المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة: التفسير الإعلامي لأدب طه حسين: الاتصال هو - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة: التفسير الإعلامي لأدب طه حسين: الاتصال هو

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة:

التفسير الإعلامي لأدب طه حسين:

الاتصال هو حامل العملية الاجتماعية، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان لتنظيم واستقرار وتغيير حياته الاجتماعية، ونقل أشكالها ومعناها من جيلٍ إلى جيلٍ عن طريق التعبير والتسجيل والتعليم، ولكل مجتمعٍ -مهما كانت درجة بداءته أو رقيِّه- نظامٌ معيَّنٌ من الاتصال يساعد على تسيير أموره، أما الاتصال بالجماهير فيمكن تعريفه على أنه "بثّ رسائل واقعية أو خيالية موَحَّدة على أعداد كبيرة من الناس، يختلفون فيما بينهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وينتشرون في مناطق متفرقة1".

ويُقْصَدُ بالرسائل الواقعية مجموعة الأخبار والمعلومات التي تدور حول الأحداث، وتنشرها الصحف وتذيعها الإذاعة المسموعة والمرئية، أما الرسائل الخيالية فهي القصص والتمثيليات والروايات والأغاني وغيرها من المبتكرات الفنية التي قد ترتكن إلى الواقع وتنسج منه صورة فنية، أو قد تكون من نسج الخيال، وحتى في الحالة الثانية لا بُدَّ من ارتباط التعبير الاتصالي بواقع المجتمع وما فيه من اتجاهات ومبادئ ومعتقدات وقيم. وفي الاتصال الجماهيري الحديث تتعرَّض الجماهير المختلفة باختلاف السن أو الحالة الاقتصادية أو المكانة

1 O'Hara. Robert C. Media for the Million، New York، 1961، p. 6.

ص: 5

الاجتماعية أو الثقافية لنفس المؤثِّرات الإعلامية والفنية الموحدة مهما تباعدت مناطق إقامتهم1.

ولا شك أن الأدب أو الفن بوجهٍ عام -كما يقرر تولستوي- إحدى وسائل الاتصال بين الناس، فكما أن الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين عن طريق "الكلام"، فإنه ينقل إلى الآخرين عواطفه عن طريق الأدب والفن، ومعنى هذا: أن الأدب لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد، يتحقق عن طريقها ضَرْبٌ من الاتحاد العاطفي أو التناغم الوجداني فيما بينهم، ولما كان الناس يملكون هذه المقدرة الفطرية على نقل عواطفهم إلى الآخرين عن طريق الحركات والأنغام والخطوط والألوان والأصوات وشتَّى الصور اللفظية، فإن كل الحالات الوجدانية التي تمرُّ بالآخرين من حولنا هي بطبيعة الحال في متناول إحساساتنا، فضلًا عن أن في وسعِنَا أيضًا أن نستشعر عواطف أخرى أحسَّ بها غيرُنا من قبل منذ آلاف السنين2.

ولا يَقِلُّ الفن أهميةً في نظر تولستوي عن "الكلام"؛ لأنه لو لم تكن لدينا تلك المقدرة على التعاطف مع الآخرين عن طريق الفن، لبقينا متوحشين منعزلين يحيا كلٌّ منَّا بمنأى عن الباقين، أو لظللنا فرادى عاجزين عن تحقيق أيِّ توافقٍ فيما بيننا بعضنا والبعض الآخر.. وكما أن اللفظ هو أداة اتصال فكري هامٍّ بين بني البشر، فإن الفن هو أداة اتصال عاطفيّ هام بين الناس أجمعين. وتبعًا لذلك فإن تولستوي يعرِّفُ الفنَّ بقوله: أنه "ضَرْبٌ من النشاط البشري الذي يتمَثَّلُ في قيام الإنسان بتوصيل عواطفه إلى الآخرين، بطريقة شعورية إرادية، مستعملًا في ذلك العلامات الخارجية"، ويضرب تولستوي لذلك مثلًا فيقول: إنه لو قُدِّرَ لطفلٍ صغير استشعر انفعال الخوف الشديد عند لقاء الذئب أن يروي لجماعة من الناس ما اعْتَوَر نفسه من مخاوف حينما التقى بذلك الحيوان الكاسر، ولو نجح مثل هذا الطفل في أن يسترجع نفس المشاعر عند روايته لتلك القصة، وأن يولِّدَ في نفس سامعيه مشاعر مماثلة، لكان عمله هذا فنًّا ما في ذلك ريب.. وحتى لو افترضنا أن هذا الطفل لم يلتق في حياته يومًا بذئب، ولكنه نجح في أن ينقل إلى الآخرين شعوره المتوهم بالخوف، فإن مثل هذه الصورة المتخيَّلة تُعَدُّ أيضًا ضربًا من الفن، بشرط أن يتمَّ عن طريقها انتقال العواطف من الراوي إلى المستمعين. وتبعًا لذلك، فإن تولستوي لا يَقْصِرُ كلمة "الفن" على ما نراه في المسارح والمعارض، أو ما نسمعه في صالات الموسيقى والغناء، أو ما نقرأه في كتب الأدب والشعر والقصة والرواية، بل هو يدخل أيضًا في دائرة الفن كل ما

1 د. إبراهيم إمام: الإعلام والاتصال بالجماهير، القاهرة 1975 ص28.

2 د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، القاهرة 1977 ط2.

ص: 6

من شأنه أن يوصِّلَ إلى الآخرين حياتنا الباطنية، أو أن يوصِّل إلينا حياتهم الباطنية، بما في ذلك أغاني الأمهات لهدهدة أطفالهن، وشتَّى ضروب الرقص الشعبي، وسائر حركات التقليد والمحاكاة.. إلخ.

والعمل الفني الحقيقي.. في نظر تولستوي.. هو ذلك الإنتاج الصادق الذي يمحو كل فاصل بين صاحبه من جهة، وبين الإنسان الذي يوجَّه إليه من جهة أخرى، ثم هو أيضًا ذلك الإنتاج العامر بالعاطفة الذي يكون من شأنه أن يوحِّدَ بين قلوب كل مَنْ يوجه إليهم. والميزة الرئيسية للفن إنما تنحصر على وجه التحديد في قدرته على محو شتى الفواصل بين الناس، لكي يحقق ضربًا من الاتحاد الحقيقي بين الجمهور والفنان.

ويذهب "جيروم ستولنتيز"1 إلى أن عددًا كبيرًا من الفنانين، وربما معظمهم، يهتمون بالقدرة التوصيلية لفنهم. والدليل على ذلك أنهم كانوا يراجعون عملهم، خلال عملية الخلق، ليجعلوه أسهل فهمًا أو أكثر جاذبية للجمهور المنتظر. ففي المجتمع القديم والوسيط، وفي كل مجتمع كان الفن يخدِمُ فيه أغراضًا جماعية، كان الفنان يفترض مقدمًا أهمية التوصيل الناجح إلى الآخرين. وفضلًا عن ذلك فإن الوسيط الذي كان يستخدمه الفنان، أي:"القوالب" من أمثال السوناتا والرواية، وكذلك رمزيته، تستمد عادة من تراث حضاري. ومن هنا فإنا نستطيع استخدامها من أجل إنتاج موضوع "عام" يمكن المشاركة فيه2، غير أن تولستوي لم يفطن إلى الوسائل التي تجعل هذا الاتصال حقيقة، فالاتصال يتم بامتدادات أنفسنا، وهو في كل امتداد يتمثَّل خصائصه، كما أنه لم يفطن إلى أن تأثر الأفراد بالعمل الفني يختلف من فرد إلى آخر، بدليل أننا نجد أفرادًا يتحمَّسون لبعض الأعمال الفنية، في حين يعجز غيرهم عن تمييز ما فيها من عناصر وجدانية أو عاطفية.

