الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترهيب من المراء والجدال - وهو: المخاصمة والمحاججة وطلب القهر والغلبة - والترغيب في تركه للمحق والمبطل
230 -
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ترك المراء وَهُوَ مُبْطل بني لَهُ بَيت فِي ربض الْجنَّة وَمن تَركه وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا وَمن حسن خلقه بني لَهُ فِي أَعْلَاهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن
(1)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوْسَط
(2)
من حَدِيث ابْن عمر وَلَفظه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنا زعيم بِبَيْت فِي ربض الْجنَّة لمن ترك المراء وَهُوَ محق وببيت فِي وسط الْجنَّة لمن ترك الْكَذِب وَهُوَ مازح وببيت فِي أَعلَى الْجنَّة لمن حسنت سَرِيرَته.
(1)
أخرجه أبو داود (4800)، والبيهقى في الآداب (322) والكبرى (10/ 420 رقم 21176) والشعب (7/ 194 رقم 4867 و 10/ 376 رقم 7653) عن أبي أمامة.
وحسنه الألباني في الصحيحة (273) وصحيح الترغيب (138) و (2648). وأخرجه الترمذي (1993)، وابن ماجه (51)، والبزار (6626) عن أنس بن مالك. وقال الترمذي: وهذا الحديث حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك. وضعفه الألباني في الضعيفة (1056).
(2)
أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير - السفر الثاني 2/ 923 (3946)، والطبراني في الأوسط (1/ 269 رقم 878) وقال: لم يرو هذه الأحاديث عن عبد الله بن عمر إلا عقبة، تفرد بها: عتيق. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 157: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عقبة بن علي، وهو ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (113) والضعيفة (5536).
ربض الْجنَّة: هُوَ بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالضاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَا حولهَا.
قوله: عن أبي أمامة، هو: الباهلي، واسمه: صدي بن عجلان، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك المراء وهو مبطل بني له ربض في الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها" الحديث، المراء: الجدال والتماري، والمماراة المجادلة على مذهب الشك، ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه، ويمتريه كما يمترى الحالب اللبن من الضرع
(1)
، وهو المنازعة في القول أو العمل أو الاعتقاد بقصد الباطل، فإن كان يقصد الحق فهو جدال، قال الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(2)
الآية، وحد المراء
(3)
: كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى، والباعث عليه إما الترفع بإظهار الفضل أو إلى تنقيص الغير، وإنما كان لتارك المراء وهو محق بيتا في الجنة لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب على المذاهب والعقائد، فإن المراء طبع فإذا ظن أن له عليه ثوابًا اشتد حرصه عليه، وينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعًا تلطف في نصحه في خلوة لا بطرق المجادلة فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه، قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله من كف
(1)
النهاية (4/ 322) وكشف المناهج (4/ 241).
(2)
سورة العنكبوت، الآية:46.
(3)
إحياء علوم الدين (3/ 117)، والأربعين في أصول الدين (ص 75) للغزالي.
لسانه عن أعراض الناس" وفي رواية: "رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه" قال هشام بن عروة: كان يردد عليه السلام قوله هذا سبع مرات، وكل من تعود أن يجادل الناس مدة وأثنى عليه الناس ووجد لنفسه بسبب ذلك عزا وقبولا تقوت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعًا إذا اجتمع عليه سلطان الكبر والغضب والرياء وحب الجاه والتقدم بالفضل، وآحاد هذه الصفات تشق مجاهدتها فكيف بمجموعها
(1)
.
ولما كان المراء أمره أصعب من ترك الكذب كان جزاء تاركه قصرا في وسط الجنة، "ومن تركه وهو محق بني له في وسطها" المحق: المتكلم بالحق يعني من ترك المجادلة مع أن ما يقوله حق استحق أن يسكن وسط الجنة
(2)
، وربض الجنة: بفتح الراء والباء الموحدة وبالضاد المعجمة وهو ما حولها، انتهى، قاله الحافظ المنذري، وقال ابن الأثير
(3)
: ما حولها خارجا عنها تشبيها بالأبنية التي تكون تحت المدن وتحت القلاع، وقال بعض العلماء أيضًا: ربض الجنة حواليها من داخلها لا من خارجها، والمراد بالبيت هنا القصر.
