الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترهيب من الدعوى في العلم والقرآن
226 -
عَن أبي بن كعْب رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَامَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فِي بني إِسْرَائِيل فَسئلَ أَي النَّاس أعلم فَقَالَ أَنا أعلم فعتب اللّه عَلَيْهِ إِذْ لم يرد الْعلم إِلَيْهِ فَأوحى اللّه إِلَيْهِ أَن عبدًا من عبَادي بمجمع الْبَحْرين هُوَ أعلم مِنْك قَالَ: يَا رب كيفَ بِهِ فَقيل لَهُ احْمِلْ حوتًا فِي مكتل فَإِذا فقدته فَهُوَ ثمَّ فَذكر الحَدِيث فِي اجتماعه بالخضر إِلَى أَن قَالَ فَانْطَلقَا يمشيان على سَاحل الْبَحْر لَيْسَ لَهما سفينة فمرت بهما سفينة فَكَلمُوهُمْ أَن يحملوهما فَعرف الْخضر فحملوهما بِغَيْر نول فجَاء عُصْفُور فَوَقع على حرف السَّفِينه فَنقرَ نقرة أَو نقرتين فِي الْبَحْر فَقَالَ الْخضر يَا مُوسَى مَا نقص علمي وعلمك من علم اللّه إِلَّا كنقرة هَذَا العصفور فِي هَذَا الْبَحْر فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَفِي رِوَايَة بَيْنَمَا مُوسَى يمشي فِي مَلأ من بني إِسْرَائِيل إِذْ جَاءَهُ رجل فَقَالَ لَهُ هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك قَالَ مُوسَى لا فَأوحى اللّه إِلَى مُوسَى بل عَبدنَا الْخضر فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ. الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا
(1)
.
قوله: عن أبي بن كعب، أبي بضم الهمزة وفتح الباء الموحّدة بن المنذر الأنصاري الخزرجي النجاري، روي له عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة وستون حديثًا، ذكر البخاري منها سبعة أحاديث، وكان رضي الله عنه رجلًا
(1)
أخرجه البخارى (4725) و (4726) و (4727) و (7478)، ومسلم (170 و 171 و 172 و 173 و 174 - 2380)، والترمذى (3149)، وابن حبان (6220).
قصيرًا نحيفًا أبيض الرأس واللحية، شهد العقبة الثانية وبدرا وما بعدها من المشاهد، وكان رضي الله عنه. كاتب الوحي وهو أحد الستة الذي حفظوا القرآن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهد رسول اللّه أيضًا وأقرأ الصحابة لكتاب اللّه
(1)
.
فائدة: في الذين حفظوا القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نظم ذلك بعض الفضلاء في بيتين فقال:
ومن حفظ القرآن وقت نبينا
…
بغير خلاف ستة بالهدى بانوا
أبي وأبو الدرداء زيد بن ثابت
…
أبو زيد الأنصاري معاذ وعثمان
فائدة أخرى: في الذين كانوا يفتون في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر من أصحابه، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وحذيفة وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وسلمان وأبو موسى الأشعري
(2)
، قاله في الكافي.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أَن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إن اللّه
أمرني أن أقرأ عليك القرآن"، قال: سماني اللّه لك؟ قال: "نعم" قال: وقد ذكرت عند رب العزة، قال: "نعم" فذرفت عيناه
(3)
، الحديث، ذرفت: بفتح
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 108 - 110 الترجمة 44).
(2)
انظر كشف المشكل (2/ 147) لابن الجوزى.
(3)
أخرجه البخارى (3809) و (4959) و (4960)، ومسلم (245 و 246 و 121 و 122 - 799).
الراء أي سال منها الدمع، والبكاء للسرور والفرح، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة منها: استحباب قراءة القرآن على الحذاق فيه وأهل العلم به والفضل وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه، ومنها: المنقبة الشريفة لأبي بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا يعلم أحدًا من الناس شاركه في هذه المنقبة، واختلفوا في الحكمة في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعليم والقراءة على من دونه في المنزلة، وقيل: لأن أبيًا كان أسرع أخذًا لألفاظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ويعلم غيره، وقيل: للتنبيه على جلالة أبي وأهليته لأخذ القرآن عنه فكان يعده صلى الله عليه وسلم رأسًا وإمامًا في إقراء القرآن، ومنها: ذكر اللّه تعالى له ونصه في هذه المنزلة الرفيعة، ومنها: البكاء للسرور والفرح بما يسر الإنسان به ويعطاه من معالى الأمور، وأما قوله رضي الله عنه: أسماني اللّه لك؟ إنما سأل أبي رضي الله عنه عن تسمية اللّه تعالى له لجواز أن يكون اللّه تعالى أمره أن يقرأ على رجلٍ من أمته ولم يعينه فأراد أبي أن يتحقق هل نص عليه أو قال: على رجل، فيؤخذ منه: الاستثبات في المحتملات، وفي رواية عن أنس بن مالك أيضًا أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لأبي: "إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}
(1)
" قال: وسماني اللّه لك؟ قال: "نعم" فبكى أبي رضي الله عنه، وإنما خص هذه السورة بالقراءة على أبي لكونها
(1)
سورة البينة، الآية:1.
