الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين
طه حسين يكتب عن:
الشعر الحديث.. وكُتَّاب القصة.. ونقَّادِهم:
عندما اعتزمت أن أكتب "كل خميسٍ" لقراء الجمهورية، أهداني أستاذي الدكتور طه حسين هذا المقال، لأنشره في صفحتي.. فلمَّا قرأت المقال، لم أدر أهو تحية لـ"كل خميس"، أم إيقاع بينها وبين الشرقاوي ومندور وغيرهما من الزملاء؟
شكرًا في الحالتين لأستاذي الكبير..
1-
ظواهر:
لست من كُتَّاب اليوميات، ولو حاولت كتابتها لم أبلغ منها شيئًا، ولكن أكتب الآن شيئًا يشبهها من بعيد، فأحب أن يعلم قارئه أنه ليس من اليوميات في شيء، إنما هي ملاحظات لم أرَ من إملائها بدًّا؛ لأني أجد فيما تنشره الجمهورية مما يتَّصل بالأدب ظواهر ليس من الخير إهمالها، بل من الواجب التنبيه إليها؛ لأنَّ في إهمالها شيئًا من التشويه لحقائق الأدب ولجماله أيضًا..
ولست أنبِّه في هذه الكلمة إلى هذه الظواهر جميعًا؛ لأن ذلك يطول، وإنما أضرب لها الأمثال، وأرجو أن يتدبرها الذين يكتبون في الجمهورية من المتأدبين.. فمسألة الشعر الحديث التي يبدي فيها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي ويعيد، يكثر فيها الكلام، ويتصل فيها الأخذ والرد، دون أن نرى من هذا الشعر الحديث شيئًا يفرض نفسه على الأدباء فرضًا، بل دون أن نرى منه شيئًا ذا طائل، وأنا أعلم أن من الشباب طائفة يرون لأنفسهم الحقَّ في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم وعن أوزانه وقوافيه خاصة.
ولست أجادلهم في هذا الحق، بل ليس لي أن أجادلهم فيه، فأوزان الشعر
القديم وقوافيه لم تتنزَّل من السماء، وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافًا قليلًا أو كثيرًا أو كاملًا.. ولكنَّ للشعر قديمًا كان أو حديثًا أسسًا يجب أن تُراعى، وخصائص يجب أن تتحقق، فليس يكفي أن ينشئ الإنسان كلامًا على أيِّ نحوٍ من أنحاء القول، ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعرًا حديثًا، وإنما يجب أن يحقّق في هذا الكلام الذي ينشئه أشياء ليس إلى التجاوز عنها سبيل؛ فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور، ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معًا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانًا بالرصانة والجزالة، وتمتاز أحيانًا بالرِّقَّة واللين، وتمتاز في كلِّ حالٍ بالامتزاج مع ما تؤديه من الصور؛ لتنشيء هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ هذه من انسجام الألفاظ فحسب، ولا من ارتسام الصور فحسب، وإنما تنشأ من هذا الائتلاف العجيب بين الصور في أنفسها، وبينها وبين الألفاظ التي تجلوها؛ بحيث لا يستطيع السمع أن ينبو عنها، ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها، ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها، ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يرضيه. فإذا استطاع الذين يحبون هذا الشعر الحديث أن يقدِّموا إلينا منه ما يمتِّعُنَا حقًّا، فمن الحمق أن ننكره، أو نلتوي عنه لا لشيء إلا لأنه لم يلتزم ما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي.