قوله: "ومن حسن خلقه بنى الله له في أعلاها" سيأتي الكلام على حسن الخلق في بابه مبسوطا إن شاء الله تعالى.
(1)
إحياء علوم الدين (3/ 118).
(2)
المفاتيح (5/ 179).
(3)
النهاية (2/ 185).
قوله صلى الله عليه وسلم في رواية الطبراني: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق" الحديث، قال أبو سليمان الخطابي
(1)
: الزعيم في اللغة هو الضامن والكفيل والزعامة الكفالة، والزعيم أيضًا الحميل، ومنه قوله عز وجل:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}
(2)
انتهى.
وفي حديث آخر: "الزعيم غارم"[الزعيم: الكفيل،] والغارم الضامن
(3)
، والكفيل أيضًا الضامن وكافل اليتيم القائم بأمره والكفالة الحمالة والكفيل والضمين، والزعيم بمعنى
(4)
.
قال الماوردي: غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال والحميل في الديات والزعيم في الأموال العظام والكفيل في النفوس
(5)
.
والكفيل من أسماء الله تعالى، قال الله تعالى:{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}
(6)
وأجمعت عليه الأمة
(7)
، ولهذا استدل البيهقي للكفالة بالبدن بحديث البخاري الذي فيه أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل
(1)
معالم السنن (4/ 110).
(2)
سورة يوسف، الآية:72.
(3)
النهاية (2/ 303).
(4)
كشف المناهج (2/ 109).
(5)
كفاية النبيه (10/ 121)، ومغني المحتاج (3/ 198).
(6)
سورة النحل، الآية:91.
(7)
الأسماء والصفات (1/ 173).
أن يسلفه ألف دينار، وفيه: فأتني بالكفيل، فقال: كفى بالله وكيلًا
(1)
، واستدل به الشيخ في المهذب بصحة الكفالة بالبدن، والمذهب صحة الكفالة بالبدن
(2)
وهي أنواع من الضمان لأن المضمون ينقسم إلى حق في الذمة وإلى عين وبصحتها قال الأئمة الثلاثة، وكافة العلماء مستدلين بقوله تعالى:{فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}
(3)
أي كفيلًا عنه، وبحديث الخشبة الذي يقدم، ولأن بالناس حاجة إليها كما في كفالة المال، فإذا تكفل ببدن من عليه مال لم يشترط العلم بقدره لأنه تكفل بالبدن لا بالمال، وقيل: يشترط بناء على أنه إذا مات غرم الكفيل ما عليه من الدين، والمذهب صحتها ببدن من عليه عقوبة لآدمي كقصاص وحد قذف، ومنعها في حدود الله تعالى كحد السرقة والخمر والزنا للأمر بسترها والسعي في إسقاطها ما أمكن، والله أعلم
(4)
.
قوله: "وببيت في الجنة لمن حسنت سريرته" السريرة ما يكتم عن الخلق، اعلم أنه لما كان المراء أمره أصعب من ترك الكذب كان جزاء تاركه قصرًا في وسط الجنة، وأما تحسين الخلق فإنه أعلى من ذلك رتبة وأعرق منزلة، فكان قصر صاحبه في أعلى الجنة، قال الله تعالى لأشرف المرسلين: {وَإِنَّكَ
(1)
السنن الكبرى (6/ 126) بوب عليه فقال: باب ما جاء في الكفالة ببدن من عليه حق ولفظ الحديث: قال: فأتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا.
(2)
المهذب (2/ 153).
(3)
سورة يوسف، الآية:78.
(4)
انظر المجموع (14/ 46 - 49)، وكفاية النبيه (10/ 166 - 168)، وكفاية الأخيار (1/ 368 - 369).
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}
(1)
والخلق بضم لامه وسكونها الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورتها الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع
(2)
.
قال الغزالي في الإحياء
(3)
: من الآفة الرابعة من آفات اللسان المراء والمجادلة بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره قال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنها ساعات جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته، وقيل: ما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلا بالجدل، وقال مالك بن أنس: ليس هذا الجدال من الدين بشيء، وقال أيضًا: المراء يقسي القلب ويورث الضغائن، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك، انتهى، قاله في الديباجة.