وتأسيسًا على هذا الفهم، نحاول في هذا الكتاب تفسير أدب طه حسين من زاوية اتصاله بالجماهير، ذلك أن طه حسين قد اتَّخذ من وسائل الإعلام بعامة، والصحافة بخاصة، وسيلة للاتصال بالجماهير في تحقيق التقارب، والتواصل القائم على أن "الفكرة" في دلالتها الاجتماعية، و"الكلمة" في صيغتها العملية، من أقدم الوسائل لتحقيق ما ننشد، والفكرة والكلمة

1 جيروم ستولنتيز "ترجمة د. فؤاد زكريا": النقد الفني دراسة جمالة وفلسفية، القاهرة 1974 ص257.

2 نفس المرجع ص257، راجع للمؤلف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، القاهرة 1977 هيئة الكتاب ومركز الدراسات السياسية بالأهرام.

ص: 7

لهما القوة الساحرة التي تستطيع أن تتغلب على رواسب الفوارق والعنصريات بين الأمم في سبيل تحقيق المثل العليا من وحدة الشعور ووحدة الفكر، ووحدة القيم، لتعزيز الأخوة الإنسانية بأعمق دلالاتها، وأكرم معانيها.

فتمثل اتصاله بالجماهير هذه الرؤيا في الميدان الفكري والميدان العملي على السواء، لا يفصل بين الفكرة والفعل، وإنما ترتبط رؤياه الذهنية برؤياه الاجتماعية الفاعلة لإحداث التغيير الأساسي في المجتمع، ودعم قيمه الإيجابية.

ولعل في ذلك ما حَدَا بكثيرٍ من المستشرقين إلى توكيد الارتباط بين الجوانب المختلفة في كتابات طه حسين ونبوغه الفني1 -في كتاباته الثقافية والسياسية والأدبية على السواء2، ذلك أن الاتصال الصحفي بالجماهير هو الذي استنفد هذه الكتابات، وأعطى شكلًا ومضمونًا لأشهر مؤلفاته التي كانت محل نقاش الكثيرين، والتي كانت سببًا في ذيوع شهرته داخل مصر والعالم العربي وخارجهما، ولعل في ذلك ما يشير إلى هدف الدراسة الاتصالية، في التعرف على طه حسين من وراء صحافته، على النحو الذي يبرز رؤياه الاجتماعية العملية التي تكمن وراء آثاره الفكرية في الاتصال بالجماهير، والتي يقيم من خلالها مشاركة مع مَنْ يتصل بهم، أو على حدِّ تعبيرٍ مستَعَارٍ من الإعلام، فإن "المرسل - طه حسين" يحاول توصيل معلوماته أو مشاهده أو مواقفه التي يحولها إلى كلمات مسموعة أو مكتوبة، وبعد أن ترسل الرسالة يتوقع المرسِلُ أنها قد رسمت في ذهن المتلقي الصورة نفسها التي كانت في ذهنه.

وإذا كانت عملية الاتِّصَال في الأدب تقوم على أساس من الوحدة، فإن طه حسين المرسل -والمضمون والوسيلة والمستقبل والاستجابة، جميعًا حلقات متصلة في سلسلة واحدة، ولقد عنينا في كتابنا عن "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي" بدراسة هذه العناصر الاتصالية، ولكننا في هذا الكتاب الجديد نركِّزُ على أهم عناصر هذه الدورة، ونعني عنصر التعبير عن الفكرة الإبداعية وصياغتها في رموز، وهو العنصر الذي يطلق عليه مصطلح "الرسالة" الاتصالية، وإن كنا ننظر إلى هذا العنصر:"الرسالة"، على أنه جزء من الموقف الاتصالي العام بأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية، ذلك أن عملية الاتصال ليست موقفًا ساكنًا أو جامدًا، وإنما هي عملية ديناميكية

1 جورجيو ديلافيدا: "طه حسين المؤرخ" في طه حسين كما يعرفه كتاب عصره، القاهرة 1970، ص98.

2 فرانثيسكو جابريللي: "طه حسين الناقد" في طه حسين كما يعرفه كتاب عصره، المرجع السابق، ص163.

ص: 8

متحركة، نخطئ إذا قلنا أن لها بداية معينة ونهاية معينة؛ لأنها تسري في المجتمع سريان الدورة الدموية في جسم الإنسان.

ومن ذلك يتضح أن دراسة "الرسالة" في الاتصال الجماهيري عند طه حسين، تعني: دراسة "المادة والشكل"، أما "المادة" فتدل على "قوالب البناء" الحسية التي يتركَّبُ منها العمل -من أصوات وألفاظ.. إلخ. وفي العمل ترتب هذه القوالب وتنظمٌ على نحو معين -هو الشكل. غير أن العمل "الرسالة" أكثر من مجرَّد ترتيب لعناصر مادية، فعندما ندركه جماليًّا، نجده ينطوي على انفعالات وصور وأفكار، وهناك عنصر آخر يوجد في بعض الأعمال الفنية وإن لم يكن في كلها، وقد أسماه "جيروم ستولنتيز"1 بموضوع العمل الفني "Subject Matter"، أي: الموضوعات والحوادث التي تصوّر في الفن التمثيلي كالدراما والتصوير التقليدي.

على أن دراسة التركيب الفني في الرسالة الاتصالية عند طه حسين، تنظر إلى الرسالة أو العمل الفني كوحدة، لا يمكن أن تفهم نظريًّا أو تتذوَّق جماليًّا إلّا على هذا الأساس، وإذا كان العمل الفني شديد التعقيد، فإننا نحاول في دراسته عند طه حسين أن نحلل تعقده إلى أجزائه المكوِّنة له، من خلال استقراء علمي للآثار الاتصالية في صحافته كوسيلة للاتصال الجماهيري، ولذلك اتجهنا إلى دراسة عناصر الأصالة ومظاهر التجديد للتعرُّف على صياغة تجربته الاتصالية المستمرة في مراحل تطوره الصحفي، فعرضنا لتنوع فنونه المقالية في الاتصال بالجماهير.

1 نفس المرجع المذكور ص322.

ص: 9

ودراستنا هذه تتوسَّل بالمنهج العلمي في دراسة الاتصال بالجماهير، الذي يتوسل بالمناهج الكيفية والكمية على السواء، كما يتوسَّل بالدراسة التاريخية في تعيين الآراء والاتجاهات المختلفة في مكانها من عصرها، وتبيان قيمتها في عصرنا، في الوقت الذي يغدو الاستقراء العلمي فيه سبيل كسب المعرفة الجديدة عن طريق الانتقال من معلوم إلى مجهول، ولذلك ذهبت هذه الدراسة إلى رفض التضاد الذي يفصل بين الدراسات "الكيفية" أو "الكمية"، وأفادت من مزايا هذين الأسلوبين قدر المستطاع، ذلك أن البيانات الإحصائية ليست إلّا نقطة البداية التي تيسّر دراسة الاتصال بالجماهير في ضوء الفوارق الكيفية، انطلاقًا من المرحلة الأولى في وصف المقال وصفًا موضوعيًّا ومنتظمًا من خلال الرموز المستخدمة في عملية الاتصال.

ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن المقال الصحفي في أدب طه حسين، كان في عاقبة الأمر هو محور دراسة اتصاله بالجماهير، بجلاء مصادره وأصوله، وتعيين مكانته، واستقراء الحديث من الاتجاهات التي سرت إليه، أو التي يُعْتَدُّ بها فيه، ومن أجل ذلك لم نورد النصوص المقالية إلّا للاستشهاد بها على مضمون المقال أو اتجاهاته أو فنونه، انتقالًا منها كجزئيات إلى حكم عام لا يدعي اليقين، وإن حاول الاقتراب منه، لما ينشده من تعليل إعلامي قائم على العلم.