وجيزة جامعة لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته، والإخلاص وتطهير القلب وذكر معادهم من الجنة والنار وتقسيمهم إلى السعداء والأشقياء وخير البرية وشرهم وأحوالهم قبل البعثة وبعدها مع وجازة السورة فإنَّها من قصار المفصل، وكان الوقت يقتضي الاختصار
(1)
، واللّه أعلم، سماه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار وسماه عمر سيد المسلمين، توفي رضي الله عنه سنة تسع عشرة أو عشرين أو ثلاثين بالمدينة، ومناقبه كثيرة مشهورة، تقدم بعضها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "قام موسى صلى الله عليه وسلم خطيبًا في بني إسرائيل" الحديث، هو: موسى بن عمران لا موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب عليه السلام لما روي أنه قيل لابن عباس رضي الله عنه إن فلانًا يزعم أن الخضر ليس صاحبه موسى بن عمران وإنما صاحبه موسى بن ميشا، فقال: كذب عدو اللّه، انتهى، واعلم أن لابن عباس في قصة موسى والخضر تماريين، تمار بينه وبين الحر [بن قيس] في صاحب موسى أهو الخضر أم غيره؟ وتمار بينه وبين نوف البكالي أي في موسى أهو موسى بن عمران أم غيره
(2)
.
نوف البكالي: بفتح النون وسكون الواو وبالفاء، ونوف هذا هو ابن فضالة بن رشيد، وفضالة بفتح الفاء والضاد المعجمة أبو يزيد القاص البكالي
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 86).
(2)
انظر الكواكب الدرارى (2/ 47)، وفتح البارى (1/ 169)(8/ 413) وهدى السارى (1/ 314).
الحميري، ينسب إلى بني بكال بكسر الباء وتخفيف الكاف، وقيل: البكالي بفتح الموحّدة وبتشديد الكاف، كان يهوديًّا في جملة من تهود من حمير فأسلم وحسن إسلامه، سكن الشام وسمع الحديث وأتى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسمع الحديث منهم وأسنده عنهم، منهم: عبد اللّه بن عمرو بن العاصي وثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن امرأت كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه وهو منصرف في اللغة الفصيحة وفي بعضها غير منصرف وكتب بدون الألف، وكان يقص بالكوفة وغيرها، انتهى، قاله صاحب العلم المشهور
(1)
.
قال ابن بطال
(2)
: وفيه جواز التماري في العلم إذا كان كلّ واحد يطلب الحقيقة ولم يكن متعنتًا، وفيه الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع.
تنبيه: في قول ابن عباس: كذب عدو اللّه، فإن قلت: كيف يكون عدو اللّه وهو مؤمن وكان عالمًا قاصًا إمامًا لأهل دمشق، قلت: قال العُلماء: قاله على وجه التغليظ والزجر عن مثل قوله لا إنه يعتقد أنه عدو اللّه وكذبه حقيقة إنما قاله مبالغة في إنكاره وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة الإنكار، وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا يراد بها حقا يقينًا، انتهى، قاله الكرماني
(3)
.
(1)
هو أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي المعروف بابن دحية الكلبى وكتابه هو العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور وكلامه في (44) وانظر الكواكب الدرارى (2/ 140).
(2)
شرح الصحيح (1/ 160).
(3)
الكواكب الدرارى (2/ 141).
وقال صاحب العلم المشهور وهو ابن دحية الكلبي: وإنما كذبه ابن عباس لأنه خالف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
(1)
، انتهى.
قوله: "في بني إسرائيل"، بنو إسرائيل هم أولاد يعقوب عليه السلام، وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم، ومعناه: في لسانهم صفوة اللّه، وقيل: عبد اللّه
(2)
.
فائدة: بنو إسرائيل ذرية يعقوب عليه السلام، ويعقوب إسرائيل اللّه وهو اسم أعجمي، فمعناه: عبد اللّه كما تقدم.
قال السهيلي: سمي إسرائيل لأنه أسري ذات ليلة حين هاجر إلى اللّه فسمي إسرائيل أي: سرى إلى اللّه
(3)
، قال وهب: دخل يعقوب وولده مصر وهم اثنان وتسعون إنسانًا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى وهم ستمائة ألف مقاتل وخمس مائة وبضع وسبعون رجلًا سوى الذرية والزمنى وكانت الذرية ألف ألف سوى المقاتلة وأقام يعقوب عليه السلام بمصر بعد موافاته بأهله وولده أربع وعشرين سنة ثم حضرته الوفاة، فلما احتضر جمع بنيه فقال: ما تعبدون من بعدي، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ثم قال: يا بني إن اللّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ومات هو وأخوه العيص في يوم واحد، وعمرهما جميعًا
(1)
العلم المشهور (خ/ 44).
(2)
الكشاف (1/ 130).
(3)
تفسير القرطبى (1/ 331).