231 -
وَرُوِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي أُمَامَة وواثلة بن الْأَسْقَع وَأنس بن مَالك رضي الله عنهم قَالُوا خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَنحن نتمارى فِي شَيْء من أَمر الدّين فَغَضب غَضبا شَدِيدا لم يغْضب مثله ثمَّ انتهرنا فَقَالَ مهلا يَا أمة مُحَمَّد إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِهَذَا ذَروا المراء لقلَّة خَيره ذَروا المراء
(1)
سورة القلم، الآية:4.
(2)
النهاية (2/ 70).
(3)
الإحياء (3/ 116 - 117).
فَإِن الْمُؤمن لَا يُمَارِي ذَروا المراء فَإِن المماري قد تمت خسارته ذَروا المراء فَكفى إِثْمًا أَن لا تزَال مماريا ذَروا المراء فَإِن المماري لَا أشفع لَهُ يَوْم الْقِيَامَة ذَروا المراء فَأَنا زعيم بِثَلَاثَة أَبْيَات فِي الْجنَّة فِي رباضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وَهُوَ صَادِق ذَروا المراء فَإِن أول مَا نهاني عَنهُ رَبِّي بعد عبَادَة الْأَوْثَان المراء. الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير
(1)
عن أبي الدرداء وأبي أمامة ووائلة بن الأسقع وأنس بن مالك، تقدم الكلام على مناقبهم رضي الله عنهم.
قوله: قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدًا لم يغضب مثله ثم انتهرنا فقال: "مهلًا يا أمة محمد" الحديث، تقدم الكلام على المماراة في أول الباب وسيأتي الكلام على الغضب في بابه، وتقدم الكلام على تفسير الآية، وسيأتي الكلام عليها أيضًا مبسوطًا في الوضوء، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم:"ذروا المراء فإن المماري قد نمت خسارته" الحديث، النماء الزيادة.
232 -
وَعَن معَاذ بن جبل قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنا زعيم بِبَيْت فِي ربض الْجنَّة وببيت فِي وسط الْجنَّة وببيت فِي أَعلَى الْجنَّة لمن ترك المراء وَإِن كَانَ محقا وَترك الْكَذِب وَإِن كَانَ مازحا وَحسن خلقه". رَوَاهُ الْبَزَّار
(1)
أخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ 225 - 226)، والآجرى في الشريعة (111)، والطبراني في الكبير (8/ 152 رقم 7659). قال الهيثمي في المجمع 1/ 156 و 7/ 259: رواه الطبراني في الكبير، وفيه كثير بن مروان، وهو ضعيف جدًّا. وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (114).
وَالطَّبَرَانِيّ فِي معاجيمه الثَّلَاثة وَفِيه سُويد بن إِبْرَاهِيم أَبُو حَاتِم
(1)
.
قوله: عن معاذ بن جبل، تقدم الكلام على مناقبه. قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة" تقدم الكلام على ذلك في الأحاديث قبله.
وقوله: "لمن ترك الكذب وهو مازح" الحديث، أشار بذلك إلى أن الكذب قد يكون باطلا، وقد لا يكون كذلك وهو الكذب المضر فإنه باطل، وأما الكذب النافع لإصلاح ذات البين وفي الحرب وعلى المرأة بشرطه، فإنه ليس بباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالصلاح فقال:"ليس يصلح الكذب إلا في ثلاث"
(2)
الحديث، وقد يكون الكذب واجبًا وقد يكون مندوبًا وقد يكون حرامًا وقد يكون مكروها، فقوله:"وهو باطل" جملة حالية، أي في حال كونه باطلًا
(3)
، ففي الصحيحين عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من
(1)
أخرجه الدولابى في الكنى (1583)، والطبراني في الأوسط (5/ 284 - 285 رقم 5328) والصغير (2/ 74 رقم 805) والكبير (20/ 110 رقم 217). وقال الهيثمي في المجمع 1/ 157: رواه الطبراني في الثلاثة - ويأتي حديث ابن عباس في حسن الخلق - وإسناده حسن - إن شاء الله -. وقال 8/ 22: رواه الطبراني في الثلاثة والبزار، وفي إسناد الطبراني محمد بن الحصين، ولم أعرفه، والظاهر أنه التميمي وهو ثقة، وبقية رجاله ثقات. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (139).
