها ودونها وحكم هذا الطائر يحل أكله، والله أعلم قاله في حياة الحيوان
(1)
.
418 -
وَرُوِيَ عَن أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من بنى لله مَسْجِدا صَغِيرا كَانَ أَو كبِيرا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
(2)
.
419 -
وَعَن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بنى لله مَسْجِدًا بنى الله لَهُ بَيْتا أوسع مِنْهُ رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد لين
(3)
.
(1)
حياة الحيوان (2/ 342 - 347) باختصار.
(2)
أخرجه الترمذي (319)، وأبو يعلى (4298)، والدولابى (1358). قال الألباني في الضعيفة (6717) وضعيف الترغيب (178): منكر بزيادة: (أو كبيرًا).
(3)
أخرجه أحمد 2/ 221 (7055). قال الهيثمي في المجمع 2/ 7: رواه أحمد، وفيه الحجاج بن أرطاة وهو متكلم فيه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (273).
قوله: عن عبد الله بن عمرو وتقدم الكلام على ترجمته وترجمة أبيه رضي الله عنهما.
قوله صلى الله عليه وسلم "من بنى لله مسجدا" الحديث، قوله:"بنى الله له بيتا أوسع منه" وفي الحديث الآخر "أفضل منه" وفي حديث "آخر مثله"، وفي رواية لابن وضاح في مصنفه عن عائشة مرفوعا:"من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة" قلت: يا رسول الله: وهذه المساجد التي بطريق مكة، قال:"وتلك"
(1)
.
ولو هنا للتقليل، وقد أثبته من معاني لو ابن هشام، وجعل منه:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"، المراد بالتقليل هنا إما الزيادة في المسجد، تنزيلا له منزلة ابتدائه، أو لأن الكلام خرج مخرج المبالغة، وتأمل كيف خص القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب يضربون بها المثل في الصدق، ففيه رمز خفي إلى [المحافظة على الإخلاص] في بنائه، والصدق في إنشائه، انتهى، قاله الزركشي
(2)
.
وقال بعض العلماء: ويحتمل قوله: "بنى الله له مسجدًا" وجهين ذكرهما العلماء أحدهما أن يكون معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت ولكنه أنفس منه بزيادات كثيرة فلم يرد مثله في كونه مسجدا ولا في صفته ولكن قابل البنيان
(1)
أخرجه مسدد كما في اتحاف الخيرة (2/ 14 رقم 940/ 1) والمطالب (353/ 1)، وإسحاق (1214). قال البوصيري: كثير بن عبد الرحمن العامري، وهو كثير بن أبي كثير، وهو كثير المؤذن، ضعيف، قاله العقيلي.
(2)
إعلام الساجد (ص 38 - 39).
بالبنيان كما بنى بني له فهاهنا وقعت المماثلة لا في ذات المبنى لأن جزاء الفعل بذكر لفظ الفعل وإن كان أصوب منه، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها وأنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
(1)
.
الوجه الثاني: معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا
(2)
، وتقدم الكلام على شيء من هذا مختصرًا.
420 -
وَرُوِيَ عَن بشر بن حَيَّان قَالَ جَاءَ وَاثِلَة بن الأسْقَع وَنحن نَبْني مَسْجِدًا قَالَ فَوقف علينا فَسلم ثمَّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من بنى مَسْجِدا يصلى فِيهِ بنى الله عز وجل لَهُ فِي الْجنَّة أفضل مِنْهُ رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ
(3)
.
421 -
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بنى بَيْتا يعبد الله فِيهِ من مَال حَلَال بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من دُرٍّ وَيَاقُوت رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوْسَط وَالْبَزَّار دون قَوْله من در وَيَاقُوت
(4)
.
(1)
الروض الأنف (2/ 427)، وشرح النووى على مسلم (18/ 113).
(2)
شرح النووى على مسلم (5/ 15).
(3)
أخرجه أحمد 3/ 490 (16005)، والبخاري في التاريخ الكبير 2/ 71، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (920)، والطبراني في الكبير 22/ 88 (213)، وابن عدي في الكامل 3/ 168. وقال الهيثمي في المجمع 2/ 7: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه الحسن بن يحيى الخشني، ضعفه الدَّارقُطْنِي وابن مَعين في رواية ووثقه في رواية، ووثقه دحيم وأبو حاتم. وقال الألباني: منكر ضعيف الترغيب (179).