مائة وسبعون وأربعون سنة، وكانا في بطن واحدة
(1)
، وقال ابن عباس: كلّ الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم
(2)
، انتهى، قاله في الديباجة.
قوله: "فسئل: أي الناس أعلم؟ " يعني: أي شخص من أشخاص الإنسان أعلم من غيره.
قوله: "فقال: أنا" قال ذلك بسبب اعتقاده، وإلا فكان الخضر أعلم منه كما صرح به في هذا الحديث بقوله: فأوحى اللّه تعالى إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قوله: "فغضب اللّه عليه" إذ لم يرد العلم إليه، أي: إلى اللّه تعالى، وفي بعضها إلى اللّه أي كان حقه أن يقول: اللّه أعلم، فإن مخلوقات اللّه تعالى لا يعلمها إلا هو قال اللّه تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}
(3)
ويجوز في يرد العلم وفي أمثاله ضم الدال وفتحها وكسرها
(4)
.
تنبيه: في قوله: "فعتب اللّه عليه" معناه: في هذا الحديث لوم اللّه تعالى له وهو أخذته إياه وتعنيفه بالكلام الموحى إليه حين قال ما قال، وأهل العتب
(1)
انظر المصدر السابق (9/ 268).
(2)
المصدر السابق (2/ 141).
(3)
سورة المدثر، الآية:31.
(4)
الكواكب الدرارى (2/ 141).
في اللغة الموحّدة يقال: عتبت عليه عتبًا وعتابًا ومعتبةً بفتح الميم والتاء، وقد تكسر، وعاتبته معاتبة وعتبا أيضًا إذا واخذته بما في نفسك من الموجدة التي كانت عن جنايته ومن أجله، وأعتبته عتابًا وعتبى بالضم مقصورًا إذا أرضيت من موجدته عليك، ومنه: قوله لعله يستعتب أي يعترف ويلوم نفسه ويعتبها، قاله عياض، وقد تكون بمعنى السخط والغضب لكن في غير حديث موسى على نبينا وعليه السَّلام
(1)
، انتهى، قاله في العلم المشهور
(2)
.
قوله: "فَأوحى اللّه إِلَيْهِ إن عبدا من عبَادي بمجمع البحرين هو أعلم منك" بكسر إن لأن الإيحاء فيه معنى القول، ومجمع البحرين قيل: هما بحرا فارس والروم فبحر فارس مما يلي المشرق، قاله قتادة، وبحر الروم مما يلي المغرب، وقيل: هما بحر الكر والرس بديار أرمينية، وقيل: هما بحرا الأردن وبحر القلزم، وقيل: مجمع البحرين طنجة آخر ساحل المغرب الآتي من أفريقية ومن جميع الجهات ليس بعدها سوى البحر، وقيل: الزقاق وركوبه لا يستطاع ولا تطاق أمواجه كأنها الجبال وقعره لا يدرك ولا ينال، وقيل: إن اجتماع موسى عليه السلام بالخضر عليه السلام تحت جبل يعرف بجبل الخلفا بموضع يعرف الآن بماء الحياة على مقربة من مدينة سبتة
(3)
.
(1)
انظر إكمال المعلم (7/ 366)، ومطالع الأنوار (4/ 371).
(2)
العلم المشهور (لوحة 46).
(3)
انظر تفسير القرطبي (11/ 9)، وحياة الحيوان (1/ 381)، وعمدة القارى (2/ 59)، والعلم المشهور (لوحة 41 و 42).
قال ذو النسبين ابن دحية الكلبي مصنف العلم المشهور: وقد وقفت عليه ومشيت على ذلك الساحل والناس يحفرون في الرمل فيستخرجون ماء حلوا عذبًا فراتا، والعجيب أن موج البحر الملح يضرب عليه، ومن ذلك الموضع يجازى الزقاق إلى جزيرة الأندلس
(1)
، انتهى، وقيل: البحران موسى والخضر كانا بحرين في العلم
(2)
.
قوله: "قال: يا رب، كيف به؟ " أي: وكيف الاجتماع به؟
قوله: "فقيل: احمل حوتا" الحوت السمكة وكانت سمكة مالحة كما صرح به في بعض الروايات.
تنبيه: وجمع الحوت أحوات وحوتة وحيتان، قال اللّه تعالى:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ}
(3)
وهذا يمكنه أن يقع من الحوت بإرسال من اللّه كإرسال السحاب أو بوحي والهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم نحو ما يشعر اللّه الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقًا من قيام الساعة" الحديث ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعورًا بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة، قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن
(1)
العلم المشهور (لوحة 41 و 42).
(2)
انظر تفسير القرطبي (11/ 9).
(3)
سورة الأعراف، الآية:163.
أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته، وقيل: يغيب أكثر فلم يبق منه إلا القليل، والقصة في ذلك مشهورة
(1)
.