والحق أن الأمة العربية تشهد في نهضتها الحاضرة، ازدهارًا للدراسات الإعلامية، يقوم على أساس من وحدة فنون الإعلام والربط بين وسائله جميعًا، تتلاقى في أصولها وفروعها، على النحو الذي تطورت إليه الدراسات الأكاديمية في مصر، وبلغت مداها الآنيّ بتحقيق هذه الوحدة الإعلامية، في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ويعود الفضل إلى عميدها الأسبق الدكتور إبراهيم إمام، في تحديد النظرية الإعلامية المصرية، التي تذهب إلى أن الفن الصحفي هو الفن الإعلامي الكلاسيكي الذي تعلَّمَت منه سائر الفنون الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتليفزيون والسينما1، واشتقت منه سائر فنون الإعلام أشكالها وفنونها وأساليبها وطرائقها2.

وفي هذا البحث حاولنا -ما وسعنا- أن نتعرَّفَ على الأسس الجوهرية والتيارات الفكرية العامة والنواحي الفنية الهامة التي أسفر عنها الفن الصحفي فيما يخص المقال الصحفي في أدب الدكتور طه حسين، في تلاقيه مع أهداف الفن الصحفي أو افتراقه عنها، من حيث تحريره، وغايته في الارتباط بالجماهير، فضلًا عن عمومية وسيلة الاتصال الصحفي ودوريتها، والرؤية الوظيفية التي تدفع الفن المقالي وتحدد شكله ومضمونه.

1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي، ص4.

ص: 10

ذلك أن الدكتور طه حسين، قد اتخذ من الفن الصحفي وسيلة للاتصال بالجماهير في تحقيق التقارب، والتواصل، القائم على أن "الفكرة" في دلالتها الاجتماعية، و"الكلمة" في صيغتها العملية، من أقدم الوسائل لتحقيق ما ينشد، والفكرة والكلمة لهما القوة الساحرة التي تستطيع أن تتغلب على رواسب الفوارق والعنصريات بين الأمم في سبيل تحقيق المثُل العليا من وحدة الشعور ووحدة الفكر، ووحدة القيم، لتعزيز الأخوة الإنسانية بأعمق دلالاتها، وأكرم معانيها1.

ولقد كان طه حسين أحد الطلائع الذين استوت على أيديهم معالم النهضة المصرية الحاضرة، فقوموها على ذلك النهج الواضح من الفكر والثقافة العصرية، وسبروا أعماق الشخصية المصرية وتمثَّلُوها حتى استقامت على نهجها الواضح ومعالمها الأصيلة، فكانت مراحل حياته المختلفة كما كانت جهوده الصحفية، مظهرًا لإيمانه بهذه المثل، ومصداقًا لعمله على التعبير عنها في الوصول بمصر إلى الغد المشرق، وفي تعزيز صلاتها بالفكر الإنساني على تعدد آفاقه، وفي مقاومة العزلة، بجميع ألوانها، متمثِّلًا في ذلك كله تراثها التاريخي وطابعها العقلي وقيمها الفكرية، ومقوماتها الأصيلة، التي كانت في مجرى الحضارة الإنسانية الموصول عاملًا فعَّالًا لا يجحد أثره الدارسون.

فيمثل مقاله الصحفي هذه الرؤيا في الميدان الفكري والميدان العملي على السواء، لا يفصل بين الفكرة والفعل، وإنما ترتبط رؤياه الذهنية برؤياه الاجتماعية الفاعلة لإحداث التغيير الأساسي في المجتمع المصري ودعم قيمه الإيجابية، كما قلنا من قبل.

ولعلَّ في ذلك ما حَدَا بكثيرٍ من المستشرقين، إلى توكيد الارتباط بين الجوانب المختلفة في كتابات طه حسين ونبوغه الفني2 -في كتاباته الثقافية والسياسية والأدبية على السواء3، ذلك أن فن المقال الصحفي هو الذي استنفذ هذه الكتابات، وأعطى شكلًا ومادة لأشهر مؤلفاته التي كانت محلَّ نقاش الكثيرين، والتي كانت سببًا في ذيوع شهرته داخل مصر والعالم العربي وخارجهما. وعندما أذاعت الأكاديمية الإيطالية وأكاديمية الآداب الرفيعة بباريس عضويته فيهما، كان ذلك اعترافًا دوليًّا بفضل طه حسين الذي شاء له القدر أن يبدأ حياته بظرفه البصري الخاص -بذلك التعليم التقليدي وبذلك التكوين الأزهري4، وأن لا يستجيب المصريون لصيحته فحسب، وإنا تستجيب له أوروبا وأمريكا، حتى أن الكاتب"دونالد رونسن" في مؤلفه

1 خطاب طه حسين إلى أدباء أمريكا اللاتينية، جريدة الأخبار في 13 ديسمبر 1970.

2 جورجيور ديلافيد: طه حسين المؤرخ، طه حسين كما يعرفه كتاب عصره، ص98.

3، 4 فرانسيسكو جابريللي:"طه حسين الناقد"، المرجع السابق، ص163.

ص: 11

عن أشهر الرجال المائة الذين كانوا على قيد الحياة، وقت إصدار الكتاب -عَدَّه بين العشرة الذي لهم أعمق الأثر في الحضارة العربية1.

إن ذلك الطريق الطويل الشاق حسبما جاء في تاريخ حياته الذي وضعه عند "ليدر باسكي"2 الذي قاد الشاب الأزهري إلى هضم أعظم الثقافات الكلاسيكية والأوروبية، على النحو الذي تحدَّث عنه طه حسين في أيامه، إنما يلخص سيرة "المقال الصحفي" في أدبه، والذي كان موضع التجربة في هذا التطور. فسرعان ما تخلَّى عن الأساليب التقليدية في الصحافة المصرية، وسرعان ما ظهرت أسس الفن الصحفي الحديث، في اتجاهها بالمقال من تحويل الفكر الأكاديمي المجرَّد إلى عرض فني منسق يستسيغه الجمهور دون أن يهبط إلى مستوى الإسفاف والمبالغة، مواجهًا بمقاله المعادلة الصعبة أو التحدي العظيم الذي يواجه الفن الصحفي الحديث3 من خلال ارتباطه بالجماهير، وتمثُّله للوظائف الصحفية الاجتماعية، إلى جانب تمثُّله في لغته القومية تلك الأناقة والوضوح والشفافية التي امتازت بها لغة الفن الصحفي في فرنسا، والتي يسمِّيَها بعض المستشرقين "لغته الثانية"4 أي: اللغة الفرنسية التي أتقنها كل الإتقان "كأستاذ فيها دون مساس بروح اللغة العربية، ودون أن يعرض نفسه لتهمة الخروج عن قواعدها، أو بث العجمة والكلمات الأجنبية في مفرداتها"5، ذلك أن الرؤية العملية للغة العربية، هي التي جعلت لغته الصحفية تبتعد عن الحذلقة والخشونة، لتنساب في يسر وبساطة، وفي عبارات وظيفية، لا تتعارض مع ما في نثره الفني من ثروة وتنوع، مكتفيًا بالأثر الذي يشع عن الفكرة العملية، وما تتضمنه من إرادة في إحداث التغيير والتدعيم في المجتمع، لتحقيق التواصل بين التجديد والأصالة، من خلال أدبه وصحافته على السواء.

ذلك أن مقالات طه حسين، ومؤلفاته الشاملة، أو التي ضمَّت جانبًا من هذه المقالات، تنبع دائمًا من فكرة محاولة التأثير في مجتمعه، لنقله من حالة التخلق إلى حالة التقدم، ومن حالة الذل والاستكانة والخمول والجهل والاستبداد والظلم الاجتماعي والجمود، إلى حالة العزة والكرامة والنباهة والعلم، والمساواة والحرية الاجتماعية والازدهار الاقتصادي6، من خلال مواقف عملية واضحة ترتبط أوثق الارتباط بالحياة الواقعية.