(2)
أخرجه الترمذي (1939)، والطحاوى في مشكل الآثار (2913)، والبيهقى في الشعب (13/ 436 - 435 رقم 10587) عن أسماء بنت يزيد. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أسماء، إلا من حديث ابن خثيم. وحسنه الألباني في الصحيحة (545).
(3)
المفاتيح (5/ 179)، وكشف المناهج (4/ 240 - 241).
المهاجرات الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس بكذاب من يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرًا"
(1)
ورخص في الكذب في ثلاث الكذب في الحرب وإصلاح ذات البين وكذب الرجل على امرأته.
تتمة: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث قبله وهو حديث أبي الدرداء: "ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها" وهو مذكور في حديث معاذ هذا أيضًا، فجعل البيت العلوي جزءا لأعلى المقامات الثلاثة وهو حسن الخلق، والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق، ولا ريب أن حسن الخلق يشتمل على هذا كله
(2)
، وقد عد بعض العلماء المراء بالباطل مطلقا من الكبائر
(3)
، وفيه حديث ضعيف.
قوله في آخر الحديث وَفِيه سُوَيْد بن إِبْرَاهِيم أَبُو حَاتِم سويد بن إبراهيم البصري العطار: ضعفه النسائي وغيره ووثقه ابن معين وغيره قال الحافظ ولا بأس به في المتابعات.
233 -
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه: قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْد بَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ينْزع هَذَا بِآيَة وَينْزع هَذَا بِآيَة فَخرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كمَا يفقأ فِي وَجهه حب الرُّمَّان فَقَالَ يَا هَؤُلاءِ بِهَذَا بعثتم أم بِهَذَا أمرْتُم لا ترجعوا بعدِي كفَّارًا
(1)
أخرجه البخارى (2692)، ومسلم (151 - 2605).
(2)
مدارج السالكين (2/ 293).
(3)
تنبيه الغافلين (ص 263). والحديث المشار إليه هو حديث الباب.
يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَفِيه سُوَيْد أَيْضًا
(1)
.
قوله: عن أبي سعيد الخدري، تقدم الكلام على ترجمته.
قوله: كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يفقأ في وجهه حب الرمان، ومعنى فقئ في وجهه حب الرمان أنه صلى الله عليه وسلم احمر وجهه، وكان كثيرًا ما يتفق له ذلك عند الغضب صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا لله تعالى، روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف رضاه وغضبه بوجهه كان إذا رضي فكأنما [ملاحك الجدر وجهه، وإذا غضب خسف لونه واسود قال أبو بكر: سمعت أبا الحكم الليثي يقول: هي]
(2)
المرآة توضع في الشمس فيرى ضوءها في الجدار
(3)
، وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك: وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر
(4)
.
(1)
أخرجه البزار (18/ 76 رقم 11)، والطبراني في الأوسط (8/ 225 رقم 8470) والكبير (6/ 37 رقم 5442). قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا سويد أبو حاتم صاحب الطعام وهو سويد بن إبراهيم روى عنه صفوان بن عيسى وجماعة ليس به بأس.
عبد الرحمن بن المبارك ثقة بصري. قال الهيثمي في المجمع 1/ 156: رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (140).
(2)
سقط من الأصل وأضفناه من أخلاق النبي.
(3)
أخلاق النبي (142). وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (852).
(4)
أخرجه البخاري (4418) و (3556) و (4677)، ومسلم (53 - 2769).
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" الحديث، رجع هاهنا تستعمل استعمال صار معنى وعملًا، أي: لا تصيروا بعدي كفارًا
(1)
.
وقال المظهري في شرح المصابيح
(2)
: يعني إذا فارقت الدنيا فأثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى ولا تحاربوا المسلمين ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، وقال محيي السنة
(3)
: لا تكن أفعالكم شبيهة بأعمال الكفار في ضرب رقاب المسلمين، وقال القاضي عياض
(4)
: لا ترجعوا بعدي كفارًا، فقال الطبري معناه: أي بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به أو لأنه يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته.