فائدة: فيها أعجوبة قال أبو حامد الأندلسي: رأيت سمكة بمدينة سبتة من نسل الحوت الذي أكل منه موسى صلى الله عليه وسلم وفتاه أي: صاحبه وهو يوشع بن نون (وإنما قيل فتاه: لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ العلم منه) وأحيا الله نصفه فاتخذ سبيله في البحر سربًا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبرا واحدًا أحد جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها وعينها ورأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة، قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك، قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصص هذه الآية: ما مست شيئا قط إلا حيي، قال: ومن غريبه أيضًا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجرًا طريقًا وأن موسى عليه السلام مشى عليه تبعا للحوت حتى أفضى به ذك الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها: وجد موسى الخضر، وكان أبو الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى عليه السلام للمناجاة لم يحتج للطعام، ولما مشى لبشر لحقه الجوع
(2)
، انتهى، قاله صاحب العلم المشهور.
(1)
حياة الحيوان (1/ 378).
(2)
حياة الحيوان (1/ 380 - 381).
سؤال: إن قيل: لمَ لمْ يجع موسى عليه السلام في أربعين ليلة وهو قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}
(1)
وصبر، ولم يصبر نصف يوم حتى قال:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}
(2)
والنصب: التعب.
قيل: لأن سفر الخضر سفر تأديب فزاد البلاء على البلاء حتى جاع في أقل من نصف يوم، وحضوره الجبل سفر اللقاء فأنساه هيبة الموقف الطعام والشراب، قاله ابن العماد في كتابه كشف الأسرار
(3)
.
أعجوبة: روى الإمام أحمد بن حنبل في الزهد عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ وَرَجُلٌ كَافِرٌ يَصِيدَانِ السَّمَكَ فَجَعَلَ الْكَافِرُ يُلْقِي شَبَكَتَهُ وَيَذْكُرُ آلِهَتَهُ فَيَجِيءُ مُدَفَّقًا، ويُلْقِي الْمُؤْمِنُ وَيَذْكَرُ اللهَ عز وجل فَلَا يَجِيءُ شَيْءٌ قَالَ: فتعَاوَدَا ذَلِكَ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ صَادَ سَمَكَةً فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَاضْطَرَبَتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فَرَجَعَ الْمُؤْمِنُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَرَجَعَ الْكَافِرُ وَقَدِ امْتَلأَتْ سَفِينَتُهُ، فَأَسِفَ مَلَكُ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: رَبِّ عَبْدُكَ هَذَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَدْعُوكَ رَجَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَعَبْدُكَ الْكَافِرُ رَجَعَ وَقَدِ امْتَلأَتْ سَفِينَتُهُ، قَالَ اللهُ عز وجل لِمَلَكِ الْمُؤْمِنِ: تَعَالَ فَأَرَاهُ
(1)
سورة الأعراف، الآية:142.
(2)
سورة الكهف، الآية:62.
(3)
كشف الأسرار (لوحة 31).
مَسْكَنَ الْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: مَا يَضُرُّ عَبْدِيَ الْمُؤمِنَ مَا أَصَابَهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى هَذَا، وَأَرَاهُ مَسْكَنَ الْكَافِرِ فِي النَّارِ فَقَالَ: هَلْ يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ لا أَصَابَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ.
أعجوبة أخرى: في آخر صفوة الصفوة
(1)
عن أبي العباس بن مسروق قال: كنت باليمن فرأيت صيادًا يصطاد السمك على بعض السواحل وإلى جانبه ابنة له كلما اصطاد سمكة فتركها في درخلة معه ردتها الصبية إلى الماء فالتفت الرجل فلم يجد شيئًا، فقال: يا بنية، أي شيء عملت بالسمك؟ قالت: يا أبت أليس سمعتك تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقع سمكة في شبكة إلا إذا غفلت عن ذكر الله تعالى"، فلم نحب أن نأكل شيئًا غفل عن ذكر الله تعالى فبكى الرجل ورمى بالصنارة، انتهى، قاله الكمال الدميري في كتابه حياة الحيوان
(2)
. قوله: "في مكتل" المكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق وهو القفة الكبيرة، وتجمع على مكاتل، وقيل: المكاتل القفاف، وقيل: المكتل شبه الزنبيل، قال ابن وهب: المكتل تسع من خمسة عشر صاعًا إلى عشرين، وكذا قاله عياض، وقيل: هو خرج من سعف أو حلفا يحمل على الدابة، قال ابن دريد سمى زنبيلا، لأنه يحمل به، والزبل هو العرق المذكور في حديث الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان فأتى بعرق وهو بفتح العين المهملة
(1)
صفة الصفوة (2/ 535).
(2)
حياة الحيوان (2/ 41).
والراء، هذا الصواب المشهور في الرواية واللغة، وكذا حكاه القاضي عن رواية الجمهور، ثم قال: ورواه كثير من شيوخنا فوهم بإسكان الراء وليس بشيء وهو جمع عرقة وهي الضفيرة من الخوص يصنع منها القف وغيرها، قاله في العلم المشهور
(1)
، والفرق عن الفقهاء ما يتسع خمسة عشر صاعا وهي ستون مدا، والله أعلم.