1 جريدة "مونيتو سيرا" الإيطالية في 27 سبتمبر 1952، سامي الكيالي مع طه حسين جـ2 ص3.

2 فرانسيسكو جابريللي: نفس المرجع، ص163.

3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص5.

4، 5 فرانسيسكو جابريللي: نفس المرجع، ص179.

6 الدكتور على سعده "طه حسين: الوحدة في التنوع" مجلة الآداب، بيروت، آذار، مارس 1974.

ص: 12

بل أن المؤلفات التي تبدو مغرقة في البحث الأكاديمي الصِّرْف لا تخلو من هذا الاتجاه الصريح أو الخفيِّ لتنوير مواطنيه بحقائق الأوضاع المختلفة في نظامهم السياسي والاجتماعي والفكري، وذلك إما بالكشف عن مواضع هذا الخلل، وإما بالتنوير بأنظمة أفضل تحققت في عهود مضت، أو في مجتمعات حديثة غير المجتمع المصري1. ولعل في ذلك ما يشير إلى هدف الدراسة الصحفية، في التعرُّف على طه حسين من وراء صحافته، على النحو الذي يبرز هذه الرؤية الاجتماعية العلمية التي تَكْمُنُ وراء آثاره الصحفية والفكرية على السواء، في نطاق الصحفيين والأدباء ودعاة الإصلاح الذين كان يعيش بينهم، وفي نطاق علاقات التأثُّرِ والتأثير التي تمثِّل لنا مقاله الصحفي أشدَّ وضوحًا، وتضعه في مكانه من آثار رواد النهضة المصرية الحديثة.

ولعل في هذه الرؤيا الصحفية لآثار طه حسين، ما يفسِّر اتجاه بعض الدارسين2 إلى اعتباره أكثر اتساقًا في التفكير وفنية الأسلوب، وأكثر تأثيرًا في النهضة المصرية، كما يعتبر "ألبرت حوراني"3 إن الأفكار التي نادى بها زعماء النهضة الحديثة قد بدأت تتبلور عند طه حسين، وأنها أثَّرت على التفكير الاجتماعي والعمل السياسي في العالم العربي بأسره على مدى ثلاثة أجيال4.

ولقد تقاضانا المنهج العلمي في دراسة "فن المقال الصحفي في أدب طه حسين" أن ننطلق من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتب وقارئ، عن طريق وسيلة إعلامية تنتقل بواسطتها الرسالة من طرف إلى آخر5. الأمر الذي يجعل دراسة المقال الصحفي في مكانه من عملية الإعلام، كجزء من الموقف الاتصالي العام بأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية.

ولذلك انقسمت هذه الدراسة إلى عدد من الفصول، نتناول في كلٍّ منها جانبًا من جوانب العملية الإعلامية، في الأطر الاجتماعية والطبيعية والسيكولوجية والثقافية6.

ففي دراستنا لمقومات الاتصال الصحفي -في الفصل الأول- عنينا عنايةً خاصَّةً بدارسة هذه الأُطُر من خلال تحديد الصلة بين البيئتين العامة والخاصة،

1 الدكور علي سعد "طه حسين: الوحدة في التنوع" مجلة الأداب، بيروت، آذار، مارس 1974.

2، 3، 4 ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص390.

5 د. عبد العزيز شرف: فن التحرير الإعلامي، هيئة الكتاب.

6 W. Schramm "How Commuuication Works "in Scharmm "eds." The Process and Effects of mass communication "1955" p. 4.

ص: 13

محاولين تعيين ما لكليهما من أثرٍ في مقاله الصحفي، وما لكليهما من أثرٍ في تحقيق التناغم والتوافق بين طه حسين وقرَّائه، من خلال ربط مقاله بجوانب من خبرته تشابه إلى حَدٍّ كبير خبرة الوجهة والمستقبل، كما تبين من دراسة مقومات شخصيته ومصادر ثقافته، ومكانه من النظام الاجتماعي، والأدوار التي قام بها من خلاله، والمهام التي ذهب إليها مقاله الصحفي، وذلك إلى محاولة التعرُّفِ على سلوكه في الاتصال بالجماهير، من خلال الصحف التي حررها أو اشترك في تحريرها.

وقد حاولنا في كتابنا السابق "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي"1 التعرُّف على اتجاهات الاتصال الصحفي عند طه حسين في إطارٍ من تحديد مقوماته الاتصالية، وأثرها في طريقة التفكير، والرؤية الخاصة المتميزة للحياة في مقال طه حسين، وما ترتكز عليه من رؤية عملية وظيفية للفن الصحفي تمثَّلت في نموذج اتصالي، حاولنا تصوره من خلال استقراء مقالاته، وتحديد مكان قادة الفكر في هذا النموذج.

وفي هذا الكتاب السابق أيضًا دراسةٌ لمضمون المقال الصحفي واتجاهات هذا المضمون، فبحثنا في فصوله الأربعة: الموضوعات والعوامل والمتغيرات التي ترتبط بهذا المضمون، والوظائف التي ذهب إلى أدائها في المقال الصحفي، من خلال دراسة المقال في الاتجاه السياسي، ثم في الاتجاه الاجتماعي، والاتجاه الثقافي، ودوره في زوال المجتمع التقليدي.

وفي دراستنا لأساليب التحرير في مقال طه حسين في هذا الكتاب الجديد، حاولنا أن نقوم باستقراءٍ علميٍّ للآثار المقالية في صحافته، للتعرُّف على نواحيها الفنية، التي لا تنفصل بحالٍ عن المضمون، بوصفها مجهودات متتابعة تعالج الحياة الواقعية في فنون المقال وإنتاجه، ولذلك اتجهنا إلى دراسة عناصر الأصالة ومظاهر التجديد للتعرُّف على صياغة تجربته الاتصالية المستمرة في مراحل تطوره الصحفي، فعرضنا لتنوع فنونه المقالية، التي أسفر عنها الاستقراء في هذه الدراسة، وهي: فن المقال التنويري، والمقال النقدي، والعمود الثقافي المتخصص، والعمود الصحفي، والمقال القصصي، والمقال الوصفي، والتقرير الصحفي، والمقال الرمزي، وفن اليوميات الصحفية، ثم فنون المقال المرتبطة بالصحيفة اليومية، كذلك من خلال الرؤيا الوظيفية في تحرير المقال الرئيسي والافتتاحي، وفن المقال النزالي، وفن المقال الكاريكاتيري، ثم فن المقال التحليلي والتقويم الصحفي.

1 د. عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وهيئة الكتاب 1977.

ص: 14

فلقد تبيَّنَ من مطافنا الطويل في التعرُّف على فنِّ المقال الصحفي في أدب طه حسين، أنه يمثل طريقة تفكير ورؤيا خاصة متميزة للحياة، عند رجل لا يكاد يذكر اسمه إلّا ويقترن في ذهن السامع بلقب "عميد الأدب العربي"1، وهو لقبٌ له دلالته في تحديد الدور الكبير الذي قام به طه حسين في الصحافة المصرية الحديثة، التي أصبح من خلالها "زعيم المجددين" أو "زعيم المدرسة الحديثة"2، وهو في تاريخ تلك المدرسة الحديثة التجديدية، معلمها، "الفاهم، الغيور، القوي، المدافع3".