(4)
أخرجه البزار (8639)، والطبراني في الأوسط (5/ 195 رقم 5059). قال البزار: وأحاديث سليمان بن داود اليمامي لا نعلم أحدا شاركه فيها، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهو عندي ليس بالقوي لأن أحاديثه تدل عليه إن شاء الله. =
قوله: عن أبي هريرة، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى بيتا يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت ولم يسمه مسجدا" الحديث، أراد صلى الله عليه وسلم بالبيت القصر، يقال: هذا بيت فلان أي قصره وداره وشرفه
(1)
مثل بيت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: "من قصب لا صخب فيه ولا نصب" يريد من قصب الزمرد والياقوت، قال أهل العلم واللغة: القصب في هذا الحديث لؤلؤ مجوف واسع كالقصب المنيف والصخب اختلاط الصوت والنصب التعب، فنفى عنه النصب والصخب لأنه ما من بيت في الدنيا سكنه قوم إلا كان بين أهله صخب وجلبة وإلا كان في بنائه وإصلاحه نصب وتعب، فأخبر أن قصور أهل الجنة خالية عن هذه الآفات
(2)
، انتهى.
ففي الحديث الذي ورد في فضل خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، قد رواه الخطابي مفسرا، وقال فيه: قالت خديجة يا رسول الله: هل في الجنة قصب؟ قال: "إنه قصب من لؤلؤ مجبأة" أي: مجوفة، قال: وتكلم أصحاب المعاني على هذا الحديث وقالوا:
= وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير إلا سليمان بن داود، تفرد به: سعيد بن سليمان، ولا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد. قال الهيثمي في المجمع 2/ 8: رواه الطبراني في الأوسط والبزار خلا قوله: من در وياقوت، وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف. وضعفه الألباني جدًّا في ضعيف الترغيب (180).
(1)
النهاية (1/ 170).
(2)
أعلام الحديث (2/ 911) وشرح المشكاة (12/ 3920 - 3921).
كيف لم يبشرها إلا ببيت، وأدنى أهل الجنة منزلة من يعطى مسيرة ألف عام في الجنة كما في حديث ابن عمر الذي خرجه الترمذي: وكيف لم يبعث هذا البيت بشيء من أوصاف النعيم والبهجة أكثر من نفي الصخب وهو رفع الصوت، وأما أبو بكر الإسكاف فقال في زوائد الأخبار: إن معنى الحديث أنها بشرت ببيت زائد على ما أعد الله تعالى له من الثواب لإيمانها وعملها، ولذلك قال:"لا صخب فيه ولا نصب" إنما عليه زيادة على جميع العمل الذي نصبت فيه، وقال الخطابي: البيت هنا عبارة عن القصر كما تقدم، يقال في القوم: هم أهل بيت شرف وبيت عز، وفي التنزيل:{غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولكن لذكر البيت هاهنا بهذا اللفظ ولم يقل بقصر معنى لائق بصورة الحال، وذلك لأنها كانت ربة في بيت إسلام لم يكن على الأرض بيت إسلام إلا بيتها حين آمنت، وأيضًا فإنها أول من بنى امرأة في الإسلام يتزوجها رسول الله ورغبتها فيه وهذا الفعل يذكر بلفظ الفعل كما تقدم، وكما جاء:"من كسى مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم" أي: كما قابل الكسوة بالكسوة والسقي بالسقي فهاهنا وقعت المماثلة لا في ذات المبنى أو الكسوة
(1)
.
وقوله في حديث خديجة: "لا صخب فيه ولا نصب" فإنما عبر بذلك لأنه عليه السلام دعاها إلى الإيمان فأجابته ولم تحوجه إلى أن يصخب كما يصخب
(1)
انظر: غريب الحديث (1/ 495 - 496)، والروض الأنف (2/ 425 - 427).