قوله: "فإذا فقدته" أي: ذهب منك.
قوله: "فهو ثمَّ"، هو بفتح الثاء المثلثة أي: هناك إشارة إلى المكان.
تنبيه: جعل الله تعالى الحوت له آية أي علامة لمكان الخضر ولقائه ولذلك أنه لما قال موسى: أين أطلبه؟ قال الله عز وجل على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك، فقيل: أخذ سمكة مملوحة، وقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني وكان يمشي ويتبع أثر الحوت، أي: ينتظر فقدانه، فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر.
قيل: إن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء؛ ويوشع: بضم الياء التحتانية وبفتح الشين المعجمة وإهمال العين ابن نون
(1)
العلم المشهور (لوحة 46).
وهو مصروف كنوح، وإنما قيل فتاه: لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ العلم منه، انتهى، قاله الكرماني
(1)
.
قوله: "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر" أي: يطلبان السفينة.
قوله: "فمرت بهما سفينة" فكلموهم أن يحملوهما فعرف الخضر فحملوهما بغير نول هو بفتح النون أي بغير جعل ولا أجر، والنول والنوال بالواو العطاء، والمنال والمنالة الجعل، والنيل بالياء النوال، قاله عياض
(2)
، والفعل منه نلته ونولته: بمعنى أعطيته، وفي رواية:"فحملوهما بغير أجر"، والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد وهو الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبطه، وقيل: في ضبطه غير ذلك، وإنما سمى الخضر خضرًا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا تهتز من خلفه خضراء.
والفروة بالفاء والراء المهملة، قال ابن الأثير
(3)
: هي الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، وقيل: قطعة من حشيش يابس، قاله الحربي، وقال عبد الرزاق: هي الأرض اليابسة يعني الهشيم
(4)
.
وقوله: فإذا هي تهتز من تحته خضراء، يقال: اهتزت الأرض إذا أنبتت، واهتز النبات إذا طال وهزته الريح، قاله الخليل بن أحمد، وقال غيره:
(1)
الكواكب الدرارى (2/ 46 - 47).
(2)
مشارق الأنوار (2/ 32).
(3)
النهاية (3/ 441).
(4)
مشارق الأنوار (2/ 154).
تحركت بالنبات عند وقوع المطر عليها
(1)
، وهذا من آيات الخضر أنه يجلس على الأرض لا نبات فيها فتنبت لحينها، وعلى حشيش يابس فيخضر من ساعته
(2)
.
وقوله: خضراءً على وزن فعلاء، ومنهم من رواه: خضرًا بفتح الخاء وكسر الضاء، أي: نباتًا أخضر غضا ناعمًا، وفي رواية: خضيرًا وكلاهما صحيح
(3)
.
وكنية الخضر أبو العباس، واختلفوا في اسمه اختلافا كثيرًا، فقيل: اسمه عامر حكاه أبو جعفر النسابة، وقال ابن منبه: اسمه إيليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن ثالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: اسمه خضرون بن قابيل بن آدم عليه السلام، وقيل: هو من ولد عيص بن إسحاق وأن أباه ملكا عظيمًا في حكاية يطول ذكرها، وقيل: هو أرميا، وأغرب ما روي في ذلك قول من قال إنه ابن فرعون صاحب موسى على نبينا وعليه السلام، ذكره النقاش في تفسيره، وحكى أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب في تأليفه في أخبار مصر وفضائلها، فذكر الخضر وأنه من فرعون موسى لصلبه، وكان آمن بموسى ولحق به مع من لحق من بني إسرائيل
(4)
، وقيل: من أبناء الملوك
(1)
مشارق الأنوار (2/ 268).
(2)
العلم المشهور (لوحة 39).
(3)
مطالع الأنوار (2/ 468 - 469).
(4)
العلم المشهور (لوحة 39) وانظر حياة الحيوان (1/ 238) وقصص الأنبياء (2/ 217 - 218).
الذين زهدوا في الدنيا، وكان في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقى إلى أيام موسى، قاله جار الله
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة" الحديث، العصفور: بضم العين، وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب: والشذوذ عصفور بالفتح والأنثى عصفورة، قال حمزة: سمي عصفورًا لأنه عصى وفر وهو أنواع منها ما هو مطرب بصوته ويعجب بصوته وحسنه ويتميز الذكر منها بلحية سوداء كما للرجل والتيس والديك، وليس في الأرض طائر ولا سبع ولا بهيمة أحنى من العصفور على ولده ولا أشد له عشقا، وذلك مشاهد عند أخذ فراخها، ووكره في العمران تحت السقوف خوفا من الجوارح، وإذا خلت مدينة عن أحلها ذهبت العصافير منها، فإذا عادوا إليها عادت العصافير.