ولعلَّ في هذه الرؤية المتميزة، وفي هذا الدور الذي قام به طه حسين في نهضتنا الصحفية الحديثة، ما يلقي الضوء على تقدير المستشرقين لدوره، فيذهب الأستاذ "سبرنجلنج" عميد كلية الدراسات الشرقية بجامعة شيكاغو إلى أنه لم يظهر من عصر هوميروس إلى الآن من نَبَغَ نبوغ الدكتور طه حسين، كما يذهب المستشرق "برجشستراسر" عميد كلية الدراسات الشرقية بجامعة ميونخ من وراء إهداء أحد كتبه إلى الدكتور طه حسين، إلى أنه "فخر الأدب بمصر4". ذلك أن طه حسين في الصحافة المصرية، يشبه سقراط الذي لو كان حيًّا في زماننا لكان أنسب عمل يشتغل به هو أن يكون كاتب مقال صحفي ينشره في جريدة يومية، ويوقعه بإمضائه، كما يشبه الجاحظ الذي يذهب علماء الفن الصحفي5 إلى أنه جدير بأن يكون أول صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه، ذلك أن ثلاثتهم رجال شديدوا الانغماس في المجتمع يعبرون عنه في أسلوب عمليٍّ كاشف، على أن طه حسين في إطار عصره أكثر اتساقًا في مقاله الصحفي من حيث التفكير وفنية الأسلوب، وقد رأينا "ألبرت حوراني"6 يذهب إلى أن الأفكار التي نادى بها زعماء النهضة الحديثة قد بدأت تتبلور عند طه حسين، وأنها أثَّرَت على التفكير

1 محمد سامي البدراوي: النقد الأدبي عند طه حسين، خصام ونقد، إصداء ص128.

2 Kampamffamayr and Khemiari; Leaders in contemporary Arabic Literature part 1- London، 1950.

3 د. محمد سامي البدراوي: المرجع السابق ص270.

Pierse cachih. Taha Hussein. His place in the Egyptian، Literary renaisance London. 1956.

د. محمد سامي البدراوي: المرجع السابق ص270.

4 كوكب الشرق في 14 أغسطس 1933.

5 الدكتور إبراهيم إمام، مرجع سابق ص31.

6 مرجع سابق ص326.

ص: 15

الاجتماعي والعمل السياسي في العالم العربي بأسره على مدى ثلاثة أجيال.

فرأينا طه حسين يتمثَّل مفهوم المقال الصحفي في تحرير العقل مما فرضته القواعد السلفية ليفكِّر تفكيرًا صحيحًا مستقيمًا منتجًا، الأمر الذي يستتبع تحرير العقل في التفكير، مما يشير إلى ارتباط فن المقال بالاتجاه القوي نحو التعقيل، متفقًا في ذلك مع أئمة المقاليين في عصر النهضة الأوربية، ولذلك وجدناه يذهب إلى تحديد حرية العقل أمام العقل في حرية وصراحة وفي غير تَحَفُّظٍ ولا احتياط. كما وجدناه ينتهي إلى تحديد ماهية فن المقال أمام وسيلة الاتصال الجديدة بالجماهير، على النحو المستفاد من بيئته الصحفية العامة، فالصحافة هي الوعاء المادي للمقال بفنونه المختلفة، وهي لذلك تقتضي وضع خطوط فاصلة واضحة بين فن المقال بمفهومه الجمالي الأدبي، وفن المقال بمفهومه الوظيفي الصحفي، الذي يقتضي تنوعًا في الشكل والموضوع، على نحو ما وجدناه عند طه حسين، حين يشتق موضوعات مقاله الصحفي ولغته من الحياة الواقعة، ثم يعيد توصيلها في رسالة مقالية عن طريق وسيلة الاتصال الصحفي إلى جمهور القارئين في نفس تلك الحياة الواقعية، على اختلاف أذواقهم وأفهامهم وثقافاتهم وطبقاتهم. وانتهى من خلال هذا الفهم لفنِّ المقال الصحفي، كفنٍّ حضاريٍّ يقوم على وظيفة اجتماعية عملية، إلى توظيف المقال الأدبي نفسه، واستثماره كقالبٍ جديد يصوغ فيه الأفكار، ويتخِذُ منه سلاحًا ماضيًا في النقد والتعقيب، وأداة فعالة للتوجيه والإرشاد، وقد يقصد بها إلى الإخبار والإعلام في بعض الأحيان. ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يحقق في صحافته التقارب المنشود بين المستويات اللغوية، التي تبعد المسافة بينها في عصور الانحطاط، وتقرب وتضيق في البيئة المتحضرة التي يعيش فيها -الكاتب للجمهور وبالجمهور.

وانطلاقًا من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتبٍ وقارئ عن طريق وسيلة إعلامية، تنتقل بواسطتها الرسالة الإعلامية من طرفٍ إلى آخر، تعرفنا على أثر البيئة المصرية العامة، والمقومات الشخصية للدكتور طه حسين، ومصادر ثقافته، في تكوين مقومات الاتصال الصحفي في مقاله، الذي لولا ملاءمة البيئة لعبقرية كتابه، وتفاعلهما معًا، وتجارب القرَّاء لما أمكن ظهور هذا الفن ثم ازدهاره.

وقد ظهر من ثنايا دراستنا لبيئة المقال الصحفي في مصر، أن البيئة المصرية من أصلح البيئات لنشأة فنِّ المقال ونموّه وازدهاره، كنتيجة لطبيعتها، ومقومتها، فالمصرين من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول، وعنايةً بالخصومات السياسية، واستطلاع الحكومات، لما تعاقب عليهم من التجارب وتوالى على أسماعهم من أحاديث الصاعدين والهابطين، إلى جانب الميل القديم الذي ظهرت

ص: 16

أثاره في أوراق البردي، الأمر الذي يشير إلى تهيؤ هذه البيئة المصرية حين تقبل المطبعة لتحدث ثورتها في الاتصال بالجماهير، إلى تَقَبُّل الفنون الصحفية وإنمائها وإنهاضها، وفقًا لفطرة أصيلة من موروثات الحضارة الفكرية فيها.

وفي هذه البيئة يَتَمَثَّل طه حسين عناصر الأصالة في مقاله، في رافدين كبيرين؛ أولهما: الرافد المصري الذي لوَّنته البيئة المادية، وثانيهما: الرافد العربي الذي يحمل في أعطافه خصائص الأدب العربي من ناحية، وبعض الموروثات من الحضارات الأخرى، التي تمصَّرت كلها حتى اتضحت في عصر النهضة الصحفية الحديثة، وما صدر عنها من آثار مقالية، إلى جانب ما تحدر من بذور مقالية في الأدبين المصري القديم والعربي الإسلامي، تشير إلى تقاليد مكينة وعريقة في الشكل والمضمون، كما انتهينا إلى أن البيئة المصرية هي التي وجَّهَت المقال الصحفي عند طه حسين إلى تحقيق صلة ثقافية بين الشعوب العربية أولًا، وبين هذه الشعوب وأمم العرب ثانيًا، كنتيجة لمكان البيئة المصرية في التوسُّط الحضاري بين الشرق والغرب.

على أن هذه الصلة، إنما اتخذت أبعادها النهائية، عند طه حسين، بعد مراحل من الصراع الناجم عن الاتصال بالحضارة الأوربية، وما أسفر عنه من تغيير خصائص كثيرة من خصائص النفس العربية، فاضطرت إلى أنحاءٍ من التصوُّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، كما دفع هذا الاتصال عنصر التطور إلى العمل من جديد في طريقين متعاكستين، فقد كان أحياء الأدب القديم يدفع العقل المصري الحديث إلى وراء، ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالثقافة الأوربية وحضارتها يدفع العقل المصري إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال، وألقت هذه الصورة على صحافة طه حسين مهمة الاستمرار بعنصر التطور والانتقال في تَقَدُّمِه واطراده، والشد من قوة العقل المصري في الثبات لهذا التعاكس العنيف والانتفاع به أشد انتفاع، الأمر الذي أدَّى إلى تطور مضمون المقال الصحفي وفنونه في صحافة طه حسين.