تنبيه: وحجة الوداع: سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم وأوصاهم بتبليغ الشرع إلى من غاب فقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"
(5)
انتهى، وقال ابن فارس: سألت موسى بن هارون عن هذا، فقال: هؤلاء أهل الردة وقتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: لا
(1)
شواهد التوضيح (ص 197).
(2)
المفاتيح (3/ 330).
(3)
شرح السنة (7/ 219).
(4)
إكمال المعلم (1/ 225).
(5)
شرح النووي على مسلم (2/ 56).
ترجعوا بعدي كفارًا فرقا مختلفين يقتل بعضكم بعضًا كفعل الكفار مضاهين لهم متعادون، والمسلمون متآخون يحقن بعضهم دماء بعض، قاله صاحب المغيث
(1)
.
قوله: "يضرب بعضكم رقاب بعض" الرواية يضرب بعضكم برفع الباء على الحال أي ضاربا بعضكم رقاب بعض، هذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا، ونقل القاضي عياض
(2)
أن بعض العلماء ضبط بإسكان الباء على أنه بدل من ترجعوا أو جزاء الشرط مقدر بعد النهي
(3)
، أي: فإن ترجعوا كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض على مذهب الكسائي، قاله في شرح مشارق الأنوار، قال القاضي عياض:
(4)
وهو إحالة للمعنى والصواب الضم.
تنبيه: فإن قلت: ليس لكل شخص إلا رقبة واحدة ولا شك أن ضرب الرقبة الواحدة منهي عنها؛ قلت: البعض وإن كان مفردا لكنه يعني الجمع كأنه قال: لا تضرب فرقة منكم رقاب فرقة أخرى، والجمع في مقابلة الجمع أو ما في معناه تفيد التوزيع، أ. هـ، قاله الكرماني
(5)
.
(1)
المجموع المغيث (3/ 58).
(2)
إكمال المعلم (1/ 324).
(3)
شرح النووي على مسلم (2/ 55) وعمدة القارى (2/ 187).
(4)
إكمال المعلم (1/ 324).
(5)
الكواكب الدرارى (2/ 139)، وعمدة القارى (2/ 187).
قال النووي، قدس الله روحه
(1)
: قيل في معنى الحديث ستة أقوال وزاد غيره سابعًا، أحدها: أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق، ثانيها: أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام، ثالثها: أنه يقرب من الكفر ويؤتي إليه، رابعها: أنه فعل كفعل الكفار، خامسها، المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تفكروا بل دوموا مسلمين، سادسها: حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إلا لبسه؛ قال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة
(2)
: ويقال للابس السلاح كافر، سابعها: قاله الخطابي معناه
(3)
: لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا، وأظهر الأقوال الرابع، وهو اختيار القاضي عياض رحمه الله تعالى.
234 -
وَعَن [أبي أُمَامَةَ]
(4)
رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل ثمَّ قَرَأَ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}
(5)
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الصمت وَغَيره وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح
(6)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (2/ 55) وعمدة القاري (2/ 187).
(2)
تهذيب اللغة (10/ 112).
(3)
غريب الحديث (2/ 249).
(4)
في الأصل عن أبي هريرة.
(5)
سورة الزخرف، الآية:85.
(6)
أخرجه الترمذي (3253)، وابن ماجه (48)، وابن أبي الدنيا في الصمت (135 و 136)، والحاكم 2/ 447 - 448. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من =
قوله: عن أبي هريرة، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" الحديث، الجدل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة المناظرة والمخاصمة، والمراد به في الحديث الجدل على الباطل وطلب المغالبة به لا لإظهار الحق، فإن ذلك محمود لقوله تعالى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(1)
قاله ابن الأثير
(2)
، وقال بعض العلماء: المراد بالجدل هاهنا المباحثة المفضية إلى الشكوك في المعتقدات وإيغار الصدور، وفي شعب البيهقي عن معروف الكرخي أنه قال: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح عليه باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شرًا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل
(3)
، انتهى، أما الجدال لإظهار الحق وإفحام أهل الباطل فغير ممنوع بل هو مطلوب، قال الله تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
235 -
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ
(4)
.
= حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه: حزور. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (141).
(1)
سورة النحل، الآية:125.
(2)
النهاية (1/ 247 - 248).
(3)
شعب الإيمان (3/ 296 رقم 1692).
(4)
أخرجه البخاري (2457) و (4523) و (7188)، ومسلم (5 - 2668)، والترمذي (2976)، والنسائي في المجتبى 8/ 318 (5467) والكبرى (5944) و (10969).
الألد بتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة هُوَ الشَّديد الْخُصُومَة الْخصم بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة هُوَ الَّذِي يحجّ من يخاصمه.
قوله: عن عائشة، تقدم الكلام على فضائلها مبسوطًا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم" قال الحافظ رحمه الله: الألد: بتشديد الدال المهملة هو الشديد الخصومة، انتهى، وقال بعض العلماء: الألد من لديدي الوادي وهما جانباه لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر
(1)
، ومنه حديث علي رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله ما لقيت بعدك من الأود و اللدد، قاله في النهاية
(2)
، ومنه أيضًا حديث عثمان فأنا منهم بين ألسن لداد وقلوب شداد
(3)
، وكانت الجاهلية تتمادح بذلك، فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قل ما يكون في حق قال الله تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]
(4)
.
قوله: الخصم: هو بفتح الحاء وبكسر الصاد المهملة هو الذي يحج من يخاصمه، انتهى، قاله الحافظ، ونقل الشيخ محيى الدين في أذكاره عن بعضهم قال
(5)
: ما رأيت شيئًا أذهب للدين ولا أنكد للعيش ولا أضيع للذة ولا أنقص
(1)
أعلام الحديث (2/ 1221)، وإكمال المعلم (8/ 162)، وشرح النووي على مسلم (16/ 219).
(2)
النهاية (4/ 244).
(3)
المصدر السابق.
(4)
إكمال المعلم (8/ 162).
(5)
الأذكار (ص 571).
للمروءة من الخصومة، وقال بعض العلماء: أما الخصومة في الحق وطلبه على وجهه والجدال بالتي هي أحسن فغير مذموم، فالمذموم هو الجدال بالباطل في دفع حق أو إثبات باطل كما تقدم، قاله النووي في مسلم
(1)
.
تنبيه: قال أبو العباس القرطبي
(2)
: هذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطريق التي أرشد الله إليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسلف أمته إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية، ومدار أكثرها على مباحث سوفسطانية
(3)
أو مناقشات لفظية لم تكن في القرون الثلاثة، وإنما حدثت بعد المائتين في زمان المأمون، وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة في القرون الثلاثة متمسكين بالكتاب والسنة معرضين عن شبه المحدثين لم ينظروا في الجواهر والعرض، انتهى.
236 -
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كفى بك إِثْمًا أَن لا تزَال مخاصما. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث غَرِيب
(4)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (16/ 219) والكلام للقاضى عياض إكمال المعلم (8/ 162).
(2)
المفهم (22/ 49).
(3)
في الحاشية أي مموهة وسوفسطا مأخوذ من سوف وهو الحكمة ومن أسطا وهو التلبيس ومعناه الحكمة المموهة ومنه اشتقت السفسطة.
(4)
أخرجه الترمذي (1994)، والطبراني في الكبير (11/ 57 رقم 11032)، والبيهقي في الشعب (11/ 16 - 17 رقم 8074 و 8075). قال الترمذي: وهذا الحديث حديث =
237 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ المراء فِي الْقُرْآن كفر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان فِي صَحِيحه
(1)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَغَيره من حَدِيث زيد بن ثابت.
(2)
قوله: عن أبي هريرة، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "المراء في القرآن كفر" الحديث، المراء: الجدال والتماري، والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد منهما أي من المتناظرين يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع
(3)
، وسبب ذلك أن القرآن قد ظهر صدقه وثبتت معجزته واستقر علمه، فإن نازع فيه منازع كان كافرًا
(4)
، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جحد آية من القرآن فقد حل ضرب عنقه، ومن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده
= غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وضعفه الألباني في الضعيفة (4096)، وضعيف الترغيب (115).