وابتكار الشعر الحديث والافتنان في هذا الابتكار ليس شيئًا يمتاز به شعراء العرب المعاصرون من الأمم الأخرى، وإنما هو شيء قد سبق إليه شعراء الغرب منذ وقت طويل، فشعراؤنا حين يُجَدِّدُون لا يبتكرون، وإنما يقلدون قومًا سبقوهم، وليس عليهم من ذلك بأس إذا أجادوا وأحسنوا وعرفوا كيف يبلغون من نفوس معاصريهم ما بلغ شعراء الغرب من نفوس الغربيين على ما يكون بين الغربيين من اختلاف اللغات وتباعد الأذواق. بل ليس شبابنا من العرب المعاصرين حين ينشئون شعرهم الحديث مبتكرين بالقياس إلى الشعراء القدماء من العرب، فما أكثر ما تطورت أوزان الشعر العربي القديم وقوافيه، والدارسون للأدب العربي لم يكد يعيش نصف قرن بعد ظهور الإسلام حتى أخذت أوزانه تخضع لألوان من التطور؛ دخلت عليه الموسيقى التي جاءت بها الشعوب المغلوبة، ودخلت عليه حضارة جديدة لم يألفها الشعراء العرب الجاهليون؛ فتغيرت النفوس وتطورت الطباع ورقَّت الأذواق وصفت. ولم يكن للشعر بُدٌّ من أن يتأثَّر بهذا كله، ويصبح ملائمًا للحضارة الجديدة وما أنشأت من طباع جديدة وأواق جديدة أيضًا. وقصرت أوزان الشعر وخفت لتكون ملائمة للتوقيع الموسيقي الحديث. وظهر ذلك التطور أول ما ظهر في الحجاز وفي المدينتين المقدستين بنوع خاص، وكان الحجاز جديرًا أن يكون قلعة المحافظة في الأدب العربي، ولكنه كان السابق إلى تطوير الشعر؛ لأنه كان السابق إلى الترف، والسابق إلى الموسيقى، والسابق إلى الغناء، والسابق بحكم هذا كله إلى تطوير الشعر بترقيق
ألفاظه، وتقصير أوزانه، وتحضير صوره.. ولا أذكر ما طرأ في العراق من ألوان التطور الذي عرض للأدب كله؛ شعره ونثره منذ انتصف القرن الثاني للهجرة. فأما ما طرأ على الشعر في الأندلس فهو أظهر وأشهر وأقرب إلى أوساط المثقفين من أن أحتاج إلى الوقوف عنده.
فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله، ولينشئوا لنا شعرًا حرًّا أو مقيدًا، جديدًا أو حديثًا، ولكن ليكن هذا الشعر شائقًا رائعًا، ويومئذ لن يروا منَّا إلا تشجيعًا أيَّ تشجيع، وترحيبًا أيَّ ترحيب، ودفاعًا عنهم إن احتاجوا إلى الدفاع.
2
وظاهرة أخرى من ظواهرنا الأدبية محزنة حقًّا، وهي أمر هؤلاء الكُتَّاب القلقين الذين لا يكتبون لأنفسهم، ولا يكتبون لقرَّائهم، والذين لا يكفيهم إذا كتبوا أن يقرأهم الناس، وإنما يكتبون لتنشر أسماؤهم في الصحف، وليثني عليهم النقاد ثناء خالصًا متصلًا لا تشوبه شائبة، ولا تقفه تروية أو تفكير، فهم كبعض الشعراء القدماء الذين كانوا ينشئون المدح يبتغون به الجوائز، ولا يرضون عن ممدوح إلّا إذا أجزل لهم العطاء. هؤلاء الكُتَّاب متكسِّبون لا يكتبون ابتغاء المال وحده، وإنما يكتبون ابتغاء المال وحسن الثناء معًا. وويل للنقاد إن سكتوا عنهم، أو أخذوهم ببعض النقص، فهم في أنفسهم أرقى وأسمى وأكمل من أن ينقدوا.
وليس بُدٌّ لهؤلاء من نقاد يلائمون أهواءهم؛ يثنون عليهم ثناءً غير منقطع، ويمدحونهم مدحًا غير منقوص، فإن سكت النقاد منهم، فهم المظلومون المهضومون والمضطهدون الذين تنكر أقدارهم على ارتفاعها، ولقد نشأنا نحاول الكتابة فقال الناس فينا ما نكسره، وعابونا بكل ما يمكن أن يعاب به الكاتب في أدبه وخلفه ونفسه، فلم يزدنا ذلك إلّا إقدامًا على العمل، وجدًّا في التعلم، والانتفاع بهجاء الهاجين وثناء المثنين، لم يبطرنا ثناء قط، ولم يحزنا هجاء قط، وأعترف بل أشهد الله أني كنت أشد إقبالًا على الهجاء مني على الثناء.
وإني لأعرف في هذه الأيام كُتَّابًا تصيبهم ألوان من تعقيد النفوس لا لشيء إلّا لأن النقاد يسكتون عنهم أو يقولون في آثارهم بعض ما لا يحبون.. ففيهم هذا كله، وما هذا الفقر إلى التقريظ والإلحاح في طلب الثناء، ولم لا يكتب الناس لأن طباعهم تدفعهم إلى الكتابة دفعًا، ولأن لهم من رقة القلوب ودقة الشعور وخصب العقول ما يضطرهم إلى أن يقولوا للناس ما ينفعهم، أو ما يروقهم ويرضيهم، أو ما يؤدبهم ويهذب نفوسهم. ومن شباب كُتَّابِنَا من يجزعون للنقد أشد الجزع، ويهلعون منه أعظم الهلع، حتى وصفه بعضهم ذات يوم بأنه سفك لدمائهم وإزهاق لنفوسهم.