وليس من قبيل المصادفة أن يكون الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وحسين هيكل والعقاد وطه حسين من روَّاد المقال الصحفي، الذين استقامت لهم طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، فاحتفظ المقال على أيديهم بأصوله الأساسية، ولم يستعص على التطور، واستطاع هؤلاء بجهودهم الرائدة الرائعة أن يخلقوا لغةً للفنِّ الصحفي العربي تقترب من لغة الأدب وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط.

وقد وضح من خلال دراستنا لمقوماته الخاصة، ومصادر ثقافته، وتمثل

ص: 17

الاتجاهات العامة، وأثر مدرسة الجريدة في الاستشعار بالذات القومية، كيف انتهت إلى تكوين مقوماته في الاتصال الصحفي، التي كان لها أثرها فيما أذاعه من آدابٍ وآراء فكرية ونظم اجتماعية وسياسية مختلفة، في إطار مفهوم عملية الاتصال وتحقيق التناغم والتوافق بينه وبين جمهور قارئيه، وهو الأمر الذي تبيَّن من دراستنا لمكانه في النظام الاجتماعي، وكذلك مكانه من بيئة المقال الصحفي في مصر، التي رأيناها تمتد زمنيًّا لتشمل النصف الأول من هذا القرن، يعاصر فيها طه حسين عهودًا متباينة من عهود التحرير الصحفي، ويتطور معها على النحو الذي تقتضيه "الأصالة والتجديد، دون أن يقصر في شروطها ومقتضياتها، واستطاع أن يَعْبُرَ الفوارق الضخمة بين صحافة البداوة وصحافة الحضارة في سهولة ويسر، لما كان يتمتع به كصحفي منذ مطلع حياته من الأسلوب المتميز الجميل والذوق المتطور، وكأن لثقافته الفرنسية، ووضوح النموذج الفرنسي في الفنِّ الصحفي في رؤياه الإبداعية، أثر كبير في معرفة صناعة الخبر وأسلوب النزال وطرق التشويق وسبل النفاذ إلى نفسية القارئ وكيفية الإقناع والتنويع في المادة المحتواة، إلى جانب ما تمثله في بيئة التكوين من مذاهب الكتابة والتحرير الصحفي على النحو الذي تشير إليه صلته بأستاذه لطفي السيد في الجريدة، والشيخ عبد العزيز جاويش في صحف الحزب الوطني، فكان الأخير يحبِّبُ العنف إليه ويرغِّبَه فيه ويزيِّن في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ والنعي عليهم في غير تحفُّظٍ ولا احتياط، وقد وجد هذا العنف من نفس طه حسين قبولًا واستجابة، فلم يكد يأخذ في الكتابة حتى عرف -كما يقول: "بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام"، ومن ذلك يبين المذهب الأول الذي تمثَّله طه حسين في بيئة التكوين الصحفي، وهو "مذهب الغُلُوِّ والإسراف" الذي كان الشيخ جاويش يغريه به ويحرضه تحريضًا.. أما المذهب الآخر فهو "مذهب الاعتدال والقصد"، ذلك الذي كان لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، وقد وجدنا طه حسين يستجيب للمذهبين جميعًا "فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني".

وفي كتابنا عن "طه حسين وزال المجتمع التقليدي" تعرَّفنا على اتجاهاته في الاتصال بالجماهير، وعلى مهاراته في التبسيط والتفسير والنمذجة الصحفية، من خلال التَّعَرُّفِ على رؤياه الخاصة المتميزة للحياة، والتي وجدناها تقوم على رؤية عملية للحياة الواقعة، كان لها أثرها في توجيه مقاله الصحفي في اتجاهات الإصلاح الاجتماعي وتجديد العقل المصري وتغيير منهجه في البحث والدرس. ونشر المعرفة وتيسيرها للناس جميعًا، من خلال تواصل عملي يقوم على التجربة والمعايشة التي لم تتوفر لكثير من معاصريه، على الصورة التي تجمع بين الأزهر والسوربون، والمعاناة العملية في البحث عن الصواب في القضايا التي كانت

ص: 18

تشغل أذهان أبناء مجتمعه، على نحو ما تبيَّن من استمرار دوران ذهنه وخلقه الفكري حول بعض الميادين المحدودة التي كانت تشكِّل ما يشبه الشرايين الكبرى لتحركه الصحفي، والتي كانت تصب في قنواتها الواسعة الفرعية المنحدرة مما لا يحصر من الموضوعات إلى آفاق بالغة التشعب، وما يبدو من تلازم وتقارب بين الاتجاه العام لخُطَى السير في اتجاه المقال في الميدان الثقافي من جهة، واتجاهه في الميدانين الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، يوضِّح المرامي والوظائف الاجتماعية التي تتحدد في استراتيجية قومية يصدر عنها المقال الصحفي.

وعن هذه الرؤيا الاجتماعية يتمثَّل التناغم والتوافق بين طه حسين كمرسِلٍ، وبين القارئ كمستقبلٍ، في نموذج اتصالي يصدر عنه سلوكه الواقعي، ويجسِّد تجربته الاتصالية في المقال الصحفي عن قصد ووعي، فيجعل هذا المقال على قدر التجربة، ويمثلها أصدق تمثيل.

وقد رأينا هذه الرؤيا الاجتماعية في الوسائل والغايات، التي تنتظمها استراتيجية قومية تنطوي على أهداف فرعية أو مرحلية تشبه معالم الطريق للوصول إلى الهدف النهائي، وفي ضوء هذه الرؤية، تبيّن من دراسة مضمون المقال عند طه حسين، أن زوال الاتجاهات التقليدية في المجتمع المصري، ليس غاية في ذاته؛ ولكنه هدف فرعي أو مرحلي، يوصِّل إلى تحقيق الغاية القومية في بناء مصر الحديثة، ولذلك وجدنا مقاله يذهب إلى التوسّل بأسباب الحضارة الأوربية في بناء الشخصية المصرية الحديثة، كما وجدناه يوظِّفُ الاتصال بالجماهير كمضاعف للتحرك الأعظم في إطارٍ من الوسائل والغايات.

وتعَرَّفْنَا على منهجين في مقال طه حسين، ينبعان من هذه الرؤية الاجتماعية والاستراتيجية القومية، ونعني منهج التغيير، ومنهج التدعيم، ويقوم هذان المنهجان على فهمٍ للشخصية المصرية، وما تمتاز به من عناصر التجديد والأصالة، ولذلك رأينا أن قضية "الشعر الجاهلي" إنما ترتبط بمغزاها الاجتماعي العملي، من حيث مكانها من رؤياه القومية، ودورها في تصدُّع المجتمع التقليدي باتجاهاته السلبية التي تعوق تطور المجتمع العربي، وذهبنا من ذلك إلى أن منهج هذا الكتاب وما لازمه من مقالات، ليس منهجًا فلسفيًّا يستخدم في العلم والفلسفة فحسب، ولكنه عند طه حسين يرتبط بمنهج التغيير الاجتماعي لتحرير العقل العربي من سلطان الجمود.

وفي مقابل هذا المنهج، ذهبنا إلى أن قضية "التبشير" وما أسفرت عنه من نتائج، إنما تمثِّلُ منهج التدعيم في أكمل صوره للقيم الدينية الإيجابية، وهو منهج لا يتناقض مع منهجه في التغيير الاجتماعي، وإنما يتمم عمله، ويكمل دوره في إطار قومي عام، ولما لهذه القضية -التبشير- من آثار إيجابية في

ص: 19

الفكر العربي الحديث، والصحافة العربية الحديثة، فإن هذه الدراسة، توصي بأن تكون موضوع دراسة أكاديمية، تستكمل جوانبها المختلفة، وأبعادها، وأثرها في توجيه الفكر العربي الحديث، ومقاومة الصحافة العربية للتبشير، على النحو الذي أدّى إلى نتائج إيجابية في المجتمع العربي.