(1)
أخرجه أحمد 2/ 300 (7989) و 2/ 424 (9479)، وأبو داود (4603)، والنسائي في الكبرى (8039)، وابن حبان (1464). وصححه الألباني في المشكاة (236)، وصحيح الترغيب (143).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 152 رقم 4916). وقال الهيثمي في المجمع 1/ 157: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (144).
(3)
النهاية (4/ 322).
(4)
عارضة الأحوذي (8/ 160).
ورسوله فلا سبيل عليه إلا أن يصيب حدًا فيقام عليه"
(1)
انفرد به ابن ماجه، وروي مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس، والله أعلم؛ قال أبو عبيد رحمه الله
(2)
: ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ، وهو أن يقرأ الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو هكذا ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء بهما، فإذا جحد كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله تعالى على نبيه، والتنكير في المراء إيذانًا بأن شيئًا منه كفر فضلًا عما زاد عليه، وقيل: إنما جاء هذا في الجدال والمارء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام، فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم من العلماء، وذلك فيما يكون الغرض منه والباحث عليه وظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز، والله أعلم.
وقال في شرح السنة
(3)
: قيل مع المراء الشك لقوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}
(4)
أي: في شك، وقيل: هو الجدال المشكك، وذلك أنه إذا جادل في القرآن أداه ذلك إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه ويؤديه ذلك إلى
(1)
أخرجه ابن ماجه (2539). وقال الألباني: ضعيف، الضعيفة (1416).
(2)
غريب الحديث (2/ 234 - 236)، والنهاية (4/ 322).
(3)
شرح السنة (1/ 261 - 262).
(4)
سورة الكهف، الآية:17.
الجحود فسماه كفرًا باسم ما يخشى من عاقبته إلا من عصمه الله تعالى، وقيل: هو المراء في قراءته وهو أن ينكر الرجل بعض القراءات المروية التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنكرها فقد كفر لأنه أنكر القرآن.
تنبيه: قال الإمام أبو عبد الله القرطبي
(1)
: قال علماؤنا: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن أو طلبا لاعتقاد المجسمة كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وايضاح معانيها أو كما فعل صبيغ.
القسم الأول (أي الزنادقة والقرامطة) لا شك في كفرهم، وأن حكم الله تعالى فيهم القتل من غير استتابة.
الثاني الصحيح: القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد.
الثالث: اختلف السلف في جواز ذلك بناء على الجواب في جواز تأويلها. الرابع: الحكم فيه الأدب البليغ كما فعله عمر رضي الله عنه بصبيغ، أ. هـ.
فائدة: قال الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي
(2)
: يروى من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل
(1)
تفسير القرطبي (4/ 13 - 14).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 261 - 262).
المسائل، أولئك شرار أمتي"
(1)
، قال الحسن: شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يغمون بها عبد الله
(2)
، قال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم العبد بركة العلم ألقى علي لسانه المغاليط، ولقد رأيتهم أقل الناس علمًا
(3)
، وقال ابن وهب عن الإمام مالك: أدركت هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم يريد المسائل
(4)
، قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغن
(5)
، أ. هـ.
تنبيه: من البدع الجدل في القرآن وتتبع المتشابه منه، وقد عد العلماء المراء في القرآن من الكبائر، واستدلوا عليه بحديث أبي هريرة المتقدم
(6)
.
238 -
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن عِيسَى عليه السلام قَالَ إِنَّمَا الأمُور ثَلَاَثة أَمر تبين لَك رشده فَاتبعهُ وَأمر تبين غيهُ فاجتنبه وَأمر اخْتلف فِيهِ فَرده إِلَى عَالم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير بِإِسْنَاد لَا بأْس بِهِ
(7)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 98 رقم 1431)، والآجرى في أخلاق العلماء (ص 108 - 109). قال الهيثمي في المجمع 1/ 155: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن ربيعة، وهو متروك. وضعفه الألباني جدًّا في الضعيفة (3717).
(2)
أخلاق العلماء (ص 110) للآجرى.