البعل إذا تعصت عليه حليلته، ولا أن ينصب فإنها كفته كلّ نصب وأمنته من كلّ وجه وهونت عليه كلّ مكروه وأراحته ببيتها من كلّ كدر ونصب فوصف منزلها الذي بشرت به بالصفة المقابلة لفعلها [وصورته]، وأما قوله:"من قصب" ولم يقل من لؤلؤ وإن كان المعنى واحدا ولكن في اختصاصه بهذا اللفظ من المشاكلة المذكورة والمقابلة بلفظ الجزاء للفظ العمل أنها رضي الله عنها كانت قد أحرزت قصب السبق إلى الإيمان دون غيرها من الرجال والنسوان فاقتضت البلاغة أن يعبر بالعبارة المشاكلة لفعلها في جميع ألفاظ الحديث
(1)
، والله أعلم.
422 -
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة رضي الله عنها عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من بنى مَسْجِدا لا يُرِيد بِهِ رِيَاء وَلا سمعة بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط
(2)
.
قوله: عن عائشة، تقدم الكلام على بعض مناقبها، ومن مناقبها أيضًا أن الملك نزل على رسول الله بصفتها في سرقة من حرير فأراه إياها قبل أن
(1)
الروض الأنف (2/ 429)
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (7/ 111 رقم 7005). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن المثنى إلا محمد بن عيسي، تفرد به: هشام بن عمار، ولم يروه عن عطاء، عن عائشة إلا كثير بن عبد الرحمن الكوفي، والمثنى بن الصباح. وقال الهيثمي في المجمع 2/ 8: رواه الطبراني في الأوسط وفيه المثنى بن الصباح، ضعفه يحيى القطَّان وجماعة، ووثقه ابن مَعين في رواية وضعفه في أخرى. وحسنه الألباني في الصحيحة (3399) وصحيح الترغيب (274).
يتزوجها ولم يتزوج بكرا غيرها، ونزلت آية التيمم ببركتها وأنزل عليه الوحي في لحافها ولم ينزل عليه في لحاف غيرها، وأقرأها جبريل عليه السلام السَّلام على لسان بعلها، ورأته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها ونزل القرآن العظيم ببراءتها وقبول عذرها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها، وقد امتزج ريقه المطهر بريقها ورأسه المقدس في حجرها، ومات بين حاقنتها وذاقنتها أو سحرها ونحرها، الحاقنة:[الوهدة المنخفضة بين الترقوتين] و (الذاقنة): طرف الحلقوم، وقيل: ما تناوله الذقن من الصدر
(1)
، وقيل: الحاقنة ما سفل من البطن، والذاقنة ما علا
(2)
، وقيل: الحاقنة باقية الطعام، والذاقنة نقرة النحر، وقيل: طرف الحلقوم، والحواقن أسافله، والمراد أنها تحقن الطعام أي تجمعه
(3)
، ومنه الحاقن للبول أي الجامع له بترك الإراقة
(4)
، وكانت عائشة رضي الله عنها أكرم أهل زمانها وعابدة أوانها، وأقامت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرد الصوم بقية عمرها وتفتي في الفقه ويؤخذ بقولها فأي فخر كفخرها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة أم المؤمنين بثلاث سنين على ما ثبت من حديث حميد بن عبد الرحمن بن هشام وهي بنت ست سنين، وذلك بمكة، وبنى بها بمكة بإجماع وهي بنت تسع سنين،
(1)
النهاية (1/ 416 و 2/ 162).
(2)
مطالع الأنوار (2/ 343).
(3)
إحكام الأحكام (1/ 110).
(4)
النهاية (1/ 413).
وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبني بي في شوال فأي نساء رسول الله كان أحظى عنده مني، وصدقت عائشة: كانت أحظى النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه بعد خديجة رضي الله عنها، وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنت عمران وآسية امرأت فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" هذا حديث صحيح مجمع على صحته، وقد رواه أنس، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة، ونشرت عنه علما كثيرًا لأنه روت عنه صلى الله عليه وسلم فيما ذكر أصحاب الأعداد ألفين حديثًا ومائتين حديثًا وعشرة أحاديث، أخرجا لها في الصحيحين مائتين حديثًا وسبعة وتسعين حديثًا، اتفقا منها على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا، ومسلم بتسعة وستين، ومنهم من يقول مائتان وخمسة وتسعون، المتفق عليها منها مائة وخمسة وسبعون حديثًا، وانفرد البخاري بثلاثة وخمسين ومسلم كما ذكرنا، قاله الحافظ القاضي ابن العربي في معجم صحابة الصحيحين من تأليفه، وكانت وفاتها بالمدينة سنة سبع وخمسين كما ذكره ابن المديني عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة، قاله خليفة بن خياط، وقد قيل: إنها توفيت سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان أمير المدينة يومئذ، ونزل في
قبرها خمسة عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عبد الرحمن بن بن أبي بكر أيضًا، ذكر ذلك الزبير في جماعة من أهل السير والخبر، وكانت تكنى أم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنته في الكنية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتني بابنك عبد الله، يعني بابن أختها ولم تلد قط ولا سقطت، هذا هو الصحيح
(1)
والله أعلم.
فائدة فيها بشرى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على عائشة والجواري يلعبن عندها فإذا رأينه تفرقن فيسيرهن إليها، وقال لها يومًا وهي تلعب بلعبها: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: خيل سليمان بن داود فضحك وطلب الباب فابتدرته واعتنقته فقال: "ما لك يا حميراء؟ " فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ادع الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، قالت: فرفع يديه حتى بان بياض إبطيه وقال: "اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر ظاهرة وباطنة مغفرة لا يعاد ذنبا ولا تكسب خطيئة ولا إثما"، وقال صلى الله عليه وسلم:"أفرحت يا عائشة؟ " فقلت: إي والذي بعثك بالحق، فقال:"أما والذي بعثني بالحق ما خصصتك بها من بين أمتي وإنها لصلاتي لأمتي في الليل والنهار فيمن مضى منهم ومن بقي ومن هو آت إلى يوم القيامة، وأما أدعو لهم والملائكة يؤمنون على دعائي"، قلت: إن في هذا الأمر من البشارة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يوجب أن
(1)
انظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 350 - 352 ترجمة 1181)، وتهذيب الكمال (35/ 227 - 236 الترجمة 7885).
يدعو لواضعه في هذا الكتاب بالعفو والمسامحة والأخوة الصالحة، انتهى قاله في تاريخ كنز الدرر
(1)
.
قوله: عن عائشة أيضًا، تقدم الكلام على مناقبها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة" الحديث، قال العُلماء مشروط بالإخلاص، فإن بنى بغير إخلاص أو على غير وجه مرضي فلا ثواب له ولا تعبد الله به وإن كان على ظاهر الشرع، حكم عمل المساجد من الاحترام والتعظيم وغير ذلك لأن النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى وكذلك النقط والخيانق والقناطر والمطاهر وكل بناء فإنه مشروط بذلك، قاله في شرح الإلمام.
423 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن مِمَّا يلْحق الْمُؤمن من عمله وحسناته بعد مَوته علما علمه ونشره أَو ولدا صَالحا تَركه أَو مُصحفا وَرثهُ أَو مَسْجِدا بناه أَو بَيْتا لِابْنِ السَّبِيل بناه أَو نَهرا أجراه أَو صَدَقَة أخرجهَا من مَاله فِي صِحَّته وحياته تلْحقهُ من بعد مَوته" رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَاللَّفْظ لَهُ وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ وَإسْنَاد ابْن مَاجَه حسن
(2)
وَالله أعلم.
(1)
كنز الدرر (3/ 110 - 111).
(2)
أخرجه ابن ماجه (242)، وابن خزيمة (2490)، والبيهقى في الشعب (5/ 121 - 122 رقم 3174). وحسنه الألباني في المشكاة (254) وصحيح الترغيب (77) و (112) و (275).
قوله: عن أبي هريرة، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره" الحديث، تقدم الكلام على هذا الحديث في العلم مبسوطا.
خاتمة: قال ابن الأثير في النهاية في حديث أبي هريرة: "إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" هو بالفتح الهلاك
(1)
انتهى.
(1)
النهاية (2/ 98).