وإذا كنَّا قد مثَّلْنَا لمنهجي: التغيير والتدعيم بقضيتين صحفيتين فكريتين، فإن هذين المنهجين استقطبا منهج المقال الصحفي عند طه حسين في الاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية، فوجدناه في الاتجاه السياسي يتخذ مواقف محددة بإزاء المشكلات السياسية في الداخل والخارج، محتملًا تبعات "غرقه في السياسة1" غير "منكر من سيرته شيئًا، ولم يندم على فعل أو قول قاله2"؛ لأن المقال السياسي كان محدَّدَ الوظائف في إطارٍ من الوسائل والغايات التي ترتبط بنوعية الحياة الوطنية لمصر، وهي النوعية التي يقوّمها على ضوء مبادئ يمكن دعوتها فلسفة المجتمع والتاريخ، حدَّدت موقفه من قضية الاستقلال، ومن الأحزاب السياسية في مصر، فوجدنا أن الاستقلال في مقال طه حسين وسيلة لها ما بعدها، وليس غاية يقف الجهاد عندها، كما وجدنا مواقفه من الأحزاب السياسية هي مواقف التغيُّر والتدعيم، على النحو الذي تبيَّنَ من مواقفه بإزاء حزب الأحرار الدستوريين التي تقترن بمرحلة تجديد المجتمع المصري، ومواقفه بإزاء حزب الوفد التي تقترن بمرحلة تدعيم القيم الإيجابية والنضالية.

وهذه المواقف السياسية لا تنفصل عن مواقفه في الاتجاه الاجتماعي، لخلق الجو الحضاري الملائم للتقدم والنهضة عن طريق التنوير والتوعية الشاملة بأهداف المجمع وخططه، فأسفر المقال في الاتجاه الاجتماعي عند طه حسين عن بقاء القديم الصالح واضحًا يعمل عمله إلى جانب اتجاهات التجديد التي أخذ منها المجتمع ما يتفق مع كيانه العام، كما تبين من مواقفه من التبشير والعدل الاجتماعي والتعليم والتنشئة الاجتماعية، واكتساب الوعي الاجتماعي في المجتمع، الحرص على منهجي التدعيم والتغيير بالتفكير المشترك والشعور الواحد، على النحو الذي تتميز به الشخصية المصرية في بقائها واستمرارها. الأمر الذي لم يجعل مقاله في الاتجاه الاجتماعي يفصل بين "التثقيف" و"التنشئة الاجتماعية، وإنما يرتبطان ارتباط تفاعل وارتباط منهج وأسلوب، كما تبيَّن من دراستنا للمقال في الاتجاه الثقافي، الذي جاء ثمرة من ثمار المشاركة في الحياة الواقعة، فاتجه إلى ترقية العقل وتوسيع الأفق، ومَدَّ آماد الفكر الإنساني من حيث هي مصدر لشعور الفرد بحقِّه وتقديره لواجبه،

1 مذكرات طه حسين ص261.

2 مذكرات طه حسين ص261.

ص: 20

ومن حيث هي مصدر لشعور الجماعة بحقِّها وتقديرها لواجبها وثباتها للخطوب واحتمالها لأثقال الحياة، متوسلًا في أداء أغراض التثقيف بفنون مقالية جديدة هي: فن العمود الثقافي، وفن المقال التنويري، وفن المقال النقدي.

وإذا كانت دراسة التحرير الصحفي ثمرة للتفكير في الآثار الصحفية لتقويمها، ببيان زيفها من صحيحها، وتفسير نواحيها الفنية، ثم الحكم عليها، فإن أساليب التحرير الصحفي لا يمكن أن تنفصل بحال عن المضمون، ولذلك تذهب هذه الدراسة إلى الارتباط الوثيق بين التدعيم والأصالة من جهة، وبين التغيير ومظاهر التجديد في المقال الصحفي من جهة أخرى، وهذا ما تحاول هذه الدراسة تقديمه، ولكنها تدرك أن قواعد التحرير الصحفي وأصوله، غالبًا ما تكون لاحقة للإنتاج الصحفي؛ لأنها تقويمٌ لشيءٍ سبق وجوده، ولكن أقدم صورة لفنون التحرير تتمثَّل في رؤية الكاتب لما ينتجه، وهو في عمله هذا يبذل جهد الناقد.

ومن الجليِّ أن دراسة التحرير الصحفي تمسُّ الصحافة في حاضرها لتوجهها في مستقبلها، ولهذا كانت لدراسة التحرير الصحفي المعاصر أهمية خاصة، ولكن ينبغي ألَّا يشغلنا ذلك عن دراسة فنون التحرير الصحفي في تطورها، فليست هذه الفنون مجرَّدَ نظريات تجريدية تعبِّر عن ذاتية قائليها، أو حاجات عصر انقضت صلتنا به، كما قد يُتَوهم، ولكنَّ هذه الفنون تطبيقية، وظيفية، الأمر الذي يجعل لدراسة فنون التحرير في الماضي آثارًا بعيدة المدى في إدراكنا للتحرير الصحفي في الحاضر، فنحن نفيد منها الأساليب المنهجية التي اتبعها الكتَّاب في تحرير مقالاتهم وصحفهم، بوصفها مجهودات متتابعة تعالج الحياة الواقعة في فنون تحريرية، على حسب مبادئ وحجج قد تختلف من كاتب إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، ولكن يمكن عرضها ومقارنتها مجرَّدة من خصائصها الموضعية، بحيث تساعد على التعرُّف على فنون التحرير الصحفي الذي تعلمت منه سائر الفنون الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتليفزيون والسينما، واشتقت منه أشكالها وفنونها وأساليبها وطرائقها، كما تساعد على تربية الذَّوْق عند طلاب التحرير الصحفي، وعلى السموِّ بغاياته، إلى ما لها من أهمية تاريخية خاصة، وما تشير إليه قواعد التحرير وأصوله من وسائل للتحليل والإحاطة بجوانب الموضوعات، لا بوصفها مبادئ أو قوانين مطلقة يلتزم بها الكاتب التزامًا لا يحيد عنه، إذ هي في تغيُّرٍ مستمر تبعًا لما يحفها من متغيرات، وحياتها في هذا التغير؛ إذ لكل عصر مقاييسه الخاصة في فنه الصحفي والإعلامي.

وانطلاقًا من هذا الفهم، فإن هذه الدراسة لا تهدف إلى أن "تقنِّنَ" في الصحافة، كما اتجه العصر الكلاسيكي في القرن السابع عشر والثامن

ص: 21

عشر1 إلى التقنين في الأدب، متَّخِذًا من الأدب القديم المثال الذي يحتذى، فكانت مهمة الناقد أن يضع قواعد لمختلف الأجناس الأدبية، وأن يدعو الكُتَّاب للسير عليها، وأن يحكم على قيمة إنتاجهم بمبلغ اتباعهم لتلك القواعد. وإنما تذهب هذه الدراسة إلى استقراء التحرير الفني المعملي في الصحف من خلال التراث الصحفي، بحثًا عن أشكال جديدة لتطور الفن الصحفي نفسه، في ضوء الرؤيا الصحفية، التي تذهب إلى أن التعبير عن المضمون يتم من خلال الكل وفي إطاره.