(3)
جامع بيان العلم وفضله (2083).
(4)
جامع بيان العلم وفضله (2062).
(5)
جامع بيان العلم وفضله (887).
(6)
الكبائر للذهبي (ص 223)، وتنبيه الغافلين (ص 263).
(7)
أخرجه أبو عبيد في الخطب والمواعظ (123)، وعبد بن حميد (675)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (1730)، والطبراني في الكبير (10/ 218 رقم 10774)، وأبو الطاهر =
قوله: وعن ابن عباس، تقدم الكلام على فضائله، قال أبو الفرج بن الجوزي
(1)
: ولد عبد الله بن عباس في الشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان رضي الله عنه حبر الأمة فسمي البحر لغزارة علمه، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن مات، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهم فقهه في العلم وعلمه التأويل"
(2)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين
(3)
، وقال طاووس: ما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا لحرمات الله من ابن عباس
(4)
، وكانت الدموع قد حفرت في خده أخدودًا من كثرة البكاء، توفي رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن عيسى ابن مريم" الحديث، رفع عيسى عليه الصلاة
= المخلص (3020)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 218 - 219). قال الهيثمي في المجمع 1/ 157: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. وضعفه الألباني جدًّا في الضعيفة (5034) وضعيف الترغيب (116).
(1)
المنتظم (6/ 72 - 75).
(2)
أخرجه أحمد 1/ 266 (2397) و 1/ 314 (2879) و 1/ 328 (3032) و 1/ 335 (3102)، وابن حبان (7055) وصححه الألباني في المشكاة (6148).
(3)
أخرجه ابن سعد في الطبقات متمم الصحابة (1/ 129)، وأحمد في الفضائل (1911) والطبراني في الكبير (10/ 264 رقم 10615).
(4)
أخرجه أحمد في الفضائل (1837) و (1838)، والفسوى في التاريخ (1/ 542).
والسلام وهو ابن ثلات وثلاثين سنة
(1)
، وسيأتي الكلام عليه في مواضع من هذا التطبيق.
قوله: "إنما الأمور ثلاثة، أمر تبين لك رشده فاتبعه" أي: استبان يعني تبين وظهر، والرشد: الهدى، أي: استقامته، أي: ظاهره، كوجوب الصلاة والصوم فاتبعه.
قوله: "وأمر تبين لك غيه فاجتنبه" والغي: ضد الرشد، وهو: الضلال، والاجتناب: التباعد عن الشيء.
قوله: "وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه" أي: رده إلى كتاب الله وأعرضه عليه ليتكشف لك حكمة اللّه تعالى بوجود عينه أو بوجود نظيره وشبهه، انتهى، وقال بعض العلماء:["وأمر اختلف فيه" أي: اختلف فيه الناس من تلقاء أنفسهم، من غير] أن يبين الله ورسوله حكمة كتعيين وقت القيامة وحكم أطفال الكفار
(2)
، فالأمور ثلاثة أنواع، أي: المتعلقة بأحكام الدين ثلاثة، الأول: ما هو صواب ورشد ظاهر فاتبعه كالواجبات الخمس التي هي أصول الدين، والثاني: ما هو ضلالة وغير ظاهر كبطلان دين الإسلام فاجتنبه، والثالث: ما لا يكون للشارع حكم ظاهر فيه كالمتشابه فكل علمه إلى الله تعالى كمتشابهات القرآن والعلم بوقت يوم قيام الساعة وأحوال
(1)
الطبقات الكبرى (3/ 443 و 7/ 273)، والعلل رواية عبد الله (1098)، والدينورى في المجالسة (2599) عن سعيد بن المسيب.
(2)
شرح المصابيح (1/ 186) لابن ملك.
أطفال الكفار
(1)
. تلخيصه: ما علمت كونه ثابتًا بالنص فاعمل به وما علمت كونه باطلا بالنص فلا تعمل به، وما لم يثبت حكمه بنفي ولا إثبات بالنص فتوقف فيه وكِل علمه إلى الله تعالى ولا تقل فيه شيئًا
(2)
، انتهى.
(1)
المفاتيح (1/ 292 - 293).
(2)
شرح المشكاة للطيبي (2/ 649).