من حق هؤلاء الكُتَّاب ألا يلتفت إليهم الناقدون. وأغرب من هذا كله أن من هؤلاء الكُتَّاب من لا يكاد يقرأ نقدًا لأثر من آثاره حتى يسرع إلى الرد عليه في عنف أي عنف، وفي إسفاف أي إسفاف أحيانًا.
من ذا يعلم الشباب أنَّ الأديب مجاهد، وأن الأدب جهاد، وأن الذين يتصدَّون للجهاد يجب أن يكونوا أشجع من أن يرتاعوا للنقد أو يطمعوا في الثناء.
3
وظاهرة أخرى في أدبنا الذي تنشره الجمهورية، هو هذا التعجُّل، نجدها في هذا التسرع الذي يدفع بعض كُتَّابِنَا الموجودين إلى خطأ لم يكن لهم أن يتورَّطوا فيه؛ لأنهم لو أخذوا أنفسهم ببعض الأناة لبرئوا منه ومن أمثاله. فهذا صديقنا مندور يدفعه التسرُّع إلى أن يزعم في كلمة كتبها إلى أن يقول: إن القصص الحديث إنما نشأ في القرن التاسع عشر.
عفا الله عنك أيها الصديق لقد علمناك قديمًا إلّا تعجل إلى الكتابة، وأن تتروَّى قبل أن تقول، وماذا تصنع بما كتب من القصص، بل من آيات القصص قبل القرن التاسع عشر، بل قبل القرن الثامن عشر. ماذا تصنع بما كتب سرفنتيس، أو ما كتبته مدام دي لا فييت، وما كتب ديدور، وما كتب فولتير لوساج، وما كتب القس بريفو، وما كتب الإنجليز في القرن الثامن عشر. وقد قرأت على أقل تقدير ما كتب فيلدنج وما كتب. فاتق الله واستأن بما تكتب، ذلك أجدر بك وأحرى ألا يعرضك لما تكره، وما أكثر ما تعرِّض الناس لما يكرهون.
طه حسين
ملحق رقم "6" لعل "1"" نموذج للثقافة اللغوية في المقال الصحفي"
أرسل الأستاذ الدكتور طه حسين إلى جريدة المقطم هذا الكتاب:
تَفَضَّلَ أديبٌ أمس فلفتني في المقطم إلى أن السياسة قد أنستني النحو، وإلى أني أخطئ حين أدخل أن المصدرية على الفعل المضارع حيق يقع خبرًا لعل، وإنما الصواب فيما قال الكاتب الأديب: أن لا تدخل أن على هذا الفعل، وهو قد قرأ في بعض كتب النحو أنَّ العرب يضعون المضارع خبرًا لعسى، فلا يبخلون عليه أن يحملوا عسى على لعل.
وأنا أشكر للكاتب الأديب ظرفه ولطفه، وأحب أن ألفته إلى أن النحويين أيضًا يقولون: إن العرب تدخل أَنْ على المضارع في خبر لعل حملًا لها على عسى، ومن ذلك أن العرب يحملون كلًّا من هذين الحرفين على صاحبه، والحرف هنا معناه الكلمة، فلعل السياسة أن لا تكون قد أنستني أن عسى فعل لا حرف.
وإذا كان الكاتب الأديب في حاجة إلى نصٍّ نحوي، فإني أرجو أن ينظر فيما كتبه ابن هشام في "المغني" عن لعلَّ، فسيجد ما يرضيه إن شاء الله.
وسيعلم أني ما زلت شيخًا ذاكرًا للنحو ودروسه مهما تكن أشكال السياسة وألوانها، وإذا كان الكاتب الأديب في حاجة إلى شاهد من كلام العرب، أو مما اتفق المتقدمون على أنه كلام العرب، فإني أروي له بيتين يحضرانني الآن كثيرًا، ولكن السياسة التي لم تنسني تصرفني عن هذا البحث الآن، فحسب الكاتب الأديب أن يقرأ هذين البيتين؛ فأما أولهما فقول حسان في رثاء قتلى يوم الرجيع:
لعل هذيلًا أن يروا بمصابه
…
مصارع قتلى أو مقام المآتم
وأما الثاني فقول الجميح يعاتب امرأته، وهو من شعراء المفضليات:
فاقني لعلك أن تحظي وتحتلبي
…
في سحبل من مسوك الضأن منجوب
إلى أن يقول:
"ولكنها السياسة لم تصرفني عن النحو، وإنما صرفتني عن الجدال فيه".
1 كوكب الشرق في 19 أبريل 1934.