تنبيه: روى البيهقي وابن عساكر بسندهما إلى أبي مالك قال: مَرَّ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ لَهَا؟ قَالُوا: لَا يَا نَبِيَّ اللهِ. قَالَ: إنَّهُ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ وَيَقُولُ لَهَا زَوِّجِينِي نَفْسَك أُسْكِنُكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَذَبَ الْعُصْفُورُ فَإِنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصُّخُورِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِنَهَا هُنَاكَ، وَلَكِنْ كُلُّ خَاطِبٍ كَاذِبٌ. وكان سليمان عليه السلام يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها، قال الله سبحانه وتعالى حكاية عنه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ
(1)
تفسير الكشاف (2/ 731)، وانظر تاريخ الرسل والملوك (1/ 365 - 366).
الطَّيْرِ} [النمل: 16] وكذلك كان يعرف لغات ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات والله أعلم قاله في حياة الحيوان
(1)
.
قوله: "فنقر" أي: العصفور "نقرة أو نقرتين في البحر" فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في هذا البحر، الحديث، قال العلماء رضي الله عنهم: لفظ النقص هنا ليس على ظاهره وإنما معناه: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر، وهذا على التقريب إلى الأفهام وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر، أي: إن علم الله تعالى لا يدخله نقص، وإنما المقصود بذلك التمثيل بعدم النقص إذ كان نقصه العصفور من البحر لا يظهر لرائيه فكأنه لم ينقص منه شيئا فكذلك هذا في علم الله تعالى، وذكر النقص هنا مجاز على كل وجه ومحال في علم الله تعالى ومعلوماته في حقه سبحانه وتعالى، وإنما يتصور في حقنا، وقد جاء في رواية البخاري: ما علمي وعلمك في نجب علم الله تعالى إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره، أي: جنب معلوم الله تعالى، وقد يطلق العلم بمعنى المعلوم وهو من إطلاق المصدر ولإرادة المفعول كقولهم: درهم ضرب السلطان، أي: مضروبه، وقد جاء في طرق الروايات الصحيحة:"ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار غمس هذا العصفور بمنقاره"
(2)
.
(1)
تاريخ دمشق (23/ 232) وحياة الحيوان (2/ 160 - 161). والبداية والنهاية (2/ 324).
(2)
شرح النووي على مسلم (15/ 141 - 142).
قال الإمام فخر الدين الرازي
(1)
: نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك إلى كلية ذلك الماء مسبة متناه إلى غير متناه، فأين إحدى النسبتين من الأخرى، انتهى.
قوله: وفي رواية: "بينا موسى يمشي في ملأ من بني إسرائيل" الملأ بالقصر الجماعة، وهذه القصص التي أخبر الله تعالى بها محمدًا صلى الله عليه وسلم عن موسى وصاحبه الخضر عليهما الصلاة والسلام تأديب منه له، وفي هذا الحديث فضل عظيم للخضر لأن كليم الله موسى عليه السلام ذهب في الساعة ليتعلم من علمه مع عظم شأنه في أنبياء الله.
تنبيه: في قوله تعالى في قصة الخضر وموسى عليهما السلام أيضًا: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] أي: دهرًا وزمانًا غير محدود بل يسير أبدًا، وقال ابن عمر: الحقب ثمانون سنة، وقال مجاهد: سبعون سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون، وأقل ما قيل فيه أن الحقب سنة
(2)
، فهذا نبي الله وصفيه وأشرف الخلق نفسًا وأكملهم عقلًا وأوفاهم عصمة، أعني في زمانه أجمع على أن يمشي طول عمره في طلب زائد علم لا يجب عليه فكيف بطلب علم واجب تفتقر الشريعة إليه، والله أعلم.
(1)
مفاتيح الغيب (21/ 478 - 479).
(2)
انظر تفسير القرطبي (11/ 11) و (19/ 177 - 178).
وحديث الخضر هذا يشتمل على فوائد كثيرة منها: وجوب التواضع لأن الله تعالى عاتب موسى عليه الصلاة والسلام حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه، ومنها: استدل العلماء بسؤال موسى السبل إلى لقاء الخضر عليه السلام على استحباب الرحلة في طلب العلم واستحباب الإكثار منه، ومنها: أنه يستحب للعالم الرغبة في التزيد من العلم والحرص عليه ولا يقنع بما عنده وإن كان من العلم بمحل عظيم أن يأخذ ممن هو أعلم منه ويسعى إليه في تحصيله كما لم يكتف موسى عليه السلام بعلمه، ومنها: حمل الزاد وإعداده للسفر بخلاف قول السادة الصوفية، ومنها: الأدب مع العالم وحرمة المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفة عهدهم، ومنها: إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول الخضر ولي، ومنها: جواز سؤال الطعام عند الحاجة وجواز الإجارة وجواز إجارة السفينة وجواز ركوب السفينة والدابة وسكنى الدار ولبس الثوب ونحو ذلك بغير أجرة برضا صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فحملوهما بغير نول"، ومنها: أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجته ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروءات الأصحاب وحسن العشرة ودليله حمل فتاه غداءهما، والله أعلم، ومنها: الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (15/ 142 - 147) باختصار.