وقد ظهر لنا من خلال دراسة عناصر الأصالة والتجديد في مقال طه حسين أن هذه العناصر تنتظمها عملية إبداعية نقدية عن قصد، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك، الأمر الذي أدَّى إلى تبرئة المقال الصحفي من الوقوف عند الشكل، والكلف بالتجزئة، وإلى اتجاه هذا المقال نحو بلاغة جديدة في الاتصال بالجماهير، تطوع اللغة العربية لتتسع للكثير في نطاق الفكر النظري والتطبيقي، ليس في المفردات فحسب، بل في التراكيب وصور الأداء. وبيَّنَّا كيف انتهى طه حسين إلى تصحيح مفهوم اللغة في ضوء هذه الرؤيا، ومن خلال تجربته في الاتصال بالجماهير، وتحريرها من أغلالها، لتستجيب لحاجات العصر، الأمر الذي وسم مقاله الصحفي بتحقيق التقارب بين المستويات اللغوية: العلمية والأدبية والعملية، بحيث تغدو صحافة طه حسين من "أعلى صور الأدب؛ لأن جميع ألوان الأدب العليا صحافة" على حد تعبير "برنارد شو".

ولذلك وجدنا فنون المقال في صحافة طه حسين تنبع من التحكم الواعي والاشتغال بالمعاني والوضوح والوظيفية الهادفة، وتتوسَّل بلغة عملية في الاتصال بالجماهير، كما تتوسّل بالأدوات الفنية ضد الشوائب والأعراض التي تصحب عملية تنظيم العنصر البدائي الخام في تجربة الاتصال الصحفي، وتحويل هذا العنصر إلى فنٍّ مقاليّ، مما دفعه في كثير من الأحيان إلى الخروج على الأشكال المألوفة في تحرير المقال، وإلى توسيع أبعاده الفنية إلى مستوى التنبؤ الشامل في محاولة التوفيق بين رؤياه وبين الاستجابة لموضوعات الساعة والقضايا المباشرة، ولضرورات وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير.

ومن هذه الفنون المقالية، تزعم هذه الدراسة لنفسها فضل تحديد أبعادها واستقرائها من تراثه الصحفي: فن المقال التنويري وفن المقال النقدي، وقد وجدنا أنهما يرتبطان بالاتجاه الثقافي في التغيير والتدعيم، كما وجدنا العمود الثقافي في "حديث الأربعاء" يقوم على أداء وظيفة التبسيط والتفسير في الفن الصحفي، كما تبيَّن أن فنون المقال في صحافة طه حسين تسعى إلى تقديم المادة العلمية

1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص24.

ص: 22

والفنية والاجتماعية والسياسية في قوالب مبسطة تيسر الاتصال بجماهير القراء، وتؤدي الوظائف الاجتماعية للصحيفة الدورية في تكامل مع المواد الأخرى، التي تحيط القارئ علمًا بالأحداث، أو تفسر وتعلل ما يجري من هذه الأحداث، أو تنور عقله بمعلومات وحقائق.

ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يوظِّف "المقال القصصي" لأداء متطلبات الفن الصحفي من تنويع في المواد شكلًا وموضوعًا في إطارٍ من الحاليَّة والحيوية والاستجابة لاهتمامات القراء، وفي شكل مقالي أكثر مرونة من الشكل الأدبي؛ لأنه يجعل الآثار الأدبية التي تقف في مكانٍ ما بين القصة القصيرة والمقال كثيرة جدًّا.

ورأينا المقال الوصفي والتقرير الصحفي يقربان المسافة بين الأدب والصحافة من خلال التقريب بين المستويات اللغوية في مقال طه حسين، وقيامه على أغراض الصحافة ومراميها ومستويات جماهيرها. كما تعرَّفْنَا على فنٍّ مقاليٍّ جديد هو "فن المقال الرمزي"، الذي يطوِّع اللغة العربية من خلاله لأداء وظائف المقال الصحفي، من خلال أسلوب يتوسّل بالإيحاء والرمز يقهر ظروف الرقابة على الإنتاج العقلي، ولكنه مع ذلك يمتاز بخفَّة الظلِّ وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة والاقتباسات الدالة، والنقد البَنَّاء. كما يمتاز بقيامه على أساس من الاتصال الوثيق بالقرَّاء ومشكلاتهم وحياتهم الواقعة، في أسلوب يمتاز بالنمذجة الرمزية.

وفي مواجهة ضرورات الرقابة، تعرَّفْنَا على فنٍّ مقاليٍّ يجمع بين الأصالة والجديد عند طه حسين، ونعني به "فن الرسائل المقالية" التي تلتقي مع الرسائل المقالية في تراثنا العربي، وفي تراث الجاحظ خاصة، كما تلتقي مع رسائل فولتير ومونتسكيو، ولكنها تقوم أساسًا على أداء وظائف المقال الصحفي الحديث.

وتعرَّفْنَا على فنٍّ مقالي يعكس التجاوب بين الصحافة والشعب المصري بعد ثورة 1919، ويواجه ظروف المحن السياسية التي تفرض الرقابة على الإنتاج العقلي في الصحف بين حين وحين، ونعني به "فن العمود الصحفي"، الذي اتخذ شكلًا متخصصًا في بداية الأمر، كما سيجيء نتيجة للروابط الثقافية التي ظهرت بظهور الترابط الاجتماعي، كما اتخذ بعد ذلك شكلًا رمزيًّا في "جنة الشوك" للتعبير عن مظاهر "كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها بصراحة أثناء تلك الأيام السود1".

1 المعذبون في الأرض، ص12.

ص: 23

ورأينا كيف تميَّزَ العمود الصحفي عند طه حسين، بأن المضمون فيه ليس شطرًا منضافًا إليه، وإنما يشكل صلبه ومنطلقه، ولذلك وجدناه يتوسّل بشكل "الإبيجراما" الشعري القصير كما سماه اليونانيون واللاتينيون، في ابتداع مقال عمودي جديد، يقوم على أصوله في تعبير نثري قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث، إلى أن المعنى فيه أثر من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا.

وقد وجدنا طه حسين يبرع في "فن اليوميات الصحفية" و"فن المقال الاعترافي" الذي وجدنا فيه أساسًا لفن اليوميات في الصحافة المصرية يهدف إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين: الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوب يتَّسِم بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك.

وتعرَّفْنَا على امتداد الوظيفة الاجتماعية الفكرية في فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، من خلال توظيف الفنون المقالية في صحافته التي ترتبط بحركة الأحداث في المجتمع، على النحو الذي تبيَّنَ من دراسة فن المقال الرئيسي الافتتاحي، وفن المقال النزالي، والمقال الكاريكاتيري، ثم المقال التحليلي والتقويم الصحفي، ذلك أن هذه الفنون المقالية، شأنها شأن الفنون الأخرى في صحافة طه حسين، لا تفصل بين أسلوب التحرير ومضمون المقال، من خلال نموذج اتصالي بالجماهير يَتَمَثَّلُ فيه مكانه من قيادة الفكر في تكوين الرأي العام المصري، الأمر الذي وجَّه مقاله الصحفي إلى النهوض بمهام التوجيه والإرشاد والتقويم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية والتبسيط والتحليل، وهو لذلك يعنى بالاجتماع والسياسة والاقتصاد عنايته بالفنِّ والثقافة جميعًا، بحيث يمكن القول أن طه حسين قد انتقل بالمقال الصحفي من مرحلته اللغوية الأولى، إلى حيث أصبح يمثِّلُُ العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ويشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، في مستوى عملي يمتاز بلغته العربية الفصحى، وأسلوبه الواضح البسيط على نحو ما تمثله البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير عند طه حسين.

هذا، وقد حرصت في هذه الدراسة على التزام الحيدة العلمية والإنصاف لطه حسين أو لمعارضيه في بعض مبادئه، بأقصى ما وسعني الجهد فيهما، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى شيء من ذلك، فجل من لا يخطئ تحيزًا أو قصورًا في عالم البشر.

القاهرة:

عبد العزيز شرف

29 مايو 1974

ص: 24