227 -
وَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "يظْهر الْإِسْلام حَتَّى تخْتَلف التُّجَّار فِي الْبَحْر وَحَتَّى تخوض الْخَيل فِي سَبِيل الله ثمَّ يظْهر قوم يقرؤون الْقُرْآن يَقُولُونَ من أَقرَأ منا من أعلم منا من أفقه منا ثمَّ قَالَ لأصحابه هَل فِي أُولَئِكَ من خير وَقَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ أُولَئِكَ مِنْكُم من هَذِه الْأمة وَأُولَئِكَ هم وقود النَّار". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأوْسَط وَالْبَزَّار بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ
(1)
وَرَوَاهُ أَبُو يعلى وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضًا من حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب
(2)
.
قوله: عن عمر بن الخطاب، تقدم الكلام على بعض مناقبه مبسوطا، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يظهر الإسلام حتى يختلف التجار في البحر" التجار بكسر التاء مع تخفيف الجيم وبضم التاء مع تشديد الجيم جمع تاجر، قاله في الصحاح.
(1)
أخرجه البزار (283)، والطبراني في الأوسط (6/ 221 رقم 6242). قال البزار: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن زيد بن أسلم إلا خالد بن يزيد العمري. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 176: رواه الطبراني في الأوسط والبزار، ورجال البزار موثقون. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (135).
(2)
أخرجه ابن أبي عمر كما في إتحاف الخيرة (1/ 250 رقم 380/ 1)، وابن أبي شيبة كما في إتحاف الخيرة (1/ 250 رقم 380/ 3)، وإسحاق كما في اتحاف الخيرة (1/ 250 رقم 380/ 2)، والبزار (1323)، وأبو يعلى (6698)، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات (284) و (299). وقال الهيثمي في المجمع 1/ 185 - 186: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (136).
قوله: عن ابن عباس، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال: "اللهم هل بلغت" ثلاث مرات، الحديث؛ معنى الحديث، والله أعلم، التبليغ واجب عليَّ، وقد بلغت فاشهد لي به، قال ابن بطال
(1)
: لما أخذ الله تعالى على أنبيائه الميثاق في تبليغ دينهم لأممهم وجعل العلماء ورثة الأنبياء وجب عليهم أيضًا التبليغ والنشر حتى يظهر على جميع الأديان وكان في عصره صلى الله عليه وسلم فرض عين، وأما اليوم فهو فرض كفاية لانتشار الدين وعمومه.
قوله: فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أواها فقال: اللهم ونعم وحرضت وجهدت ونصحت، اختلفوا في معنى الأواه الذي جاء في الحديث، الأواه: الخاشع المتضرع
(2)
، وقال ابن مسعود: الأواه الدعاء، وعليه أكثر المفسرين، وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال كعب الأحبار: الأواه الذي يكثر التأوه، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: آه من النار قبل أن لا ينفع آه، وقيل: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله عز وجل، قيل: هو الخائف من النار، وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء، قاله البغوي
(3)
، وقيل: الأواه الرجاع، وقيل: المراد بالأواه الحزين الذي غلب عليه الخوف
(1)
شرح الصحيح (1/ 179).
(2)
قاله عبد الله بن شداد كما في تفسير الطبرى (12/ 42) وتفسير ابن أبي حاتم (6/ 1895).
(3)
تفسير البغوى (4/ 102 - 103).
وكأنه اشتق من التأوه وهو التوجع يطلق لفظ الأواه عليه لكثرة قوله آه، ويقال: رقيق القلب ويقال: موقن، وقال أبو عبيدة: الأواه المتأوه شفقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة
(1)
، وقال الأزهري: الأواه الكثير التأوه خوفا من الله تعالى
(2)
؛ سؤال: فإن قيل: ما الحكمة؟ وما معنى التأوه الذي سمى الله به إبراهيم، فقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}
(3)
؟ الجواب عنه: أن يقال إن الله سبحانه وتعالى سماه أواها من كثرة ما ينوح على نفسه، والثاني: ما قيل إن الأواه الدعاء وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر الناس دعاء فكذلك سماه أواهًا، الثالث: الأواه: الخائف كما تقدم فلما كان إبراهيم أشد الناس خوفا سماه أواها، الرابع: ما قيل إن الأواه السيد وهو ما روي أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سيد، فقال: ذاك أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فلذلك سماه أواهًا، والله اعلم، قاله في كشف الأسرار.
228 -
وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَامَ لَيْلَة بِمَكَّة من اللَّيْل فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَل بلغت ثَلَاث مَرَّات فَقَامَ عمر بن الْخطاب وَكَانَ أواها فَقَالَ اللَّهُمَّ نعم وحرضت وجهدت وَنَصَحْت فَقَالَ لَيظْهرَن الْإِيمَان حَتَّى يرد الْكفْر إِلَى مواطنه ولتخاضن الْبحار بالإس وليأتين على النَّاس زمَان يتعلمون فِيهِ الْقُرْآن يتعلمونه ويقرؤونه ثمَّ يَقُولُونَ قد قَرَأنَا وَعلمنَا
(1)
المصدر السابق.
(2)
شرح السنة (14/ 367).
(3)
سورة التوبة، الآية:114.
فَمن ذَا الَّذِي هُوَ خير منا فَهَل فِي أُولَئِكَ من خير قَالُوا يَا رَسُول الله من أُولَئِكَ قَالَ أُولَئِكَ مِنْكُم وَأُولَئِكَ هم وقود النَّار. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَإِسْنَاده حسن إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1)
.
229 -
وَعَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر رضي الله عنهما لَا أعلمهُ إِلَّا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من قَالَ إِنِّي عَالم فَهُوَ جَاهِل. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن لَيْث هُوَ ابْن أبي سليم عَنهُ وَقَالَ لا يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد
(2)
.
قَالَ الْحَافِظ وَسَتَأْتِي أَحَادِيث تنتظم فِي سلك هَذَا الْبَاب فِي الْبَاب بعده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قوله: عن مجاهد، هو: مجاهد بن جبر بفتح الجيم وإسكان الموحدة وبالراء أبو الحجاج المكي المقرئ المفسر الإمام مولى السائب بن أبي السائب المخزومي رأى ابن عباس وقرأ عليه القرآن ثلاثين مرة، وروى عن عائشة وأم سلمة وأبي هريرة وغيرهم، قال ابن معين وأبو زرعة وغيرهما: ثقة، وقال ابن عمر له: وددت أن نافعًا حفظ حفظك، وقال الأعمش: ما لهم
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 250 رقم 13019) عن أم الفضل وعبد الله بن عباس. قال الهيثمي في المجمع 1/ 186: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، إلا أن هند بنت الحارث الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ولا جرحها. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (137).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (7/ 59 رقم 6846). وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به: محمد بن كثير. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 186: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (112).
يتقون تفسير مجاهد، قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب، وقال: وكان لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، ذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت، وذهب إلى بابل وعليها وال صديق له، فقال: تعرض عليّ هاروت وماروت فدعا رجلا من الشجرة، فقال: اذهب بهذا، فقال: بشرط أن لا تدعو الله عندهما، قال مجاهد: وذهب بي إلى قلعة فقلع حجرًا، وقال: خذ برجلي فهوي به حتى انتهى إلى جفوة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين العظيمين فلما رأيتهما قلت: سبحان الله خالقكما فاضطربا فكأن جبال الدنيا تدكدكت فغضى علي وعلى اليهودي، ثم أفاق قبلي فقال: أهلكت نفسك وأهلكتني، مات رحمه الله سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع
(1)
، انتهى، قاله في شرح الإلمام.
قوله: عن ابن عمر، لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث، كان ابن عمر رضي الله عنه شديد الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبرك ناقته في تبرك ناقته صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبرك تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس، بل قل نظيره في المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وفي الزهد في الدنيا، وقال نافع: لما مات ابن عمر كان قد أعتق ألف إنسان أو أكثر من ذلك، وكان رضي الله عنه أكثر أكله مع المساكين، وكان لا توضع له مائدة إلا وعليها يتيم، وكان رضي الله عنه ثوبه إلى نصف الساق، وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة العشاء مع الجماعة أحيا بقية ليله، وسمع ابن عمر رجلا يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة فأراه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر،
(1)
تذهيب تهذيب الكمال (8/ الترجمة 6528).
فقال: هؤلاء، وكان رضي الله عنه إذا أتى المدينة أتى قبر النبي فسلم عليه ثم سلم على أبي بكر ثم سلم على عمر ثم يبكي ويقول: يا أبتاه يا أبتاه
(1)
، انتهى، قاله في مجمع الأحباب، وتقدم الكلام على مناقبه في أوائل هذا التعليق مبسوطًا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال إني عالم فهو جاهل" الحديث، كما قيل العالم عالم ما كان يرى نفسه أنه جاهل، فإذا رأى نفسه أنه عالم فقد جهل، بل مسترشد متعلم يقعد مع إخوانه يرشدهم ويسترشد منهم ويعلمهم ويتعلم منهم، انتهى.
قوله: رواه الطبراني عن ليث بن أبي سليم، هو: ليث بن أبي سليم، واسمه: (ليث بن أبي سليم بن أبي ذنيم الكوفي القرشي أبو بكير، مولاهم مولى عتبة أو عنبسة بن أبي سفيان، واسم أبي سليم أيمن، ويقال: أنس. روى ليث عن مجاهد، وطاووس، وعطاء بن أبي رباح، وابن الزبير، وابن أبي مليكة، والشعبي، وطلحة بن مصرف، وأبي بردة، وآخرين. روى عنه الثوري، وشعبة، وزائدة، وشريك، وزهير بن معاوية، والحسن بن صالح، وإسماعيل بن علية، وأبو إسحاق الفزاري، وآخرون. واتفق العلماء على ضعفه، واضطراب حديثه، واختلال ضبطه. توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة، رحمه الله تعالى
(2)
.
(1)
انظر ترجمته من حلية الأولياء (1/ 292 - 314).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 74 - 75 ترجمة 537).